وقال (عليه السلام) : مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ .                
وقال (عليه السلام): مَا لاِبْنِ آدَمَ وَالْفَخْرِ: أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ، وَآخِرُهُ جِيفَةٌ، و َلاَ يَرْزُقُ نَفْسَهُ، وَلاَ يَدفَعُ حَتْفَهُ.                
وقال (عليه السلام): زُهْدُكَ فِي رَاغِب فِيكَ نُقْصَانُ حَظّ، وَرَغْبَتُكَ فِي زَاهِد فِيكَ ذُلُّ نَفْس.                
وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ.                
وقال (عليه السلام): مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا.                
وقال (عليه السلام): مَا مَزَحَ امْرُؤٌ مَزْحَةً إِلاَّ مَجَّ مِنْ عَقْلِهِ مَجَّةً.                
وقال (عليه السلام): مَا أَخَذَ اللهُ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا.                

Search form

إرسال الی صدیق
نظرات إجتماعية في نهج البلاغة

للدكتور الشيخ احمد بهشتي

"نهج البلاغة": كتاب عظيم القدر، جليل المكانة، يحوي مواضيع سامية حول المسائل الاعتقادية والفلسفية، التي يتحيّر فيها عقول الفلاسفة العظام، من سبق ومن لحق ولا سيما الالهيين منهم.
وقد اشتمل كلامه(عليه السلام) على اوصاف عجيبة لبعض المخلوقات كالنملة والجرادة والطاووس وعلى ذكر تكوين العالم، الى ما هنالك مما هو من شان العالم الطبيعي، فهو(عليه السلام) حين يتكلم في هذه الموضوعات ينير كلامه النافذ كل ما قيل او يمكن أن يقال فيها، وقد حملت روعة كلامه ودقّه تصويره فيها بعض النقّاد على الارتياب في عزّوها اليه.
وقد ذكر ذلك مقدمة للتذكير بعظمه الخالق الذي يسبّح كل شيء بحمده وان كنا لا نفقه تسبيحها.
وفيه اشارات عميقة جيدة حول النفسانيات، التي نبغ فيها علماء علم النفس منذ الاعصار الخالية الى عصرنا الحاضر وفكّروا في مسائلها وجرّبوا ما كان منها قابلاً للتجربة، حتى صار هذا العلم من العلوم التي تضم قوانين وقواعد كلية جامعة، ومع ذلك فانه ليس من حيث كثرة القواعد والقوانين مثل ساير العلوم التجريبية، لكنه في جميع شعبه صار من العلوم القيّمة المهمة في عصرنا الحديث، انظر الى ما يقوله الامام(عليه السلام) في هذا المجال: ان للقلوب شهوة واقبالاً الامام(عليه السلام) في هذا المجال: "ان للقلوب شهوة واقبالاً وادباراً، فاتوها من قبل شهوتها واقبالها، فان القلب اذا اكره عمى" .
فهذا من القواعد العلمية النفسية العميقة ولا يمكن ان يبدع اصح واتقن من هذا من مجال النفوذ في القلوب.
وفيه ايضاً بحوث كاملة حول المسائل الاجتماعية التي تشكل مادة للعلوم الاجتماعية المختلفة ومنها علم الاجتماع الذي هو ايضاً كعلم النفس من حيث قلة قواعده وكثرة اهميته.
كل واحد من الموضوعات المذكورة التي يشتمل عليه هذا الكتاب العظيم الذي هو دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق يحتاج الى البحث والنظر ليوسع لنا الفكرة ويثير الصورة ويثبت الحكمة وعندها سنطلع على كنوز دفينة في اقوال الامام(عليه السلام) في خطبه ورسائله ووصاياه وكلماته القصار.
كيف لا وقد الّفت فيه الالفاظ المنتقاة وانتسقت فيه الجمل المحكمات وينبعث من اجزائه كلها نغم حلو الايقاع يسمو بنثره الرشيق فوق مجالات الشعر الرفيع فهو على ما وصفه الرضي: عليه مسحة من العلم الالهي، وفيه عبقة من الكلام النبوي و : "يتضمن من عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة، وجواهر العربية ، وثواقب الكلم الدينية والدنيوية، ما لا يوجد مجتمعاً في كلام، ولا مجموع الاطراف في كتاب، اذ كان امير المؤمنين(عليه السلام) مشرّع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه(عليه السلام) ظهر مكنونها، وعنه اخذت قوانينها، وعلى امثلته حذا كل قائل خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصّروا، وقد تقدّم وتأخروا" .
ولا ريب ان الآثار الباقية من الرجال الماضين من رسائلهم وكتبهم واشعارهم بمنزلة المرآة الصافية لو نظرنا فيها نظر العمق والتفكير لراينا افكارهم وميولهم في كل ناحية ولعرفنا ما كانوا عليه من خلقياتهم وصفاتهم ونكاتهم .
وهذا الكتاب القيّم مرآة صافية انعكس فيها ضوء من وجوده عليه السلام الذي هو من رسول الله(ص) كالضوء من الضوء وكان ربيبه ونهل العلم من معين بيت النبوة العظيم الدفّاق.
فدارسه يستطيع ان يرى فيه صورته المعجبة المعنوية ويعرف به نظراته العميقة الفلسفية والطبيعية والنفسية والاجتماعية ويشاهد فيه بعين اليقين ـ بل بحق اليقين ـ خلقياته الكاملة وصفاته الجميلة وملكاته الحسنة .
وقد اخترنا من الموضوعات الرائعة المذكورة، القسم الاخير، فالآن نحن بصدد النظر والتأمل فيه مستمدين التوفيق من الله تعالى شأنه فان نظراته الاجتماعية تتجسّد في خلال كلماته النوابغ وحكمه الحسان فهو تجلو ابصارنا وبصائرنا وتغبقنا كأس الحكمة بعد الصبوح.
ان ابن ابي طالب(ع) يتكلم في المسائل الاجتماعية مع سعة النظر وعمق الفكر ويحلل مسائلها وغوامضها ويستنتج من العلل معاليلها التي ستقع او سوف تقع، وهذا دأب كل عالم ومفكّر ومحقق في فنّه العلمي، لان العلم ليس شيئاً سوى استنتاج المعلول من العلة (لمّاً) أو بالعكس (انّاً) ومعلوم ان القانون العلمي هو عبارة عن فهم الارتباطات العلّية والمعلولية بين الاشياء.
ان المسائل الاجتماعية لها من الغموض ما ليس لغيرها، حيث انها تابعة لعلل كثيرة ، قريبة وبعيدة ، ذاتية وعرضيّة ، بالفعل وبالقوة ، والعالم الاجتماعي لابد له من فهم جميعها حتى يقدر على استنباط صحيح، فلو غاب عنه بعضها او كلها لكان في استنباطه خاطئاً غير صائب.
فالمفكّر الاجتماعي اذا استند في توجيه حادثة من الحادثات الاجتماعية الى سبب لم يكن سبباً راساً أو كان سبباً بضميمة سائر الاسباب والشرائط فهو خاطىء، ولا يقدر مع هذا التوجيه الفاسد او الناقص على اصلاح المفسدة او السوق الى سعادة وكمال.
وهذا هو السرّ في اخفاق بعض القادة والمصلحين الاجتماعيين في مجال تنفيذ مخططاتهم الاصلاحية، فمنهم من يظن ان شيئاً يكون سبباً لمعلوم فيوجده او يزيله ثم لا يوفق للنيل الى مقصوده ، فهذا هو دليل خطائه، ومنهم من يفكّر جيداً ويستشير من اهل النظر فيعرف ما هو الحق فيقدم ويوفق.
ولنذكر لذلك مثالاً:
لما رجع بطرس الكبير من هولندا الى وطنه ـ روسيا ـ امر الرجال ان يحلقوا لحاهم معللاً ذلك الحكم بان الهولنديين لمّا كانوا يحلقون لحاهم فقد وصلوا الى التكامل في حياتهم العلمية والاجتماعية ونالوا مالم ينله الروس الذين لم يحلقوا لحاهم بعد! وهكذا تصوّر ان حلق اللحى سبب للتطوّر في الحياة الاجتماعية والمدنية وعدمه سبب لعدمه! لكن الروس رغم انهم امتثلوا تلك الاوامر بقوا على حالهم من الدناءة الاجتماعية.
اما الامام الاعظم: علي بن ابي طالب الفاتح لمغاليق ومعضلات المسائل الاجتماعية بعمق نظره كما هو الفاتح في عرصات الحروب والنواحي الاخرى، فهو يعرف العلة او العلل ويستنتج منها المعلوم ولا يُرى له خطأ فيها ابداً .
لمّا اراده الناس على البيعة بعد قتل عثمان وتهاجموا عليه، قال: "دعوني والتمسوا غيري فانّا مستقبلون امراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وان الآفاق قد اغامت، والنحجة قد تنكّرت، واعلموا اني ان اجبتكم ركبت بكم ما اعلم، ولم اضع الى قول القائل وعتب العاتب، وان تركتموني فانا كاحدكم ولعلى اسمعكم واطوعكم لمن وليّتموه امركم، وانا لكم وزيراً خير لكم مني اميراً .
لكن الناس لم يفهموا معنى كلامه ومدى نظره وأصرّوا حتى قبل بيعتهم واتكأ على مسند الحكومة، لكن الحوادث الآتية عرّفتنا صحة استنتاجه وعمق استدلاله في نظرته الاجتماعية، فلم يعرف احد وجوه وألوان امر كانوا مستقبلين له، فقد كانت القلوب غير قائمة له والعقول غير ثابتة عليه، ولم ير اغامة الآفاق وتنكّر المحجة الاّ علي(عليه السلام) هذا مع انهم لم يعلموا ان علياً(عليه السلام) ان اجابهم ركب بهم ما يعلم ولم يصغ الى قولهم وعتبهم، فبالنظر الى جميع ذلك كان الاولى لهم تركه حتى يكون كاحدهم ما داموا على هذه الحالة .. اما اذا صمموا على امر آخر وهو الطاعة الكاملة وعدم الشك في اهدافه(ع) فذلك شيء آخر.
كان يعلم ان الحكومة الحقة العلوية في تلك البيئة الفاسدة بعد حدوث شرائط ومسائل جديدة في جو اقتدار الامويين وطمعهم في الحكومة والزعامة، واتخاذ الناس خولاً ومال الله دولاً ودين الله دغلاً، مع عدم استقامة الناس في اعانته في طريق الورع والسداد والعفة والاجتهاد ـ كانت غير ممكنة .
وكان يعلم ايضاً ان هذه الحكومة العلّية ستستغل بحروب وتصطدم حرباً مع الناكثين بيعته والقاسطين عن الحق والمارقين، ولا يبقى لها فرصة ومجال في اجراء الاحكام الاسلامية وتزكية الامة المسلمة، وان الامة لا تفهم مقاصده العالية الاّ القليل القليل.
اضف الى ذلك ان بعض الناس قالوا: ان معاوية بن ابي سفيان ادهى منه! ولم يقدروا ان يفرّقوا بين الدهاء والغدر، وهذا ايضاً دليل على غموض المسائل الاجتماعية وعدم اقتدار الناس على حلها وكشفها، فقال الامام(عليه السلام) مع كمال البصيرة وعلو الفكرة:
"والله ما معاوية بادهى مني ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من ادهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة وكل فجرة كفرة، ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة. والله ما استغفل بالمكيدة. ولا استغفر بالشديدة" .
فالناس كانوا يزعمون ان معاوية داهية من الدهاة ادهى من علي(عليه السلام) والسبب في هذا الراي هو غدر معاوية وفجوره وكفره، وكراهة الامام(عليه السلام) الغدر وتنزّهه عن الفجور والكفر.
وهكذا اتضح لنا شيء من غموض المسائل الاجتماعية وقد نظر الامام فيها، فلنشرع في البحث حول التقسيمات والطبقات الاجتماعية الطولية او العرضية، والكلام فيها، وتوضيح ما كان منها صحيحاً وما كان منها فاسداً ، مفيداً أو مضراً ان شاء الله تعالى مستفيدين من كتاب نهج البلاغة.

****************************