لبيب بيضون
مدخل
بعد أن اندحر رؤوس الفتنة في موقعة الجمل، وانهزم أتباعهم انهزاما بالغا، بعث الامام علي (ع) من الكوفة كتابا الى معاوية يدعوه الى البيعة. فكان ردّ معاوية أن بعث إليه جيشا جرارا من الشام، فأرسل الامام (ع) اليه بجيش آخر من العراق، يزيد تعداده على مائة ألف مقاتل، والتقى الجيشان في أرض صفين قرب الرقة على نهر الفرات.
وقبل ان يبدأ القتال بذل الامام علي (ع) قصارى جهده لحل النزاع سلميا، فبعث الى معاوية الرسل ينصحونه بالعدول عن الحرب، ولكنه أصر على القتال.
وأخيرا اشتعلت الحرب بين الفريقين، وكانت حربا طاحنة وجها لوجه، واستمرت الحرب مائة وعشرة أيام. وكانت أشد ما يمكن في آخر ليلة منها، حيث كان لا يسمع فيها الا وقع الحديد على الحديد وصوت تطاير الرؤوس، وسميت لذلك «ليلة الهرير». وكاد يفنى فيها عسكر معاوية عن بكرة أبيه. عندها لجأ عمروبن العاص الى خدعة رفع المصاحف على رؤوس الرماح. ووقفت الحرب لاجراء التحكيم.
وقد قتل في هذه المعركة الرهيبة بجريرة معاوية، عشرون ألفا من أهل العراق وتسعون ألفا من أهل الشام، فيكون المجموع مائة الف وعشرة الاف كما ذكره المسعودي.
ومما يذكر في هذه الوقعة أن معاوية لما أستولى على مشرعة الفرات منع عسكر الامام علي (ع) من شرب الماء، فلما استولى الامام (ع) على المشرعة بعث الى معاوية أن خذوا حاجتكم من الماء، وقال لأصحابه: «خلوا بينهم وبين الماء، واللّه لا أفعل ما فعله الجاهلون». فانظر الى الفرق بين الحالين.
بنوأمية وفتنة بني أمية
من كلام له (ع) لما بلغه أتهام بني أمية له بالمشاركة في دم عثمان: أولم ينه بني أميّة علمها بي، عن قرفي (أي عيبي)؟ (الخطبة ٧٣، ١٣٠)
من كلام له (ع) وذلك حين منعه سعيد بن العاص حقه: إنّ بني أميّة ليفوّقونني تراث محمّد صلّى اللّه عليه وآله، تفويقا. واللّه لئن بقيت لهم لأنفضنّهم نفض اللّحّام الوذام التّربة. (الخطبة ٧٥، ١٣١)
حتّى يظنّ الظّانّ أنّ الدّنيا معقولة على بني أميّة، تمنحهم درّها، وتوردهم صفوها،ولا يرفع عن هذه الأمّة سوطها ولا سيفها، وكذب الظّانّ لذلك. بل هي مجّة من لذيذ العيش يتطعّمونها برهة، ثمّ يلفظونها جملة. (الخطبة ٨٥، ١٥٦)
أيّها النّاس، فإنّي فقأت عين الفتنة، ولم يكن ليجتريء عليها أحد غيري، بعد أن ماج غيهبها، واشتدّ كلبها... إنّ الفتن إذا أقبلت شبّهت، وإذا أدبرت نبّهت.ينكرن مقبلات، ويعرفن مدبرات. يحمن حوم الرّياح، يصبن بلدا ويخطئن بلدا. ألا وإنّ أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أميّة، فإنّها فتنة عمياء مظلمة: عمّت خطّتها، وخصّت بليتها واصاب البلاء من أبصر فيها، وأخطأ البلاء من عمي عنها. وأيم اللّه لتجدنّ بني أميّة لكم أرباب سوء بعدي، كالنّاب الضّروس: تعذم بفيها، وتخبط بيدها، وتزبن برجلها، وتمنع درّها، لا يزالون بكم حتّى لا يتركوا منكم إلاّ نافعا لهم، أوغير ضائر بهم. ولا يزال بلاؤهم عنكم حتّى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلاّ كانتصار العبد من ربّه، والصّاحب من مستصحبه، ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشيّة، وقطعا جاهليّة، ليس فيها منار هدى، ولا علم يرى. نحن أهل البيت منها بمنجاة، ولسنا فيها بدعاة. ثمّ يفرّجها اللّه عنكم كتفريج الأديم: بمن يسومهم خسفا، ويسوقهم عنفا، ويسقيهم بكأس مصبّرة، لا يعطيهم إلاّ السّيف، ولا يحلسهم إلاّ الخوف (يشير بذلك الى الدولة العباسية). (الخطبة ٩١، ١٨٣)
واللّه لا يزالون حتّى لا يدعوا للّه محرّما إلاّ استحلوه، ولا عقدا إلاّ حلّوه، وحتّى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلاّ دخله ظلمهم، ونبا به سوء رعيهم، وحتّى يقوم الباكيان يبكيان: باك يبكي لدينه، وباك يبكي لدنياه، وحتّى تكون نصرة أحدكم من أحدهم، كنصرة العبد من سيّده، إذا شهد أطاعه، وإذا غاب اغتابه، وحتّى يكون أعظمكم فيها عناء، أحسنكم باللّه ظنّا. (الخطبة ٩٦، ١٩٠)
وقال (ع) في تهديد بني أمية:
فما احلولت لكم الدّنيا في لذّتها، ولا تمكّنتم من رضاع أخلافها، إلاّ من بعد ما صادفتموها، جائلا خطامها، قلقا وضينها (يشبه الدنيا بالناقة، والكلام كناية عن صعوبة القياد)، قد صار حرامها عند أقوام بمنزلة السّدر المخضود، وحلالها بعيدا غير موجود، وصادفتموها واللّه، ظلا ممدوا إلى أجل معدود. فالأرض لكم شاغرة وأيديكم فيها مبسوطة، وأيدي القادة عنكم مكفوفة، وسيوفكم عليهم مسلّطة، وسيوفهم عنكم مقبوضة... فأقسم باللّه يا بني أميّة عمّا قليل لتعرفنّها في أيدي غيركم وفي دار عدوّكم (الخطبة ١٠٣، ١٩٩)
راية ضلال قد قامت على قطبها، وتفرّقت بشعبها، تكيلكم بصاعها، وتخبطكم بباعها. قائدها خارج من الملّة، قائم على الضّلّة، فلا يبقى يومئذ منكم إلاّ ثفالة كثفالة القدر، أونفاضة كنفاضة العكم، تعرككم عرك الأديم، وتدوسكم دوس الحصيد، وتستخلص المؤمن من بينكم استخلاص الطّير الحبّة البطينة من بين هزيل الحبّ... «تراجع تتمة الكلام في المبحث (١٣٠) اخبار الامام (ع) بالمغيبات». (الخطبة ١٠٦، ٢٠٦)
فعند ذلك لا يبقى بيت مدر ولا وبر، إلاّ وأدخله الظّلمة ترحة، وأولجوا فيه نقمة. فيومئذ لا يبقى لهم في السّماء عاذر، ولا في الأرض ناصر. أصفيتم بالأمر غيرأهله، وأوردتموه غير مورده. وسينتقم اللّه ممّن ظلم. مأكلا بمأكل، ومشربا بمشرب، من مطاعم العلقم، ومشارب الصّبر والمقر (أي السم)، ولباس شعار الخوف، ودثار السّيف (يكون السيف دثارا أي لباسا عند ما يكثر اهراق الدم به). وإنّما هم مطايا الخطيئات وزوامل الآثام. فأقسم ثمّ أقسم. لتنخمنّها أميّة من بعدي كما تلفظ النّخامة (وهي ما يخرج من الصدر من مخاط ونحوه)، ثمّ لا تذوقها ولا تطعم بطعمها أبدا، ما كرّ الجديدان. (الخطبة ١٥٦، ٢٧٩)
وقال (ع) عن مصير بني أمية:
افترقوا بعد ألفتهم وتشتّتوا عن أصلهم فمنهم آخذ بغصن أينما مال مال معه. على أنّ اللّه تعالى سيجمعهم لشرّ يوم لبني أميّة، كما تجتمع قزع الخريف، يؤلّف اللّه بينهم، ثمّ يجمعهم ركاما كركام السّحاب. ثمّ يفتح لهم أبوابا يسيلون من مستثارهم كسيل الجنّتين. حيث لم تسلم عليه قارة، ولم تثبت عليه أكمة، ولم يردّ سننه رصّ طود، ولا حداب أرض. يزعزعهم اللّه في بطون أوديته، ثمّ يسلكهم ينابيع في الأرض. يأخذ بهم من قوم حقوق قوم، ويمكّن لقوم في ديار قوم. وأيم اللّه ليذوبنّ ما في أيديهم بعد العلووالتّمكين، كما تذوب الألية على النّار. (الخطبة ١٦٤، ٣٠٠)
... وإنّي لعلى المنهاج الّذي تركتموه طائعين، ودخلتم فيه مكرهين (وذلك ان أبا سفيان ومعاوية لم يسلما الا بعد فتح مكة كرها). (الخطبة ٢٤٩، ٤٥٠)
فوالّذي فلق الحبّة، وبرأ النّسمة، ما أسلموا ولكن استسلموا. وأسرّوا الكفر. فلمّا وجدوا أعوانا عليه أظهروه. (الخطبة ٢٥٥، ٤٥٤)
ومن كتاب له (ع) يخاطب فيه معاوية: وأمّا قولك: إنّا بنوعبد مناف، فكذلك نحن ولكن ليس أميّة كهاشم، ولا حرب كعبد المطّلب، ولا أبوسفيان كأبي طالب،ولا المهاجر كالطّليق، ولا الصّريح كاللّصيق، ولا المحقّ كالمبطل، ولا المؤمن كالمدغل. ولبئس الخلف خلف يتبع سلفا هوى في نار جهنّم... ولمّا أدخل اللّه العرب في دينه أفواجا، وأسلمت له هذه الأمّة طوعا وكرها، كنتم ممّن دخل في الدّين: إمّا رغبة، وإمّا رهبة... (الخطبة ٢٥٦، ٤٥٥)
من كتاب له (ع) الى معاوية:... لم يمنعنا قديم عزّنا ولا عاديّ طولنا على قومك، أن خلطناكم بأنفسنا، فنكحنا وأنكحنا فعل الأكفاء. ولستم هناك وأنّى يكون ذلك، ومنّا النّبيّ ومنكم المكذّب (يعني أبا جهل)، ومنّا أسد اللّه (أي الحمزة) ومنكم أسد الأحلاف (يعني أبا سفيان)، ومنّا سيّدا شباب أهل الجنّة، ومنكم صبيّة النّار (يقصد بهم اولاد مروان بن الحكم، وقد اخبر النبي )ص( بأنهم من اهل النار)، ومنّا خير نساء العالمين، ومنكم حمّالة الحطب (هي عمة معاوية وزوجة أبي لهب). في كثير ممّا لنا وعليكم. (الخطبة ٢٦٧، ٤٦٩)
ومن كتاب له (ع) الى أهل مصر، مع مالك الاشتر لما ولاه إمارتها: إنّي واللّه لولقيتهم واحدا، وهم طلاّع الأرض كلّها، ما باليت ولا استوحشت. وإنّي من ضلالهم الّذي هم فيه، والهدى الّذي أنا عليه، لعلى بصيرة من نفسي ويقين من ربّي. وإنّي إلى لقاء اللّه لمشتاق وحسن ثوابه لمنتظر راج. ولكنّي آسى أن يلي أمر هذه الأمّة سفهاؤها وفجّارها، فيتّخذوا مال اللّه دولا، وعباده خولا (أي عبيدا)، والصّالحين حربا، والفاسقين حزبا. فإنّ منهم الّذي قد شرب فيكم الحرام (هوعتبة بن أبي سفيان)، وجلد حدّا في الإسلام. وإنّ منهم من لم يسلم حتّى رضخت له على الإسلام الرّضائخ (هوعمروبن العاص شرط على النبي «ص» عطاء حتى يسلم، فلما أعطاه ذلك أسلم). فلولا ذلك ما أكثرت تأليبكم وتأنيبكم، وجمعكم وتحريضكم، ولتركتكم إذ أبيتم وونيتم. (الخطبة ٣٠١، ٥٤٨)
وسئل (ع) عن قريش فقال: وأمّا بنوعبد شمس فأبعدها رأيا، وأمنعها لما وراء ظهورها. وأمّا نحن (أي بني هاشم، وهاشم أخوعبد شمس) فأبذل لما في أيدينا، وأسمح عند الموت بنفوسنا. وهم أكثر وأمكر وأنكر، ونحن أفصح وأنصح وأصبح (١٢٠ ح، ٥٨٧)
إنّ لبني أميّة مرودا يجرون فيه، ولوقد اختلفوا فيما بينهم ثمّ كادتهم الضّباع لغلبتهم. (٤٦٤ ح، ٦٥٩)
معاوية بن أبي سفيان وعمروبن العاص
من خطبة للامام (ع): ولم يبايع (أي عمروبن العاص) حتّى شرط أن يؤتيه (أي معاوية) على البيعة ثمنا، فلا ظفرت يد البائع، وخزيت أمانة المبتاع. (الخطبة ٢٦، ٧٤)
ألا وإنّ معاوية قاد لمة من الغواة. وعمّس (أي اخفى) عليهم الخبر، حتّى جعلوا نحورهم أغراض المنيّة. (الخطبة ٥١، ١٠٨)
وبشّر (ع) بظهور رجل مذموم، قيل انه معاوية، فقال: أمّا إنّه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم، مندحق البطن، يأكل ما يجد، ويطلب ما لا يجد، فاقتلوه، ولن تقتلوه. ألا وإنّه سيأمركم بسبّي والبراءة منّي. فأمّا السّبّ فسبّوني، فإنّه لي زكاة، ولكم نجاة، وأمّا البراءة فلا تتبرّأوا منّي، فإنّي ولدت على الفطرة، وسبقت إلى الايمان والهجرة. (الخطبة ٥٧، ١١٣)
ومن كلام له (ع) خاطب به اصحابه ليلة الهرير بصفين: وعليكم بهذا السّواد الأعظم (يعني أهل الشام)، والرّواق المطنّب (أي رواق معاوية)، فاضربوا ثبجه (أي وسطه)، فإنّ الشّيطان (أي معاوية) كامن في كسره، وقد قدّم للوثبة يدا، وأخّر للنّكوص رجلا. (الخطبة ٦٤، ١٢١)
ومن كلام له (ع) في ذكر عمروبن العاص: عجبا لابن النّابغة يزعم لأهل الشّام أنّ فيّ دعابة، وأنّي امروء تلعابة: أعافس وأمارس لقد قال باطلا، ونطق آثما. أما وشرّ القول الكذب إنّه ليقول فيكذب، ويعد فيخلف، ويسأل فيبخل، ويسأل فيلحف، ويخون العهد، ويقطع الإلّ، فإذا كان عند الحرب فأيّ زاجر وآمر هوما لم تأخذ السّيوف مآخذها. فإذا كان ذلك كان أكبر مكيدته أن يمنح القرم سبّته (أي ان يكشف سؤته للامام). أما واللّه إنّي ليمنعني من اللّعب ذكر الموت، وإنّه ليمنعه من قول الحقّ نسيان الاخرة. إنّه لم يبايع معاوية حتّى شرط أن يؤتيه أتيّة (أي عطية)، ويرضخ له على ترك الدّين رضيخة (المقصود بالعطية والرضيخة ولاية مصر). (الخطبة ٨٢، ١٤٩)
أما والّذي نفسي بيده، ليظهرنّ هؤلاء القوم عليكم، ليس لأنّهم أولى بالحقّ منكم، ولكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم، وإبطائكم عن حقّي. (الخطبة ٩٥، ١٨٨)
أيّها القوم... صاحبكم يطيع اللّه وأنتم تعصونه، وصاحب أهل الشّام يعصي اللّه وهم يطيعونه. لوددت واللّه أنّ معاوية صارفني بكم صرف الدّينار بالدّرهم، فأخذ منّي عشرة منكم وأعطاني رجلا منهم. (الخطبة ٩٥، ١٨٩)
وقال (ع) عن فتنة بني أمية: قائدها خارج من الملّة، قائم على الضّلّة. (الخطبة ١٠٦، ٢٠٦)
ومن كلام له (ع) قاله للخوارج: ولا تلتفتوا إلى ناعق نعق (يعني عمروبن العاص): إن أجيب أضلّ، وإن ترك ذلّ. (الخطبة ١٢٠، ٢٣١)
وهلمّ الخطب في ابن أبي سفيان، فلقد أضحكني الدّهر بعد إبكائه. ولا غروواللّه، فيا له خطبا يستفرغ العجب، ويكثر الأود. حاول القوم إطفاء نور اللّه من مصباحه، وسدّ فوّاره من ينبوعه، وجدحوا (أي خلطوا) بيني وبينهم شربا وبيئا. فإن ترتفع عنّا وعنهم محن البلوى، أحملهم من الحقّ على محضه، وإن تكن الأخرى فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ، إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. (الخطبة ١٦٠، ٢٨٨)
أوليس عجبا أنّ معاوية يدعوالجفاة الطّغام، فيتّبعونه على غير معونة ولا عطاء. وأنا أدعوكم، وأنتم تريكة الإسلام وبقيّة النّاس، إلى المعونة أوطائفة من العطاء، فتفرّقون عنّي وتختلفون عليّ. (الخطبة ١٧٨، ٣٢١)
وأقرب بقوم من الجهل باللّه قائدهم معاوية، ومؤدّبهم ابن النّابغة (هوعمروبن العاص). (الخطبة ١٧٨، ٣٢٢)
واللّه ما معاوية بأدهى منّي، ولكنّه يغدر ويفجر. ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى النّاس... (الخطبة ١٩٨، ٣٩٤)
ومن كتاب له (ع) الى معاوية: أمّا بعد فقد أتتني منك موعظة موصّلة (أي ملفقة) ورسالة محبّرة (أي مزينة). نمّقتها بضلالك، وأمضيتها بسوء رأيك. وكتاب امريء ليس له بصر يهديه، ولا قائد يرشده. قد دعاه الهوى فأجابه، وقاده الضّلال فاتّبعه. فهجر لاغطا وضلّ خابطا. (الخطبة ٢٤٦، ٤٤٦)
ومن كتاب له (ع) الى جرير بن عبد اللّه البجلي لما أرسله الى معاوية: أمّا بعد، فإذا أتاك كتابي فاحمل معاوية على الفصل (أي الحكم القاطع) وخذه بالأمر الجزم.
ثمّ خيّره بين حرب مجلية، أوسلم مخزية. فإن اختار الحرب فانبذ إليه. وإن اختار السّلم فخذ بيعته. والسّلام. (الخطبة ٢٤٧، ٤٤٧)
فيا عجبا للدّهر إذ صرت يقرن بي من لم يسع بقدمي، ولم تكن له كسابقتي الّتي لا يدلي أحد بمثلها. (الخطبة ٢٤٨، ٤٤٨)
ومن كتاب له (ع) الى معاوية: وكيف أنت صانع إذا تكشّفت عنك جلابيب ما أنت فيه من دنيا، قد تبهّجت بزينتها، وخدعت بلذّتها. دعتك فأجبتها، وقادتك فاتّبعتها، وأمرتك فأطعتها. وإنّه يوشك أن يقفك واقف على ما لا ينجيك منه مجنّ (أي ترس تحتمي به) فاقعس (أي تأخر) عن هذا الأمر، وخذ أهبة الحساب. وشمّر لما قد نزل بك، ولا تمكّن الغواة من سمعك. وإلاّ تفعل أعلمك ما أغفلت من نفسك.
فإنّك مترف قد أخذ الشّيطان منك مأخذه، وبلغ فيك أمله، وجرى منك مجرى الرّوح والدّم.
ومتى كنتم يا معاوية ساسة الرّعيّة وولاة أمر الأمّة؟ بغير قدم سابق، ولا شرف باسق. ونعوذ باللّه من لزوم سوابق الشّقاء. وأحذّرك أن تكون متماديا في غرّة الأمنيّة، مختلف العلانية والسّريرة.
وقد دعوت إلى الحرب، فدع النّاس جانبا واخرج إليّ، وأعف الفريقين من القتال، لتعلم أيّنا المرين (اسم مفعول من ران ذنبه على قلبه أي غطى بصيرته) على قلبه والمغطّى على بصره. فأنا أبوحسن قاتل جدّك وأخيك وخالك شدخا يوم بدر. وذلك السّيف معي. وبذلك القلب ألقى عدوّي، ما استبدلت دينا، ولا استحدثت نبيّا. وإنّي لعلى المنهاج الّذي تركتموه طائعين، ودخلتم فيه مكرهين. (الخطبة ٢٤٩، ٤٤٩)
كتب معاوية الى الامام علي (ع) ان يترك له الشام فأجابه الامام بهذا الكتاب: وأمّا طلبك إليّ الشّام، فإنّي لم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك أمس. وأمّا قولك إنّ الحرب قد أكلت العرب إلاّ حشاشات أنفس بقيت، ألا ومن أكله الحقّ فإلى الجنّة، ومن أكله الباطل فإلى النّار. وأمّا استواؤنا في الحرب والرّجال فلست بأمضى على الشّكّ منّي على اليقين. وليس أهل الشّام بأحرص على الدّنيا من أهل العراق على الآخرة. وأمّا قولك: إنّا بنوعبد مناف فكذلك نحن، ولكن ليس أميّة كهاشم، ولا حرب كعبد المطّلب، ولا أبوسفيان كأبي طالب. ولا المهاجر كالطّليق (يقصد بذلك أبا سفيان ومعاوية كانا من الطلقاء يوم الفتح) ولا الصّريح كاللّصيق (يقصد به معاوية الذي الصق بأبي سفيان ولم يعرف أبوه). ولا المحقّ كالمبطل. ولا المؤمن كالمدغل. ولبئس الخلف خلف يتبع سلفا هوى في نار جهنّم وفي أيدينا بعد فضل النّبوّة الّتي أذللنا بها العزيز، ونعشنا بها الذّليل. ولمّا أدخل اللّه العرب في دينه أفواجا، وأسلمت له هذه الأمّة طوعا وكرها، كنتم ممّن دخل في الدّين: إمّا رغبة وإمّا رهبة. على حين فاز أهل السّبق بسبقهم، وذهب المهاجرون الأوّلون بفضلهم. فلا تجعلنّ للشّيطان فيك نصيبا، ولا على نفسك سبيلا. والسّلام. (الخطبة ٢٥٦، ٤٥٥)
من كتاب له (ع) الى معاوية جوابا على كتاب: أمّا بعد فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه وآله لدينه، وتأييده إيّاه بمن أيّده من أصحابه.
فلقد خبّأ لنا الدّهر منك عجبا، إذ طفقت تخبرنا ببلاء اللّه تعالى عندنا، ونعمته علينا في نبيّنا. فكنت في ذلك كناقل التّمر إلى هجر (مدينة بالبحرين كثيرة النخيل) أوداعي مسدّده إلى النّضال. وزعمت أنّ أفضل النّاس في الإسلام فلان وفلان (أي أبوبكر وعمر)، فذكرت أمرا إن تمّ اعتزلك كلّه (أي ليس لك حظ منه) وإن نقص لم يلحقك ثلمه (أي عيبه). وما أنت والفاضل والمفضول والسّائس والمسوس وما للطّلقاء وأبناء الطّلقاء، والتّمييز بين المهاجرين الأوّلين وترتيب درجاتهم، وتعريف طبقاتهم هيهات لقد حنّ قدح ليس منها، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها ألا تربع أيّها الإنسان على ظلعك (أي تقف عند حدك)، وتعرف قصور ذرعك، وتتأخّر حيث أخّرك القدر فما عليك غلبة المغلوب، ولا ظفر الظّافر.
وإنّك لذهّاب في التّيه، روّاغ عن القصد، ألا ترى غير مخبر لك، ولكن بنعمة اللّه أحدّث أنّ قوما استشهدوا في سبيل اللّه تعالى من المهاجرين والأنصار ولكلّ فضل حتّى إذا استشهد شهيدنا قيل سيّد الشّهداء (يقصد بذلك عمه الحمزة). وخصّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه أولا ترى أنّ قوما قطّعت أيديهم في سبيل اللّه ولكلّ فضل حتّى إذا فعل بواحدنا ما فعل بواحدهم، قيل: الطّيّار في الجنّة وذوالجناحين (يقصد بذلك اخاه جعفر) ولولا ما نهى اللّه عنه من تزكية المرء نفسه، لذكر ذاكر فضائل جمّة. تعرفها قلوب المؤمنين، ولا تمجّها آذان السّامعين. فدع عنك من مالت به الرّميّة. فإنّا صنائع ربّنا والنّاس بعد صنائع لنا.. (الخطبة ٢٦٧، ٤٦٧)
ثمّ ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان، فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه. فأيّنا كان أعدى له، وأهدى إلى مقاتله (وجوه القتال). أمن بذل له نصرته فاستقعده واستكفّه (وذلك ان الامام بذل النصرة فاستقعده عثمان ولم يقبل نصرته)، أم من استنصره فتراخى عنه وبثّ المنون إليه (يقصد بذلك معاوية الذي خذل عثمان ولم ينصره بعد ما كانت بينهما معاهدة على النصرة) حتّى أتى قدره عليه. كلاّ واللّه ل قَدْ يَعْلمُ اللّهُ المُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ والْقَائِلِينَ لإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا، ولاَ يَأَتُونَ الْبَأْسَ إلاَّ قَلِيْلاً.
وما كنت لأعتذر من أنّي كنت أنقم عليه أحداثا (أي بدعا) فإن كان الذّنب إليه إرشادي وهدايتي له، فربّ ملوم لا ذنب له.
وقد يستفيد الظّنّة المتنصّح
وذكرت أنّه ليس لي ولأصحابي عندك إلاّ السّيف. فلقد أضحكت بعد استعبار متى ألفيت بني عبد المطّلب عن الأعداء ناكلين، وبالسّيف مخوّفين.
فلبّث قليلا يلحق الهيجا حمل فسيطلبك من تطلب، ويقرب منك ما تستبعد. وأنا مرقل (مسرع) نحوك في جحفل من المهاجرين والأنصار، والتّابعين لهم باحسان. شديد زحامهم، ساطع قتامهم، متسربلين سرابيل الموت. أحبّ اللّقاء إليهم لقاء ربّهم. وقد صحبتهم ذرّيّة بدريّة،
وسيوف هاشميّة، قد عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدّك وأهلك ومَا هِي مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ. (الخطبة ٢٦٧، ٤٧٠)
من كتاب له (ع) الى معاوية: فاتّق اللّه فيما لديك، وانظر في حقّه عليك. وارجع إلى معرفة ما لا تعذر بجهالته. فإنّ للطّاعة أعلاما واضحة، وسبلا نيّرة. ومحجّة نهجة، وغاية مطّلبة. يردها الأكياس، ويخالفها الأنكاس. من نكب عنها جار عن الحقّ،
وخبط في التّيه، وغيّر اللّه نعمته، وأحلّ به نقمته. فنفسك نفسك، فقد بيّن اللّه لك سبيلك، وحيث تناهت بك أمورك، فقد أجريت إلى غاية خسر، ومحلّة كفر. فإنّ نفسك قد أولجتك شرّا، وأقحمتك غيّا. وأوردتك المهالك، وأوعرت عليك المسالك. (الخطبة ٢٦٩، ٤٧٣)
ومن كلام له (ع) الى معاوية:
وأرديت جيلا (أي أهلكت) من النّاس كثيرا. خدعتهم بغيّك، وألقيتهم في موج بحرك. تغشاهم الظّلمات، وتتلاطم بهم الشّبهات. فجازوا عن وجهتهم، ونكصوا على أعقابهم، وتولّوا على أدبارهم، وعوّلوا على أحسابهم، إلاّ من فاء من أهل البصائر، فإنّهم فارقوك بعد معرفتك، وهربوا إلى اللّه من موازرتك. إذ حملتهم على الصّعب، وعدلت بهم عن القصد. فاتّق اللّه يا معاوية في نفسك، وجاذب الشّيطان قيادك. فإنّ الدّنيا منقطعة عنك، والآخرة قريبة منك. والسّلام. (الخطبة ٢٧١، ٤٩٠)
من كتاب له (ع) الى معاوية: فسبحان اللّه ما أشدّ لزومك للأهواء المبتدعة، والحيرة المتعبة، مع تضييع الحقائق واطّراح الوثائق، الّتي هي للّه طلبة وعلى عباده حجّة.
فأمّا إكثارك الحجاج على عثمان وقتلته، فإنّك إنّما نصرت عثمان حيث كان النّصر لك، وخذلته حيث كان النّصر له، والسّلام. (الخطبة ٢٧٦، ٤٩٥)
من كتاب له (ع) الى عمروبن العاص: فإنّك قد جعلت دينك تبعا لدنيا امرىء ظاهر غيّه (يقصد به معاوية)، مهتوك ستره، يشين الكريم بمجلسه، ويسفّه الحليم بخلطته. فاتّبعت أثره، وطلبت فضله، اتّباع الكلب للضّرغام، يلوذ بمخالبه، وينتظر ما يلقى إليه من فضل فريسته، فأذهبت دنياك وآخرتك. ولوبالحقّ أخذت أدركت ما طلبت. فإن يمكّنّي اللّه منك ومن ابن أبي سفيان أجزكما بما قدّمتما، وإن تعجزا وتبقيا، فما أمامكما شرّ لكما، والسّلام. (الخطبة ٢٧٨، ٤٩٦)
من كتاب له (ع) الى زياد بن أبيه، وقد بلغه أن معاوية كتب اليه يريد خديعته باستلحاقه: وقد عرفت أنّ معاوية كتب إليك يستزلّ لبّك، ويستفلّ غربك (أي يثلم حدتك ونشاطك) فاحذره، فإنّما هوالشّيطان: يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ليقتحم غفلته، ويستلب غرّته (العقل الغرّ هوالساذج).
وقد كان من أبي سفيان (والد معاوية) في زمن عمر بن الخطّاب فلتة من حديث النّفس (يقصد بها قوله عن زياد: أني أعلم من وضعه في رحم أمه، يريد بذلك نفسه) ونزغة من نزعات الشّيطان، لا يثبت بها نسب، ولا يستحقّ بها إرث، والمتعلّق بها كالواغل المدفّع (الواغل هوالذي يهجم على الشرب ليشرب معهم وليس منهم، فلا يزال مدفّعا محاجزا)، والنّوط المذبذب (هوما يناط برحل الراكب من قدح فهودائم التقلقل). (الخطبة ٢٨٣، ٥٠١)
من كتاب له (ع) الى معاوية: وإنّ البغي والزّور يذيعان بالمرء (أي يفضحانه) في دينه ودنياه، ويبديان خلله عند من يعيبه. وقد علمت أنّك غير مدرك ما قضي فواته (يعني دم عثمان) وقد رام أقوام أمرا بغير الحقّ فتأوّلوا على اللّه فأكذبهم (يقصد اصحاب الجمل). فاحذر يوما يغتبط فيه من أحمد عاقبة عمله، ويندم من أمكن الشّيطان من قياده فلم يجاذبه. وقد دعوتنا إلى حكم القرآن ولست من أهله، ولسنا إيّاك أجبنا، ولكنّا أجبنا القرآن في حكمه، والسّلام. (الخطبة ٢٨٧، ٥١٢)
من كتاب له (ع) الى معاوية: أمّا بعد، فإنّ اللّه سبحانه قد جعل الدّنيا لما بعدها، وابتلى فيها أهلها، ليعلم أيّهم أحسن عملا. ولسنا للدّنيا خلقنا، ولا بالسّعي فيها أمرنا، وإنّما وضعنا فيها لنبتلى بها. وقد ابتلاني اللّه بك وابتلاك بي، فجعل أحدنا حجّة على الآخر، فعدوت على الدّنيا بتأويل القرآن (يقصد بذلك تأويل معاوية بعض آيات القصاص على غير معناها ليقنع أهل الشام بأحقيته في الطلب بدم عثمان)، فطلبتني بما لم تجن يدي ولا لساني، وعصبته أنت وأهل الشّام بي (أي ربطتم بي دم عثمان)، وألّب (أي حرض) عالمكم جاهلكم، وقائمكم قاعدكم. فاتّق اللّه في نفسك، ونازع الشّيطان قيادك، واصرف إلى الآخرة وجهك فهي طريقنا وطريقك. واحذر أن يصيبك اللّه منه بعاجل قارعة، تمسّ الأصل، وتقطع الدّابر، فإنّي أولي لك باللّه أليّة غير فاجرة (أي أحلف باللّه) لئن جمعتني وإيّاك جوامع الأقدار، لا أزال بباحتك، حتّى يحكم اللّه بيننا وهوخير الحاكمين. (الخطبة ٢٩٤، ٥٤١)
من كتاب له (ع) الى معاوية جوابا: أمّا بعد، فإنّا كنّا نحن وأنتم على ما ذكرت من الألفة والجماعة، ففرّق بيننا وبينكم أمس أنّا آمنّا وكفرتم، واليوم أنّا استقمنا وفتنتم، وما أسلم مسلمكم إلاّ كرها، وبعد أن كان أنف الإسلام كلّه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم حزبا.
وذكرت أنّي قتلت طلحة والزبير، وشرّدت بعائشة، ونزلت بين المصرين (أي الكوفة والبصرة). وذلك أمر غبت عنه فلا عليك، ولا العذر فيه إليك.
وذكرت أنّك زائري في المهاجرين والأنصار، وقد انقطعت الهجرة يوم أسر أخوك (يقصد به عمروبن أبي سفيان، اسر يوم بدر)، فإن كان فيه عجل فاسترفه (أي استح ولا تستعجل)، فإنّي إن أزرك فذلك جدير أن يكون اللّه إنّما بعثني إليك للنّقمة منك وإن تزرني فكما قال أخوبني أسد:
مستقبلين رياح الصّيف تضربهم ***** بحاصب بين أغوار وجلمود
وعندي السّيف الّذي أعضضته بجدّك (وهوعتبة بن ربيعة) وخالك (وهوالوليد بن عتبة) وأخيك (وهوحنظلة) في مقام واحد (أي يوم بدر) وإنّك واللّه ما علمت الأغلف القلب، المقارب العقل، والأولى أن يقال لك: إنّك رقيت سلّما أطلعك مطلع سوء عليك لا لك، لأنّك نشدت غير ضالّتك، ورعيت غير سائمتك، وطلبت أمرا لست من أهله ولا في معدنه. فما أبعد قولك من فعلك وقريب ما أشبهت من أعمام وأخوال، حملتهم الشّقاوة وتمنّي الباطل على الجحود بمحمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فصرعوا مصارعهم حيث علمت، لم يدفعوا عظيما، ولم يمنعوا حريما، بوقع سيوف ما خلا منها الوغى، ولم تماشها الهوينا.
وقد أكثرت في قتلة عثمان، فادخل فيما دخل فيه النّاس، ثمّ حاكم القوم إليّ، أحملك وإيّاهم على كتاب اللّه تعالى، وأمّا تلك الّتي تريد (أي إبقاءك على ولاية الشام)، فإنّها خدعة الصّبيّ عن اللّبن في أوّل الفصال، والسّلام لأهله. (الخطبة ٣٠٣، ٥٥٠)
من كتاب (ع) الى معاوية ايضا: أمّا بعد، فقد آن لك أن تنتفع باللّمح الباصر من عيان الأمور، فقد سلكت مدارج أسلافك بادّعائك الأباطيل، وإقحامك غرور المين (أي الكذب) والأكاذيب. وبانتحالك ما قد علا عنك، وابتزازك لما اختزن دونك، فرارا من الحقّ، وجحودا لما هوألزم لك من لحمك ودمك، ممّا قد وعاه سمعك، ومليء به صدرك، فماذا بعد الحقّ إلاّ الضّلال المبين، وبعد البيان إلاّ اللّبس؟ فاحذر الشّبهة واشتمالها على لبستها، فإنّ الفتنة طالما أغدفت جلابيبها (أي طالما اسدلت الفتنة أغطية الباطل فأخفت الحق)، وأغشت الأبصار ظلمتها.
وقد أتاني كتاب منك ذوأفانين من القول، ضعفت قواها عن السّلم، وأساطير لم يحكها منك علم ولا حلم، أصبحت منها كالخائض في الدّهاس (أي الارض الرخوة) والخابط في الدّيماس (أي المكان المظلم). وترقّيت إلى مرقبة بعيدة المرام، نازحة الأعلام، تقصر دونها الأنوق (هو طائر عزيز البيض) ويحاذى بها العيّوق (هونجم أحمر مضيء في طرف المجرة الايمن)، وحاش للّه أن تلي للمسلمين بعدي صدرا أووردا، أوأجري لك على أحد منهم عقدا أوعهدا فمن الآن فتدارك نفسك، وانظر لها، فإنّك إن فرّطت حتّى ينهد إليك عباد اللّه (أي يقوموا لحربك) أرتجت عليك الأمور، ومنعت أمرا هومنك اليوم مقبول والسّلام. (الخطبة ٣٠٤، ٥٥٢)
من كتاب له (ع) الى سهل بن حنيف الانصاري، وهوعامله على المدينة، في معنى قوم من أهلها لحقوا بمعاوية:
أمّا بعد، فقد بلغني أنّ رجالا ممّن قبلك يتسلّلون إلى معاوية، فلا تأسف على ما يفوتك من عددهم، ويذهب عنك من مددهم، فكفى لهم غيّا ولك منهم شافيا، فرارهم من الهدى والحقّ، وإيضاعهم (أي اسراعهم) إلى العمى والجهل. وإنّما هم أهل دنيا مقبلون عليها، ومهطعون (أي مسرعون) إليها. وقد عرفوا العدل ورأوه وسمعوه ووعوه، وعلموا أنّ النّاس عندنا في الحقّ أسوة، فهربوا إلى الأثرة، فبعدا لهم وسحقا.
إنّهم واللّه لم ينفروا من جور، ولم يلحقوا بعدل، وإنّا لنطمع في هذا الأمر أن يذلّل اللّه لنا صعبه، ويسهّل لنا حزنه (أي ما فيه من اشياء خشنة) إن شاء اللّه، والسّلام. (الخطبة ٣٠٩، ٥٥٨)
من كتاب له (ع) الى معاوية يستحثه على الرجوع الى الطاعة: أمّا بعد، فإنّي على التّردّد في جوابك (أي الرجوع الى جوابك)، والإستماع إلى كتابك، لموهّن رأيي، ومخطيء فراستي (أي كان الاجدر بي عدم الرجوع الى جوابك وعدم استماع ما تكتبه). وإنّك إذ تحاولني الأمور (أي تطالبني ببعض مآربك كولاية الشام) وتراجعني السّطور، كالمستثقل النائم تكذبه أحلامه، والمتحيّر القائم يبهظه (أي يثقله) مقامه، لا يدري أله ما يأتي أم عليه. ولست به، غير أنّه بك شبيه (يقول عليه السلام: أنت في محاولتك هذه كالنائم الثقيل نومه، يحلم انه نال شيئا، فاذا انتبه وجد الرؤيا كذبت. وانت أيضا كالمتحير في أمره القائم في شكّه، يثقله مقامه من الحيرة. وانك لست بالمتحير لمعرفتك الحق معنا ولكن المتحير شبيه بك، فأنت أشد منه عناء). وأقسم باللّه إنّه لولا بعض الاستبقاء (أي لولا ابقائي لك، وعدم ارادتي لاهلاكك) لوصلت إليك منّي قوارع، تقرع العظم، وتهلس اللّحم (أي دواهي تصدم العظم وتذيب اللحم). واعلم أنّ الشّيطان قد ثبّطك عن أن تراجع أحسن أمورك (أي الرجوع الى الطاعة( وتأذن لمقال نصيحتك، والسّلام لأهله. (الخطبة ٣١٢، ٥٦٠)
ومن كتاب له (ع) الى معاوية في أول ما بويع له عليه السلام: من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان: أمّا بعد، فقد علمت إعذاري فيكم وإعراضي عنكم (أي اقامتي على العذر في أمر عثمان صاحبكم، واعراضي عنه بعدم التعرض له بسوء حتى كان مقتله)، حتّى كان ما لا بدّ منه ولا دفع له، والحديث طويل، والكلام كثير. وقد أدبر ما أدبر، وأقبل ما أقبل، فبايع من قبلك (أي الذين عندك) وأقبل إليّ في وفد من أصحابك. (٣١٤، ٥٦٢)
جند معاوية وأهل الشام
من كلام له (ع) وقد اشار عليه اصحابه بالاستعداد للحرب بعد ارساله جريرا بن عبد اللّه البجلي الى معاوية، ولم ينزل معاوية على بيعته: إنّ استعدادي لحرب أهل الشّام وجرير عندهم، إغلاق للشّام، وصرف لأهله عن خير إن أرادوه. (الخطبة ٤٣، ١٠١)
من كلام له (ع) وقد استبطأ اصحابه اذنه لهم في القتال بصفين: وأمّا قولكم شكّا في أهل الشّام فواللّه ما دفعت الحرب يوما إلاّ وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي، وتعشوإلى ضوئي، وذلك أحبّ إليّ من أن أقتلها على ضلالها، وإن كانت تبوء بآثامها. (الخطبة ٥٥، ١١١)
وقال (ع) يخاطب أصحابه: أما والّذي نفسي بيده، ليظهرنّ هؤلاء القوم عليكم، ليس لأنّهم (أي أهل الشام) أولى بالحقّ منكم، ولكن لاسراعهم إلى باطل صاحبهم، وإبطائكم عن حقّي.. أيّها القوم.. صاحبكم يطيع اللّه وأنتم تعصونه، وصاحب أهل الشّام يعصي اللّه وهم يطيعونه. لوددت واللّه أنّ معاوية صارفني بكم صرف الدّينار بالدّرهم، فأخذ منّي عشرة منكم وأعطاني رجلا منهم. (الخطبة ٩٥، ١٨٨)
وقال (ع) وقد سمع قوما من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين:
إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنّكم لووصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر. وقلتم مكان سبّكم إيّاهم: اللّهمّ احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتّى يعرف الحقّ من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به. (الخطبة ٢٠٤، ٣٩٨)
وقال (ع) في أهل الشام: جفاة طغام، وعبيد أقزام. جمعوا من كلّ أوب، وتلقّطوا من كلّ شوب (أي خلط)، ممّن ينبغي أن يفقّه ويؤدّب، ويعلّم ويدرّب، ويولّى عليه، ويؤخذ على يديه. ليسوا من المهاجرين والأنصار، ولا من الّذين تبوّؤا الدّار والإيمان. (الخطبة ٢٣٦، ٤٣٨)
... وليس أهل الشّام بأحرص على الدّنيا، من أهل العراق على الآخرة. (الخطبة ٢٥٦، ٤٥٥)
ومن كتاب له (ع) الى قثم بن العباس وهوعامله على مكة: أمّا بعد، فإنّ عيني بالمغرب كتب إليّ يعلمني أنّه وجّه إلى الموسم أناس من أهل الشّام العمي القلوب، الصّمّ الأسماع، الكمه الأبصار. الّذين يلتمسون الحقّ بالباطل، ويطيعون المخلوق في معصية الخالق. ويحتلبون الدّنيا درّها بالدّين، ويشترون عاجلها بآجل الأبرار المتّقين. ولن يفوز بالخير إلاّ عامله، ولا يجزى جزاء الشّرّ إلاّ فاعله. (الخطبة ٢٧٢، ٤٩١)
موقعة صفين وليلة الهرير
من خطبة خطبها (ع) وهوبالنخيلة خارجا من الكوفة الى صفين: أمّا بعد، فقد بعثت مقدّمتي، وأمرتهم بلزوم هذا الملطاط، حتّى يأتيهم أمري، وقد رأيت أن أقطع هذه النّطفة (ماء الفرات) إلى شرذمة منكم، موطّنين أكناف دجلة،فأنهضهم معكم إلى عدوّكم، وأجعلهم من أمداد القوّة لكم. (الخطبة ٤٨، ١٠٥)
ومن خطبة له (ع) لما غلب أصحاب معاوية على شريعة الفرات بصفين ومنعوا أصحابه الماء: قد استطعموكم القتال، فأقّروا على مذلّة، وتأخير محلّة، أوروّوا السّيوف من الدّماء ترووا من الماء، فالموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين. ألا وإنّ معاوية قادلمّة من الغواة. وعمّس عليهم الخبر حتّى جعلوا نحورهم أغراض المنيّة. (الخطبة ٥١، ١٠٧)
من خطبة له (ع) يصف فيها مبايعة أصحابه له بصفين: فتداكّوا عليّ تداكّ الإبل الهيم (أي العطشى) يوم وردها، وقد أرسلها راعيها، وخلعت مثانيها، حتّى ظننت أنّهم قاتليّ، أوبعضهم قاتل بعض لديّ. وقد قلّبت هذا الأمر بطنه وظهره حتّى منعني النّوم، فما وجدتني يسعني إلاّ قتالهم أوالجحود بما جاء به محمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فكانت معالجة القتال أهون عليّ من معالجة العقاب، وموتات الدّنيا أهون عليّ من موتات الآخرة (أي أهوالها). (الخطبة ٥٤، ١١٠)
ومن كلام له (ع) وقد استبطأ أصحابه اذنه لهم في القتال بصفين: أمّا قولكم: أكلّ ذلك كراهية الموت؟ فواللّه ما أبالي: دخلت إلى الموت أوخرج الموت إليّ. وأمّا قولكم شكّا في أهل الشّام فواللّه ما دفعت الحرب يوما إلاّ وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي، وتعشوإلى ضوئي. وذلك أحبّ إليّ من أن أقتلها على ضلالها، وإن كانت تبوء بآثامها. (الخطبة ٥٥، ١١١)
ومن كلام له (ع) في بعض أيام صفين: وقد رأيت جولتكم، وانحيازكم عن صفوفكم، تحوزكم الجفاة الطّغام، وأعراب أهل الشّام، وأنتم لهاميم العرب، ويآفيخ الشّرف، والأنف المقدّم، والسّنام الأعظم. ولقد شفى وحاوح صدري، أن رأيتكم بأخرة تحوزونهم كما حازوكم، وتزيلونهم عن مواقفهم كما أزالوكم، حسّا بالنّضال (أي المباراة في الرمي)، وشجرا بالرّماح، تركب أولاهم أخراهم، كالإبل الهيم المطرودة، ترمى عن حياضها، وتذاد عن مواردها. (الخطبة ١٠٥، ٢٠٤)
وقال (ع) لما عزم على لقاء القوم بصفين: اللّهمّ.. إن أظهرتنا على عدوّنا، فجنّبنا البغي وسدّدنا للحقّ. وإن أظهرتهم علينا فارزقنا الشّهادة، واعصمنا من الفتنة.
أين المانع للذّمار، والغائر عند نزول الحقائق من أهل الحفاظ. العار وراءكم والجنّة أمامكم. (الخطبة ١٦٩، ٣٠٥)
ومن خطبة له (ع) بالكوفة قال: ما ضرّ إخواننا الّذين سفكت دماؤهم وهم بصفّين ألا يكونوا اليوم أحياء؟ يسيغون الغصص ويشربون الرّنق (أي الكدر). قد واللّه لقوا اللّه فوفّاهم أجورهم، وأحلّهم دار الأمن بعد خوفهم.
أين إخواني الّذين ركبوا الطّريق ومضوا على الحقّ؟ أين عمّار؟ وأين ابن التّيّهان (اسمه مالك)؟ وأين ذوالشّهادتين (وهوخزيمة ابن ثابت الانصاري)؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الّذين تعاقدوا على المنيّة، وأبرد برؤوسهم إلى الفجرة (أي أرسلت رؤوسهم مع البريد الى البغاة).
ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة، فأطال البكاء. ثم قال عليه السلام:
أوّه على إخواني الّذين تلوا القرآن فأحكموه، وتدبّروا الفرض فأقاموه، أحيوا السّنّة وأماتوا البدعة. دعوا للجهاد فأجابوا. ووثقوا بالقائد فاتّبعوه.
ثم نادى بأعلى صوته: الجهاد الجهاد عباد اللّه ألا وإنّي معسكر في يومي هذا، فمن أراد الرّواح إلى اللّه فليخرج.
قال نوف: وعقد للحسين (ع) في عشرة آلاف، ولقيس بن سعد في عشرة آلاف، ولأبي أيوب الانصاري في عشرة آلاف، ولغيرهم على أعداد أخر، وهويريد الرجعة الى صفين.
فما دارت الجمعة حتى ضربه الملعون عبد الرحمن بن ملجم، فتراجعت العساكر، فكنا كأغنام فقدت راعيها، تختطفها الذئاب من كل مكان. (الخطبة ١٨٠، ٣٢٨)
ومن كلام له (ع) وقد سمع قوما من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين: إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين... (الخطبة ٢٠٤، ٣٩٨)
ومن كلام له (ع) في بعض أيام صفين، وقد رأى الحسن (ع) يتسرع الى الحرب: أملكوا عنّي هذا الغلام لا يهدّني، فإنّي أنفس بهذين (يعني الحسن والحسين عليهما السلام) على الموت، لئلاّ ينقطع بهما نسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم. (الخطبة ٢٠٥، ٣٩٩)
ومن كتاب له (ع) كتبه الى أهل الامصار، يقص فيه ما جرى بينه وبين أهل صفين:
وكان بدء أمرنا أنّا التقينا والقوم من أهل الشّام. والظّاهر أنّ ربّنا واحد، ونبيّنا واحد، ودعوتنا في الإسلام واحدة. ولا نستزيدهم في الإيمان باللّه والتّصديق برسوله ولا يستزيدوننا: الأمر واحد، إلاّ ما اختلفنا فيه من دم عثمان، ونحن منه براء فقلنا: تعالوا نداوما لا يدرك اليوم، باطفاء الثّائرة وتسكين العامّة. حتّى يشتدّ الأمر ويستجمع، فنقوى على وضع الحقّ مواضعه. فقالوا: بل نداويه بالمكابرة فأبوا حتّى جنحت الحرب وركدت، ووقدت نيرانها وحمست (أي اشتدت). فلمّا ضرّستنا وإيّاهم ووضعت مخالبها فينا وفيهم، أجابوا عند ذلك إلى الّذي دعوناهم إليه، فأجبناهم إلى ما دعوا، وسارعناهم إلى ما طلبوا، حتّى استبانت عليهم الحجّة، وانقطعت منهم المعذرة. فمن تمّ على ذلك منهم فهوالّذي أنقذه اللّه من الهلكة، ومن لجّ وتمادى فهوالرّاكس (أي الناكث) الّذي ران اللّه على قلبه، وصارت دائرة السّوء على رأسه. (الخطبة ٢٩٧، ٥٤٣)
منقول من كتاب تصنيف نهج البلاغة