وقال (عليه السلام): الْغِيبَةُ جُهْدُ الْعَاجزِ.                
وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام): يَهْلِكُ فِيَّ رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ، وَبَاهِتٌ مُفْتَر.                
وقال (عليه السلام):مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا.                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                
وقال (عليه السلام): عَلامةُ الاِْيمَانِ أَنْ تُؤثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ،أَنْ يَكُونَ فِي حَديِثِكَ فَضْلٌ عَنْ عِلْمِكَ، وَأَنْ تَتَّقِيَ اللهَ فِي حَدِيثِ غَيْرِكَ.                
وقال (عليه السلام): مَا أَخَذَ اللهُ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا.                

Search form

إرسال الی صدیق
نهج البلاغة مرفأ الإنسانية المعذبة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على آلائه ونعمائه، والصلاة على محمّد وآله، ولعنة الله على أعدائهم أعدائه

قبل أكثر من ألف عام عندما قدّم الشريف الرضي (رضوان الله تعالى عليه) هذه الكلمات إلى الرأي العام كتاباً بين دفتين ؛ اختلف حولها ناس كثيرون، ولا يزالون فيها يختلفون.

ومهما تناقضت الدوافع والنتائج، فالذي لا يتناقض فيه المختلفون هو: المدى التصاعدي الذي أحدثه هذا الكتاب في الفكر الإنساني، ولمّا يزل آخذاً في التصاعد دون أن يبلغ مداه.

أولا يكفي أنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ بجميع أضوائه وآفاقه التي تتجاوز كل الأساطير مجتمعة ـ لا يذكر إلاّ ويذكر معه هذا الكتاب، أو شيء من هذا الكتاب ؟!

لقد تموّج المقطع الأخير من السنين من عمر التاريخ بأمجاد وفتوحات واسعة وحادّة، كانت ـ بالنسبة إلى الأولين ـ أحلاماً تذهل من فرط خيالها الأحلام،ولا زالت ـ بالنسبة إلى المعاصرين ـ أشبه بأساطيرالأولين.

وفي هذا الطوفان العارم من غليان التاريخ: لم يتصل بنا ـ من الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) ـ إلاّ نفر معدود بالأصابع نعدّهم في الغابرين، وثبت أنّهم أجدر منّا بقيادتنا في نهاية القرن العشرين كما كانوا أجدر بقيادة آبائنا من قبل، ولا زال بعدهم الواقعي أمامنا أكثر من بعدهم التاريخي ورائنا، وأحد هؤلاء الإمام، ولم يتصل بمناهلنا ـ من منابع الماضين ـ إلاّ روافد معدودة بالأصابع كذلك لم تتسنّه،أحدها:(نهج البلاغة).

إنّ كل شيء في عالم المادّة ـ ابتداء من الذرّة وما هو أصغر من الذرّة، وانتهاء بالسديم وما هو أكبر من السديم ـ يتحرّك تحرّكاً دورياً، وفي كل دورة يفرغ طاقة ويجمع طاقة، وكل شيء في عالم المعنى يتحرّك تحرّكاً دورياً كذلك للانسجام الكامل بين المادّة والمعنى، قد تختلف الدوائر ولكنّها تبقى دوائر، والإنسانية ـ كشيء ـ تتحرّك التحرّك ذاته: فمحطّة المستقبل هي قاعدة الماضي، ونقطة المحطّة ـ القاعدة هي نقطة اللا أمام واللا وراء، وهي نقطة سقوط الماضي والمستقبل.

وهذا هو سر رحلة الإنسانية نحو (نهج البلاغة) باعتباره كتاب حياة، بعد رحلتها عن (نهج البلاغة) باعتباره كتاب تراث، لأنّ (نهج البلاغة) من نقاط التقاء الماضي بالمستقبل، فهو من المأثور المسطور الذي وفد إلينا من وراء أربعة عشر قرناً، ولكن لا يمكن أن يعيش عليه ضباب القدم، لأنّه ـ كالفجر، كالربيع، كنجوم الأبد... ـ يزرع الضوء في الطرق الملغمة بالهوى والهوان، إنّه كالكون: قديم بإطاره، وجديد بما تكتشف فيه من أفكار وتدجن منه من طاقات.

أنا لا أعلم كم ـ بالضبط ـ كان مدى صوت الإمام، ولكنّي أسمع صوته ـ بوضوح ـ يشجّع ضمير الإنسان على الانتشار وتغطية كل تصرّفاته.

وأنا لا أعلم كم ـ بالضبط ـ كان حجم قلب الإمام، ولكنّي ألمسه ـ بوضوح ـ يضخ الحياة في شرايين الخانعين.

وأنا لا أعلم كم ـ بالضبط ـ كان مدى سيف الإمام، ولكنّي لا تغزوني سكرة الهموم إلا وأجد أنّي أرفأ إليه، فيغسل عنّي الويلات ؛ تماماً.. كما كان المعذّبون يلجأون إلى الإمام، فيمسح عنهم الرهق، ويفرغ عليهم صحوة الأمان.

إذن: فـ(نهج البلاغة) جزء من الإمام، وجناح من أجنحته العريضة: يمنح الدفء للمتجمّد من الجهل، ويفرش الظل للمحترقين بالظلم، صحيح: إنّه يحتمل الصدمات بمقدار ما يحمي ؛ ولكنّه الفداء المستمر، الذي يعيش بخلوده لا بوجوده.

فإذا استطاع (أن لا يقار على كظة ظالم أو سغب مظلوم)، فلا يهمّه (أوقع على الموت أو وقع الموت عليه)، بل يفضّل أن يقع ـ هو ـ على الموت، فيضع حدّاً لحياته بموت يحيي أموات الأحياء، فـ(ألف ضربة بالسيف أهون عليّ من ميتة على فراش) قال هو (عليه السلام).

ولولا أنّ الإمام أبى إلاّ أن يكون الفداء المستمر: لكان (أدهى العرب) ـ كما قال ـ، ولعرف (فيم علاجهم) ـ كما قال ـ، ولاهتدى (الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز)[١].

ولاستطاع ـ أخيراً ـ أن يكون أمبراطور العرب بل العالم، ولكنّه لم يستطع ـ عندئذ ـ أن يكون (أمير المؤمنين) و(سيّد الوصيين)، وهل يرضى القلب الكبير والعقل العظيم أن يلخص اهتمام (العالم الأكبر)[٢] في (سجن المؤمن)[٣] ، ويختصره (بين نثيله ومعتلفه)[٤] ؟! لقد رضي الإمام (من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه)[٥] ، ليقيم الحق ويدفع الباطل، وليكون مقاس الحق الذي يدور معه كيفما دار.

لكل ذلك: الحياة تطارد الإنسان نحو مصادره الأصيلة، ليقتبس منها وسيلة جديدة لفتح طريق لم يعركه صِدام أو خصام، فالتدافع الاجتماعي يمتص الإنسان ويستهلك وقوده، فإذا أصبح هشا ينفيه عن الصميم إلى المخابئ والمجاهل مع النفايات: كما تكتسح الأمواج إلى الساحل ما لا يستطيع الغوص في اللجج، وكما يدفع البدن زوائده من شبكة الجلد... فلابد من موانئ يرفأ إليها الإنسان كلّما أضناه الرهق، ليستمد منها الطاقة على استعادة التجربة.

وموانئ الإنسانية عديدة، ولكن ـ لعل ـ (نهج البلاغة) ثاني أعظم ميناء للطاقة الإنسانية، يتساقط إليها المتعبون، فإذا نفخ فيهم نشطوا نحو الأجواء العالية لمزاحمة السحاب.

فالقرآن الكريم ـ ولا شك ـ أغنى رصيد للإنسانية، وقد نظر إلى الكون والحياة والإنسان باستيعاب مركّز وعمق معجز، ولكنّه ألقى عليها نظرة تطل من ارتفاع شاهق، فتستجلي كل شيء، متجاوزاً عقبات الطبيعة وحواجز البشر، فأعطى درساً دستورياً مكثّفاً، بعيد الآفاق والأعماق، فكان كخلاصة الفيتامينات: لا يمكن تناولها في جرعة، ولا يمكن الاكتفاء بها لإقامة جسم.

والرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ـ ولا شك ـ أبلغ من جرّب الضاد، ولكن دورة التأسيس لم تكن تسمح إلاّ بطرح القضايا المبدئية، وخلع نفسه على سطح المجتمع لإقامة قواعد الإيمان وشعائره ؛ كلّما تراخى الصراع الدائر حول مبدأ التوحيد واصل الرسالة، فلم يكن في وسع الرسول ـ ولو في يوم واحد ـ أن يحدّث الناس بكنه عقله، وإنّما كان يحدّثهم بمقدار عقولهم[٦].

فكان في مقدور الإمام أن يقف تحت مظلّة القرآن والرسول، ويعمّق المفاهيم الجديدة ويركّز المقاييس الجديدة التي أتى بها القرآن والرسول.

ووقف الإمام يعمّق ويركّز ـ في وفرة هائلة ـ الأحكام: ابتداء من أوّل الدين، وتوحيد الله، وصفاته تعالى، ومروراً بفلسفة الرسالات، وتقييم الإسلام ومفاهيمه وأحكامه، وشرح مواقف الرسول، وأبعاد القيادة، والحقوق المتكافئة بين الأطراف الكونية والبشرية، وانتهاء بوصف السماء، والأرض، والطاووس، والنملة، وأشياء كثيرة، وبحوث متنوّعة... ؛ لولاها لكان في الإسلام فراغ كبير وغموض شديد.

وهو عندما يعمل في موضوع ـ أي موضوع: وضيع أو رفيع ـ لا يسرد سرداً ولا يجتر اجتراراً ـ كما نفعل نحن، أو حتّى كما يفعل الفلاسفة والمفكّرون ـ وإنّما يجسّد شيئاً حاق به، ويفرغ شحنةً ضاق بها، فلا تأخذه كيف شئت وإنّما يأخذك كيف شاء، حتّى كأنّك في مشهد أو محراب لا أمام خطيب أو كتاب.

ثمّ: التسلسل المنطقي المتين وتولّد الأفكار من الأفكار، فكل فكرة نتيجة طبيعية لما قبلها ومقدّمة طبيعية لما بعدها، فلا فكرة إلاّ وتمسّك بك للتأمّل، ولا جملة إلاّ وتطلّك على آفاق تطل على آفاق، بدون أي تلكّأ، أو تكلّف، أو جهاد، أو لهاث... ؛ بل كما ينفجر الفجر، وينسرح العطر، وتهرب المياه في الأنهار، وتفرز القطوف من الأشجار...

وهذه المقدرة الذكية مظهر لواقع الإمام المعجز في كل ما قال أو كتب، حتّى وهو يتناول أعتى الأشياء على القلم واللسان.

فاستمع إليه وهو يتحدّث عن الدين وعن التوحيد وعن الله: (أوّل الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه: لشهادة كل صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنّه غير الصفة).

(فمن وصف الله ـ سبحانه ـ فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّاه، ومن جزّاه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه، ومن قال: (فيم) ؟ فقد ضمّنه، ومن قال: (علام) ؟ فقد أخلى منه).

(كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كل شيء لا بمقارنة، وغير كل شيء لا بمزايلة، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه، متوحّد إذ لا سكن يُستأنس به ولا يستوحش لفقده)[٧].

فالأصل الأوّل للدين هو (معرفة الله)، ولا يمكن معرفة الله إلاّ بـ(التصديق) فمجرد (التصوّر) ليس ديناً، وإنّما الدين هو الإذعان المطلق، ولا يكمل (التصديق) إلاّ بالإله الواحد، فالتصديق بالآلهة المتعدّدة بدائي يزول بالتأمّل، لأنّ الإله لو كان متعدّداً لتناقضوا وعلا بعضهم على بعض ففسدت السماوات والأرض[٨]، هكذا تنبسط الأفكار الجليلة الماورائية لمدى الإمام، فتتولّد وتتناسق بمثل هذه الجزالة وهذا العمق.

ويقول قبل ذلك: (ليس لصفته حد محدود، ولا نعت موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود)[٩].

فالله (مطلق) غير متناه، فلا تطوّقه دائرة الأبدية التي طوّق بها خلقه، وإنّما هو فوق هذه الدوائر ومعها وبعدها.

والوقت هو وليد حركة الأجرام الكونية، فلا يرقى إلى الله، فبالنسبة إلى المقهورين بالزمان يوجد شيء اسمه (الأبد)، أمّا بالنسبة إلى قاهر الزمان فلا يلغي مولدات الزمان إلاّ ويكون (الأبد) قد رحل.

وسئل الإمام عن التوحيد والعدل، فكان الجواب: (التوحيد: أن لا تتوهمه، والعدل: أن لا تتهمه)[١٠].

فالصور الذهنية مخلوقة لأصحاب الأذهان، وليست خالقة لهم، والإله المتهم ليس عادلاً، أمّا الله فهو: خالق الأوهام، وبعيد من الاتهام.

وفي كل ما قرأت عن الله لم أجد جملتين بهذا الجلاء والمضاء: كل جملة تتضمّن مدلولاً واضحاً يرفض أي احتمال، ودليلاً مكيناً لا يترك مجالاً لجدال، وهل يمكن أن يوجد إنسان يتحدّث عن صفات الله بمثل هذه السيطرة على التفكير والتعبير ؟!

ويمضي ـ متابعاً خطوه ـ في دائرة المعارف التي نهجها لتعميق المفاهيم وتركيز المقاييس الجديدة، ويقف على فلسفة الرسالات، فيلخصّها في بندين:

١ـ إنّ الله أخذ الميثاق من بني آدم ـ قبل أن ينقلهم إلى هذا العالم ـ على أنّ الله ربّهم، فأعطوا الميثاق من أنفسهم: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ـ مِن ظُهُورِهِمْ ـ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) ؟! قَالُواْ: (بَلَى شَهِدْنَا)...) الأعراف: ١٧٢.

وأخذ نفس الميثاق من الأنبياء ـ بصورة أكيدة ـ: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا) الأحزاب: ٧.

ثمّ تمرّد بنو آدم على الميثاق الذي أعطوه من أنفسهم ـ لما انتقلوا إلى هذه الدنيا ـ فكفروا بالله، فبعث الله الأنبياء ليطلبوا من بني آدم العمل بذلك الميثاق.

٢ـ إنّ الله أرسل إلى كل إنسان رسولاً هو ضميره، وهذا الرسول يقول للإنسان كل شيء، يقول: هذا حق، وذاك باطل، ولماذا فعلت الشر وتركت الخير ؟! ففي بعض الحديث: (إنّ لله على الناس حجّتين: حجّة ظاهرة، وحجّة باطنة، فأمّا الظاهرة: فالرسل والأنبياء والأئمّة (عليهم السلام)، وأمّا الباطنة: فالعقول)[١١].

ومحكمة الضمير تبقى مفتوحة ليل نهار، وتدأب في أعمالها وإصدار أحكامها حتّى في حالات النوم، فتصوّر الأحكام بالأحلام، ولكن الضمير قد يضعف بكثرة تسفيهه وتقريعه، وقد يدفن تحت ركام من الشهوات والعادات، فأرسل الله الأنبياء لتحرير الضمائر المكبّلة، وتفجير الضمائر المهلهلة: (واصطفى ـ سبحانه ـ من ولده (آدم) أنبياء: أخذ على الوحي ميثاقهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم ؛ لمّا بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم … فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبيائه ؛ ليستأدوهم ميثاق فطرته... ويثيروا لهم دفائن العقول...)[١٢].

فالأنبياء ما جاءوا ليناقضوا الإنسان، وإنّما جاءوا ليشجّعوه على الالتحاق بواقعه، ويفجّروا طاقاته الدفينة تحت أنقاض التخلّف والإجرام، أو لم يفسّر القرآن فلسفة بعثة الرسول بقوله: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ...) الأعراف: ١٥٧ ؟!

من هنا، من مصدر الوجود ومبعث الرسالات، يبدأ الإمام في فلسفة الوجود، ولا يحاول ـ مطلقاً ـ أن يبرك فلسفة مستقلة، وإنّما يتابع الرحلة التي صدح بها القرآن منذ بدأ القرآن رحلته إلى الأرض إلى أن بلغ ختامه، ويواكب سير الرسالة منذ أن دثر الله رسوله بالوحي إلى أن خلع الحياة، وإن كان ـ في بعض الأحيان ـ يبدو أنّه ينسج من جديد، ولكن ـ لدى التحقيق والمقارنة ـ يظهر أنّه يستقي من الضمير القرآني المجيد، والعمق الرسالي الرشيد.

وإن يكن ـ هناك ـ أي زهوق أو مروق، ففلسفة الوجود واحدة: عبّر عنها القرآن بأسلوبه الدستوري، وعبّر عنها الرسول بأسلوبه التأسيسي، وعبّر عنها الإمام بأسلوبه التركيزي، أمّا سائر الفلسفات الأخر: فإنّها تعاني من التخلّف أو التجاوز، وفي كلتا الحالتين لا تطابق بينها وبين الواقع.

وفلسفة الوجود الصحيحة ـ التي عبّر عنها الإمام ـ هي التي انبثقت عن الله، ولكنّها ما انفصلت عنه بالمزايلة ـ حسب تعبير الإمام ـ، فكل شيء ـ مهما كان صغيراً أو كبيراً ـ جزء من الكون، اندفع إلى الوجود وفق فلسفته العامّة، فهو يعطي للحياة ويأخذ من الحياة، فلا ينظر إليه باعتبار حجمه، وإنّما ينظر إليه باعتباره طرفاً متعاملاً مع الكل، فله احترام الكل، أو لم يقل القرآن: (مَن قَتَلَ نَفْسًا ـ بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ ـ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) ؟! المائدة: ٣٢.

فقوّة الوجود تمنح لكل صغير نصيبه من الرعاية بنفس الاهتمام الذي تعطي به نصيب الكبير: فللنبتة الزاحفة من الاهتمام بقدر ما للدوح العتي، ولصغار الحشرات وزغب الطيور ما لسباع الصحراء ونسور الفضاء، أو ليس الله (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) طه: ٥٠، و(أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) النمل: ٨٨.

وأقل حق يوفّر على المخلوق ـ وخاصّة: إذا كان ذا حياة ـ أن يوفّر له حق الحياة، فلا ينازع في ما يمسك عليه حياته، فـ(لكل ذي رمق قوت) و(لكل حبّة آكل...).

وعندما تكون الجناية على ضعيف لا يقاوم، وعندما تكون الجناية من أجل شيء بخس لا يغري ؛ تنقلب الجناية الصغيرة خيانة عظمى، لأنّها تشويه لعدالة الله في الوجود، واعتداء على العدالة الكونية: (والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة، ما فعلته).

فلا يؤخذ الكون بعين الشاعر التي تظهره في وحدة وجودية، ولا يؤخذ بمعمل العالم الذي يجزء كل شيء ويفرده لتكبيله وتحليله، وإنّما يؤخذ الكون ـ كما هو ـ أجزاء متباينة متعاونة، فعناصره المختلفة مترابطة مع بعضها، ولبعضها على البعض حقوق متكافئة: فإذا كانت الشمس تمنح الوجود دفأ، فهي تأخذ منه ما يعوض استهلاكها، فلا يصغر حجمها، وإذا كان البحر يرطّب الجو غيوماً، فهو يسترجع روافده عيوناً وأنهاراً، فلا ينضب.

وإذا أخذت الوردة من الهواء والنور، فهي تدفع إليهما من عطرها ولونها بمقدار ما أخذت منهما ؛ فـ(بالحق قامت السماوات والأرض) ـ قال الإمام ـ، ولكل شيء دور لابد له من القيام به، وإلاّ كان ميتاً استهلكته الأحياء بسرعة كبيرة، في عمليات التطهير الدائبة في الكون.

وبين البشر ـ الذين هم من عناصر هذا الكون ـ نفس الحقوق المتكافئة بين جميع عناصره، القائمة على وحدة هي (الحق): ثمّ جعل ـ من حقوقه ـ حقوقاً لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها، ويوجب بعضها بعضاً، ولا يستوجب بعضها إلاّ ببعض.

فمن يعطي من نفسه الحق يأخذ الحق من نفوس الآخرين، ومن يرفض الاعتراف بحقوق الآخرين لا يكون له في الحق من نصيب، ومن أخذ أكثر ممّا أعطي فهو ظالم، ومن دفع أكثر ممّا أخذ فهو مظلوم، فإذا تزاحمت النعم على فرد فهو لم يجمعها بقدرة قادر، وإنّما هي حصيلة عناصر أخرى بشرية وغير بشرية، فعليه أن يرتفع ـ في تعامله مع سائر عناصر الكون ـ إلى ذلك المستوى، وإلاّ انسحبت عناصر الكون عن التعامل معه إلى مقدار تعامله معها: (من قبض يده عن الناس قبض عنهم يداً واحدة وقبضت عنه أيد كثيرة، وإذا قبضت عنه أيدٍ كثيرة، يبقى وحيداً لا يجيد إلاّ القليل).

(من كثرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه: فمن قام لله فيها بما يجب عرّضها للدوام والبقاء، ومن لم يقم فيها بما يجب عرّضها للزوال والفناء)[١٣].

فعدالة الله جارية في نواميس الكون، وهي (الحق) الذي به قامت السماوات والأرض، ولا يحيد عنه شيء إلاّ لينهار هو ويستهلك في غيره.

الناس لا يوجهون طاقتهم القتالية إلى الأموات، ولا يضربونها حتّى بالحجارة، لأنّهم بحاجة إلى طاقتهم وجهدهم، فلا يوجهونها إلاّ إلى من يخافون منه، وهم لا يخافون من الأموات، فلا يهدرون شيئاً من طاقتهم وجهدهم إلى هدمها، وإنّما يتركون الأموات يهدمها الزمان ويأكلها التراب.

ولكنّهم يحاربون العمالقة بعد موتهم، لأنّ العمالقة لا يموتون، وإنّما يعيشون ـ بعد غيابهم في التراب ـ حقباً مختلفة، يثيرون الهلع والفزع في قلوب الأقزام، والإمام من العمالقة الذين ما ماتوا، وإنّما استمروا يحرّكون الحياة وهم راقدون مع الأموات.

لقد استشهد الإمام في المحراب، ودفن ليلاً ـ لا يحمل جثمانه إلاّ اثنان من أبنائه ـ كما يدفن الغرباء، رغم أنّه خليفة المسلمين، وبقي الناس يرهبونه، والخوارج ينبشون القبور في ظهر الكوفة بحثاً عن جثمانه، خشية أن تعود إليه الروح، وجنّدوا كل أجهزة العالم الإسلامي للتشكيك: في كفائته كخليفة، وفي سعته كإمام، وفي إنسانيته وإسلامه، واتهموه بكل التهم المتوفّرة في مختلف عصورهم ؛ فلم تنجح في اقتلاعه من قلوب البشر ـ مسلمين وغير مسلمين ـ الذين: عرفوه بشراً بين الخالق والمخلوق، وعرفوا كلامه فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق، ثم نهض من تحت كل هذا الركام من الأنقاض، يقود الناس، عجيب أمر هذا العملاق الذي يرفض أن يموت !

لقد ظهر أن سيل النار الذي يتدفّق نحوه ـ على امتداد أربعة عشر قرناً ـ لإحراقه، ينصب في دمائه، ليزيد في مقدرته على قيادة البشر، وتجاوز كل الحواجز التي تفصل بين الأمم.

عاطفة الإمام الحادّة ما طافت فوقه كالطوفان، وإنّما كان عقله الجبّار ينظّم عاطفته، فهي تجيش ولا تجرف ولا تغرق.

عينه على كل حركة، وسمعه على كل همسة: فلا يسمع أنيناً إلاّ خف بالنجدة، ولا سؤالاً إلاّ سارع بالجواب، ولا عثرة إلاّ بادر بالهدى يتتبع آلام الناس فيفنّدها، وجراحاتهم فيضمّدها، ومشاكلهم فيضع لها حلاً بليغاً.

في قلبه إيمان يخصب الأفئدة، وفي عينيه أسى عذب يتوهّج كلّما رأى العذاب في العيون، وعلى جبهته السموح نفار عزم رشيد.

ويسير ـ على الزمان ـ مكدوداً، تمر ساعاته ـ كالدهور ـ بطيئة مثقلة بالمتاعب والمصاعب، فقد سلّطت الدنيا عليه الأضغان والأحقاد بكل وسائل التعذيب والاضطهاد:

فهذا يعذّب حتّى تفيض روحه، وذاك يعذّب وأقصى أمانيه أن تفيض روحه ولا تفيض ؛ وهو لا يملك أن يدرأ، فحوله أنصار كالأعداء، فيغضب، ولابد من الغضب.

الأديب يتصوّر، ولا يهمه أن يصوّر تصويراً جميلاً، بينما الإمام يكرّس الواقع في تصوير جميل، ثمّ يفرغ الواقع والصورة في ما يهدي ويرشد، فالأدب ليس ترفاً والواقع ليس قرفاً، إنّما هما جزءان من الوجود لتكميل الجزء الثالث الذي هو الإنسان.

كان للإمام من روعة الأدب الجاهلي وسحر الواقع الإسلامي، ما حدا ببعضهم إلى أن يقول ـ في كلامه ـ: (فوق كلام المخلوق، ودون كلام الخالق).

فقد نشأ في المحيط الذي تصفو فيه الفطرة، وعايش أحكم الناس الرسول، وتلقّى رسالته قبل أن يجري عليها نفس، بالإضافة إلى مواهبه العظيمة، فتلاقت: الفطرة، والتوجيه، والبيئة.

الإمام ذلك الإنسان الشامل، الذي وظّف البحث والوصف للتعبير عن فلسفة الوجود: فيتحدّث عن أحوال الدنيا وشؤون الناس، ويعرّف البرق والرعد، ويوجّه إلى خفايا النمل والخفاش، ويقنّن الأخلاق، ويصوغ النظم، أو ليس كل شيء وجد لحكمة، والله أتقن كل شيء، وله في كل شيء آية ؛ لا فرق بين صغير وكبير ؟! فالكل مضموم برباط، طرفاه الأزل والأبد.

الفلاسفة يحولون الواقع الملموس بالمشاعر، إلى فلسفة لا تلمس إلاّ بالأفكار، والقادة يحولون الفلسفة التي لا تلمس بالأفكار إلى واقع ملموس بالمشاعر، ثمّ يوظّفونه في تحريك الجماهير في الطريق الذي يشقّونه لها، نحو الهدف الذي يحدّدونه لها، فالجماهير لا تسير خلف الكلام، ولكن الفلاسفة والجماهير معاً يسيرون خلف الواقع، فالقائد ـ دائماً ـ أمام الفيلسوف.

والإمام استطاع أن يحتضن الأفكار المجهضة، ويربيها، ويجعلها خلقاً حياً يسير بين الأحياء ويحرّك الأحياء، فكان ذلك القائد الذي يحلق في الأعالي ـ كموكب ملائكي، كقاعدة النور يغيّر ويطوّر، وأجيال الفلاسفة يقبعون في كل زاوية ومنعطف، في انتظار: أية لفتة أو كلمة، وأية نبضة فكر أو فتكة سيف ليجتمعوا حولها: فيفسّروها، ويكبّروها، ويبنوا بها شخصياتهم الفلسفية.

يرى الإمام، فيشعر، فيعبّر بمقدار الموقف، فيجتمع لديه الصدق، بالموافقة لمقتضى الحال، اجتماعاً عفوياً، فيسجع بمقدار ما في الموقف من سجع، ويصنع بمقدار ما في الموقف من صنعة، فيكون ـ مع المنافقين والمنتفخين على حساب المستضعفين وأصحاب الحقوق المهدورة ـ ثائراً هادراً، يصعق: فتنخلع القلوب، وتزيغ الأبصار.

ويبدو كل شيء ـ أمامه ـ هيّناً تافهاً: (ما هي إلاّ الكوفة، أقبضها وأبسطها) حتّى كأنّك أمام البركان إذ يتفجّر، والزلزال إذ يدمّر، أو أي مظهر من مظاهر الطبيعة لا يطال، فما لك إلاّ أن تعترف وتخشع، ويميّز أسلوبه ـ في مثل هذا الموقف ـ بالتكرار بغية الإقرار، وباستخدام المترادفات من الكلمات، وتهويل التعبير، لمزيد من التأثير، وينتقل من استعظام إلى استفهام، إلى إخبار، إلى إنكار...

وإذا كان (نهج البلاغة) بعض التعبير الشفوي من قشرة حياة الإمام، فما هو عمق حياة الإمام ؟ إنّه (الإمامة) بمعناها الدقيق العميق.

وإذا كان ما وصل إلينا بعض ما كان بينه وبين الناس، فما كان بينه وبين الرسول أروع، وما كان بينه وبين الله أوسع وأجمع.

وكما تبكر الغزلان إلى الماء، لتنال ريّاً يساعدها على رقصة الصحراء، وكما تقذف أعالي الصخور ما في ثقوبها من الطيور ـ مع ذرّات النور ـ إلى السهول، لتلتقط زادها على مسح الفضاء، وكما ترمي البحار ما على ظهورها من السفن إلى الضفاف، لتأخذ قسطها من الاطمئنان والنشاط على مناورة الأمواج... ؛ كتلك يكون الإنسان عندما يقترب من (نهج البلاغة)، لينهل من نميره العذب، ويتزوّد من عطائه السخي، ويستلهم منه الاطمئنان والنشاط على الإبحار في محيط الحياة.

ولا أريد أن اسبق الكتاب إلى مواضع المتعة فيه: فالبحر هو البحر أجئته حينما تنزو موجاته على شرفة الشمس مع الصباح، أو حينما يسجو على صفحاته الليل، ونور الشمس هو نور الشمس، من أي جانب تأخذه، ولكن قد يرتفع الإنسان إلى قمّته، فيفهم بعض شيء من كلام الإمام، فيتباهى بأنّه فهم هذا الشيء، وكفاه عبقريةً وشرفاً.

-----------------------------------------------------------
[١] . نهج البلاغة / كتاب الإمام إلى عثمان بن حنيف الأنصاري.
[٢] . إشارة إلى الشعر المنسوب إلى الإمام: أتزعم أنّك جرم صغير ***** وفيك انطوى العالم الأكبر ؟!
[٣] . إشارة إلى الحديث الشريف: (الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر).
[٤] . إشارة إلى كلام الإمام حول عثمان: (إلى أن قام ثالث القوم: نافجاً حضنيه، بين نثيله ومعتلفه) نهج البلاغة / الخطبة الشقشقية.
[٥] . نهج البلاغة / كتاب الإمام إلى عثمان بن حنيف الأنصاري.
[٦] . إشارة إلى الحديث الشريف: (إنا أمرنا ـ معاشر الأنبياء ـ أن نكلّم الناس بقدر عقولهم) بحار الأنوار ج٢، ب١٣، ح٢٣.
[٧] . نهج البلاغة / الخطبة الأولى.
[٨] . إشارة إلى الآية الكريمة: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ ـ رَبِّ الْعَرْشِ ـ عَمَّا يَصِفُونَ) الأنبياء: ٢٢.
[٩] . نهج البلاغة / الخطبة الأولى.
[١٠] . نهج البلاغة / حكمة ٤٦٢.
[١١] . بحار الأنوار ج١، ب٤، ح٣٠، فقرة ١٦.
[١٢] . نهج البلاغة / الخطبة الأولى.
[١٣] . نهج البلاغة / حكمة رقم ٣٦٤.
****************************