بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسل رحمة للعالمين وعلى وصيه وخليفته علي أمير المؤمنين.
إن كتاب نهج البلاغة بحر فياض لا تنتهي كنوزه ولا تضمحل غنائمه، يمثل القيم الإنسانية، والرسالة الإلهية، والأنوار المحمدية، بأبعادها المختلفة، كيف لا ؟! وهو يحوي كلمات باب العلم، ودليل الهداية، وميزان الحق والباطل، ماء القلوب ونور الأبصار...
ومن درره العظيمة، وصيته عليه السلام التي كتبها لابنه الإمام الحسن عند انصرافه من صفين، هذه الوصية التي تمثل مدرسة عظيمة، يجتمع فيها تراكم التجارب الإنسانية، وعصارة الرسالة الإلهية، في قالب سبكه فارس البلاغة، وأمير البيان، وسيد الكلمة.
وفي هذا الكتاب الماثل بين يديك، ضمن سلسلة الدروس الثقافية، حاولنا أن نتتلمذ في هذه المدرسة العظيمة، بحسب ما تسعفنا أفهامنا، فقسمنا هذه الوصية إلى دروس، نركز الضوء في كل درس على فكرة أساسية، نستنير بقبسها، ونواجه ببركتها تقلبات الدهر، وفتن الدنيا، وإن كنا نعي أن أفهامنا قاصرة عن الإحاطة بكلماته النورانية، ولكن كما في المقولة المشهور: “ما لا يدرك كله لا يترك جُلُّهُ”.
نسأل الله تعالى أن يلهم قلوبنا فهم هذه الكلمات لتزهر بربيع المعرفة، ويوفق ابصارنا للاستفادة من نورها.
والحمد لله أولاً وآخراً
نهج البلاغة
خطب الامام علي عليه السلام
من وصية للإمام علي بن أبي طالب لابنه الإمام الحسن عليه السلام، كتبها إليه بحاضرين منصرفاً من صفين:
"من الْوالد الْفان، الْمُقرّ للزّمان، الْمُدْبر الْعُمُر، الْمُسْتسْلم، للدُّنْيا، السّاكن مساكن الْموْتى، الظّاعن عنْها غداً، إلى الْموْلُود الْمُؤمّل ما لا يُدْركُ، السّالك سبيل منْ قدْ هلك، غرض الْأسْقام رهينة الْأيّام، ورميّة الْمصائب، وعبْد الدُّنْيا، وتاجر الْغُرُور, وغريم الْمنايا، وأسير الْموْت، وحليف الْهُمُوم،قرين الْأحْزان، ونُصْب الْآفات، وصريع الشّهوات، وخليفة الْأمْوات.
أمّا بعْدُ، فإنّ فيما تبيّنْتُ منْ إدْبار الدُّنْيا عنّي، وجُمُوح الدّهْر عليّ، وإقْبال الْآخرة إليّ، ما يزعُني عنْ ذكْر منْ سواي، والْإهْتمام بما ورائي، غيْر أنّي حيْثُ تفرّد بي دُون هُمُوم النّاس همُّ نفْسي، فصدفني رأْيي، وصرفني عنْ هواي، وصرّح لي محْضُ أمْري، فأفْضى بي إلى جدٍّ لا يكُونُ فيه لعبٌ، وصدْق لا يشُوبُهُ كذبٌ.
ووجدْتُك بعْضي، بلْ وجدْتُك كُلّي، حتّى كأنّ شيْئاً لوْ أصابك أصابني، وكأنّ الْموْت لوْ أتاك أتاني، فعناني منْ أمْرك ما يعْنيني منْ أمْر نفْسي، فكتبْتُ إليْك كتابي هذا، مُسْتظْهراً به إنْ أنا بقيتُ لك أوْ فنيتُ.
فإنّي أُوصيك بتقْوى الله أيْ بُنيّ ولُزُوم أمْره، وعمارة قلْبك بذكْره، والْإعْتصام بحبْله، وأيُّ سبب أوْثقُ منْ سبب بيْنك وبيْن الله عزّوجلّ إنْ أنْت أخذْت به! أحْي قلْبك بالْموْعظة، وأمتْهُ بالزّهادة، وقوّه بالْيقين، ونوّرْهُ بالْحكْمة، وذلّلْهُ بذكْر الْموْت، وقرّرْهُ بالْفناء، وبصّرْهُ فجائع الدُّنْيا، وحذّرْهُ صوْلة الدّهْر وفُحْش تقلُّب اللّيالي والْأيّام، واعْرضْ عليْه أخْبار الْماضين، وذكّرْهُ بما أصاب منْ كان قبْلك من الْأوّلين، وسرْ في ديارهمْ وآثارهمْ، فانْظُر فيْما فعلُوا عمّا انْتقلُوا، وأيْن حلُّوا ونزلُوا! فإنّك تجدُهُمْ قد انْتقلُوا عن الْأحبّة، وحلُّوا ديار الْغُرْبة، وكأنّك عنْ قليلٍ قدْ صرْت كأحدهمْ. فأصْلحْ مثْواك، ولا تبعْ آخرتك بدُنْياك، ودع الْقوْل فيما لا تعْرفُ، والْخطاب فيما لمْ تُكلّفْ، وأمْسكْ عنْ طريقٍ إذا خفْت ضلالتهُ، فإنّ الْكفّ عنْد حيْرة الضّلال خيْرٌ منْ رُكُوب الْأهْوال، وأْمُرْ بالْمعْرُوف تكُنْ منْ أهْله، وأنْكر المُنكر بيدك ولسانك، وباينْ منْ فعلهُ بجُهْدك، وجاهدْ في الله حقّ جهاده، ولا تأْخُذْك في الله لوْمةُ لائمٍ، وخُض الْغمرات للحقّ حيْثُ كان، وتفقّهُ في الدّين، وعوّدْ نفْسك التّصّبْر على الْمكْرُوه، ونعْم الْخُلُقُ التّصبُّرُفي الْحقّ ! وألْجىءْ نفْسك في أُمُورك كُلّها إلى إلهك، فإنّك تُلجئُها إلى كهْفٍ حريز، ومانعٍ عزيزٍ، وأخْلصْ في الْمسْألة لربّك، فإنّ بيده الْعطاء والْحرْمان، وأكْثر الْاسْتخارة، وتفهّمْ وصيّتي، ولا تذْهبنّ عنْك صفْحاً، فإنّ خيْر الْقوْل ما نفع.
واعْلمْ أنّهُ لا خيْر في علْمٍ لا ينْفعُ، ولا يُنْتفعُ بعلْمٍ لا يحقُّ تعلُّمُهُ.
أيْ بُنيّ، إنّي لمّا رأيْتُني قدْ بلغْتُ سنّاً، ورأيْتُني أزْدادُ وهْناً، بادرْتُ بوصيّتي إليْك، وأوْردْتُ خصالاً منْها قبْل أنْ يعْجل بي أجلي دُون أنْ أُفْضي إليْك بما في نفْسي، أوْ أنْ أنْقُص في رأْيي كما نُقصْتُ في جسْمي، أوْ يسْبقني إليْك بعْضُ غلبات الْهوى وفتن الدُّنْيا، فتكُون كالصّعْب النّفُور.
و إنّما قلْبُ الْحدث كالْأرْض الْخالية ما ألْقي فيها منْ شيءٍ قبلتْهُ.
فبادرْتُك بالْأدب قبْل أنْ يقْسُو قلْبُك، ويشْتغل لُبُّك، لتسْتقْبل بجدّ رأْيك من الْأمْر ما قدْ كفاك أهْلُ التّجارب بُغْيتهُ وتجْربتهُ، فتكُون قدْ كُفيت مؤُونة الطّلب، وعُوفيت منْ علاج التّجْربة، فأتاك منْ ذلك ما قدْ كُنّا نأْتيه، واسْتبان لك ما رُبّما أظْلم عليْنا منْهُ.
أيْ بُنيّ، إنّي وإنْ لمْ أكُنْ عُمّرْتُ عُمُر منْ كان قبْلي، فقدْ نظرْتُ في أعْمالهمْ، وفكّرْتُ في أخْبارهمْ، وسرْتُ في آثارهمْ، حتّى عُدْتُ كأحدهمْ، بلْ كأنّي بما انْتهى إليّ منْ أُمُورهمْ قدْ عُمّرْتُ مع أوّلهمْ إلى آخرهمْ، فعرفْتُ صفْو ذلك منْ كدره، ونفْعهُ منْ ضرره، فاسْتخْلصْتُ لك منْ كُلّ أمْر نخيلتهُ،توخّيْتُ لك جميلهُ، وصرفْتُ عنْك مجْهُولهُ، ورأيْتُ حيْثُ عناني منْ أمْرك ما يعْني الْوالد الشّفيق، وأجْمعْتُ عليْه منْ أدبك أنْ يكُون ذلك وأنْت مُقْبلُ الْعُمُر مُقْتبلُ الدّهْر، ذُونيّة سليمة، ونفْس صافية، وأنْ أبْتدئك بتعْليم كتاب الله عزّ وج لّ وتأْويله، وشرائع الْإسْلام وأحْكامه، وحلاله وحرامه، لا أُجاوز ذلك بك إلى غيْره.
ثُمّ أشْفقْتُ أنْ يلْتبس عليْك ما اخْتلف النّاسُ فيه منْ أهْوائهمْ وآرائهمْ مثْل الّذي الْتبس عليْهمْ، فكان إحْكامُ ذلك على ما كرهْتُ منْ تنْبيهك لهُ أحبّ إليّ منْ إسْلامك إلى أمْرٍ لا آمنُ عليْك به الْهلكة، ورجوْتُ أنْ يُوفّقك اللهُ فيه لرُشْدك، وأنْ يهْديك لقصْدك، فعهدْتُ إليْك وصيّتي هذه.
واعْلمْ يا بُنيّ، أنّ أحبّ ما أنْت آخذٌ به إليّ منْ وصيّتي تقْوى الله، والْإقْتصارُ على ما فرضهُ اللهُ عليْك، والْأخْذُ بما مضى عليْه الْأوّلُون منْ آبائك، والصّالحُون منْ أهْل بيْتك، فإنّهُمْ لمْ يدعُوا أنْ نظرُوا لأنْفُسهمْ كما أنْت ناظرٌ، وفكّرُوا كما أنْت مُفكّرٌ، ثُمّ ردّهُمْ آخرُ ذلك إلى الْأخْذ بما عرفُوا، والْإمْساك عمّا لمْ يُكلّفُوا، فإنْ أبتْ نفْسُك أنْ تقْبل ذلك دُون أنْ تعْلم كما علمُوا فلْيكُنْ طلبُك ذلك بتفهُّمٍ وتعلُّمٍ، لابتورُّط الشُّبُهات، وعُلق الْخُصُومات.
وابْدأْ قبْل نظرك في ذلك بالْإسْتعانة بإلهك، والرّغْبة إليْه في توْفيقك، وترْك كُلّ شائبة أوْلجتْك في شُبْهة، أوْ أسْلمتْك إلى ضلالة.
فإنّ أيْقنْت أنْ قدْ صفا قلْبُك فخشع، وتمّ رأْيُك واجْتمع، وكان همُّك في ذلك همّاً واحداً، فانْظُرْ فيما فسّرْتُ لك، وإنْ لمْ يجْتمعْ لك ما تُحبُّ منْ نفْسك، وفراغ نظرك وفكْرك، فاعْلمْ أنّك إنّما تخْبطُ الْعشْواء، وتتورّطُ الظّلْماء، وليْس طالبُ الدّين منْ خبط أوْ خلّط، والْإمْساكُ عنْ ذلك أمْثلُ. فتفهّمْ يا بُنيّ وصيّتي، واعْلمْ أنّ مالك الْموْت هُو مالكُ الحياة، وأنّ الْخالق هُو الْمُميتُ، وأنّ الْمُفْني هُو الْمُعيدُ، وأنّ الْمُبْتلي هُو الْمُعافي، وأنّ الدُّنْيا لمْ تكُنْ لتسْتقرّ إلاّ على ما جعلها اللهُ عليْه منْ النّعْماء، والْابْتلاء، والْجزاء في الْمعاد، أوْ ماشاء ممّا لا تعْلمُ، فإنْ أشْكل عليْك شيْءٌ منْ ذلك فاحْملْهُ على جهالتك، فإنّك أوّلُ ما خُلقْت جاهلاً ثُمّ علمْت، وما أكْثر ما تجْهلُ من الْأمْر، ويتحيّرُ فيه رأْيُك، ويضلُّ فيه بصرُك ثُمّ تُبْصرُهُ بعْد ذلك ! فاعْتصمْ بالّذي خلقك ورزقك وسوّاك، ولْيكُنْ لهُ تعبُّدُك، وإليْه رغْبتُك، ومنْهُ شفقتُك.
واعْلمْ يا بُنيّ أنّ أحداً لمْ يُنْبىءْ عن الله سُبْحانهُ كما أنْبأ عنْهُ الرّسُولُ صلّى الله عليْه وآله فارْض به رائداً، وإلى النّجاة قائداً، فإنّي لمْ آلُك نصيحةً.
وإنّك لنْ تبْلُغ في النّظر لنفْسك وإن اجْتهدْت مبْلغ نظري لك.
واعْلمْ يا بُنيّ، أنّهُ لوْ ك أن لربّك شريكٌ لأتتْك رُسُلُهُ، ولرأيْت آثار مُلْكه وسُلْطانه، ولعرفْت أفْعالهُ وصفاته، ولكنّهُ إلهٌ واحدٌ كما وصف نفْسهُ، لا يُضادُّهُ في مُلْكه أحدٌ، ولا يزُولُ أبداً ولمْ يزلْ، أوّلٌ قبْل الْأشْياء بلا أوّليّة، وآخرٌ بعْد الْأشْياء بلا نهايةٍ. عظُم عنْ أنْ تثْبُت رُبُوبيّتُهُ بإحاطة قلْبٍ أوْ بصرٍ.
فإذا عرفْت ذلك فافْعلْ كما ينْبغي لمثْلك أنْ يفْعلهُ في صغر خطره، وقلّة مقْدرته، وكثْرة عجْزه، عظيم حاجته إلى ربّه، في طلب طاعته، والْخشْية منْ عُقُوبته، والشّفقة منْ سُخْطه، فإنّهُ لمْ يأْمُرْك إلاّ بحسنٍ، ولمْ ينْهك إلاّ عنْ قبيحٍ.
يا بُنيّ، إنّي قدْ أنْبأْتُك عن الدُّنْيا وحالها، وزوالها وانْتقالها، وأنْبأْتُك عن الْآخرة وما اُعدّ لأهْلها فيها، وضربْتُ لك فيهما الْأمْثال، لتعْتبر بها، وتحْذُو عليْها.
إن ّما مثلُ منْ خبرٍ الدُّنْيا كمثل قوْمٍ سفْرٍ، نبا بهمْ منْزلٌ جديبٌ، فأمُّوا منْزلاً خصيباً وجناباً مريعاً، فاحْتملُوا وعْثاء الطّريق، وفراق الصّديق، وخُشُونة السّفر، وجُشُوبة الْمطْعم، ليأتُوا سعة دارهمْ، ومنْزل قرارهمْ، فليْس يجدُون لشيْءٍ منْ ذلك ألماً، ولا يروْن نفقةً مغْرماً، ولا شيْء أحبُّ إليْهمْ ممّا قرّبهُمْ منْ منْزلهمْ، وأدْناهُمْ منْ محلّهمْ.
ومثلُ من اغْترّ بها كمثل قوْمٍ كانُوا بمنْزلٍ خصيبٍ، فنبا بهمْ إلى منْزلٍ جديب، فليْس شيْءٌ أكْره إليْهمْ ولا أفْظع عنْدهُمْ منْ مُفارقة ما كانُوا فيه، إلى ما يهْجُمُون عليْه، ويصيرُون إليْه.
يا بُنيّ اجْعلْ نفْسك ميزاناً فيما بيْنك وبيْن غيْرك، فأحْببْ لغيْرك ما تُحبُّ لنفْسك، واكْرهْ لهُ ما تكْرهُ لها، ولا تظْلم كما لا تُحبُّ أنْ تُظْلم، وأحْسنْ كما تُحبُّ أنْ يُحْسن إليْك، و اسْتقْبحْ منْ نفْسك ما تسْتقْبحُهُ منْ غيْرك، وارْض من النّاس بما ترْضاهُ لهُمْ منْ نفْسك، ولا تقُلْ ما لا تعْلمُ وإنْ قلّ ما تعْلمُ، ولا تقُلْ ما لا تُحبُّ أنْ يُقال لك.
واعْلمْ، أنّ الْإعْجاب ضدُّ الصّواب، وآفة ُالْألْباب. فاسْع في كدْحك، ولا تكُنْ خازناً لغيْرك، وإذا أنْت هُديت لقصْدك فكُنْ أخْشع ما تكُونُ لربّك.
واعْلمْ، أنّ أمامك طريقاً ذا مسافةٍ بعيدةٍ، ومشقّةٍ شديدةٍ، وأنّهُ لا غنى بك فيه عنْ حُسْن الْإرْتياد، وقدْر بلاغك من الزّاد، مع خفّة الظّهْر، فلا تحْملنّ على ظهْرك فوْق طاقتك، فيكُون ثقْلُ ذلك وبالاً عليْك، وإذا وجدْت منْ أهْل الْفاقة منْ يحْملُ لك زادك إلى يوْم الْقيامة، فيُوافيك به غداً حيْثُ تحْتاجُ إليْه، فاغْتنمْهُ وحمّلْهُ إيّاهُ، وأكْثرْ منْ تزْويده وأنْت قادرٌ عليْه، فلعلّك تطْلُبُهُ فلا تجدُهُ، واغْتنمْ من اسْتقْرضك في حال غناك، ليجْعل قضاءهُ لك في يوْم عُسْرتك.
واعْلمْ، أنّ أمامك عقبةً كؤوداً، الْمُخفُّ فيها أحْسنُ حالاً من الْمُثْقل، والْمُبْطىءُ عليْها أقْبحُ حالاً من الْمُسْرع، وأنّ مهْبطك بها لامحالة إمّا على جنّة أوْ على نارٍ، فارْتدْ لنفْسك قبْل نُزُولك، ووطّىء الْمنْزل قبْل حُلُولك، فليْس بعْد الْموْت مُسْتعْتبٌ، ولا إلى الدُّنْيا مُنْصرفٌ.
واعْلمْ، أنّ الّذي بيده خزائنُ السّموات والْأرْض قدْ أذن لك في الدُّعاء، وتكفّل لك بالْإجابة، أمرك أنْ تسْألهُ ليُعْطيك، وتسْترْحمهُ ليرْحمك، ولمْ يجْعلْ بيْنك وبيْنهُ منْ يحْجُبُك عنْهُ، ولمْ يُلْجئْك إلى منْ يشْفعُ لك إليْه، ولمْ يمْنعْك إنْ أسأْت من التّوْبة، ولمْ يُعاجلْك بالنّقْمة، ولمْ يُعيّرْك بالْإنابة، ولمْ يفْضحْك حيْثُ الْفضيحةُ بك أوْلى، ولمْ يُشدّدْ عليْك في قبُول الْإنابة، ولمْ يُناقشْك بالْجريمة، ولمْ يُؤْيسْك من الرّحْمة، بلْ جعل نُزُوعك عن الذّنْب حسنةً، وحسب سيّئتك واحدةً، وحسب حسنتك عشْراً، وفتح لك باب الْمتاب،باب الْاسْتعتاب؛ فإذا ناديْتهُ سمع نداك، وإذا ناجيْتهُ علم نجْواك، فأفْضيْت إليْه بحاجتك، وأبْثثْتهُ ذات نفْسك، وشكوْت إليْه هُمُومك، واسْتكْشفْتهُ كُرُوبك، واسْتعنْتهُ على أُمُورك، وسألْتهُ منْ خزائن رحْمته ما لا يقْدرُ على إعْطائه غيْرُهُ، منْ زيادة الْأعْمار، وصحّة الْأبْدان، وسعة الْأرْزاق.
ثُمّ جعل في يديْك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه منْ مسْألته، فمتى شئْت اسْتفْتحْت بالدُّعاء أبْواب نعمه، واسْتمْطرْت شآبيب رحْمته، فلا يُقنّطنّك إبْطاءُ إجابته، فإنّ الْعطيّة على قدْر النّيّة، ورُبّما أُخّرتْ عنْك الْإجابةُ، ليكُون ذلك أعْظم لأجْر السّائل، وأجْزل لعطاء الْآمل.
ورُبّما سألْت الشّيْء فلا تُؤْتاهُ، وأُوتيت خيْراً منْهُ عاجلاً أوْ آجلاً، أوْ صُرف عنْك لما هُو خيْرٌ لك، فلرُبّ أمْرٍ قدْ طلبْتهُ فيه هلاكُ دينك لوْ أُوتيتهُ، فلْتكُنْ مسألتُك فيما يبْقى لك جمالُهُ، ويُنْفى عنْك وبالُهُ، فالْمالُ لا يبْقى لك ولا تبْقى لهُ.
واعْلمْ يا بُنيّ أنّك إنّما خُلقْت لآخرة لا للدُّنْيا، وللْفناء لا للْبقاء، وللْموْت لا للْحياة، وأنّك في قُلْعةٍ، ودار بُلْغةٍ، وطريقٍ إلى الْآخرة، وأنّك طريدُ الْموْت الّذي، لا ينْجُو منْهُ هاربُهُ، ولا يفُوتُةُ طالبُهُ،ولا بُدّ أنّهُ مُدْركُهُ، فكُنْ منْهُ على حذر أنْ يُدْركك وأنْت على حال سيّئةٍ، قدْ كُنْت تُحدّثُ نفْسك منْها بالتّوْبة، فيحُول بيْنك وبيْن ذلك، فإذا أنْت قدْ أهْلكْت نفْسك.
أكْثرْ منْ ذكْر الْموْت، وذكْر ما تهْجُمُ عليْه، وتُفْضي بعْد الْموْت إليْه، حتّى يأْتيك وقدْ أخذْت منْهُ حذْرك، وشددْت لهُ أزْرك، ولا يأْتيك بغْتةً فيبْهرك.
وإيّاك أنْ تغْترّ بما ترى منْ إخْلاد أهْل الدُّنْيا إليْها، وتكالُبهمْ عليْها، فقدْ نبّأك اللهُ عنْها، ونعتْ لك نفْسها، وتكشّفتْ لك عنْ مساويها، فإنّما أهْلُها كلابٌ عاويةٌ، وسباعٌ ضاريةٌ، يهرُّ بعْضُها بعْضاً،يأْكُلُ عزيزُها ذليلها، ويقْهرُ كبيرُها صغيرها، نعمٌ مُعقّلةٌ، وأُخْرى مُهْملةٌ، قدْ أضلّتْ عُقُولها،ركبتْ مجْهُولها، سُرُوحُ عاهةٍ بوادٍ وعْثٍ، ليْس لها راع يُقيمُها، ولا مُسيمٌ يُسيمُها، سلكتْ بهمُ الدُّنْيا طريق الْعمى، وأخذتْ بأبْصارهمْ عنْ منار الْهُدى، فتاهُوا في حيْرتها، وغرقُوا في ن عْمتها، واتّخذُواها ربّاً، فلعبتْ بهمْ ولعبُوا بها، ونسُوا ما وراءها.
رُويْداً يُسْفرُ الظّلامُ، كأنْ قدْ وردت الْأظْعانُ، يُوشكُ منْ أسْرع أنْ يلْحق! واعْلمْ يا بُنيّ أنّ منْ كانتْ مطيّتُهُ اللّيْل والنّهار، فإنّهُ يُسارُ به وإنْ كان واقفاً، ويقْطعُ الْمسافة وإنْ كان مُقيماً وادعاً.
واعْلمْ يقيناً، أنّك لنْ تبْلُغ أملك، ولنْ تعْدُو أجلك، وأنّك في سبيل منْ كان قبْلك، فخفّضْ في الطّلب، وأجْملْ في الْمُكْتسب، فإنّهُ رُبّ طلب قدْ جرّ إلى حربٍ، فليْس كُلُّ طالبٍ بمرْزُوقٍ، ولا كُلُّ مُجْملٍ بمحْروُمٍ.
وأكْرمْ نفْسك عنْ كُلّ دنيّةٍ وإنْ ساقتْك إلى الرّغائب، فإنّك لنْ تعْتاض بما تبْذُلُ منْ نفْسك عوضاً.
ولا تكُنْ عبْد غيْرك وقدْ جعلك اللهُ حُرّاً.
وما خيْرُ خيْرٍ لا يُنالُ إلاّ بشرٍّ، ويُسْرٍ لا يُنالُ إلاّ بعُسْرٍ ؟!
وإيّاك أنْ تُوجف بك مطايا الطّمع، فتُوردك مناهل الْهلكة، وإن اسْتطعْت ألاّ يكُون بيْنك بيْن الله ذُونعْمة فافْعلْ، فإنّك مُدْركٌ قسْمك، وآخذٌ سهْمك، وإنّ الْيسير من الله سُبْحانهُ أعْظمُ و أكْرمُ من الْكثير منْ خلْقه وإنْ كان كُلٌّ منْهُ.
وتلافيك ما فرط منْ صمْتك أيْسرُ منْ إدْراكك ما فات منْ منْطقك، وحفْظُ ما في الْوعاء بشدّ الْوكاء، وحفْظُ ما في يديْك أحبُّ إليّ منْ طلب ما في يديْ غيْرك.
ومرارةُ الْيأْس خيْرٌ من الطّلب إلى النّاس، والْحرْفةُ مع الْعفّة خيْرٌ من الْغنى مع الْفُجُور، والْمرْءُ أحْفظُ لسرّه، ورُبّ ساع فيما يضُرُّهُ! منْ أكْثر أهْجر، ومنْ تفكّر أبْصر، قارنْ أهْل الْخيْر تكُنْ منْهُمْ، وباينْ أهْل الشّرّ تبنْ عنْهُمْ، بئْس الطّعامُ الْحرامُ! وظُلْمُ الضّعيف أفْحشُ الظُّلْم، إذا كان الرّفْقُ خُرْقاً كان الْخُرْقُ رفْقاً.
رُبّما كان الدّواءُ داءً، والدّاءُ دواءً، ورُبّما نصح غيْرُ النّاصح، وغشّ الْمُسْتنْصحُ.
وإيّاك والْاتّكال على الْمُنى، فإنّها بضائعُ النّوْكى، والْعقْلُ حفْظُ التّجارب، وخيْرُ ما جرّبْت ما وعظك.
بادر الْفُرْصة قبْل أنْ تكُون غُصّةً، ليْس كُلُّ طالبٍ يُصيبُ، ولا كُلُّ غائب يؤُوبُ، ومن الْفساد إضاعةُ الزّاد، ومفْسدةُ الْمعاد، ولكُلّ أمْر عاقبةٌ، سوْف يأْتيك ما قُدّر لك. التّاجرُ مُخاطرٌ، ورُبّ يسيرٍ أنْمى منْ كثيرٍ! لا خيْر في مُعينٍ مهينٍ، ولا في صديقٍ ظنينٍ، ساهل الدّهْر ما ذلّ لك قعُودُهُ، ولا تُخاطرْ بشيءٍ رجاء أكْثر منْهُ، وإيّاك أنْ تجْمح بك مطيّةُ اللّجاج.
احْملْ نفْسك منْ أخيك عنْد صرْمه على الصّلة، وعنْد صُدُوده على اللّطف والْمُقاربة، وعنْد جُمُوده على الْبذْل، وعنْد تباعُده على الدُّنُوّ، وعنْد شدّته على اللّين، وعنْد جُرْمه على الْعُذْر، حتّى كأنّك لهُ عبْدٌ، وكأنّهُ ذُونعْمة عليْك.
وإيّاك أنْ تضع ذلك في غيْر موْضعه، أوْ أنْ تفْعلهُ بغيْر أهْله، لا تتّخذنّ عدُوّ صديقك صديقاً فتُعادي صديقك، وامْحضْ أخاك النّصيحة، حسنةً كانتْ أمْ قبيحةً، وتجرّع الْغيْظ، فإنّي لمْ أر جُرْعةً أحْلى منْها عاقبةً، ولا ألذّ مغبّةً، ولنْ لمنْ غالظك، فإنّهُ يُوشكُ أنْ يلين لك، وخُذْ على عدُوّك بالْفضْل فإنّهُ أحْلى الظّفريْن، وإنْ أردْت قطيعة أخيك فاسْتبْق لهُ منْ نفْسك بقيّةً يرْجعُ إليْها إنْ بدا لهُ ذلك يوْماً مّا، ومنْ ظنّ بك خيْراً فصدّقْ ظّنهُ، ولا تُضيعنّ حقّ أخيك اتّكالاً على ما بيْنك وبيْنهُ، فإنّهُ ليْس لك بأخٍ منْ أضعْت حقّه، ولا يكُنْ أهْلُك أشْقى الْخلْق بك، ولا ترْغبنّ فيمنْ زهد فيك، ولا يكُوننّ أخُوك أقْوى على قطيعتك منْك على صلته، ولا تكُوننّ على الْإساءة أقْوى منْك على الْإحْسان.
ولا يكْبُرنّ عليْك ظُلْمُ منْ ظلمك، فإنّهُ يسْعى في مضرّته ونفْعك ، وليْس جزاءُ منْ سرّك أنْ تسُوءهُ.
واعْلمْ يا بُنيّ، أنّ الرّزْق رزْقان: رزْقٌ تطْلُبُهُ، ورزْقٌ يطْلُبُك، فإنْ أنْت لمْ تأْته أتاك، ما أقْبح الْخُضُوع عنْد الْحاجة، والْجفاء عنْد الْغنى! إنّما لك منْ دُنْياك، ما أصْلحْت به مثْواك، وإنْ كُنْت جازعاً على ما تفلّت منْ يديْك، فاجْزعْ على كُلّ ما لمْ يصلْ إليْك. اسْتدلّ على ما لمْ يكُنْ بما قدْ كان، فإنّ الْأُمُور أشْباهٌ، ولا تكُوننّ ممّنْ لا تنْفعُهُ الْعظةُ إلاّ إذا بالغْت في إيلامه، فإنّ الْعاقل يتّعظُ بالْآدب، والْبهائم لا تتّعظُ إلاّ بالضّرْب.
اطْرحْ عنْك واردات الْهُمُوم بعزائم الصّبْر وحُسْن الْيقين، منْ ترك الْقصْد جار، والصّاحبُ مُناسبٌ، والصّديقُ منْ صدق غيْبُهُ، والْهوى شريكُ الْعمى، رُبّ بعيدٍ أقْربُ منْ قريبٍ، وقريبٍ أبْعدُ منْ بعيدٍ، والْغر يبُ منْ لمْ يكُنْ لهُ حبيبٌ، منْ تعدّى الْحقّ ضاق مذْهبُهُ، ومن اقْتصر على قدْره كان أبْقى لهُ، وأوْثقُ سبب أخذْت به سببٌ بيْنك وبيْن الله سُبْحانهُ، ومنْ لمْ يُبالك فهُو عدُوُّك، قدْ يكُونُ الْيأْسُ إدْراكاً، إذا كان الطّمعُ هلاكاً، ليْس كُلُّ عوْرةٍ تظْهرُ، ولا كُلُّ فُرْصةٍ تُصابُ، ورُبّما أخْطأ الْبصيرُ قصْدهُ،أصاب الْأعْمى رُشْدهُ.
أخّر الشّرّ، فإنّك إذا شئْت تعجّلْتهُ، وقطيعةُ الْجاهل تعْدلُ صلة الْعاقل، منْ أمن الزّمان خانهُ، ومنْ أعْظمهُ أهانهُ، ليْس كُلُّ منْ رمى أصاب، إذا تغيّر السُّلْطانُ تغيّر الزّمانُ.
سلْ عن الرّفيق قبْل الطّريق، وعن الْجار قبْل الدّار.
إيّاك أنْ تذْكُر من الْكلام ما يكُونُ مُضْحكاً، وإنْ حكيْت ذلك عنْ غيْرك.
وإيّاك ومُشاورة النّساء، فإنّ رأيهُنّ إلى أفْنٍ، وعزْمهُنّ إلى وهْنٍ.
واكْفُفْ عليْهنّ منْ أبْصارهنّ بحجابك إيّاهُنّ، فإنّ شدّة الْحجاب أبْقى عليْهنّ، وليْس خُرُوجُهُنّ بأشدّ منْ إدْخالك منْ لايُوثقُ به عليْهنّ، وإن اسْتطعْت ألاّ يعْرفْن غيْرك فافْعلْ.
ولا تُملّك الْمرْأة منْ أمْرها ما جاوز نفْسها، فإنّ الْمرْأة ريْحانةٌ، وليْستْ بقهْرمانةٍ.
ولا تعْدُ بكرامتها نفْسها، ولا تُطْمعْها أنْ تشْفع لغيْرها.
وإيّاك والتّغايُر في غيْر موْضع غيْرةٍ، فإنّ ذلك يدْعُو الصّحيحة إلى السّقم، والْبريئة إلى الرّيب.
واجْعلْ لكُلّ إنْسانٍ منْ خدمك عملاً تأْخُذُهُ به، فإنّهُ أحْرى ألاّ يتواكلُوا في خدْمتك.
وأكْرمْ عشيرتك، فإنّهُمْ جناحُك الّذي به تطيرُ، وأصْلُك الّذي إليْه تصيرُ، ويدُك الّتي بها تصُول ُ.
أسْتوْدع الله دينك ودُنْياك، وأسْألُهُ خيْر الْقضاء لك في الْعاجلة والْآجلة، والدُّنْيا والْآخرة، والْسّلامُ".
الدرس الاول : الإنسان في هذه الدنيا
من الْوالد الْفان، الْمُقرّ للزّمان، الْمُدْبر الْعُمُر، الْمُسْتسْلم، للدُّنْيا، السّاكن مساكن الْموْتى، الظّاعن عنْها غداً، إلى الْموْلُود الْمُؤمّل ما لا يُدْركُ، السّالك سبيل منْ قدْ هلك، غرض الْأسْقام رهينة الْأيّام، ورميّة الْمصائب، وعبْد الدُّنْيا، وتاجر الْغُرُور، وغريم الْمنايا، وأسير الْموْت، وحليف الْهُمُوم، قرين الْأحْزان، ونُصْب الْآفات، وصريع الشّهوات، وخليفة الْأمْوات.
تمهيد
عندما أراد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أن يشرع بالوصية لابنه الإمام الحسن عليه السلام، كان من الطبيعي أن يبدأ بتعريف هذه الدنيا التي تمثل الساحة التي يعيش فيها الإنسان، ما هي ظروف هذه الساحة ومخاطرها وعلاقة الإنسان بها؟ فإن الإنسان إذا عرف هذه الساحة وطبيعتها ومقدار علاقته بها، فإن ذلك كله سيحدد له السلوك والمسار في هذه الدنيا، وهذا في الحقيقة تأسيس لكل ما يأتي بعد ذلك في الوصية.
وفي شرح الإمام عليه السلام لهذه الدنيا وطبيعتها وعلاقة الإنسان بها أشار إلى جوانب متعددة نشرحها فيما يلي:
أولاً: مخاطر الحياة
إن الإنسان في هذه الحياة الدنيا يواجه العديد من التحديات التي تواجهه، وهي تحديات متعددة ومتنوعة، ومعرفتها بداية الطريق لتجهيز النفس لمواجهتها، فمن هذه الأمور التي أشار إليها أمير المؤمنين عليه السلام :
- رهينة الأيام
الرهينة هو الأسير، فالإنسان أسير لهذه الأيام، تتحكم به وبمصيره، فكما أن الأسير لا يعلم ما يكون مصيره، بل أمره بيد آسره، فكذلك حال الإنسان في هذه الدنيا، هو أسير لما يمرّ عليه من الأيام.
- غرض الأسقام
الإنسان كالهدف لآفات الدنيا وأعراضها، ومن النادر أن يسلم من الإصابة بمرض ما، بل ونحن نعيش اليوم رغم التطور الطبي حالات مرضية جديدة، وأمراضاً لم نكن نسمع بها من قبل.
ولكن لماذا يمرض الإنسان؟ لا شك في وجود عوامل وأسباب طبيعية وتكوينية للمرض، ولكنها ليست السبب الوحيد في مرض الإنسان وموته، ولذا ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام جوابا منه للزنديق الذي سأله عن المرض قال له الإمام: "تزعم أن من أحسن السياسية لبدنه وأجمل النظر في أحوال نفسه وعرف الضار مما يأكل من النافع لم يمرض... قد مات أرسطاطاليس معلم الأطباء، وأفلاطون رئيس الحكماء وجالينوس شاخ ودق بصره، وما دفع الموت حين نزل بساحته".
وفي نفس هذه الرواية يذكر الإمام عليه السلام أن المرض على ثلاثة أنواع: مرض بلوى، ومرض العقوبة، ومرض جعل عليه الفناء [١].
- نصب الآفات
الآفة هي العاهة والتي يصاب بها الإنسان فتعطل له بعض حواسه ولا يتمكن من العيش كسائر الناس، وكل إنسان هو في معرض الإصابة فيها، فلذا كان الإنسان نصبها أي لا يفارقها.
والآفات هي من الأمور التي يبتلي بها الله عز وجل عباده ليختبرهم فيعرف درجات إيمانهم، ومقدار صبرهم.
- رمية المصائب
أما الرمية فهي عبارة عما يرمى، فالمصائب تجعل من هذه الإنسان أداة ترمي بها، والمصائب التي تحل على هذا الإنسان عديدة وكثيرة، تعظم أحيانا وتصغر أخرى، ولكنها جميعها تقذف هذا الإنسان إلى حيث لا يحب ولا يريد.
لماذا المصائب والآفات والأمراض؟
إن في هذه المصائب التي يرمى بها الإنسان حكمة ربانية وقد نص عليها الله عز وجل في كتابه الكريم بقوله: "ما كان اللّهُ ليذر الْمُؤْمنين على ما أنْتُمْ عليْه حتّى يميز الْخبيث منْ الطّيّب" [٢] .
ولكن ما هو الموقف الذي على المؤمن أن يسير عليه عندما ترمي به المصائب والابتلاءات؟ إنه الصبر والرضا بقضاء الله عز وجل، وتكرار الآية الكريمة: "الّذين إذا أصابتْهُمْ مُصيبةٌ قالُوا إنّا للّه وإنّا إليْه راجعُون" [٣] والوعد الذي يصل إليه الإنسان نتيجة ثباته على البلاء على ما ورد في كتاب الله:"أُوْلئك عليْهمْ صلواتٌ منْ ربّهمْ ورحْمةٌ وأُوْلئك هُمْ الْمُهْتدُون" [٤] .
ثانياً: ماذا نربح من الدنيا؟
تحدثنا عن كون الإنسان في الدنيا هدفاً للمصائب والابتلاءات، وهذه نظرة لزاوية من زوايا الدنيا، ولكن في الدنيا أيضاً الكثير من الأمور التي يحبها الإنسان ويطلبها، بل ربما يصرف عمره كله في طلبها، فتستحوذ على قلبه ونفسه، فهل لهذه الأمور الدنيوية قيمة حقيقة؟
- تاجر الغرور.
إن الإنسان المتعلق بهذه الدنيا هو كالتاجر الذي يظن الربح فيما يقوم به في هذه الدنيا، فهو يحسب أن ما يقوم به مما فيه مكاسب دنيوية هو أمر خالد وسيبقى، مع أن الدنيا كلها فانية لا بقاء لها. وخير شاهد على كون هذا الشخص ممن اغتر، هو أنه يخاف الموت، وذلك لأنه يرى فيه انقطاع كل ما سعى إليه، وبذل في سبيله كل غال ونفيس.
ومن أفضل الأوصاف لذلك، هذه الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام : "إنكم إن رغبتم في الدنيا أفنيتم أعماركم فيما لا تبقون له ولا يبقى لكم" [٥] .
- حليف الهموم وقرين الأحزان
الهم يصيب الإنسان عندنا يتملكه القلق والخوف من فقدان محبوب ومرغوب، فالغني يحمل هم وخوف الخسارة والفقر، وصاحب المكانة الاجتماعية يحمل هم خسارتها... ويتملكه أيضاً عندما يستهدف تحصيل هذا المحبوب والمرغوب، فهو بين هم فقدان ما لديه لأنه رهينة الأيام، وهم تحصيل ما يستهدفه لأن الدنيا كماء البحر الذي لن يشبع منه ولن يتوقف عند حدود معينة من الطلب، بل سيبقى يركض ويلهث وراء ما لم يحصل عليه حتى الآن...، وهو قرين الأحزان، لشعوره بالنقص والخسارة، فالذي لا يملك يحزن لأنه لا يملك، والذي يملك ويخسر يحزن لخسارته، والذي لا يملك ولم يخسر بعد يحزن لعدم ملكه ما هو خارج عن يده...
فالإنسان في هذه الدنيا كأنه متحالف مع الهموم ومقترن مع الأحزان، في أي موقع كان وضمن أي إطار.
ثالثاً: التعلّق بالدنيا
رغم كون الدنيا مكان المصائب والابتلاءات ورغم كونها لا ربح دنيوياً حقيقياً فيها، نجد أن الكثير من الناس ارتبطوا بهذه الدنيا وتعلقوا بها بشكل يتنافى مع صفاتها الحقيقية، وكان وصف أمير المؤمنين عليه السلام لهذه العلاقة بعدة عبارات:
- عبد الدنيا
إنه أعظم وصف لهذا الإنسان الذي يتعلق بهذه الدنيا، إنه يتعلق بها إلى حد العبودية لها فهو على استعداد تام للقيام بكل ما يسهّل له سبيل الوصول إلى إدراكها ونيلها.
ولكن المأساة إنه يعبد ما لا ينفعه إلا بنحو مؤقت، بل يعبد ما هو في ظاهرة جميل وفي باطنه قبيح إلى حد وصف أمير المؤمنين عليه السلام لها بقوله: "جيفة قد افتضحوا بأكلها".
ويصف الإمام علي عليه السلام هذا الشخص العابد لهذه الدنيا بقوله: "قد خرقت الشهوات عقله، وأماتت الدنيا قلبه، وولهت عليها نفسه، فهو عبد لها، ولمن في يديه شيء منها، حيثما زالت زال إليها، وحيثما أقبلت أقبل عليها..." [٦] .
وأما أفضل وسيلة للتحرر من هذه العبودية للدنيا فهي الابتعاد عن لذائذها، وقد ذكر ذلك الإمام الخميني في الأربعون حديثا: "إعلم أن ما تناله النفس من حظ في هذه الدنيا يترك أثرا في القلب.. وهو السبب في تعلقه بالدنيا، وكلما ازداد التلذذ بالدنيا، اشتد تأثر القلب وتعلقه بها وحبه لها، إلى أن يتجه القلب كليا نحو الدنيا وزخارفها" [٧] .
- صريع الشهوات
إنه الإنسان المستسلم لشهواته فهو قد صارعها بنفسه لمّا دعته إليه، ولكن الغلبة والنصر كانت للشهوة وللنفس الأمّارة، على العقل وعلى النفس المطمئنة، إنه العقل، متى انهزم أمام الشهوة أصبح أسيراً، وقد ورد عن الإمام علي عليه السلام قوله: "كم من عقل أسير تحت هوى أمير" [٨] .
ويكفي للإنسان لكي ينصر النفس المطمئنة على النفس الأمارة، وليجعل من الشهوة صريعة، أن يفكر في عاقبة الشهوة، وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "أول الشهوة طرب، وآخرها عطب" [٩] .
رابعاً: الدنيا ممر
إن أجلى وأوضح حقيقة للدنيا أنها غير دائمة، وأنها زائلة، وأن الإنسان مهما سعى وحصّل فيها واغتر بمفاتنها، فإنه في نهاية الأمر سيتركها بل ويدخل في تلك الحفرة الصغيرة نافضاً يديه من كل ما فيها، فالإنسان في الحقيقة هو:
- غريم المنايا وأسير الموت
إن حال الإنسان مع الموت، هو حال الشخص المديون، الذي حل وقت أدائه للدين، ولكنه يسعى للفرار من الدائن، ويخاف أن يلتقي به. فالموت هو أشد ما يخاف منه الإنسان، وهو الذي يلاحق هذا الإنسان، "قُلْ إنّ الْموْت الّذي تفرُّون منْهُ فإنّهُ مُلاقيكُمْ ثُمّ تُردُّون إلى عالم الْغيْب والشّهادة فيُنبّئُكُمْ بما كُنتُمْ تعْملُون" . [١٠]
- خليفة الأموات
إنها أوجز عبارة تدفع الإنسان لترك التعلق بهذه الدنيا، فإذا فكر الإنسان في أن كل ما يصل إليه كان مع من سبقه وهو ورثه منه، وأما ذلك الميت فقد انقطع عنه، ولم يعد ينتفع بها عرف كيف يحسن التصرف فيه بما يكون نفعه له في يوم القيامة. فالميت يرحل ويرثه حي آخر وهذه سنة البشر منذ أن خلق الله عز وجل آدم وإلى يوم القيامة.
- هل الدنيا هدفك النهائي؟
كل هذه الصفات التي أوردها أمير المؤمنين عليه السلام ليصل بنا إلى نتيجة باتت واضحة، خلاصتها أن هذه الدنيا ليست أهلاً لأن تكون هدفاً نهائياً للإنسان، ربما تكون متاعاً يستفيد منه في أيامه هذه، وطريقاً يسلك به إلى آخرته التي تنتظره، ولكنها بالتأكيد ليست الهدف الذي ينبغي على الإنسان أن يدور في فلكه.
وإذا حدد الإنسان هدفه هانت المسيرة بعد ذلك.