لقد تبدلت الألوان في هذا العالم اليوم عما كانت عليه منذ أربعة عشر قرناً، وتطورت المعارف والثقافات وتغيرت الأذواق. فقد يزعم الواهم أن المعارف والأذواق القديمة كانت تتقبل مقال الإمام (عليه السلام) وتخضع له، أما الأفكار والأذواق الحديثة فهي تحكم بغير ذلك! ولكن يجب علينا أن نعلم: أن مقال الإمام (عليه السلام) سواء من حيث اللفظ أو المعنى لا يتحدد بالزمان والمكان، بل هو عالمي وإنساني ما بقي الإنسان إنساناً في العالم، وسنبحث نحن في هذا الشأن فيما بعد، ولكنا كما سردنا بعض ما قالوه في مقاله (عليه السلام) في القديم نعكس الآن هنا قليلاً ممّا قال فيه ذوو الأنظار والأفكار في عصرنا هذا أيضاً.
كان الشيخ محمد عبده المفتي الأسبق للديار المصرية - ممن قرّبته الصدفة حين ابتعاده عن الوطن من معرفة (نهج البلاغة) وجرّته هذه المعرفة إلى الشوق، إلى أن يشرح هذه الصحيفة المقدسة وينشرها بشرحه بين شباب أمته. إنه يقول في مقدمته لشرحه: (وبعد، فقد أوفى لي حكم القدر بالاطلاع على كتاب (نهج البلاغة) مصادفة بلا تعمّل، أصبته على تغير حال وتبلبل بال، وتزاحم أشغال، وعطلة من أعمال...)[١].
والدكتور علي الجنيد رئيس كلية العلوم بجامعة القاهرة في مقدمة كتاب (علي بن أبي طالب، شعره وحكمه) كتب عن نثر الإمام (عليه السلام) يقول:
(في هذا الكلام موسيقى موقعة تأخذ القلب أخذاً وفيه من السجع المنتظم ما يصوغه شعراً).
ثم ينقل عن قدامة بن جعفر أنه كان يقول: (جلت طائفة في القصار وطائفة في الطوال، أما علي فقد بزّ أهل الكلام جميعاً في القصار والطوال وفي سائر الفضائل).
وينقل الدكتور طه حسين الأديب والكاتب المصري الشهير في كتابه (علي وبنوه) خبر الرجل الذي تردد في يوم الجمل في أمر علي (عليه السلام) وطلحة والزبير وعائشة، يقول في نفسه: كيف يمكن أن يكون مثل طلحة والزبير وعائشة على الخطأ؟! وشكا شكه ذلك إلى الإمام علي (عليه السلام) وسأله: أيمكن أن يجتمع الزبير وطلحة وعائشة على باطل؟
فقال (عليه السلام): (إنك لمبلوس عليك، إن الحق والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال، اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله).
- يعني : إنك في ضلال بعيد، إذ أنك قلبت في قلبك بشكك هذا مقاييس الأمور، فبدل أن تجعل الحق والباطل مقياساً لعظمة الأفراد وحقارتهم، جعلت العظمة المزعومة مقياساً لمعرفة الحق والباطل! أردت أن تعرف الحق بمعرفة أقدار الرجال! كلا، بل أقلب هذا المقياس، فابدأ بمعرفة الحق وحينئذ تعرف أهله، واعرف الباطل وحينئذ تعرف أهله، وحينئذ لا تبالي من يكون إلى جانب الحق أو الباطل، ولا ترتاب من أقدار الرجال.
وبعد أن ينقل الأستاذ هذه الكلمات عن الإمام (عليه السلام) يقول:
(ما أعرف جواباً أروع من هذا الجواب الذي لا يعصم من الخطأ أحداً مهما تكن منزلته ولا يحتكر الحق لأحد مهما تكن مكانته بعد أن سكت الوصي وانقطع خبر السماء).
وأمير البيان شكيب أرسلان، من كتاب العرب المعروفين في هذا العصر، يتفق في الحفل الذي أقيم تكريماً له في مصر أن يرقى أحد الحاضرين المنصة ويقول فيما يقول:
(رجلان في التاريخ يستحقان أن يلقبا بلقب: أمير البيان: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وشكيب أرسلان)!
فيقوم شكيب أرسلان من مجلسه غاضباً ويذهب إلى المنصة فيعتب على صديقه الذي عمل هذه المقارنة بينه وبين الإمام (عليه السلام) ويقول:
(أين أنا وأين علي بن أبي طالب! أنا لا أعد نفسي شسع نعل لعلي (عليه السلام))[٢]!
وكتب ميخائيل نعيمة الكاتب اللبناني المسيحي المعاصر في مقدمة كتاب (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية) لجورج جرداق، يقول:
بطولات الإمام ما اقتصرت يوماً على ميادين الحرب، فقد كان بطلاً في صفاء رأيه، وطهارة وجدانه. وسر بيانه، وعمق إنسانيته، وحرارة إيمانه، وسمو دعته، ونصرته للمحروم والمظلوم من الحارم والظالم، وتعبّده للحق أينما تجلى له الحق.
ولا نطيل أكثر من هذا بنقل ثناء الناس على كلام الإمام (عليه السلام)، ونختمه بكلمة منه في هذا الموضوع:
قام يوماً أحد أصحاب الإمام (عليه السلام) ليتكلم، فتلجلج وأعيى! فقال الإمام (عليه السلام):
(ألا وإن اللسان بضعة من الإنسان فلا يسعده القول إذا امتنع ولا يمهله النطق إذا اتسع. وإنّا لأمراء الكلام وفينا تنشّبت عروقه وعلينا تهدّلت غصونه).
وينقل الجاحظ في (البيان والتبيين)[٣] عن عبد الله بن الحسن (المحض) بن الحسن بن علي عن الإمام (عليه السلام) أنه قال:
(خصصنا بخمس: خصاصة وصباحة، وسماحة، ونجدة، وحظوة) .