وقال (عليه السلام) : هَلَكَ فِي رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ غَال ، وَمُبْغِضٌ قَال .                
وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ.                
وقال (عليه السلام): أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكْتِسَابِ الاْخْوَانِ، وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ .                
وقال (عليه السلام) : مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا .                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                
وقال (عليه السلام): مَا لاِبْنِ آدَمَ وَالْفَخْرِ: أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ، وَآخِرُهُ جِيفَةٌ، و َلاَ يَرْزُقُ نَفْسَهُ، وَلاَ يَدفَعُ حَتْفَهُ.                
وقال (عليه السلام): النَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا.                

Search form

إرسال الی صدیق
موسيقى الألفاظ وأثرها الدلالي في نهج البلاغة – الأول

موسيقى الالفاظ ظاهرة أصيلة في اللغة العربية ، كما في سائر اللغات ، وقد شملت النثر والشعر ، وهي ذات قيـمة خاصة من حيث المعاني التي توحي بها ، فهي وسيلة هامة من وسائل التعبير الإيحائي لانها لغة التوتر والانفعال . وهي في حقيقتها عبارة عن تكرار حروف أو أصوات أو ألفاظ بعينها، وبما ان لكل حرف أو صوت نغما خاصا به ، فتكراره يجذب الانتباه ، ويعزز دلالة النغم ، ويؤلف نوعا من الانسجام الصوتي المحبب .
ولما كان الإيقاع المتوازن المنسجم يشد النفس إليه ، ويشوقها ويجعلها اكثر قبولا للفن القولي المتوفر عليه ، عن طريق خلق جو موسيقي تنساب معه النفس وتطرب له الأذن ، ولما كان قادرا على تنظيم حركتها الشعورية وفق ذبذبات إيقاعه ، فمن الطبيعي ان يكـون الفـن القـولي الموقع اسهـل حفظا واثبـت في الذهن من غيره . وقد التفت القدماء إلى موسيقى الالفاظ ، وذكروا ان العرب قد اهتموا بإبـراز موسيقى النثر من خلال موازنة الكـلام والاهتمام بالمصاريع ، من حيث الطول والقصر ، وكذلك الاهتمام بالسجع وتشابه حروف الأجزاء .
إنّ موسيقى الألفاظ تشكل جانبا كبيرا من التأثير في قضية التلقي ، فلها الفضل في تهيئة الأذهان واستقطابها، وتفاعلها بعد ذلك مع ما يطرح إليها من موضوعات ، فالنفس الإنسانية بفطرتها تميل إلى الإيقاع الصوتي المنتظم ،وتأنس إليه ، وتقبل عليه ، وهذا عين ما تريده التعبيرات الفنية من المتلقي : الإقبـال ثم التــأثير ، (( ولاشك أن كلا من الشعر والخطابة ، كلام قصد به أولا وقبل كل شيء التأثير في العاطفة ، وسر هذا التأثير يمكن أن يكون عن طريق الجمال في المعنى ، أو عن طريق الإيقاع والنغم في اللفظ )) .
وفي النصوص الإبداعية تبدو موسيقى الألفاظ شيئا لافـتاً للنظر ولـذلك فإنّ (( معنى القصيدة إنما يثيره بناء الكلمات كأصوات أكثر مما يثيره بناء الكلمات كمعان ، وذلك التكثيف للمعنى الذي نشعر به في أية قصيدة أصيلة إنما هو حصيلة لبناء الأصوات )) .
كان العربي يؤمن بقيمة الأثر الصوتي ، وما اهتمامه بتكامل الوحدات الموسيقية في الشطر الواحد من نظام الوزن العروضي إلا دليل على رهافة أذنه إزاء الموسيقى وشدة تأثره فيها . وفي وسط هذه البيئة المعنية بالتشكيل الصوتي نزل القرآن الكريم بإيقاعات استشعرت معها الأذن العربية قيمة البناء الصوتي فيها ، وتفاعلت معها ، وتأثرت فيها فآمنت به بعد ذلك وأيقنت بإعجازه، وكان إيمانه دليلا على تذوقه لهذا الفن المعجز .
وإذا كان القدماء يرون في هذه المحسنات البديعية جمالا وموسيقيا تطرب له الآذان ، وتهش له النفوس ، وله قيمة ملحوظة في التأثير على المتلقي ، فانهم يرون ان تكـون هذه المحسنات كالحلي ، يروق منها القليل ، يأتي في الكلام إذا استدعاه المعنى ، لا ان يؤتى به موضوعا في غير مكانه .
ولما كان الإمام علي (عليه السلام) ذا شخصية منطوية على فكر يحمل قيم الإسلام العظيمة ويسـعى إلى تطبيقها ونشـرها ، والتي سخر لها جميع إمكاناته الذهنية والجسدية ، كان أدبه متأثرا بنمط شخصيته ، حيث جاءت ألفاظه تحمل في طياتها عناصر موسيقية وفرت جوا خاصا ساعد على تحقيق الأثر الذي يسعى إليه الإمـام ، ومن هـذه العناصر الموسيقية والسجع الذي سيعرض له الباحث بشيء من التفصيل ان شاء الله .
السجع واثره في تكوين الدلالة
السّجـع لغة : ((سجع الرجل إذا نطق بكلامٍ له فواصل كقوافي الشعر من غير وزن كما قيل لصها بطل وتمرها دقل ، يسجع سجعاً فهو ساجع وسجاع وسجاعة والحمامة تسجعُ إذا دعت)) واما إصطلاحاً : قال علي بن عيسى الرماني (ت٣٨٦هـ) ((إن السجع هو تكلف التقفية من غير تأدية الوزن ،وأصلهُ من سجع الحمامة ، وذلك أنه ليس فيه إلا الأصوات المتشاكلة ، كما ليس في سجع الحمامة ، إلا الأصوات المتشاكلة)) يعرف ابن الأثير(ت٦٣٧هـ ) السجع بأنه (( توافق الفواصل في الكلام المنثور على حرف واحد )) ، فيما حدّهُ القزويني (ت٧٣٩هـ) : ((بأنه تواطؤ الفواصل في الكلام المنثور على حرفٍ واحد)) ، وأن الأصل في السجع هو الإعتدال في مقاطع الكلام .وهو من اقدم فنون النثر الفني عند العـرب ، ومن أكثرها تداولا واستعمالا على السنة البلغاء . والأصل في السجـع إنما هو الاعتـدال في مقاطـع الكلام ، والاعتدال مطلـوب في جميع الأشياء ، وهو مقصـد من مقاصد العقـلاء ، يميل إليه الطبـع وتتشوق إليه النفس .
وقد عرفهُ العرب وأستعملوه في كلامهم فهو ((فنٌ عربيٌ أصيل لم ينقلهُ العرب عن أي قوم من الأقوام ، والنصوص الجاهلية خير شاهد على ذلك ، فالعرب قد عرفت السجع فناً من فنون الأدب الرفيع وأستعملتهُ في خطبها كثيراً)) لأسباب أوجبها ميل النفس الى النغم الذي يُحدثهُ ترديد المقاطع الصوتية ، والى الحاجة لحفظ النصوص النثرية من الإندثار والضياع ، فقد ذكر الجاحظ (ت٢٥٥هـ) نصاً جاء فيه ((قيل لعبد الصمد بن المعذل بن عيسى الرقاشي ، لمَ تؤثر السجع على المنثور وتلزم نفسك القوافي وإقامة الوزن ، قال : إن كلامي لو كنتُ لا أملُ فيه إلا سماع الشاهد لقل خلافي عليك ، ولكني أُريد الغائب والحاضر ، والراهن والغابر ، فالحفظ إليه أسرع ، والأذن لسماعهِ أنشط ، وهو أحق بالتقييد وقلت التفلت ، وما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون ، فلم يحفظ من المنثور عشرةُ ، ولا ضاع من الموزون عشرةُ)) .
ولا يقف الأمر في السجع على الاعتدال في فواصله أو تواطؤها على حرف واحد ، ولو كان الأمـر كذلك لاستطاع أي أديب من الأدباء ان يكون سجّاعا فيأتي بألفـاظ مسجوعة كيفما اتفـق ، وليس الأمـر كذلك ، إنما يجب ان تكون الألفاظ المسجوعة حلوة المذاق ، رطبة طنانة ، صافية على السماع ، حلـوة طيبة رنانة ، تشتاق إلى سماعها الأنفس ، ويلـذ سماعها على الآذان ، مجنبة عن الغثاثة والـرداءة ، ونعني بالغثاثة والرداءة ان الساجع يصـرف نظره إلى مؤاخاة الأسجاع وتطـابق الألفاظ ، ويهمل رعـاية حلاوة اللفـظ وجـودة التركيب وحسنه ، فعند هذا تمسه الرداءة )، قـال ابن أبي الإصبع : ( ولا تجعل كلامك كله مبنيا على السجـع ، فتظهر عليـه الكلفة ويتبين فيه اثـر المشقة ، وتتكلف لاجل السجع ارتكاب المعنى الساقط واللفظ النازل … اصرف همـك إلى تجويـد الألفـاظ وصحة المعاني ، واجتهد في تقويم المباني … فقد كان المتقدمون لا يحتفظون بالسجع جملة ، ولا يقصدونه إلا ما أتت به الفصاحة في أثناء الكلام ، واتفق من غير قصد ولا اكتساب ، وانما كانت كلماتهم متوازنة وألفـاظهم متساوية ، ومعـانيهم ناصعة ، وعباراتهم رائعـة ، وفصولهم متقابلة ، وجمـل كلامهم متماثلة ، وتلك طـريقة الإمام علي (رضي الله عنه) ومن اقتفى أثره من فرسان الكلام ) .
وكان التزام العرب للسجع نتيجة للموسيقى الكامنة وراء هذا النظام من خلال السمات التي يتميز بها ، والتي تعطي للنص موسيقية وللألفاظ رنينا ، تلقي بأثرها على المتلقي. حيث ان اتفاق ألفاظ الفقرات المسجوعة في الوزن الإيقاعي ، مع اتفاقها في الحرف الأخير ، يتيح للكلام ركيزة نغمية تتكرر من وقت لاخر ، فتحدث فيه توازنا موسيقيا، يضفي على الكلام رونقا ويزيده بهاءا ، ويشقق منه صورا جديدة تحمل أطيافا من المعاني والأخيلة والعواطف .
وينطوي السجع على زخم كبير من الإيقاع لأن فيه ترديدا صوتيا يفجأ ذهن السامع فيلتذ له ويستطيبه خاصة اذا وقع عفوا رهوا . وقد التفت ابن جني(ت٣٩٢هـ) الى ذلك من قبل وهو يتحدث عن الأمثال المسجوعة التي تكون لذة استماعها مدعاة لحفظها وسيرورتها .
بعبارة أخرى ان السجع يحقق لونا من التواصل بين المبدع والمتلقي فيتمكن من ايصال ما يبتغي من مضامين وإحداث التأثير فيه والتفاعل معه ((بمعنى أن المبدع استطاع أن يؤدي دور المرسل الفاعل ، ويكون المتلقي المستقبل المتأثر والمنفعل بالرسالة )) .
ولقد كان السجع من ابرز العناصر الموسيقية التي ميزت كلام الإمـام علي (عليه السلام) ، فجميع خطبه ورسائله وأقواله القصيرة مشتملة على هذا النوع من فنون البديع.
ولاشك في أن الخطب المسجوعة- سجعا غير متنافر- لها رنين في قرارة النفس يهزّ الأفئدة و يأخذ بمجامع الألباب، و أنّ لها نصف تأثير الشعر- إذ توافر فيها أحد شرطيه- وعلي (ع) في خطبه يبغي أن يلين القناة الجامدة و يجمع الأهواء الشاردة و يستهوي الافئدة المستعصية .
ولامجانبة للصواب اذا قلنا أن سبب علوق كلام الإمام(ع) في الأذهان وحفظه من الضياع هو في كثرة اشتماله على موسيقى سجعية كثيفة أخاذة سلك بها سبيل القرآن في سهولته وعدم قهر المعاني عليه ، ذكر الجاحظ(ت٢٥٥هـ) انه (( قيل لعبد الصمد بن الفضل بن عيسى الرقاشي ، لم تؤثر السجع على المنثور ، وتلازم نفسك القوافي وإقامة الوزن ؟ قال : إن كلامي لو كنت آمل فيه إلا إسماع الشاهد لقلّ خلافي عليك ، ولكن أريد الغائب والحاضر والراهن والغابر ، فالحفظ اليه أسرع ، والأسماع لسماعه أنشط ، وهو أحق بالتنبُّه وبقلة التلفت ، وما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت من جيد الموزون ، فلم يحفظ من المنثور عشره ، ولاضاع من الموزون عشره )) .
ودافع ابن أبي الحديد ( ت٦٥٦هـ) عن كثرة السجع في نهـج البـلاغة فقـال :
(( واعلم أن قوما من أرباب علم البيان عابوا السجع ، وأدخلوا خطب أميـر المؤمنين (ع) في جملة ماعابوه ، لانه يقصد فيها للسجع )) . ويعلل الشارح هذا القصد بأنه (( تكلف مستحسن كما أن الشعر متكلف في وزنـه وقافيته )) .
وبذلك فقد ارتفع ابن أبي الحديد بمستوى السجع الى مستوى الكلام الموزون الذي يتكلف عادة بايراده مع العناية بالوزن والقافية كالشعر ، ولايعد الشعر في حقيقته تكلفا ، بل هي طبيعته في التركيب وكذلك السجع ، وهو حسن لا عيب .
ولم يغفل البلاغيون أهمية هذا الفن ، فقد درسوه وأعتنوا به ، ذاكرين له عدة أقسام لا نريد تفصيلها ، غير أن تقسيم ابن الأثير (ت٦٣٧هـ) ربما يعدُ الأنسب لما نريد بيانهِ ، فقد قسم السجع الى قسمين : قصير ((وهو أن تكون كل واحدة من السجعتين مؤلفة من ألفاظ قليلة ، فكلما قلت الألفاظ ، كان أحسن لقرب الفواصل المسجوعة من سمع السامع)) وقد عدّ هذا الضرب م(ن السجع أوعر السجع مذهباً وأبعدهُ متناولاً) (( لأن المعنى اذا صيغ بألفاظ قصيرة عز مواتاة السجع فيه لقصر تلك الألفاظ وضيق المجال في استجلابه)) .
والقسم الثاني : هو السجع الطويل الذي تكون فيه الفواصل المسجوعة متباعدة عن بعضها والذي لمسناه أن أمثال الإمام (ع) كونها تراكيب لغوية قصيرة موجزة ، حملت دلالات ومعاني مكثفة، إزدانت بالسجع القصير الذي هو أوعر أنواع السجع وأبعدها متناولاً لغيرهِ ، غير أن طبيعة الأمثال تقتضي هذا النوع من الفن ، يقول أبن جني (ت٣٩٢هـ) : ((لو لم يكن المثل مسجوعاً لم تؤنس النفس إليه ولا أنقتْ لمستمعهِ وإذا كان كذلك لم تحفظهُ ، وإذا لم تحفظهُ لم تطالب أنفسها بأستعمال ما وضع له وجيء به من أجله))( ) ، فكان أبن جني يؤكد ما ذهب إليه الجاحظ من أهمية السجع في الكلام المنثور ، فالسجعُ عند العرب يُعد مقبولاً إذا كان معتدلاً ، لأن الكلام يزدان به ويجمل ((كما أن الشعر يحسن بتساوي قوافيه ، كذلك النثر يحسن بتماثل الحروف في فصوله ، والمذهب الصحيح إلى السجع المحمود ، إذا وقع سهلاً متيسراً بلا كلفة أو مشقة)) ويبدو أن الإمام (ع) كان يميل الى أسلوب السجع القصير الذي رصده العلوي(ت٧٤٩هـ) في كلام الإمام(ع) فقال عنه (( وهو أضيق مسالك السجع .. ولكنه غير ضيق عليه لما خزن من كنوز البلاغة ما إن مغالقه ليصعب على أكثر الخلق فتحها )) .
قال الإمام (عليه السلام) يصف مصير أهل الدنيا : (( اعلموا عباد الله إنكم وما انتم فيه من هـذه الدنيا على سبيل من قد مضى قبلـكم ، أصبحت أصواتهم هامـدة ، ورياحهم راكـدة ، وأجسادهم بالية ، ودورهم خالية ، وآثارهم عافية ، فاستبدلوا بالقصورِ المشيدةِ والنمارقِ الممهدةِ الصخورَ والأحجارَ المسندةَ ، والقبورَ اللاطئةَ والملحدةَ )) .
تميز النص بموسيقى هادئة غمرته ، وأضفت عليه جوا إيحائيا يصور حقيقة كونية ثابتة ، هي حتمية الفناء ، فجميع من في هذه الدنيا مصيره إلى الهلاك والمـوت. وهذه الموسيقى منبعها السجـع الذي جاء في فقرات الكلام ، فقد وقـع بين الكلمتين (هامدة) و(راكـدة) وكذلك وقـع السجع في الكلمات (بالية ، وخالية ، وعافية) وفي الكلمات (المشيدة ، والممهدة ، والمسندة ، واللاطئة ، والملحدة) ، ان هـذا التكرار النغمي الذي وفره السجع أضفى على النص سلاسة ورونقا ، وساعد بشكل كبير في توضيح الدلالات الإيحائية الكامنة في النص ، فجاءت تقرر حقيقة مصير الإنسان ، وهي الموت الذي سوف يحرمه من جميع ملذاته الدنيوية .
ومما جاء على هذا النوع من السجع القصير قوله (ع) واصفاً من وهن عزمهُ وخارت قوتهُ في مواجهة أعداء الإسلام بأنهُ أصبح ((غرضٌ لنابل ، وأكلةٌ لآكل ، وفريسةٌ لصائل)) فالسجعُ حادثٌ بين الألفاظ (نابل) و (آكل) و (صائل) كلها تنتهي بصوت واحد هو صوت اللام وهو صوت يمتاز بكونه صوتاً متوسطاً ((والمتوسط هو الذي بين الشدة والرخاوة كالراء واللام)) ويسميه المحدثون ((صوتاً مائعاً)) وهو صوت واضح في السمع ، وهذه الوضوح مطلب للمثل لأنه يريد أن يوصل هذا الوصف والتمثيل لحال هؤلاء لعله يوقظ فيهم أحساساً أو همة أو عزيمة ، فهذه الأصوات الواضحة كانت الفقرات التي حملتها فقرات قصيرة مما أدى إلى ترديدها إلى مسافة زمنية قصيرة ، أي أن النص جاء يحمل كثافة صوتية لصوت واحد ، يكون ذلك مدعاة لجذب الأنتباه وطريقة في صنع النغمة الموسيقية العذبة على مسامع المتلقي فقد أحدث إيقاعاً جميلاً تميل إليه الأسماع ((لأن الإيقاع هو سمةُ السجع الغالبة وجوهرهُ الفني الذي يجعل إليه النفوس أميل والآذان لسماعهِ أنشط)) .
وقال (ع) في صفة الدنيا نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة( قَدْ صَارَ حَرَامُهَا عِنْدَ أَقْوَامٍ بِمَنْزِلَةِ السِّدْرِ الْمَخْضُودِ ، وَ حَلَالُهَا بَعِيداً غَيْرَ مَوْجُودٍ ، وَ صَادَفْتُمُوهَا وَ اللَّهِ ظِلًّا مَمْدُوداً ، إِلَى أَجْلٍ مَعْدُود)) .
ولاريب في أن الإمام(ع) يؤثر السجع والإزدواج ويتوخى إدخاله في كلامه ويتكلفه تكلف الشعراء في القصد الى نظم القصيد ، يقول الإمام(ع) :
((مَا لِي أَرَاكُمْ عَنِ اللَّهِ ذَاهِبِينَ وَ إِلَى غَيْرِهِ رَاغِبِينَ ، كَأَنَّكُمْ نَعَمٌ أَرَاحَ بِهَا سَائِمٌ إِلَى مَرْعًى وَبِيٍّ وَ مَشْرَبٍ دَوِي)) .
فقد خفف الهمز في لفظة (وبي ) إذ أصلها (وبيء) التماسا للقرينة السجعية لـ(دوي ) ، وشدد الياء في لفظة ( دوي ) والأصل فيها التخفيف (دو) للسبب ذاته . بينما أورد الإمام(ع) لفظة ( وبيء ) مهموزة في موضع آخر ايثارا للإيقاع السجعي فقال(ع): (( إِنَّ الْحَقَّ ثَقِيلٌ مَرِي‏ءٌ وَ إِنَّ الْبَاطِلَ خَفِيفٌ وَبِي‏ءٌ)) .
وإذا لم يلتمس لها قرينة سجعية يأتي بها على أصلها المهموز مثل قوله ناصحا نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة( يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَتَاعُ الدُّنْيَا حُطَامٌ مُوبِئ )) .
وقال الإمام (عليه السلام) يرثي محمد بن أبى بكر : (( فعند الله نحتسبه ولدا ناصحا ، وعاملا كادحا ، وسيفا قاطعا، وركنا دافعا … )) .
وقع السجـع في الكلمتين (ناصحا) و(كادحا) ، وكذلك في الكلمتين (قاطـعا) و (دافعا) .
وقـال الإمـام (عليه السلام) في وصف رسـول الله (صلى الله عليه وآله) : (( أرسله بحجة كافية ، وموعظة شافية ، ودعـوة متلافية ، اظهـر به الشرائع المجهولة ، وقمع به البدع المدخولة ، وبيّن به الأحكام المعضولة … )) .
فقد وقع السجع في الكلمات (كافية ، وشافية ، ومتلافية) ، وكذلك وقع السجع في الكلمات (المجهولة ، والمدخولة ، والمعضولة ).
ومثله قول الإمـام (عليه السلام) في وصف المتقين : (( قلوبهم محزونة ، وشرورهم مأمونة ، وأجسادهم نحيفة ، وحاجاتهم خفيفة ، وانفسهم عفيفة )) .
حيث وقـع السجع في الكلمتين (محزونة ، ومأمونة) وكذلك في الكلمـات (نحيفة ، وخفيفة ، وعفيفة) .
يلحظ في النصوص السابقة انها توافرت على عناصر موسيقية كان لها الدور المهم في إبراز دلالات النص الإيحائية ، كان السجع من ابرز تلك العناصر، إنه سجعٌ قد ((بلغ من الصدق حدّاً ترفع فيه عن الصنعة والتكلف ، فإذا هو على كثرة ما فيه من الجمل الموزونة المسجعة ، أبعد ما يكون عن الصنعة أقرب ما يكون الى الطبع الزاخر)) ومن التماس السجع قول الإمام (عليه السلام) : (( ... وبادروا الأعمال عمرا ناكسا ، أو مرضا حابسا ، أو موتا خالسا ..)) .
وفر السجع المبني على توازن الفقرات القصيرة في هذا النص جوا موسيقيا موحيا ، فتكرار صوت (السين) المهموس في الكلمات المسجوعة (ناكسا ، وحابسا ، وخالسا) يهيئ موسيقى هادئـة وسريعة تصور حالة انقضاء حياة الإنسان وسـرعة حلول اجله .

قائمة المصادر والمراجع
• الأثر الإغريقي في البلاغة العربية من الجاحظ الى أبن المعتز - د. مجيد عبد الحميد ناجي – مطبعة الآداب – النجف الأشرف ، ١٩٧٦م
• الأسس النفسية لأساليب البلاغة العربية ، مجيد عبد الحميد ناجي ، جامعة القاهرة ، كلية دار العلوم ١٩٧٨ م (أطروحة) .
• أسس النقد الأدبي عند العرب ، د. احمد احمد بدوي ، دار نهضة مصر للطباعة والنشر ، الفجالة ـ القاهرة .(د.ت)
• الأصوات اللغوية - د. إبراهيم أنيس – مكتبة الآنجلو المصرية – القاهرة (د.ت) .
• البديع في ضوء اساليب القران ، د. عبد الفتاح لاشين ، دار المعارف ـ القاهرة ، الطبعة الاولى ١٩٧٩ م .
• البلاغة والتطبيق - د. أحمد مطلوب ، د. كامل حسن البصير – ط٢ – بغداد – ١٩٩٠م.
• بناء الصورة الفنية في البيان العربي : د. كامل حسن البصير – مطبعة المجمع العلمي العراقي – ١٩٨٧م .
• البيان والتبيين ، للجاحظ ، تحقيق عبد السلام هارون ، مكتبة ومطبعة الخانجي بالقاهرة ، الطبعة الخامسة ، ١٩٨٥ م .
• تمهيد في النقد الحديث ، روز غريب ، دار المكشوف ، بيروت ـ لبنان ، الطبعة الأولى ١٩٧١ م .
• ثلاث رسائل في اعجاز القرآن - الرماني والخطابي وعبد القاهر الجرجاني- حققها - محمد خلف الله و محمد زغلول سلام - دار المعارف - مصر.
• جرس الألفاظ ودلالتها في البحث البلاغي والنقدي عند العرب ، د. ماهر مهدي هلال ، دار الرشيد للنشر (د.ت)
• الخصائص ، أبو الفتح عثمان بن جني ، تحقيق محمد علي النجار ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد ، ١٩٩٠م
• الخطاب النقدي عند المعتزلة ،د. كريم الوائلي ، دار الكتب والوثائق ، بغداد ٢٠٠٦م . –
• دراسة حول نهج البلاغة محمد حسين الجلالي ..مؤسسة الأعلمي للمطبوعات – بيروت ، الطبعة الأولى ١٤٢١هـ .
• دلالة الألفاظ ، د. إبراهيم أنيس ، مطبعة لجنة البيان العربي ، الطبعة الأولى ، ١٩٥٨ م .
• سر صناعة الأعراب - أبو الفتح عثمان بن جني (ت٣٩٢هـ) – تحقيق لجنة من الأساتذة – مطبعة البابي الحلبي – ط١ – مصر .
• سر الفصاحة ، لأبي محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي ، شرح وتصحيح عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده ، ١٩٦٩
• شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار إحياء الكتب العربية ، عيسى البابي الحلبي وشركاؤه (د.ت) .
• الشعر والتجربة ، أرشيبالد مكليش .ترجمة سلمى الخضراء الجيوسي، مراجعة توفيق صايغ، دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر – بيروت – نيويورك، ١٩٦٣.
• صبح الأعشى في صناعة الانشا ،لاحمد بن علي القلقشندي ، شرحه وعلق عليه وقابل نصوصه محمد حسن شمس الدين ، دار الكتب العلمية ، بيروت ـ لبنان ، الطبعة الأولى ، ١٩٨٧م .
• الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق التنزيل ، يحيى بن حمزة بن يحيى بن إبراهيم العلوي ، اليمني ، دار الكتب الخديوية ، مطبعة المقتطف ، مصر ، ١٩١٤م .
• العين – الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت١٧٥هـ) – تحقيق - د. مهدي المخزومي و د. إبراهيم السامرائي – منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات – ط١ – بيروت– ١٩٨٨م.
• كتاب الشفاء . الخطابة ، لأبي علي الحسين بن عبد الله بن سينا ، تحقيق د. محمد سليم مراد ، تصدير ومراجعة د. إبراهيم مدكور ، المطبعة الأميرية ، القاهرة ، ١٩٥٤م .
• المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر ، ضياء الدين ابن الأثير ، تحقيق احمد الحوفي ، بدوي طبانة ، منشورات دار الرفاعي بالرياض ، الطبعة الثانية ، ١٩٨٣م .
• الإيضاح في علوم البلاغة للخطيب القزويني ، حققه وعلق عليه وفهرسه د. عبد الحميد هنداوي ، مؤسسة المختار للنشر والتوزيع ، الطبعة الأولى ، ١٩٩٩م

يتبع .....

****************************