آية الله العظمى الشيخ هادي كاشف الغطاء
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة التحقيق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.
وبعد:
لا يخفى على كل من أمعن النظر في كتاب (نهج البلاغة) أن يحكم ومن دون أدنى شكٍ بأنه أعظم كتاب بعد القرآن الكريم، وحسبنا ما قالوا فيه: أن لا يوجد إسماً أليق بالدلالة على معناه منه.
لذلك ولغيره من الأسباب وجّه إليه المغرضون جملة من الشبهات قد انبرى لها مؤلفنا الهادي قدس سره وردّ كيدهم بتأليفه لـ(مدارك نهج البلاغة ودفع الشبهات عنه)، والذي نأمل من الله عز وجل أن يوفقنا لإظهاره بالشكل الذي يحقق غرض المؤلِف منه، فضلاً عن نيله جائزة القبول عند صهر الرسول عليه السلام، والله الموفق إلى سواء السبيل.
النسخة المحققة:
لقد سعينا جاهدين من خلال البحث في خزائن أسرة آل كاشف الغطاء التي تضم تراثهم، فلم نوفق للوصول إلى نسخة خطية تعيننا في عملنا في التحقيق، إلا ما وجدناه من نسخة عُنيت بطباعتها منشورات مكتبة الأندلس في لبنان، وهي طباعة قديمة لم تجر عليها أصول الطباعة العصرية، وحاولنا الاتصال بنفس هذه الدار للوقوف على النسخة التي اعتُمِدَت في الطباعة فلم نحظ بذلك أيضاً.
وبما أن الميسور لا يسقط بالمعسور، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما لا يدرك كله لا يترك كله)، لذلك عكفنا على العمل على ما تيسر لنا الحصول عليه من هذه الطبعة.
منهجية التحقيق:
اتبعنا في خطوات التحقيق الأمور التالية:
١. تصحيح بعض الكلمات التي وردت في المخطوطة محرّفة أو مصحّفة، كما قمنا بمطابقة رسم بعض الحروف لما هو مشهور من كتابتها في اللغة العربية، كالتفريق بين الهاء والتاء في آخر الكلمات، وكذلك بين الياء والألف المقصورة.
٢. الرجوع إلى الكتب المختصة في تفسير المفردات الغريبة، وتوثيق الحوادث التاريخية، وترجمة الأعلام والمدن والمصنفات الوارد ذكرها في المخطوطة.
٣. تخريج الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة المذكورة في النسخة الخطية.
٤. كتابة سيرة موجزة عن حياة آية الله الشيخ هادي كاشف الغطاء -مؤلف الكتاب-.
٥. سرد المصادر والمراجع التي اعتُمِدت في التحقيق، وترتيبها هجائياً، وذكرها بشكل مفصّل.
٦. عمل فهرس عام للكتاب وموضوعاته.
فضلاً عن ضبط النص وإجراء أدوات التنقيط عليه والأقواس وغيرها، كل في مورده.
ولابد من الإشارة إلى أن المؤلِف قدس سره قد استخدم مصادراً وأشار إلى أجزائها وصفحاتها المعنية، وهي غير التي رجعنا إليها في عملنا الذي يحتم علينا الرجوع إلى آخر الطبعات المنقحة التي لا يُحتمل فيها التحريف والاختلاف، فأبقينا على الأرقام المذكورة من قبل المؤلف، مراعاة للأمانة العلمية في نقل النسخة كما هي.
ذلك، وإن هذا العمل لم ينته بعد، إلا أننا محكومون بموعد اضطررنا لأجله تسليم الكتاب بصيغته الحالية، على أمل مراجعته مراراً للوقوف على زلاتنا قدر الإمكان، فالمرء عرضة للعثرات، والمعصوم من عصمه الله، والحمد لله رب العالمين.
ترجمة المؤلف
مولده و نسبه:
الشيخ الهادي نجل العلامة الشيخ عباس ابن الشيخ علي ابن الشيخ الكبير جعفر صاحب (كشف الغطاء)، النجفي[١]. ويرجع نسب هذه الأسرة الشريفة إلى الصحابي الجليل مالك الأشتر. وقد اختلف في سنة ولادته فالبعض ذكر أنّه ولد في النجف عام ١٢٨٧هـ[٢]، والبعض ذكر أنه ولد سنة ١٢٨٩هـ[٣]، ومنهم من ذكر أنه ولد سنة ١٢٩٠هـ[٤]. وهذا هو الأرجح.
وأمه علوية طاهرة تقية بنت السيد مطر المعروف (بالعلاق) ينتهي نسبه إلى الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وبذلك نال الشيخ شرف الانتساب إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم[٥] عن طريق والدته.
نشأتــه:
في ظل دوحة من دوحات الفضل وفي جو عابق بأريج الإيمان والهداية وفي أسرة عربية صحيحة في العروبة لمّا يزل العلم يضرب أطنابه في أفرادها.. ترعرع الهادي في أكناف هذه الأسرة التي نذرت نفسها لإعلاء كلمة الله، ونشر المبادئ الإسلامية السمحة. تربى في حجر والده العلامة الجليل الفقيه (العباس)، فكان لابد أنْ يعلمه أول ما يعلمه حفظ كتاب الله وإتقان قراءته، ثم تعلم فن الخط العربي[٦] عند أساتذة ماهرين وأجاد فيه.
صحب في صباه ممن عرفوا بكمال تربيتهم وحسن أخلاقهم وولوعهم بالعلم والأدب والتدين والفضيلة أمثال: جعفر الخليلي، وآغا رضا الأصفهاني، والشيخ عبد الكريم الجزائري، والشيخ جواد الشبيبي، والسيد علي العلاق، والشيخ مرتضى التبريزي، وأبي الفضل الطهراني وأمثالهم[٧].
حاز ملكة النظم والنثر وهو ما زال لم يصل سن البلوغ[٨] لقد أحب شعر أبي الطيب المتنبي مما دفعه حبه هذا إلى انتخاب مجموعة من قصائده وضمها بكتاب (المحمود من شعر أحمد) أو (الطيب من شعر أبي الطيب)[٩] كما دفعه حبه للشعر إلى نظم الشعر مثله مثل إخوانه وأصحابه الأدباء وأهل الفضل[١٠]، فجمع إلى جانب العلم والفقه، الأدب والشعر.
صفاتــه:
اتسم الشيخ الهادي – ومنذ صغره – بالهدوء وركونه إلى السكوت وبعده عن التدخل في الشؤون التي لا تعنيه[١١] كما كان (يمتاز بظواهر بارزة من الذكاء والوداعة واللطف والدماثة، اتسم بمتانة عقله، وسيرته المثلى)[١٢]. يقول عنه محمد حرز الدين أنه: (كان من أهل الفضيلة والعلم المرموقين يتوسم فيه النبوغ والرقي إضافة إلى أنه من الأدباء والشعراء وأهل الكمال والمعرفة والرأي السديد).
أما الشيخ جعفر محبوبة فيقول عنه: (يحب العزلة والانزواء ويكره الفخفخة والتظاهر بأمور الرياسة)[١٣].
وكتب عنه جعفر الخليلي أنه كان (عالماًً كبيراً وأديبا لامعاً وزعيما من زعماء النجف الذي انحصر حل العقد والمشاكل وحده فقد كانت الحكومة العثمانية تحترمه وتجل مقامه. وكان لرؤساء العشائر علاقة به ورجوع إليه، وللأدباء اجتماع عنده في كل يوم حتى غطّى اسمه سائر الأسماء وطغت مواهبه على مواهب الآخرين من العلماء…)[١٤].
ويذكر الشيخ جواد الشبيبي رحمه الله أنَّ الفضل الأكبر في ثقافة جمهرة من فحول أدباء الجيل الماضي في النجف يعود إلى ديوان الشيخ عباس ابن الشيخ علي والد الشيخ الهادي[١٥].
من أجمل ما قيل في حقه:
(ملي بالفضل والأفضال، والأدب والكمال، وحسن الخصال، ما لم تحوها فحول الرجال، ذو عفة وحياء وفقه وذكاء، وطلاقة لسان، ولطف بيان، مع السماحة والسهولة، وطيب العشرة، وأنس المحاورة، فاضل تقي نقي، شهم زكي، شاعر بارع، أديب جامع …)[١٦].
كان الشيخ الهادي من مراجع التقليد الذين لهم مكانتهم العلمية والدينية، فلا غرابة في أن يصبح إمام جماعة في الصحن الغروي في الجهة الشمالية الشرقية[١٧]. فكان يصلي بالناس في الصحن الشريف وخلفه عدد من صفوف المؤمنين[١٨].
وقد اشتهر بجوده، وكرم نفسه، إضافة إلى سمو خلقه. ومما قال فيه الشيخ جواد الشبيبي[١٩]:
وقلت لفرسان النشائد سابقوا ويا لؤم من قد قال أن يمنه
ومن قاس بدر التم في صبح مجده إلى مدح الهادي إلى منهـج الحـق
هي الديمة المرخاة في عارض الودق فقد ساق مردود القياس مع الفــرق
ثقافته وأساتذته:
إن تكوين الشيخ الهادي وتثقيفه الأدبي وما عرف به من حسن السليقة إنما يرجع إلى تربيته ونشأته في جو علمي معطر بالإيمان بالله وبكتبه ورسله وأنبيائه، وكان لوالده الأثر الأكبر لأنَّ ديوانه كان مدرسة بحق كما ذكر ذلك الشيخ جواد الشبيبي[٢٠].
وقد تتلمذ على أيدي علماء عصره منهم الشيخ ملا محمد كاظم الآخوند الخرساني، وعلى الشيخ آغا رضا الهمذائي، والأستاذ الشيخ محمد طه نجف، والشيخ فتح الله شيخ الشريعة الإصفهاني والسيد محمد كاظم الطباطبائي… وغيرهم[٢١].
ومن الكتب الأثيرة لديه بعد كتاب الله تعالى وكتب أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كتاب نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام والذي ظل أثيراً لديه حتى حينما كبر، لقد دافع عن نسبته إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام وألزم الأدعياء الحجة القاطعة والبرهان الساطع كما ألف كتابه القيم: (المستدرك على نهج البلاغة)[٢٢].
كما اطلع على كتب النحو العربي ولاسيما شرح القطر لابن هشام ونظم متن القطر شعراً زاد عن الخمسمائة بيت وسمى ذلك بـ(نظم الزهر من نثر القطر) مطلعها[٢٣]:
وأول النظم بسم إله مفرد الذات علم مبتدأ بالخير موصول النعم
مؤلفاته:
له مؤلفات كثيرة ذكرها الشيخ أسعد ابن الشيخ علي كاشف الغطاء في كتاب (المقبولة الحسينية) وقد طبع حديثاً كما ذكر بعضاً منها صاحب كتاب (الذريعة: ٢/٤٧٣). بلغت مؤلفاته أكثر من عشرين مؤلفاً بين مطبوع ومخطوط.
(كما أن له تعليقات وحواشي ومقالات كثيرة ومراسلات مع أعلام عصره مبثوثة في المجاميع)[٢٤].
له شعر حسن يدل على موهبته في هذه الصناعة.
نماذج من شعره قال راثياً أبا الفضل العباس بن علي[٢٥]:
لكل امرئ من زاده ما تزوّدا | ولا مرشد للعقل كالـدين إنه | |
ولست ترى كالفعل للمرء مرشدا[٢٦] | يكون له عـن كل عيب مـسددا |
ومنها قوله:
أبوك فدى الهادي النبي بنفسـه ظمئت | وأرويت الثرى من دمائهم | |
ومنك بسيف البغي إن قطعوا يداً | وكنت لسبط المصطفى في الوغى فدى | |
غـداة علـى طعم الـردى لك موردا | فقد كنت في الـمعروف أطولهم يـدا |
وله قصيدة فائية في مدح النجف الأشرف منها قوله[٢٧]:
قف بالنياق فهذه النجف ربع | ترجلت الملوك بـه حرم | |
تطوف به ملائكة الـأرض | لها التقديس والشـرف | |
وبفضل عز جلاله اعترفـوا | رب الجليل وفيـه تعتكــف |
وفاتـــه:
كانت وفاته ليلة التاسع من محرم من عام ١٣٦١هـ، ودفن في مقبرة أسرته (آلـ كاشف الغطاء)، أرخ لوفاته ورثاه الكثير من الأدباء والشعراء، وكتبت عنه الكثير من الصحف والمجلات[٢٨]… (وشيع كما شيع العلماء والأعلام…)[٢٩].
ومن الشعراء الذين رثوه الشيخ عبد الغني الخضري بقصيدة مطلعها[٣٠]:
هوى علم الهداية والرشاد وغاب | البدر عن هذي النوادي |
وأقيم له حفل تأبيني في الأربعين، قالت جريدة الغري في أربعين الشيخ:
(إن الخطب جليل والرزء مؤلم، والفقيد خسارة الدين والعلم لا تنسى أثاره وفضائله التي هي حيَّ بها على رغم الموت وباقٍ بها على كره من العدم..)[٣١].
وفي تأبين الشيخ الهادي قال السيد محمود الحبوبي[٣٢]:
أمم الهدي التمسي شعاع رشاد فقد | انطوى ذاك الشعاع الهادي |
وقال السيد مير علي أبو طبيخ قصيدة في تأبين الشيخ الهادي مطلعها:
مآذن النجف اهتزت أعاليها | فقلت قد شيعوا الدنيا وما فيها |
وقال السيد محمد جمال الهاشمي قصيدة مطلعها:
ماج الغري وفاض سفح الوادي | الحزن مذ غاض المحيط الهادي |
مقدمة المؤلف
الحمد لله الذي عصم أولياءه من ريب الشكوك والشبهات، ونوّر قلوبهم بالهدى فآمنوا بالآيات والمعجزات، والصلاة والسلام على أشرف الكائنات وأفضل الموجودات، وآله الأئمة البررة الهداة معادن الحكم والآداب، وينابيع الحكمة والصواب، ونسأله العصمة عن الزيغ في الطريقة، والبراءة ممّن يريدون إطفاء نور الحق والحقيقة، إنّه مفيض النعمة وولي العصمة.
أما بعد:
فإن كتاب (نهج البلاغة) من أَجَلِّ الكتب الإسلامية قدراً، وأكبرها شأناً، وأنصعها برهاناً، وأبلغها بياناً، وأفصحها عبارة، وأجمعها حكماً ومواعظ ووصايا ونصائح وأوامر وزواجر وخطباً ورسائل، وإن العلوم الإلهية والمباحث الكلامية والمعارف الحكمية[٣٣] لم تغترف إلا من بحره، ولم تقتطف إلا من زهره، ولم تعرف من كلام غيره[٣٤] وقد احتذى أمثلته ونسج على منواله كل خطيب ماهر، وبليغ واعظ، ولكنه سبق وقصروا، وتقدم وتأخروا، فكم فيه من شرائف حكم، ونفائس كلم، وعجائب فصاحة وبلاغة، لا تزاحمه عليها المناكب[٣٥]، ولا يلحقه فيها الكادح والجاهد.
ألا وإنّ هذا الكتاب لممّا تبتهج به الشريعة المحمديّة، وتفتخر به الأُمّة الإسلاميّة، وتتمجّد به الشعوب العربيّة، ولو قلت: إنّه أكبر الآيات على الدين الإسلامي لما قُلت شططاً، ولا نطقت غلطاً؛ وكيف لا؟! ومصدر هذه الحكم البوالغ والكلم النوابغ، العلوم العقليّة، والمباحث الكلاميّة، والآداب الحقيقيّة، لم يدخل مكتباً ولا مدرسة، ولم يتخرّج من كلّية ولا جامعة، نشأ في عصر[٣٦] همجيّة وتوحش، ودور غباوة[٣٧] وجهل، فكيف ارتقى هذا المرتقى، وتسنّم هذه الذُرة[٣٨]، وبلغ هذا المبلغ من العلم الذي تتقاعس عنه فلاسفة الإسلام، وتتقاصرُ دونه جهابذةُ العلماء، فإذا فحص البصير وجاس خلال الديار[٣٩] وجدَهُ لم يدرُس إلاّ في مدرسة النبوّة، ولم يتخرّج إلاّ من معهد الرسالة، ولم يتربًّ في غير حجرها، ولم يرتضع إلاّ من صفو درّها، فهو يَردُ ذلك البحر المُستمدّ من العلوم الإلهيّة والمعارف الربّانيّة، ويمتح[٤٠] من ذلك اليمّ الزاخر بالحكم والآداب الحقيقيّة، وإنّهُ ٥ أستاذه الفرد، ومدرِّسهُ الوحيد، وهو مربّيه ومؤدِّبه ومثقّفه ومهذبه.
فهذا السنا الوضّاح من ذلك السنا | وهذا الشذى الفيّاح من ذلك الوادي[٤١] |
فلا غروً إن كان مظهراً للعجائب، ومنبعاً للفضائل والمعارف، وقطباً للعبادة والزهادة، وهو مع تلك العبادة وذلك الزهد والورَع ودماثة[٤٢] الخلق ولين الجانب تراه في ميدان الكفاح وساحة النزال ذلك الفارس الضرغام الذي لا يرهبه العديد، ولا يزعجه الوئيد[٤٣]، يخوض غمرات[٤٤] الحروب، وينغمس فيها، ثم يعود وحسامهُ يقطر مهجاً[٤٥]، وصارمه ينطف دماً.
كــأنّ لعزرائيــل قــد قــال سـيفه | لـك السلم مـوفوراً ويـوم الكفاح[٤٦] لي[٤٧] |
ألا وإنّ من أنكرَ نسبة هذا الكتاب إليه حسداً وعناداً فهو كمن أنكرَ أكبر معجزة لهذا الدين، وجحدَ أعظم آية من آيات ربّ العالمين، فما ذاكَ إلاّ لعمى في قلبه، وسوء في رأيه، وقلّة معرفــــة بشأن الإمام، وعدم إحاطة بذاته القدسيّة
هـــامـوا هيــامي فيه لــو أنّهمُ | قــد عــرفــوا معنـــاهُ عـــرفانـــي |
وقـد تمسّك أولئك المُنكرون لهذا الرأي الواهي، والزعم الكاسد[٤٨]، بأمور ستُتلى عليك، وتَــعرف مـــا فيها من الخلل والزلل إن شـاءَ الله تعالى.
الشيعة ومعتقدهم في نهج البلاغة ومؤلفه:
إن الشيعة على كثرة فرقهم واختلاف طرقهم، متفقون متسالمون على إن ما في نهج البلاغة هو من كلام أمير المؤمنين اعتماداً على رواية الشريف[٤٩] ودرايته ووثاقته، والجميع على اختلاف العصور وتعدد القرون لم يختلجهم في أمره ريب، ولا اعتراهم في شأنه شك، ولم يخامرهم[٥٠] ظن أو وهم في أن فيه وضعاً أو به تدليساً، حتى كاد أن يكون إنكار نسبته إليه عندهم من إنكار الضروريات، وجحد البديهيات، أللهمّ إلاّ شاذّ منهم لا يعرف ما خالف في نسبة بعضه إليه ولعلّ جماعة من أكابر علماء أهل السنّة والجماعة ومؤرّخيهم[٥١] – إن لم يكن أكثرهم – يوافقون على صحّة تلك النسبة، ولا يُبدون أدنى خلاف في ذلك، والمخالف من متقدّميهم في نسبة بعضه إليه قليلٌ نادر، وإنّما نشأ التشكيك والخلاف من ناشئة جديدة تسعى لنقض الحقائق الراهنة تحت ستار طلبها، فأخذوا يتشبّثون لنفي ذلك بكل وسيلة، ويتوصّلون إليه بكلّ ذريعة.
والخلاصة: أنّ اعتقادنا في كتاب نهج البلاغة أنّ جميع ما فيه من الخطب والكتب والوصايا والحكم والآداب حاله كحال ما يُروى عن النبي وعن أهل بيته في جوامع الأخبار الصحيحة، وفي الكتب الدينيّة المعتبرة، وإنّ منه ما هو قطعي الصدور ومنه ما يدخله أقسام الحديث المعروفة[٥٢]، وأمّا مؤلّفه الشريف فاعتقادنا فيه أنّهُ مُنزّه عن كُل ما يشين الرواة، ويقدح في عدالتهم، وأنّه لم يُنشيء شيئاً من نفسه وأدخله في النهج، كما أنّه لم يدخل فيه شيئاً يعلم أنّه لغير أمير المؤمنين، بل لم يكن كحاطب ليل[٥٣]، فهو لا يروي شيئاً إلاّ بعد التثبّت، ولا ينقُله إلاّ عَمّن يعتمد عليه من الرواة وأهل السير والتاريخ، فجميع ما في النهج هو من كلام مولانا أمير المؤمنين على رواية الثقة العدل، ولا دخيل فيه، ولا وضع.
مؤلف النهج ووثاقته:
أنا لا أريد أن أكتب سيرة المؤلف الشريف، ولا ترجمة حياته، وإنما الذي يهمني أن أذكر ما له من الورع والعلم والتقى والوثاقة وجلالة القدر وعلو المنزلة وطول الباع في المعارف، وسعة الإطلاع والإحاطة بمؤلفات شتى في التاريخ والسير وغيرها، ذهب جلها، ولم يبقَ منها إلى عصرنا إلاّ شيء يسير.
كان رضي الله عنهكما قال الخطيب البغدادي[٥٤]: (من أهل الفضل والعلم والأدب)[٥٥]. وقال غيره[٥٦]: (كان المؤلف فاضلاً عالماً ورعاً، عظيم الشأن، رفيع المنزلة)[٥٧] ، (عالي الهمّة، مستلزماً بالدين وقوانينه، لم يقبل من أحد صلة ولا جائزة)[٥٨] ، وقد عرف من الفقه والفرائض طرفاً قوياً، وله مصنفات عديدة، وقفنا منها على (المجازات النبوية)[٥٩] ، وكتاب (الخصائص)[٦٠] ، وعلى الجزء الخامس من تفسيره الموسوم بـ(حقائق التنزيل ودقائق التأويل)[٦١] ، وهو كتاب يشهد لصاحبه بالسبق في الفضل، وطول الباع في الحكمة والفلسفة والفقه وجميع العلوم العربية، وقد صرح في هذا الكتاب وفي كتاب (المجازات) بنسبة كتاب النهج إليه[٦٢]. وسيأتيك ذكر ما كان في عصره من المؤلفات التي يتيسر له الرجوع إليها متى شاء.
وبعد هذا فلا أخال أن يبقى مجال لمنـصف أن يسـبق وهمـه وخيالـه إلى أن يرتـكب مثل هذا المنـصف[٦٣]، الـحـاوي لتلك الـخلال[٦٤] الفاضلة رذيلة الاختلاق والوضع، ثم ينسب ذلك إلى أكبر إمام في الدين، فأن من هو دون السيد الشريف في الشرف والديانة ينزّه عن تعمّد الكذب، وكيف يحتمل في مثله أن يُقدم على هذه الخلّة الذميمة المستهجنة، والكذب من أعظم الكبائر الموبقة، ولاسيّما على أعظم إمام في المسلمين.
إنّ وصمة أمثال السيد من عُلمـاء الـرواة بغـير حُجّة ولا برهان بذلك ظُلمٌ للحقيقة، وخروج عن الطريقة، وفتح باب لهدم أصول الشريعة والدين، وزوال الثقة بما في الجوامع الصحيحة.
شروح كتاب النهج:
شرح هذا الكتاب الجليل من فطاحل العلماء، وجهابذة الفن، ما يناهز الأربعين فاضلاً[٦٥] بشروح موجزة ومسهبة عربية وفارسية، ولم يصدر منهم في حق جامعه أدنى غمز[٦٦] أو توهين، ولا أقل تشكيك أو توقف في نسبة الكتاب إلى راويه أو المروي عنه، ومن أفاضل شرّاحه العلامة الشيخ محمد عبده[٦٧]، فقد شرحه بكلمات وجيزة وقد طبع شرحه في بيروت[٦٨]، بالمطبعة الأدبية، سنة (١٣٠٧هـ)، وطبعَتْ مكتبة الأندلس مزيداً من شروح أخرى في سنة (١٣٧٤هـ ــ١٩٥٥م) وقد تضمنت خطبة شرحه هذا أوصافاً للنهج باهرة، وقد حثَّ فيها طالبي نفائس اللغة أن يجعلوا هذا الكتاب أهم محفوظهم، وذكر أن جماعة من أجلة العلماء[٦٩] قد عني بشرحه، وهذا الشارح مع طول باعه وسعة إطلاعه وحرية أفكاره لم يبن منه في شأن نسبة الكتاب شائبة تردد، ولا في صحته أدنى تشكيك.
ما عول عليه عبد الحميد[٧٠] في نسبة النهج إلـى أمير المؤمنيـن:
وقد عرفتَ مما سبق اتفاق أهل العلم -إلا من شذ- على أن ما في كتاب النهج هو من كلام أمير المؤمنين، ونزيدك هنا بملخص ما عَوّل عليه شارحه في (ص٥٤٦، ج٢) قال:
أولاً: إنه لا سبيل إلى نفي كل ما في النهج عن أمير المؤمنين ؛ لثبوت بعضه بالتواتر، وإذا ثبت أن بعضه من كلامه ثبت أن الجميع منه، لاتفاق جميع أبعاضه في النفس والطريقة والمذهب والأسلوب، ولو كان لشخصين أو أكثر لاختلفت في ذلك أبعاضه، وتفاوتت في ذلك أجزاؤه، ولميَّز أهل الذوق والأدب وصيارفة الكلام[٧١] ونقدته بين الدخيل والأصيل، كما مَيّزوا في شعر أبي تمام[٧٢] وغيره[٧٣].
قلت: وكما حكموا بأن كتاب (التاج) للجاحظ[٧٤]؛ لأن أسلوبه وسبكه يضاهي أسلوب الجاحظ، وطريقته في السبك والتعبير.
وثانياً: إن القائل بأن بعض النهج منحول[٧٥]، يطرق على نفسه ما لا قِبَلَ له به؛ لأنّا متى فتحنا هذا الباب، وسلطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو، لم نثق بصحة كلام منقول عن رسول الله ٥ أبداً، وكذلك ما نقل عن أبي بكر وعمر من الكلام والخطب والمواعظ، وكل أمر جعله هذا الطاعن مستنداً له فيما يرويه عن النبي ٥ والأئمة الراشدين والصحابة والتابعين والشعراء والخطباء.
فلناصري أمير المؤمنين أن يستندوا إلى مثله فيما يروونه عنه من النهج وغيره.