الدرس العاشر: العلاقة مع الإخوان "٢"
"وإنْ أردْت قطيعة أخيك فاسْتبْق لهُ منْ نفْسك بقيّةً يرْجعُ إليْها إنْ بدا لهُ ذلك يوْماً مّا، ومنْ ظنّ بك خيْراً فصدّقْ ظّنهُ، ولا تُضيعنّ حقّ أخيك اتّكالاً على ما بيْنك وبيْنهُ، فإنّهُ ليْس لك بأخٍ منْ أضعْت حقّه، ولا يكُنْ أهْلُك أشْقى الْخلْق بك، ولا ترْغبنّ فيمنْ زهد فيك، ولا يكُوننّ أخُوك أقْوى على قطيعتك منْك على صلته، ولا تكُوننّ على الْإساءة أقْوى منْك على الْإحْسان".
تمهيد
بعد أن نهت التعاليم الأخلاقية الإسلامية عن القطيعة، ودعت إلى عدم اللجوء إليها بين الإخوان، أراد الإمام أن يعالج ما قد يقع خارجا من قبل الناس من القطيعة أحيانا، فلعل مشكلة ما أو سببا ما يؤدي إلى حصول القطيعة بين أخوين، فهل ينبغي أن تكون هذه القطيعة لا رجعة فيها؟ والجواب بالنفي فهذا هو الذي يحذّر منه الإمام عليه السلام فيحث في وصيته على أن يبقي الإنسان شيئا من الصلة لعل القلوب تعود إلى صفائها فتكون في تلك البقية فرصة لإعادة العلاقة الأخوية.
ومن طرق ذلك أن لا يلجأ الإنسان بعد قطيعة أخيه إلى الوقيعة فيه بأن يبدأ بكيل الاتهام إليه أو بيان بعض عيوبه أو مثالبه، بل لو لجأ بعد القطيعة إلى الصمت وتجنب التعرّض له بالسوء فإن ذلك سوف يبقي أمامه خط العودة إلى سابق العهد وهذا ما وردت به الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا تتبع أخاك بعد القطيعة وقيعة فيه، فيسد عليه طريق الرجوع إليك، فلعل التجارب ترده عليك" [١].
كن عند حسن ظن أخيك"ومن ظن بك خيراً فصدق ظنه".
إن من أهم الأسباب المؤدية إلى العداوة والقطيعة أن يطلب الأخ من أخيه شيئا فلا يستجيب له أو أن يتوقع منه المبادرة إلى أمر فلا يبادر إلى ذلك، كما لو وقع في ضيق أو حاجة فلم يجد استجابة أو مبادرة، وكلما استحكمت العلاقة واشتدت الصداقة، زاد توقع الإنسان من أخيه وزاد أمله فيه.
من هذه النقطة بالذات ينطلق الإمام ليدعو في وصيته إلى أن يكون الإنسان عند حسن ظن أخيه، من خلال الاستجابة لطلبه او المبادرة إلى رفع حاجته.
وقد وردت الروايات لتنهى بشدة عن التخلف عن الاستجابة لقضاء حوائج الإخوان ففي الرواية عن الإمام الكاظم عليه السلام قال: "من قصد إليه رجل من إخوانه مستجيرا به في بعض أحواله فلم يجره بعد أن يقدر عليه - فقد قطع ولاية الله عز وجل" [٢].
وكذلك ورد الحث في الروايات على المبادرة إلى رفع ما يقع فيه الأخ من الضيق وعدم انتظار طلبه لذلك ففي الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "لا يكلف أحدكم أخاه الطلب إذا عرف حاجته" [٣] .
فالطلب أمر صعب، ومن النفوس من تتحرج من ذلك مهما بلغت بها الحاجة، فلا ينبغي انتظار ذلك منهم، بل يسعى لقضاء حوائجهم بما لا يوقعهم في أي حرج.
راع حق أخيك
"ولا تضيعن حق أخيك اتكالا على ما بينك وبينه فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه".
لكل صلة وعلاقة تقوم في هذه الدنيا نوع من الحقوق، فللأب حق وللأم حق، وللأخوة حق. وما لا بد منه هو الحذر من تضييع حقوق الإخوان.
وقد وردت الرواية التي تحذّر من ذلك، ففي رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئا، فيطالبه به يوم القيامة فيقضى له وعليه" [٤].
فالتقصير في حقوق الإخوان لا يؤدي إلى سقوطها.
والسبب في التقصير في حقوق الإخوان كما يكون أحيانا عن سبق تصميم، قد يصدر أحيانا من خلال التهاون والاتكال على الصداقة والأخوة، وهذا ما يحذّر منه الإمام عليه السلام، وأن الأخوة لا تعني إطلاقا التقصير في أداء الحقوق فإن ذلك سوف يؤدي إلى حدوث القطيعة.
وأدنى هذه الحقوق بحسب ما ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: عنه عليه السلام في بيان حقوق المؤمن على المؤمن: "أيسر حق منها أن تحب له ما تحب لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك" [٥].
الحرص على العلاقة
١- "ولا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته".
كما يصل الإنسان رحمه عليه أن يصل إخوانه، وصلة الإخوان ممكنة من خلال اللجوء إلى طرق متعددة وقد وردت الروايات ببيان بعض هذه الطرق، منها ما ورد عن لإمام الكاظم عليه السلام: "إن من واجب حق أخيك أن لا تكتمه شيئا تنفعه به لأمر دنياه وآخرته، ولا تحقد عليه وإن أساء، وأجب دعوته إذا دعاك، ولا تخل بينه وبين عدوه من الناس وإن كان أقرب إليه منك، وعده في مرضه" [٦] .
فهذه المفردات التي تعرضت لها الرواية هي عبارة عن أنواع من الصلة، والتقصير فيها او فعل ما يقابلها هو عبارة عن القطيعة.
فلو فرض أن أخاً لك بادر إلى التقصير في واحدة منها، فلا تجعله أقوى منك بل عليك ان تسعى لأن تكون لك الغلبة بأن تبادر إلى صلته، ومواجهة تقصيره بأداء الواجب معه، وقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا يفترق رجلان على الهجران إلا استوجب أحدهما البراءة واللعنة، وربما استحق ذلك كلاهما، فقال له معتب: جعلني الله فداك هذا الظالم فما بال المظلوم ؟. قال: لأنه لا يدعو أخاه إلى صلته" [٧] .
وورد في رواية أخرى تحديد قطيعة الأخ وهجرانه بثلاثة أيام فعن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمنا فوق ثلاث، فإن مرت به ثلاث فليلقه فليسلم عليه، فإن رد عليه السلام فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم، وخرج المسلم من الهجرة" [٨].
وفي رواية أخرى عن الإمام الباقر عليه السلام: "ما من مؤمنين اهتجرا فوق ثلاث إلا وبرئت منهما في الثالثة، فقيل له: يا بن رسول الله هذا حال الظالم فما بال المظلوم؟ فقال عليه السلام: ما بال المظلوم لا يصير إلى الظالم فيقول: أنا الظالم حتى يصطلحا؟!" [٩].
٢- "ولا تكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان"
الإحسان إلى الناس فضيلة بحد ذاته، وقد وردت الآيات والروايات بالحث عليه فورد قوله تعالى: "إنّ اللّه يأْمُرُ بالْعدْل والإحْسان وإيتاء ذي الْقُرْبى وينْهى عنْ الْفحْشاء والْمُنكر والْبغْي يعظُكُمْ لعلّكُمْ تذكّرُون" [١٠].
بل وردت الروايات بالحث على الإحسان حتى لمن أساء، وهذا هو المراد من وصية الإمام عليه السلام بأن يكون المؤمن أقوى على الإحسان من غيره على الإساءة، ففي رواية عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: "اجعل جزاء النعمة عليك، الإحسان إلى من أساء إليك" [١١] .
ولمبادلة الإساءة بالإحسان أثر تربوي مهم تعرضت له الروايات وهو عبارة عن إصلاح المسيء وردعه عن الإساءة وتكرارها ففي رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "أصلح المسيء بحسن فعالك، ودل على الخير بجميل مقالك" [١٢] .
الدرس الحادي عشر: القناعة في الرزق
"واعْلمْ يا بُنيّ، أنّ الرّزْق رزْقان: رزْقٌ تطْلُبُهُ، ورزْقٌ يطْلُبُك، فإنْ أنْت لمْ تأْته أتاك، ما أقْبح الْخُضُوع عنْد الْحاجة، والْجفاء عنْد الْغنى! إنّما لك منْ دُنْياك، ما أصْلحْت به مثْواك، وإنْ كُنْت جازعاً على ما تفلّت منْ يديْك، فاجْزعْ على كُلّ ما لمْ يصلْ إليْك".
تقسيم الرزق
- "الرزق رزقان: رزق تطلبه، ورزق يطلبك فإن أنت لم تأته أتاك".
كلنا عاش هذه التجربة، فقد تتوقع أن يأتيك رزق من مكان ما فتسعى إليه وتبذل جهدك في الوصول إليه، ولكنك لا تصل إليه، ولكن رزقاً لا تحسب له حساباً ولا تتوقعه يبحث عنك ليصل هو بنفسه إليك.
وانقسام الرزق إلى هذين القسمين، هو باب من أبواب معرفة الله عز وجل حيث يصل الإنسان إلى حالة اليقين بأن الرزق بيد الله فقط.
وقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "ما أقبح بالرجل يأتي عليه سبعون سنة أو ثمانون سنة يعيش في ملك الله ويأكل من نعمه ثم لا يعرف الله حق معرفته" [١٣] .
وتتحدث الآية الكريمة عن الحكمة في قبض الرزق عن بعض الناس: "ولوْ بسط اللّهُ الرّزْق لعباده لبغوْا في الأرْض ولكنْ يُنزّلُ بقدرٍ ما يشاءُ إنّهُ بعباده خبيرٌ بصيرٌ" [١٤] .
كما تكون الحكمة من تقدير الأرزاق وتوزيعها هو امتحان الناس بها وابتلاؤهم لمعرفة درجة إيمانهم وذلك من ناحية صبرهم على الفقر، وابتلاء لهم واختبارا لكيفية تصرفهم في الرزق فهل ينفقونه في الطاعات أو في المعاصي، فقد ورد عن الإمام علي عليه السلام: "وقدر الأرزاق فكثرها وقللها، وقسمها على الضيق والسعة، فعدل فيها ليبتلي من أراد، بميسورها ومعسورها، وليختبر بذلك الشكر والصبر من غنيها وفقيرها" [١٥].
قوة الدين
- "ما أقبح الخضوع عند الحاجة والجفاء عند الغنى".
مضمون هذا الوصية هو ما وردت به الآية الكريمة وهي قوله تعالى: "هُو الّذي يُسيّرُكُمْ في الْبرّ والْبحْر حتّى إذا كُنْتُمْ في الْفُلْك وجريْن بهمْ بريحٍ طيّبةٍ وفرحُوا بها جاءتْها ريحٌ عاصفٌ وجاءهُمْ الْموْجُ منْ كُلّ مكانٍ وظنُّوا أنّهُمْ أُحيط بهمْ دعوْا اللّه مُخْلصين لهُ الدّين لئنْ أنْجيْتنا منْ هذه لنكُوننّ منْ الشّاكرين * فلمّا أنْجاهُمْ إذا هُمْ يبْغُون في الأرْض بغيْر الْحقّ" [١٦].
إنها الصورة التي يلجأ فيها الإنسان إلى ربه عند الحاجة وينساه عند الغنى.
هذه الصورة هي التي يتعجب الإمام من درجة قبحها، إن ما ورد في الآيات أعلاه غير مختص بعبدة الأوثان، بل هو قانون كلي ينطبق على كل الأفراد الملوثين من عبيد الدنيا المشغوفين بها فعندما تحيط بهم أمواج البلايا والمحن وتقصر أياديهم عن كل شئ، ولا يرون لهم ناصرا ولا معينا، فإنهم سيمدون أيديهم بالدعاء بين يدي الله سبحانه ويعاهدونه بألف عهد وميثاق، وينذرون ويقطعون العهود بأنهم إن تخلصوا من هذه البلايا والأخطار سيفعلون كذا وكذا. إلا أن هذه اليقظة والوعي التي هي انعكاس لروح التوحيد الفطري، لا تستمر طويلا عند أمثال هؤلاء، فبمجرد أن يهدأ الطوفان وتنقشع سحب البلاء، فإن حجب الغفلة ستغشي قلوبهم، تلك الحجب الكثيفة التي لا تنقشع عن تلك القلوب إلا بالطوفان. ورغم أن هذه اليقظة مؤقتة، وليس لها أثر تربوي في الأفراد الملوثين جدا، أنها تقيم الحجة عليهم، وستكون دليلا على محكوميتهم.
وهكذا الحال في قوله تعالى: "وإذا أنْعمْنا على الإنْسان أعْرض ونأى بجانبه وإذا مسّهُ الشّرُّ فذُو دُعاءٍ عريضٍ" [١٧] .
النأي الابتعاد، والمراد بالجانب الجهة والمكان فقوله: "نأى بجانبه" كناية عن الابتعاد بنفسه وهو كناية عن التكبر والخيلاء، والمراد بالعريض الوسيع، والدعاء العريض كالدعاء الطويل كناية عما استمر وأصر عليه الداعي، والآية في مقام ذم الإنسان وتوبيخه أنه إذا أنعم الله عليه أعرض عنه وتكبر وإذا سلب النعمة ذكر الله وأقبل عليه بالدعاء مستمرا مصرا.
الدنيا فرصة للآخرة
- "إن لك من دنياك ما أصلحت به مثواك".
إذا كان الهدف من العمل في هذه الدنيا، هو الوصول إلى هذه الدنيا ونيل بعض ما فيها، فإن في ذلك الخسران، لأنه من البذل في سبيل ما يُعلم أن مصيره إلى الفناء لا إلى البقاء، فقد ورد في الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "متاع الدنيا حطام، وتراثها كباب، بلغتها أفضل من أثرتها، وقلعتها أركن من طمأنينتها، حكم بالفاقة على مكثرها، واعين بالراحة من رغب عنها" [١٨].
وفي رواية أخرى وردت بالحث على العمل في الدنيا لأجل الآخرة ورد عن الإمام علي عليه السلام: "إن الله سبحانه قد جعل الدنيا لما بعدها، وابتلى فيها أهلها، ليعلم أيهم أحسن عملا، ولسنا للدنيا خلقنا، ولا بالسعي فيها أمرنا" [١٩] .
ولذا ورد في الروايات أيضا بيان حقيقة أن الدنيا تبلغ الغاية من الهوان عند الله عز وجل فهي ليست ذات قيمة عند الله، ففي رواية عن الإمام علي عليه السلام: "مالها عند الله عز وجل قدر ولا وزن، ولا خلق فيما بلغنا خلقا أبغض إليه منها، ولا نظر إليها مذ خلقها. ولقد عرضت على نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بمفاتيحها وخزائنها لا ينقصه ذلك من حظه من الآخرة، فأبى أن يقبلها لعلمه أن الله عز وجل أبغض شيئا فأبغضه، وصغر شيئا فصغره".
لا تجزع من فوت الدنيا
- "وإن جزعت على ما تفلت من يديك، فاجزع على كل ما لم يصل إليك".
لا ينبغي أن تجزع على ما ذهب من مالك، كما لا ينبغي أن تجزع على ما فاتك من المنافع والمكاسب، فإنه لا فرق بينهما، إلا أن هذا حصل، ذاك لم يحصل بعد، وهذا فرق غير مؤثر، لان الذي تظن أنه حاصل لك غير حاصل في الحقيقة، وإنما الحاصل على الحقيقة ما أكلته ولبسته، وأما المقتنيات والمدخرات فلعلها ليست لك.
إن ما يكون موجبا لقوة القلب على تحمل ما فات من المال وعدم الجزع عليه هو أحد أمرين:
الأول: غنى القلب
والمراد من غنى القلب أن لا يكون الإنسان متعلقا بما فاته من مال، فهو زاهد فيه، ولذا تجد من يضيع من أمامه حظ من هذه الدنيا هو متعلق بها في حسرة مشتت البال شارد الذهن وذلك خلافا لمن أراد الآخرة وقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "من أصبح وأمسى والدنيا أكبر همه جعل الله تعالى الفقر بين عينيه وشتت أمره ولم ينل من الدنيا إلا ما قسم له، ومن أصبح وأمسى والآخرة أكبر همه جعل الله تعالى الغنى في قلبه وجمع له أمره" [٢٠] .
الأمر الثاني: حسن الثقة بالله عز وجل.
إن ما يهوّن على الإنسان الأمر فيما يضيع من ماله، هو حسن الثقة بالله عز وجل. فقد ورد عن الإمام علي عليه السلام: "أصل الرضا حسن الثقة بالله" [٢١] .
وورد في رواية أخرى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "والذي لا إله إلا هو، لا يحسن ظن عبد مؤمن بالله إلا كان الله عند ظن عبده المؤمن، لأن الله كريم بيده الخيرات، يستحيي أن يكون عبده المؤمن قد أحسن به الظن ثم يخلف ظنه ورجاءه، فأحسنوا بالله الظن وارغبوا إليه" [٢٢] .
الدرس الثاني عشر: القرابة والرحم
"وأكْرمْ عشيرتك، فإنّهُمْ جناحُك الّذي به تطيرُ، وأصْلُك الّذي إليْه تصيرُ، ويدُك الّتي بها تصُول ُ".
العشيرة بمفهومها الإيجابي .
العشيرة هي الجماعة التي ترجع إلى عقد واحد، والعشيرة مشتقة من "العشرة" العدد المعروف وحيث أن العشرة تعتبر في نفسها عدداً كاملاً، فقد سمي أقرباء الرجل الذين يكمل بهم عشيرة. ولا شك في أن الإسلام أعطى لمفهوم العشيرة الذي كان سائداً بين العرب في عصر الدعوة بُعده الإيجابي، وأعلن رفضه لبعض المفاهيم السلبية التي كانت سائدة بين العشائر. والتي تتنافى مع التعاليم الأخلاقية والقيم الإنسانية.
أما البعد الإيجابي في العشيرة فهو يتمثل في ما عرف في الإسلام بصلة الرحم، فللرحم حق على المكلف أن يؤديه ولا يقصر فيه.
قال العلامة الطباطبائي: "كيف كان فالرحم من أقوى أسباب الالتيام الطبيعي بين أفراد العشيرة مستعدة للتأثير أقوى الاستعداد ولذلك كان ما ينتجه المعروف بين الأرحام أقوى وأشد مما ينتجه ذلك بين الأجانب وكذلك الإساءة في مورد الأقارب أشد أثراً منها في مورد الأجانب " [٢٣] .
والعشيرة أيضاً يمكن أن تشكل عوناً في طاعة الله تعالى وقوة للامتثال للتكليف الشرعي، وقد قال تعالى في قصة نبي الله لوط ": "قال لوْ أنّ لي بكُمْ قُوّةً أوْ آوي إلى رُكْنٍ شديدٍ " [٢٤] .
وذكر العلامة الطباطبائي في تفسير الركن الشديد بأنه العشيرة القوية والمنيعة التي تمنعكم من أذيتي.
وذكر في تفسير الأمثل في قوله تعالى: "واعْبُدُوا اللّه ولا تُشْركُوا به شيْئاً وبالْوالديْن إحْساناً وبذي الْقُرْبى " [٢٥].
(ثم أنها توصي بالإحسان إلى كلّ الأقرباء، وهذا الموضوع من المسائل التي يهتم بها القرآن الكريم اهتماماً بالغاً تارةً تحت عنوان "صلة الرحم" وأخرى بعنوان "الإحسان إلى القربى" وقد أراد الإسلام بهذا في الحقيقة أن يقوي من أواصر العلاقة الواسعة بين جميع أفراد البشر مضافاً إلى إيجاد أواصر وعلاقات أقوى وأمتن منها في الوحدات الاجتماعية التي هي أكثر انسجاماً مثل "العشيرة" و"العائلة" ليستطيعوا التعاون في ما بينهم عند ظهور المشاكل والحوادث، والتعاون على الدفاع عن حقوقهم) [٢٦] .
وهكذا يكون الأمر بإكرام العشيرة لكي يكون للشخص قوة في عشيرته تدافع عنه لو أراد أحدهم التعدّي عليه أو سلبه حقاً من حقوقه. أي نصرته في الحالات التي يكون فيها مظلوماً. ولذا نجد الإمام علي عليه السلام يصفهم بقوله: "فإنهم جناحك الذي به تطير"، وذلك لأن من يسعى في الأرض لا بد له من تحصيل ما يكون موجباً للأمان بالنسبة إليه، فمن كان له عشيرة، كان له أمان في هذه الأرض.
وإكرام العشيرة لا يكون بالعصبية لهم أو بما فيه معصية الله، بل بمعاملتهم بما أمر به الله، ولذا ورد في رواية عن الإمام علي عليه السلام بيان ذلك بقوله: "فأكرم كريمهم، وعد سقيمهم، وأشركهم في أمورهم، وتيسر عند معسورهم " [٢٧] .
فإكرام الكريم، وعيادة المريض وإعانة المحتاج هي من تعاليم الإسلام التي أمر المؤمن بأن تكون خلقاً من أخلاقه.
خصائص العشيرة
ويشير الإمام إلى بعض خصائص العشيرة فيقول:
- "وأصلك الذي إليه تصير".
لا شك في أن الإسلام نهى عن التفاخر بالنسب، فالفضل الموجب للفخر في الإسلام إنما هو التقوى، ولكن الإسلام دعا الناس إلى حفظ أنسابهم، ولذا ورد النهي عن نسبة الولد المتبنى إلى متبنيه بل أمر بنسبته إلى أبيه وقد ورد قوله تعالى: "ادْعُوهُمْ لآبائهمْ هُو أقْسطُ عنْد اللّه".
- " ويدك التي بها تصول".
والمراد بهذا التعبير أن العشيرة هي اليد التي يتمكن من خلالها الإنسان أن يكون صاحب سلطة وقدرة.
ولذا ينبه الإمام عليه السلام في كلامه من التصور الخاطئ الذي قد يظنه البعض وأن من يكون ذا مال فإنه يستغني عن العشيرة ببيان كيف تكون العشيرة يدا حتى لصاحب المال، فقد ورد في كلامه التالي: "ولا يستغنى الرجل عن عشيرته وإن كان ذا مال، فإنه يحتاج إلى دفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم، وهي أعظم الناس حيطة من ورائه وألمهم لشعثه، وأعظمهم عليه إن نزلت به نازلة أو حلت به مصيبة، ومن يقبض يده عن عشيرته فإنما يقبض عنهم يدا واحدة وتقبض عنه أيد كثيرة " [٢٨].
المفهوم السلبي للعشيرة
في الوقت الذي دعا فيه الإسلام إلى التمسك بالعشيرة فيما يكون في طاعة الله وبغرض الوصول إلى رضاه، نهى عن اتباع العشيرة فيما كانت عليه العرب من عصبية ونصرة للعشيرة في حق أو باطل.
فقد ورد أولاً التحذير من تفضيل العشيرة على الله ورسوله والجهاد وذلك في قوله تعالى: "قُلْ إنْ كان آباؤُكُمْ وأبْناؤُكُمْ وإخْوانُكُمْ وأزْواجُكُمْ وعشيرتُكُمْ وأمْوالٌ اقْترفْتُمُوها وتجارةٌ تخْشوْن كسادها ومساكنُ ترْضوْنها أحبّ إليْكُمْ منْ اللّه ورسُوله وجهادٍ في سبيله فتربّصُوا حتّى يأْتي اللّهُ بأمْره واللّهُ لا يهْدي الْقوْم الْفاسقين" [٢٩].
ومن هنا فإن كانت العشيرة من الأمور التي تعين على نصرة الله ورسوله فهي أمر محبب، وإلا فإن كانت من الأمور التي تكون هدفا بذاتها، دون ما يريده الله كانت مذمومة شرعاً.
ومن هنا نقرأ في قصة شعيب قوله تعالى: "قالوا يا شُعيْبُ ما نفْقهُ كثيراً ممّا تقُولُ وإنّا لنراك فينا ضعيفاً ولوْلا رهْطُك لرجمْناك وما أنْت عليْنا بعزيزٍ * قال يا قوْم أرهْطي أعزُّ عليْكُمْ منْ اللّه واتّخذْتُمُوهُ وراءكُمْ ظهْريّاً إنّ ربّي بما تعْملُون مُحيطٌ" [٣٠].
فقد ذكر السيد الطباطبائي في تفسير هذه الآية قال: "ولولا هذا النفر القليل الذين هم عشيرتك لرجمناك لكنا نراعى جانبهم فيك، وفي تقليل العشيرة إيماء إلى أنهم لو أرادوا قتله يوما قتلوه من غير أن يبالوا بعشيرته، وإنما كفهم عن قتله نوع احترام وتكريم منهم لعشيرته".
ومن هنا جاء رد شعيب عليهم بأنكم كيف تعززون رهطي وتحترمون جانبهم، ولا تعززون الله سبحانه ولا تحترمون جانبه وإني انا الذي أدعوكم إليه من جانبه ؟ فهل رهطي أعز عليكم من الله؟ وقد جعلتموه نسيا منسيا وليس لكم ذلك وما كان لكم إن تفعلوه ربى بما تعملون محيط بما له من الإحاطة بكل شئ وجودا وعلما وقدرة [٣١] .
-----------------------------------------------------------------------------
[١] . المجلسي - محمد باقر - بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء ,الطبعة الثانية المصححة: ٧٧ / ٢٠٩.
[٢] . الكليني- الكافي- دار الكتب الإسلامية ,آخوندي- الطبعة الثالثة - ابن بابويه- علي- فقه الرضا- مؤسسة أهل البيت: ٢ / ٣٣٦.
[٣] . الري شهري- محمد- ميزان الحكمة- دار الحديث , الطبعة الأولى - ج ١ ص ٤٩.
[٤] . المجلسي- محمد باقر - المجلسي- محمد باقر - بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء ,الطبعة الثانية ( .. ) المصححة – الأنوار- مؤسسة الوفاء ,الطبعة الثانية المصححة –: ٧٤ / ٢٣٦.
[٥] . الكليني- الكافي- دار الكتب الإسلامية ,آخوندي- الطبعة الثالثة - ابن بابويه- علي- فقه الرضا- مؤسسة أهل البيت: ٢ / ١٦٩.
[٦] . الكليني- الكافي- دار الكتب الإسلامية ,آخوندي- الطبعة الثالثة - ابن بابويه- علي- فقه الرضا- مؤسسة أهل البيت: ٨ / ١٢٦.
[٧] . الري شهري- محمد- ميزان الحكمة- دار الحديث , الطبعة الأولى - ج ٤ ص ٣٤٣٦.
[٨] . الري شهري- محمد- ميزان الحكمة- دار الحديث , الطبعة الأولى - ج ٤ ص ٣٤٣٧.
[٩] . المجلسي - محمد باقر - بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء ,الطبعة الثانية المصححة: ٧٥ / ١٨٨.
[١٠] . النحل: ٩٠.
[١١] . غرر الحكم: ٢٢٧٣.
[١٢] . غرر الحكم: ٢٢٧٣.
[١٣] . المجلسي - محمد باقر - بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء ,الطبعة الثانية المصححة: ٤ / ٥٤.
[١٤] . الشورى: ٢٧.
[١٥] . نهج البلاغة: الخطبة ٩١.
[١٦] . يونس:٢٣.
[١٧] . فصلت: ٥١.
[١٨] . المجلسي - محمد باقر - بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء ,الطبعة الثانية المصححة: ٧٨ / ٢٧٧.
[١٩] . نهج البلاغة: الكتاب ٥٥.
[٢٠] . الكافي- دار الكتب الإسلامية، آخوندي- الطبعة الثالثة - ابن بابويه- علي- فقه الرضا- مؤسسة أهل البيت: ٢ / ٣١٩.
[٢١] . غرر الحكم: ٣٠٨٥.
[٢٢] . المجلسي - محمد باقر - بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء ,الطبعة الثانية المصححة: ٧٠ / ٣٦٦.
[٢٣] . محمد حسين الطباطبائي – الميزان في تفسير القرآن - منشورات جامعة المدرسين في الحوزة العلمية - قم المقدسة - ج ٤ ص ١٤٨.
[٢٤] . هود: ٨٠.
[٢٥] . النساء: ٣٦.
[٢٦] . ناصر مكارم الشيرازي - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣ ص ٢٣٠.
[٢٧] . الحراني - ابن شعبة - الوفاة: ق ٤- تحف العقول- الطبعة: الثانية - مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجامعة المدرسين بقم المشرفة - ص ٨٨
[٢٨] . المحمودي - نهج السعادة - مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت – لبنان - ج ٤ ص ٣٣٣.
[٢٩] . التوبة: ٢٤.
[٣٠] . هود: ٩١.
[٣١] . محمد حسين الطباطبائي – الميزان في تفسير القرآن - منشورات جامعة المدرسين في الحوزة العلمية - قم المقدسة - ج ١٠ ص ٣٧٥.
انتهى.
جمعية المعارف الإسلامية الثقافية (بتصرف)