الشيخ يوسف علي السبيتي
كنت ما زلت صغيراً عندما تعرفت على كتاب نهج البلاغة فقد كان جزءاً من مكتبة والدي المتواضعة، وإلى جانبه شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد الذي كان فقد منه أحد مجلداته الأربعة ، وكان يعبّر عن أسفه العميق لذلك فهو لم يكن يعلم كيف فقد منه أو من استعاره ولم يعده ، وكان والدي يحدثنا بحكايات عن أمير المؤمنين عليه السلام إكتشفت لاحقاً أنه كان قد أخذها من شرح النهج لإبن أبي الحديد.
ولاحقاً ، أصبح هذا الكتاب جزءاً من مكتبتي بعد أن أصبحت طالب علم ، ثم إن أستاذي الشهيد السيّد عباس الموسوي جعل حفظ خطبه جزءاً من برنامج تثقيفي. أسبوعي ، ومازلت أذكر أنه اهتم كثيراً في أن نحفظ خطبتي الجهاد والمتقين .
وفي قم كان شيخي الأستاذ في درس بحث الخارج، يهتم في كل خميس من كل أسبوع ، وفي الربع الساعة الأخيرة من الدرس ، في أن يقراً علينا بعض المواعظ من هذا الكتاب ، والذي كان يشجعنا دوماً على الإهتمام به وعدم هجرانه، ونقل أن بعض المراجع كان يعقب به بعد كل صلاة وكان يضعه إلى جانب القرآن الكريم.
في كل هذه المراحل لم أشك يوماً في أن نهج البلاغة هو لأميرالمؤمنين عليه السلام وأن الشريق الرضي كان مجرد جامع لهذا الكتاب من أمهات الكتب والمراجع ، ليس فقط لأن هذا الكتاب هوجزء من التراث الإسلامي والعربي ، أو أنه محل إهتمام كل مثقف ، مسلماً كان أوغير مسلم ، بل لأني في المراحل الأولى من معرفتي بهذا الكتاب لم أسمع أحداً يشكك في نسبة هذا الكتاب لأمير المؤمنين عليه السلام
والمرة الأولى التي سمعت فيها هذا التشكيك أو التوقف كانت في مجلس الدرس بسبب أن هذا الكتاب محذوفة منه الأسانيد التي هي العمدة في الإستدلال حول أي بحث علمي له علاقة بالإستنباط ، لم أعر الأمر كثير إهتمام ، فقد كان هذا مجرد بحث علمي لا يقلل من أهمية هذا الكتاب لكن هذا التشكيك أوالتوقف عاد يطرق مسامعي ، وفي إحدى المناسبات شعرت بإستياء كبير عندما سمعت أحد الشعراء الإسلاميين وعلى هامش أحد المؤتمرات الفكرية الذي عقد في بيروت ، يشكك في نسبة هذا الكتاب للأمير عليه السلام وهو كان يقصد أكثر من مجرد التشكيك ، بل كان على ثقة في عدم كون هذا الكتاب أو بعضه للأمير عليه السلام والمرة الأخيرة التي سمعت فيها هذا التشكيك والذي أتى بشكل سؤال طرحه أحد طلبة العلوم الدينية – وفقهم الله وأيدهم – على أستاذه ، لم أسمع جواب الأستاذ لأني كنت قد ابتعدت عنهم ، لكني كنت أفكر بيني وبين نفسي أثناءها إذا كانت الأمور قد وصلت غلى هذا الحد فلا بدّ من عمل ما ، فكرت وقتها أن أكتب مقالة مختصرة أثبت فيها بطريقة ما صحة نسبة هذا الكتاب للأمير عليه السلام لكن بعد مرور أيام ومطالعة بعض المصادر ، خصوصاً أني كنت قد وجدت هذا التشكيك في بعض المصادر ، فقلت إن مقالة أو مقالات لا تكفي فلا بدّ من عمل شيء أكبر وأهم ، مع أني كنت على وشك الإنتهاء من مقالتي تلك ، فأعرضت عنها ، وقلت لابدّ من كتاب ، لكن لا بدّ لهذا الكتاب أن يأتي بالجديد ، والجديد هو أن أحاول إثبات صحة هذه النسبة من نفس الكتاب ، فشمرّت عن ساعد الجدّ ، ولا أخفي أني واجهتني عقبات وصعوبات ، لكن كانت تذلل بعون الله وتوفيقه ليس نهج البلاغة كتاباً في الأدب أوالبلاغة والفصاحة ، وإن كان هدف الشريف الرضي من جمعه لخطبه وكلماته ، هو أن يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين عليه السلام .... علماً أن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة ، وجواهر العربية ، وثواقب الكلم الدينية والدنيوية ما لا يوجد مجتمعاً في كلام، ولا مجموع الأطراف في كتاب ، إذ كان أمير المؤمنين عليه السلام مشرع الفصاحة وموردها ، ومنشاً البلاغة ومولدها [١].
وليس هو كتاب في الوعظ والإرشاد والتزهيد في الدنيا ، وليس هو كتاب في السياسة والحكم وكيفية ممارستهما، وليس هو كتاب في الفلسفة يبحث في الوجود والأدلة على الخالق والصانع والمدبر أو الأدلة على التوحيد ، وليس هو كتاب في التنبؤ عن مستقبل الأيلام ، وليس هو كتاب في الإجتماع الإنساني ، وليس هو كتاب في الحِكّم والمراسلات.
هو مزيج من كل هذا ، فرضت مواضيعه ظروف ومناسبات متعددة ، وصاغت افكاره عقل إنسان تربى في حجر الرسالة المحمدية ، فكانت موضوعاته شاملة لكل جوانب ، شمول الإسلام فتحدث عن الإنسان والدنيا والآخرة والوجود ، وعن بديع الخلق والصنع ، وعن الحٌكم والسياسة.
ثم إن الأمير عليه السلام في بعض الخطب المبثوثة هنا وهناك إهتم ببيان أمرين أساسيين:
الأول: موقعه وموقفه من الخلافة ، وأن هذه الخلافة هي حق شرعي له وحده دون غيره من الصحابة ، ويظهر هذا بشكل واضح في الخطبة المعروفة بالشقشقية حيث يقول : «أما والله لقد تقمصها فلان وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحا ، ينحدر عني السيل ، ولا يرقي إلطير» [٢] ويبيّن عليه السلام هذا الأمر أيضاً عندما بويع بالخلافة فقال عليه السلام: «لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري».
وبيّن عليه السلام أيضاً ، إحتجاجاته مع الخصوم الذين إما نقضوا بيعته أو رفضوا البيعة له أو الإعتراف بخلافته ، إما من خلال الخطاب المباشر أو المراسلات ، وبالتحديد مع أهل الجمل وصفيّن ، وأحتجاجاته مع الذين فرضوا التحكيم ورفضوه لاحقاً ، عنيت بهم الخوارج من خلال إعلانهم للتمرد والعصيان العسكري. كل هذا موجود في نهج البلاغة.
الثاني : بين عليه السلام موقعه وعلاقته برسول صلى الله عليه واله وسلم في مواضع متعددة مذكورة في نهج البلاغة ، كقوله عليه السلام: «وقد علمتم موقعي من رسول صلى الله عليه واله وسلم بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره وأنا ولد يضمّني إلى صدره ... وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل ..... ولقد كنت أتّبعه إتباع الفصيل أثَرَ أمه ، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالإقتداء به ... ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول صلى الله عليه واله وسلم وخديجة وأنا ثالثهما. أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة» [٣].
وبعد أن يذكر في نفس الخطبة حال «الملأ من قريش» وتكذيبهم للرسول صلي الله عليه واليه والسلم وعدم إيمانهم ، بعد أن كانوا قد طلبوا بأنفسهم ما يجعلهم يؤمنون، وأنهم طلبوا منه أن يخاطب الشجرة ويأمرها بأن تقف بين يديه ، فكان ما أرادوا بما وصف الأمير عليه السلام: «فوالذي بعثه بالحث لا نقلعت بعروقها ، وجاءت ولها دويّ شديد ، وقصف كقصف أجنحة الطير ، حتى وقفت بين يديّ رسول الله صلى الله عليه واله وسلم مرفرفة، والقت بغصنها الاعلى على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وببعض أغصانها على منكبي ، وكنت عن يمينه صلى الله عليه واله وسلم..... فقلت أنا: لا إله إلا الله ، إني أول مؤمن بك يا رسول الله ، وأول من أقر بأن الشجرة فعلت ما فعلت بأمر من الله تعالي ، تصديقاً ب نبوتك وإجلالاً لكلمتك» [٤].
ويقول عليه السلام في موضع آخر من الخطبة: «ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه واله وسلم فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنة؟ فقال : هذا الشيطان قد أيس من عبادته ، إنك تتسمع ما أسمع ، وترى ما ارى غلا أنك لست بنبيذ، ولكنك لوزير وإنك لعلى خير» [٥].
ووصف عليه السلام أيضاً، الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم وبعض الأنبياء العظام عليهم السلام وخصوصاً أبو البشر ، ووصف القرآن الكريم ، بالإضافة إلى مواضيع أخرى متفرقة ومتنوعة، لا يسع المجال لذكرها كلها ، يضاف إلى ذلك كله إخباره بالمغيبات في مناسبات عديدة . كل هذا في نهج البلاغة.
فالغاية المبتغاة من هذا الكتاب هو محاولة إستنطاق بعض ما جاز في نهج البلاغة ، ليدلنا بالدليل القاطع والبرهان الساطع ، على أنه كلام لا يمكن أن يخرج إلا من لسان أمير المؤمنين عليه السلام أمير البلاغة ، أمير الفصاحة ، أمير الحكمة. وكما قال بعضهم في وصفه لخطبة الشقشقية: «انّى للرضي ولغير الرضي هذا النَفَس وهذا الأسلوب ، وقد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور ، وما يقع مع هذا الكلام في خل ولاخمر » [٦].
وأنّى للشريف الرضي رحمه الله تعالى . إخباره بالمغيبات التي لنا معها موقف خاص ، كأحد الأدلة على أن نهج البلاغة هو مجموع بعض خطب ومراسلات وحِكًم الأمير عليه السلام والشريف الرضي لم يكن دوره إلا الجمع لهذه الخطب من مصادرها.
نعم قد يشكك في بعض نهج البلاغة ، وأنه لا يمكن أن يصدر رجل مثل الأمير عليه السلام كذمّه للنساء وذمّ رأيهن ، أو قوله عليه السلام : «الله بلاء فلان» وان المراد به عمر بن الخطاب ، إذ كيف يمدح الأمير عليه السلام خصمه؟!
ومن لم يشكك بنسبة هذا الكلام للأمير عليه السلام حاول تأويل أن المراد بفلان رجلاً آخر، إما أحد أصحابه عليه السلام أو أحد أصحاب النبي الآخرين.
وقد عقدت لكلا الأمرين فصلاً خاصاً ، أثبت فيه أنه كلام الأمير عليه السلام وأن الذي فُهم أو وُصف أنه ذمّ للنساء ليس بواقعه ذمّ، وان المدح هو فعلاً لعمر بن الخطّاب ، وبيّنت حقيقة الأمر.
فالهدف من هذا الكتاب إذن ، هو إثبات أن نهج البلاغة بمجموعه وبكل ما يحويه من خطب ومواعظ وحِكَم ورسائل هو لأمير المؤمنين عليه السلام وليس لأي شخص آخر كلمة فيه أو خطبة أوحكمة ، فإن كل كلمة فيه ، بل كل حرف ، يصدح ناطقاً أنه صدر من شفتي الأمير عليه السلام ومن قلبه ومن عقله بل لا أبالغ إذا قلت أن من يريد أن يتعرف على حقيقة هذا الإنسان وعلى شخصيته العلمية ، أو أراد أن يتعرف عليه كحاكم ورجل دولهّ بكل ما في هذه الكلمة من معنى ومن أراد أن يتعرف على الظروف التاريخية الخاصة والإستثنائية التي عاشها هذا الإنسان ، خصوصاً في فترة خلافته ، من أراد أن يتعرف على كل هذا ليس له إلا نهج البلاغة.
أقول قولي هذا مطمئناً إليه وإلى دليله، وأترك للقارئ المنصف وللباحث المنصف وللعالم المنصف ، خيار ان يوافقني على هذا أولا.
ولا ابالغ إذا قلت أن بعض ما في هذا الكتاب لم يسبقني إليه أحد ، من قراءة لبعض النصوص التي هي السبب في هذا التشكيك ، فحاولت .
وأرجوأن أكون قد وُفقت أن أحلل هذه النصوص تحليلا ، جاولت أن يكونه متناسباً مع شخصيته وحقيقة أمير المؤمنين عليه السلام كونه الإمام المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ، وإن لم يكن وحيا يُوحى، ولا يكفي أن نرفض . عن حسن نية . بعض ما في هنج البلاغة ، لمجرد كونه بظاهره لا يناسب القول أنه صادر عنه عليه السلام والتأويل والتحليل أولى من الطرح والرفض.
وفي الختام لا يسعني إلا أن أشكر كلاً من الأخ العزيز الدكتور الشيخ خنجر حمية الذي قرأ فصل الفلسفة في نهج البلاغة والدكتور حسن عباس نصرالله الذي قرأ فصل الغيبيات في نهج البلاغة ووضع ملاحظاته عليه وتصحيحاته التي أخذت ببعضها ، والأخ العزيز الشيخ علي سليم سليم الذي قرا فصل المرأة في نهج البلاغة الذي أثار عنده جملة من التساؤلات حاولت الإجابة عنها لاحقاً ، والدكتور الجرّاح حسين محمد حسين والدكتور عبد الأمير فضل الله ، اللذين ساهما في فقرات النصائح الطبية الثلاثة التي جاءت في فصل الحِكَم في نهج البلاغة والشكر أيضاً لكل من أبدى إعجابه أيضا للقارئ الكريم سلفاً حيث يعطي من وقته لقراءة الكتاب.
---------------------------------------------------------
[١] . نهج البلاغة – مقدمة الشريف الرضي: ص٣٤، تحقيق صبحي الصالح.
[٢] . المصدر السابق: ص٤٨، رقم٣.
[٣] . المصدر السابق: ص٣٠٠ – ٣٠١.
[٤] . المصدر السابق: ص٣٠١ – ٣٠٢.
[٥] . المصدر السابق: ص٣٠١.
[٦] . ابن ابي الحديد – شرح نهج البلاغة: ج١ / ص٦٩ ، دار نوبليس بيروت.
منقول من مقدمة كتاب نهج البلاغة في دائرة التشكيك
ضاحية الحرمان والمقاومة
١٢- ج٢ -١٤٢٥ هـ
٣٠ – حزيران – ٢٠٠٤ م