الّذي يفصح عن أنّ فدك كانت في يد فاطمة عليهاالسلام وتحت تصرّفها، وأنّها انتزعت عنها؛ كلام أميرالمؤمنين عليه السلام:
«بلى كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلّته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس قوم آخرين، ونعم الحكم اللَّه، وما أصنع بفدك وغير فدك، والنفس مظانّها في غد جدث».
قال ابن أبي الحديد في الشرح: يقول عليه السلام: لا مال لي ولا اقتنيت فيما مضى مالاً، وإنّما كانت في أيدينا فدك، فشحّت عليها نفوس قوم- أي: بخلت- وسخت عنها نفوس قوم آخرين- أي: سامحت وأعفت-...
لأنّه عليه السلام وأهله لم يسمحوا بفدك إلّا غصباً وقسراً.
ثمّ قال: ونعم الحكم اللَّه... وهذا الكلام؛ كلام شاك متظلّم...
-أقول: وبهذا المقدار من الشرح أيضاً أوضح المقصود، وإن لم يشرح ابن أبي الحديد كلامه عليه السلام كما هوحقّه، وأغمض العين عن أن يكشف المرام عن وجه كلامه عليه السلام بما هوالمقصود الحقيقي لمصالح هويعلم في نفسه أو... -.
قلت: فظهر من مجموع كلماته عليه السلام... أنّ أهل البيت لم يقصروا عن الدعوى والمشاجرة من زمان أبي بكر إلى زمان عمر، وإنّما أخّرتهم السلطة والغلبة وعدم الإصغاء إلى الدعوى من عليّ وفاطمة عليهماالسلام، ولذا وقعت الشكاية من عليّ عليه السلام إلى اللَّه تعالى!
تصديق أبي بكر للنحلة- أقول: وأمّا عليّ عليه السلام؛ فتركه فدك وعدم أخذها لمّا ولّى الأمر كان لرياضة نفسه عليه السلام، لئلّا تنغمس في حبّ الدنيا... لتأتي آمنة يوم الفزع الأكبر.
كما قال المؤلّف هذا المعنى في جواب من قال: إنّ فدك لوكانت لفاطمة عليهاالسلام فكيف عمل بها عليّ عليه السلام فيها معاملة من كان قبله؟ أولعلّة اُخرى يستفاد من بعض الروايات، كما ذكرتها في عنوانه الخاصّ، فراجع هناك-.
فدك في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
قال ابن أبي الحديد: الفصل الأوّل: فيما ورد من الأخبار والسير المنقولة من أفواه أهل الحديث وكتبهم، لا من كتب الشيعة ورجالهم، لأنّا مشترطون على أنفسنا ألّا نحفل بذلك، وبجميع ما نورده في هذا الفصل من كتاب أبي بكر أحمد بن عبدالعزيز الجوهريّ في «السقيفة وفدك»، وما وقع من الإختلاف والإضطراب عَقِب وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله.
وأبوبكر الجوهريّ هذا عالم محدِّث كثير الأدب، ثقة، ورع، أثنى عليه المحدّثون وروَوْا عنه مصنّفاته.
٣٧٢١/ ١- قال أبوبكر: حدّثني أبوزيد عمر بن شبّة، قال: حدّثنا حيّان بن بشر، قال: حدّثنا يحيى بن آدم، قال: أخبرنا ابن أبي زائدة، عن محمّد بن إسحاق، عن الزهري، قال:
بقيتْ بقيّةٌ من أهل خيبر تحصّنوا، فسألوا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أن يحقن دماءهم ويُسيِّرهم، ففعل.
فسمع ذلك أهل فدك، فنزلوا على مثل ذلك.
وكانت للنبيّ صلى الله عليه وآله خاصّة، لأنّه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب.
٣٧٢٢/ ٢- قال أبوبكر: وروى محمّد بن إسحاق أيضاً: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله لمّا فرغ من خيبر قذف اللَّه الرعب في قلوب أهل فدك.
فبعثوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فصالحوه على النّصف من فدك، فقدمت عليه رسلهم بخيبر- أوبالطريق، أوبعد ما أقام بالمدينة- فقبل ذلك منهم.
وكانت فدك لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله خالصةً له، لأنّه لم يوجف عليها بخيلٍ ولا ركاب.
قال: وقد روي: أنّه صالحهم عليها كلّها، اللَّه أعلم أيُّ الأمرين كان.
٣٧٢٣/ ٣- قال: وكان مالك بن أنس يحدّث عن عبداللَّه بن أبي بكر بن عمروبن حَزْم:أنّه صالحهم على النصف، فلم يزل الأمر كذلك، حتّى أخرجهم عمر بن الخطّاب وأجلاهم بعد أن عوّضهم عن النّصف الّذي كان لهم عوضاً من إبل وغيرها.
وقال غير مالك بن أنس: لمّا أجلاهم عمر بعث إليهم من يقوّم الأموال، بعث أبا الهيثم بن التيّهان، وفروة بن عمرو، وحباب بن صَخْر، وزيد بن ثابت، فقوّموا أرض فدك ونخلها، فأخذها عمر، ودفع إليهم قيمة النصف الّذي لهم.
وكان مبلغ ذلك خمسين ألف درهم، أعطاهم إيّاها من مالٍ أتاه من العراق، وأجلاهم إلى الشام.
٣٧٢٤/ ٤- قال أبوبكر: فحدّثني محمّد بن زكريّا، قال: حدّثني جعفر بن محمّد بن عُمارة الكنديّ، قال: حدّثني أبي، عن الحسين بن صالح بن حيّ، قال: حدّثني رجلان من بني هاشم، عن زينب عليهاالسلام بنت عليّ بن أبي طالب عليه السلام؛
قال: وقال جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين، عن أبيه؛
قال أبوبكر: وحدّثني عثمان بن عمران العجيفيّ، عن نائل بن نجيح بن عمير بن شَمِر، عن جابر الجُعفيّ، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ عليه السلام؛
قال أبوبكر: وحدّثني أحمد بن محمّد بن يزيد، عن عبداللَّه بن محمّد بن سليمان، عن أبيه، عن عبداللَّه بن حسن بن الحسن، قالوا جميعاً:
لمّا بلغ فاطمة عليهاالسلام إجماع أبي بكر على منعها فدك، لاثت خمارها، وأقبلت في لُمّة من حفدتها ونساء قومها، تطأ في ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، حتّى دخلتْ على أبي بكر، وقد حشد الناس من المهاجرين والأنصار، فضرب بينها وبينهم ريطةً بيضاء.
- وقال بعضهم: قِبْطيّة، وقالوا: قُبْطية بالكسر والضمّ-.
ثمّ أنّت أنّةً أجهش لها القوم بالبكاء، ثمّ أمهلت طويلاً حتّى سكنوا من فورتهم.
ثمّ قالت: أبتدء بحمد من هوأولى بالحمد، والطَّوْل والمجد، الحمدللَّه على ما أنعم، وله الشكر بما ألهم.
وذكر خطبةً طويلةً جيّدة، قالت في آخرها:
فاتّقوا اللَّه حقّ تقاته، وأطيعوه فيما أمركم به، فإنّما يخشى اللَّه من عباده العلماء، واحمدوا اللَّه الّذي لعظمته ونوره يبتغي مَن في السماوات والأرض، إليه الوسيلة، ونحن وسيلته في خلقه، ونحن خاصّته، ومحلّ قدسه، ونحن حجّته في غيبه، ونحن ورثة أنبيائه.
ثمّ قالت: أنا فاطمة ابنة محمّد صلى الله عليه وآله، أقول عَوداً على بدء، وما أقول ذلك سَرَفاً ولا شَطَطاً، فاسمعوا بأسماع واعية، وقلوبٍ واعية.
ثمّ قالت: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَريصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤمِنينَ رَؤوفٌ رَحيم» [١] .
فإن تَعْزُوه تجدوه أبي دون آبائكم، وأخا ابن عمّي دون رجالكم. - ثمّ ذكرت كلاماً طويلاً سنذكره فيما بعد في الفصل الثاني، تقول في آخره-: ثمّ أنتم الآن تزعمون أن لا إرْثَ لي؛ «أَفَحُكْمَ الجاهلِيّةِ يَبْغونَ ومَنْ أحسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يوقِنونَ»؟ [٢]
إيهاً معاشر المسلمين! ابتزُّ إرث أبي، أبىَ اللَّه أن تَرِثَ يابن أبي قحافة أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فريّاً! فدونكها مخطومةً مرحولةً تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم اللَّه، والزعيم محمّد صلى الله عليه وآله، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولكلّ نباٍ مستقرٌّ وسوف تعلمون من يأتيه عذابٌ يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم.
ثمّ التفتت إلى قبر أبيها، فتمثّلت بقول هندٍ بنت أثاثة:
قد كان بعدك أنباء وهيمنة ***** لوكنت شاهدها لم تَكثُرِ الخطبُ
أبدتْ رجالٌ لنا نجوى صدورهم ***** لمّا قضيتَ وحالت دونك الكُتُبُ
تَجَهّمتنا رجالٌ واستُخِفَّ بنا ***** إذ غبتَ عنّا فنحن اليومَ نُغتصَبُ
قال: ولم ير الناسُ أكثر باك ولا باكيةً منهم يومئذ.
ثمّ عدلت إلى مسجد الأنصار، فقال:
يا معشر البقيّة! وأعضاد الملّة، وحَضَنة الإسلام، ما هذه الفترة عن نُصرتي، والوَنْية عن معونتي، والغمزة في حقّي، والسِّنة عن ظُلامتي؟
أما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يقول: «المرء يُحفَظ في ولده»؟ سرعان ما أحدثتم، وعجلان ما أتيتم، ألانْ مات رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أمتّم دينه! ها إنّ موته لَعمرى خطبٌ جليل استوسع وهَنه، وأستبهم فتقُه، وفُقِدَ راتقه، وأظلمت الأرض له، وخشعت الجبال، وأكْدَت الآمال، أُضيع بعده الحريم، وهُتِكت الحرمة، وأُذيلت المصونة.
وتلك نازلة أعلن بها كتاب اللَّه قبل موته، وأنبأكم بها قبل وفاته، فقال: «ومَا مُحَمَّدٌ إِلّا رَسولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أفَإنْ ماتَ أوقُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرّ اللَّه شَيئاً، وَسَيَجْزي اللَّه الشّاكِرينَ». [٣]
إيهاً بني قَيْلة! اهتضم تُراث أبي، وأنتم بمرآى ومَسمَع، تبلغكم الدعوة، ويشملكم الصوت، وفيكم العُدّة والعدد، ولكم الدار والجَنن، وأنتم نُخبة اللَّه الّتي انتخب، وخيرته الّتي اختار؟!
باديتم العرب، وبادهتم الاُمور، وكافحتم إليهم حتّى دارت بكم رحى الإسلام، ودرّحلبه، وخبت نيران الحرب، وسكنت فورة الشّرك، وهدأتْ دعوة الهَرْج، واستوثق نظام الدّين.
أفتأخّرتم بعد الإقدام، ونكصتم بعد الشدّة، وجبنتُم بعد الشجاعة؟ عن قوم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم، فقاتلوا أئمّة الكفر إنّهم لا أيمانَ لهم لعلّهم ينتهون.
ألا وقد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض، وركَنْتم إلى الدّعة، فجحدتم الّذي وعيتم، وسُغتم الّذي سوّغتم، وإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً، فإنّ اللَّه لغنيّ حميد.
ألا وقد قلت لكم ما قلت على معرفة منّي بالخذْلة الّتي خامرتْكم، وخَوَر القناة،وضعف اليقين، فدونكموها فاحتووها مدبرة الظهر، ناقبة الخفّ، باقية العار، موسومة الشعار، موصولة بنار اللَّه الموقدة، الّتي تطّلع على الأفئدة، فبعين اللَّه ما تعملون «وَسَيَعْلَمُ الَّذينَ ظَلَموا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون».
٣٧٢٥/ ٥- قال: وحدّثني محمّد بن زكريّا، قال: حدّثنا محمّد بن الضحّاك، قال: حدّثنا هشام بن محمّد، عن عوانة بن الحكم، قال:
لمّا كلّمت فاطمة عليهاالسلام أبابكر بما كلّمته به، حمد أبوبكر اللَّه وأثنى عليه وصلّى على رسوله، ثمّ قال:
يا خَيْرَة النساء، وابنة خير الآباء! واللَّه؛ ما عدوتُ رأيَ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، وما عملتُ إلّا بأمره، وإنّ الرائد لا يَكذب أهله، وقد قلت فأبلغت، وأغلظت فأهجرت، فغفراللَّه لنا ولك!!
أمّا بعد؛ فقد دفعت آلةَ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ودابّته وحذاءه إلى عليّ، وأمّا ما سوى ذلك؛ فإنّي سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يقول: «إنّا معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً ولا فضّة ولا أرضاً ولا عقاراً ولا داراً، ولكنّا نورث الإيمان والحكمة والعلم والسنّة» فقد عملت بما أمرني، ونصحت له، وما توفيقي إلّا باللَّه عليه توكّلت وإليه أنيب!!
٣٧٢٦/ ٦- قال أبوبكر: وروى هشام بن محمّد، عن أبيه، قال: قالت فاطمة عليهاالسلام لأبي بكر: إنّ اُمّ أيمن تشهد لي أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أعطاني فدك.
فقال لها: يا ابنة رسول اللَّه! واللَّه؛ ما خلق اللَّه خلْقاً أحبّ إليّ من رسول اللَّه أبيك، ولوددْتُ أنّ السماء وقعت على الأرض يوم مات أبوك، واللَّه؛ لأن تفتقر عائشة أحبّ إليّ من أن تفتقري، أتراني أعطى الأحمر والأبيض حقّه وأظلمك حقّك، وأنت بنت رسول اللَّه؟!!
إنّ هذا المال لم يكن للنبيّ، وإنّما كان مالاً من أموال المسلمين يحمل النبيّ به الرجال، وينفقه في سبيل اللَّه، فلمّا توفّي رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ولّيته، كما كان يليه!!
قالت: واللَّه؛ لا كلّمتك أبداً.
قال: واللَّه؛ لا هجرتك أبداً! قالت: واللَّه؛ لأدعونّ اللَّه عليك.
قال: واللَّه لأدعونّ اللَّه لك!
فلمّا حضرتها الوفاة أوصتْ ألّا يصلّي عليها، فدفنتْ ليلاً، قول ابن أبي الحديد في أنّ النبيّ هل يورث أم لا؟
ثمّ ذكر ابن أبي الحديد الفصل الثاني في النظر في أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله هل يورث أم لا؟ وذكر في هذا الفصل ما حكاه المرتضى رحمه الله في «الشافي» عن قاضي القضاة، وما اعترضه به في هذا المعنى بطوله... إلى أن ذكر:
٣٧٥٤/ ١- قال المرتضى رحمه الله: وأخبرنا أبوعبداللَّه المرزباني، قال: حدّثني عليّ بن هارون، قال: أخبرني عبيداللَّه بن أحمد بن أبي طاهر، عن أبيه، قال: ذكرت لأبي الحسين زيد بن عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام كلام فاطمة عليهاالسلام عند منع أبي بكر إيّاها فدك، وقلت له:
إنّ هؤلاء يزعمون أنّه مصنوع وأنّه من كلام أبي العيناء، لأنّ الكلام منسوق البلاغة.
فقال لي: رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم ويعلّمونه أولادهم، وقد حدّثني به أبي، عن جدّي، يبلغ به فاطمة عليهاالسلام على هذه الحكاية.
وقد رواه مشايخ الشيعة وتدارسوه قبل أن يوجد جدّ أبي العيناء. وقد حدّث الحسين بن علوان، عن عطيّة العوفي: أنّه سمع عبداللَّه بن الحسن بن الحسن يذكر عن أبيه هذا الكلام.
ثمّ قال أبوالحسين زيد: وكيف تنكرون هذا من كلام فاطمة عليهاالسلام وهم يروون من كلام عائشة عند موت أبيها ما هوأعجب من كلام فاطمة عليهاالسلام؟ ويحقّقونه لولا عداوتهم لنا أهل البيت.
ثمّ ذكر الحديث بطوله على نسقه، وزاد في الأبيات بعد البيتين الأولين:
ضاقت عليّ بلادي بعد ما رحبت ***** وسيم سبطاك خسفا فيه لي نصب
فليت قبلك كان الموت صادفنا ***** قوم تمنّوا فأعطوا كلّ ما طلبوا
تجهّمتنا رجال واستخفّ بنا ***** مذغبت عنّا وكلّ الإرث قد غصبوا
قال: فما رأينا يوماً أكثر باكياً أوباكية من ذلك اليوم. [٤]
قال المرتضى رحمه الله: وقد روى هذا الكلام على هذا الوجه من طرق مختلفة ووجوه كثيرة، فمن أراد أخذها من مواضعها، فكيف يدّعي أنّها عليهاالسلام كفّت راضية وأمسكت قانعة، لولا البهت وقلّة الحياء.
إعتذار ابن أبي الحديد للدفاع والإنتصار عن الشيخين تارة يقول: وذلك عند أصحابنا من الاُمور المغفورة لهما.
وتارةً يقول: ففعلا ما هوالأصلح بحسب ظنّهما. واُخرى يقول: والاُمور الماضية يتعذّر الوقوف على عللها وأسبابها...
بل لعلّ الحاضرين المشاهدين لها لا يعلمون باطن الأمر، فلا يجوز العدول عن حسن الإعتقاد فيهما بما جرى... لوثبت أنّه خطأ لم يكن كبيرة... لا تقتضي التبرّي ولاتوجب زوال التولّي. [٥]
أقول: يابن أبي الحديد! ألم تقرأ قول اللَّه سبحانه: «يا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم...»؟ [٦]
أما سمعت قول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: فاطمة بضعة منّي... من آذاها فقد آذاني؟...
ألم تقرأ قول اللَّه سبحانه: «... وَالَّذيِنَ يُؤذونَ رَسُولَ اللَّه لَهُمْ عَذابٌ أَليمٌ»؟ [٧]
ألم تقرأ قول اللَّه سبحانه: «... إِنَّ الَّذينَ يُؤذونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فيِ الدُنيَا وَالآخِرَةِ وَأعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهيناً»؟ [٨]
ألم تتأذّى فاطمة عليهاالسلام من فعلهما وممّا جرى بأيديهما؟ فَلِمَ انتحب أبوبكر يبكي حتّى كادت نفسه أن تزهق حين سمع من فاطمة عليهاالسلام وهي تقول:لأدعونّ اللَّه عليك في كلّ صلاة اُصلّيها.
ثمّ خرج باكياً، فاجتمع الناس إليه فقال لهم:... لا حاجة لي في بيعتكم أقيلوني بيعتي. [٩]
أما سمعت قول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: فاطمة بضعة منّي... من آذاها فقد آذاني؟...
ألم تقرأ قول اللَّه سبحانه: «... وَالَّذيِنَ يُؤذونَ رَسُولَ اللَّه لَهُمْ عَذابٌ أَليمٌ»؟
ألم تقرأ قول اللَّه سبحانه: «... إِنَّ الَّذينَ يُؤذونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فيِ الدُنيَا وَالآخِرَةِ وَأعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهيناً»؟
يا للعجب! أفاطمة عليهاالسلام المطهّرة بآية التطهير غضبى من الصغائر المغفورة لهما، ومن العمل الأصلح بحسب ظنّهما في إصلاح دين أبيها وإبقاء الإسلام وهداية المسلمين؟!
يابن أبي الحديد! أيتعذّر الوقوف على علل الاُمور الماضية، ولايعلم حقائقها لمن آمن باللَّه ورسوله بعد ما قرء آية التطهير وآية المباهلة وآيات اُخرى في شأن فاطمة الصديقة عليهاالسلام وشأن بعلها عليه السلام؟
وبعد ما سمع من رسول اللَّه صلى الله عليه وآله في حقّها وفي حقّ بعلها عليّ أميرالمؤمنين عليه السلام من رواية الغدير ورواية الإخوة، ورواية: «عليّ مع الحقّ...» ورواية: «أنا مدينة العلم...»، ورواية الثقلين.
ورواية: «فاطمة بضعة منّي...». ورواية: «أنا حرب لمن حاربكم»، وروايات سيّدة النساء، ورواية: «إنّ اللَّه يغضب لغضبها...»، وروايات اُخرى كثيرة والمتّفقة عليها المرويّة في صحاحكم وكتبنا المعتبرة...
اللَّه أكبر! يا للعجب! يابن أبي الحديد! أما سمعت وشرحت خطبة الشقشقيّة وغيرها؟
لقد فهمت وعرفت الحقّ، ولكن عدلت عن شرحها، وعن ظاهرها وباطنها بما عدلت.
أما سمعت قوله عليه السلام: «بلى كانت في أيدينا فدك... فشحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين ونعم الحكم اللَّه...».
يابن أبي الحديد! واللَّه؛ إنّ عللها وأسبابها وحقائقها لواضح جليّ لمن آمن واتّقى، ولم يتعصّب تعصب الجاهليّة.
وبعد القرآن الكريم وآياته في شأن الطاهرة البتول، وفي شأن أخورسول اللَّه صلى الله عليه وآله ونفسه وبعد ما بيّن الرسول في شأنهما وشأن أهل بيته؛ اتّضح الحقّ والعلل والأسباب لاُمور الماضية، ووجب العدول عن حسن الإعتقاد فيهما بما جرى.
«يَا أَيُّها الذَّينَ آَمنوا لا تَتَوَلَّوا قَوْماً غَضِبَ اللَّه عَلَيْهِمْ...». [١٠]
«فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذينَ ظَلَموا مَعْذِرَتُهُمْ...». [١١]
فنقطع الكلام فلا نطيل «إِنَّ في ذلكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوأَلْقَى السَّمْع وهُوشَهيدٌ» [١٢] .
وهذا الإعتذار منه بعد عدم إمكان إنكار الواقع وإخفائه وتحريفه له، اعتذارٌ أسوء حالاً من الإنكار، وأشدّ افتضاحاً من الإخفاء والتحريف للواقع يعني- إن لم يقل ابن أبي الحديد: «والصحيح عندي: أنّها ماتت وهي واجدة على أبي بكر وعمر...».
بل يقول: إنّهما لم يفعلا شيئاً من الظلم والأذى ولم تكن بنت النبي صلى الله عليه وآله واجدة عليهما، وكانت راضية عنهما، لعلّ كان هذا الإنكار منه أسهل من ذلك الإعتذار عنهما.
لانّ في كليهما خلاف ضرورة التأريخ والدين. وأمّا أسهليّة الإنكار؛ فلأنّه حينئذٍ على الفرض لا يشملهما الّعن والعذاب في آية «يُؤذونَ اللَّه ورَسُوله...» في سورة الأحزاب وغيرها .