وقال (عليه السلام): الغِنَى والْفَقْرُ بَعْدَ الْعَرْضِ عَلَى اللهِ.                
وقال (عليه السلام): عَلامةُ الاِْيمَانِ أَنْ تُؤثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ،أَنْ يَكُونَ فِي حَديِثِكَ فَضْلٌ عَنْ عِلْمِكَ، وَأَنْ تَتَّقِيَ اللهَ فِي حَدِيثِ غَيْرِكَ.                
وقال (عليه السلام): الرِّزْقُ رِزْقَانِ: طَالِبٌ، وَمَطْلُوبٌ، فَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا طَلَبَهُ الْمَوْتُ حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْهَا،مَنْ طَلَبَ الاْخِرَةَ طَلَبَتْهُ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رِزْقَهُ مِنْهَا.                
وقال (عليه السلام): مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ.                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                
وقال (عليه السلام): الْغِيبَةُ جُهْدُ الْعَاجزِ.                
وقال (عليه السلام): مَنْهُومَانِ لاَ يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْم، وَطَالِبُ دُنْيَا.                

Search form

إرسال الی صدیق
وظيفة الإستعارة الدلالية في نهج البلاغة

الدكتورعلي مهدي زيتون (الجمهورية اللبنانية)

أ- مهاد نظري:

يرى بعضهم أنّ مسافة غير قابلة للإلغاء تظلّ قائمة بين ما يفكّر به الإنسان وما يقوله، في إشارة إلى عجز التعبير عن أبعاد التفكير، بشكل كامل.

والحقيقة أنّه لا توجد مثل تلك المسافة؛ لأنه لا توجد فكرة بمعزل عن التعبير. الفكرة والتعبير عنها أدباً، أو رسماً، أو موسيقى يولدان في اللحظة عينها.

ولا وجود لأحد الطرفين مستقلاً عن الآخر.

يعني ذلك أنّ الأدبيّة التي عُبّر عنها، في البلاغة العربية، بالمزيّة لا تكون بكمال التعبير عن الدلالة، كما رأى علماء الجمال الغربيّون؛ لأنه، كما يرى الجرجاني ابن القرن الخامس، لا توجد سلسلة من التعابير تتناول الفكرة الواحدة، فتبلغ إحداها الكمال فيتمثّل بها تمام الجمال.

الجمال الفني عامّةً، والجمال الأدبيّ، على وجه الخصوص، متّصل برؤية الأديب إلى العالم.

وغنى الأدبيّة من غنى الرؤية.

وهذه الرؤية، التي ترتكز إلى الثقافة، بشكل أساسي، هي التي تمكّن الأديب من أن يرى ما يراه في هذا الجانب أو ذاك من جوانب العالم. وما يراه إنّما يراه باللغة.

ولذلك فإنّنا لا نستطيع القول كانت رؤيته عميقة بمعزل عن تعبيره، أو القول كان تعبيره رائعاً بمعزل عن الرؤية.

الثقافة بدالّها ومدلولها تكون عميقة أو لا تكون.

والذي يجب ألاّ يغرب عن بالنا هو أن الأديب الكبير هو بالضرورة مثقّف كبير.

نستخلص من ذلك أنّ الحديث عن الجماليّة الأدبية هو مواجهة ضمنيّة مع اللغة التي يستند الأدب إلى أنظمتها في أثناء العملية الكتابيّة التي هي عبارة عن تلاقي تلك الأنظمة مع الثقافة في ذات الكاتب.

وممّا يجدر ذكره، هنا، هو أنّ النظامين اللغويّين: الصرفي والنحوي هما نظامان آليّان تحكمهما ثقافة الأديب، فينصاعان لها بطواعية متناهية.

فالآلية لا تحمل معها إلى الخطاب الأدبي سوى آليّة اشتغالها.

اسم الفاعل خادم الفاعلية واسم المفعول خادم المفعوليّة.

أما النظام المعجميّ فلا يدخل ذلك الخطاب خالي الوفاض، أو وفاق تلك الآليّة. فالعلامة اللغويّة، حين تدخل خطاباً ما، تدخل إليه بأحمالها الدلاليّة التي تشكل ثمرة جميع النصوص التي انتمت إليها من قبلُ.

وهي مع هذا الغنى المترتّب لها عبر الاستخدام التاريخي لها تظلّ عنواناً عاماً بعيداً عن أيّ خصوصيّة. وكلمة نهر تعبّر عن العاصي، والنيل، ودجلة، والفرات، والسين، والغانج، ويزاندرود، ولكنها قاصرة عن تقديم خصوصيّة أيّ نهر من هذه الأنهار.

تلك الخصوصيّة التي يلتقي فيها التاريخي والاجتماعي والنفسي والمقدّس. والحديث عن خصوصيات داخل علامة لغوية واحدة مدعاة للحديث عن خصوصيّة ثقافية يرى الكاتب من خلالها هذا النهر أو ذاك. فكلّ نهر من الأنهار متعدّد بتعدّد الخصوصيات الثقافية المتعلّقة بالناظرين إليه.

ففرات محمد علي شمس الدين هو فراته وحفيدتي الزرقاءْ قالت، وهي تسبح، يا أبي كن لي سريراً في العبابْ ، أقول: نامي يا صغيرة سوف تحملك المياه إلى هناكْ فإنّ زينب مهّدت من قبلما ولدتك أمّكِ منزلاً للخائفين وموئلاً أعلى من الطوفان (الغيوم ص ١٧٣) .

ولنقرأ:والماءُ أجمل ما يكونُ إذا تدفّق في العراقْ فإنّه من أصله يأتي ومن دمع الحسين جرى الفراتُ وفاض دجلةُ واستوى الثقلانِ يا أهلي هناك تماسكوا وتمسّكوا بالماء واعتصموا بسارية ستؤويكم إذا سقط العذابْ (الغيوم ص ١٧٤) .

إن فرات محمد علي شمس الدين لا يشبه فرات أيّ شاعر آخر.

وكذلك دجلته التي افترقت عن دجلة محمد مهدي الجواهري افتراق رؤيتيهما.

حيّيت سفحك عن بعدٍ فحييّني ***** يا دجلة الخير يا أمّ البساتين

إن كلمة (نهر) غير قادرة على تقديم نهر شمس الدين ولا نهر الجواهري. قدِّم النهران بالمجاز والرمزوما يستخلص، من كلّ ذلك، أنّ العلامة اللغويّة تتّسم بقصورٍ منهجيّ، لأنه لا يمكننا أن نوجد كلمةً لكلّ نوع من أنواع الفرح، أو الحزن، أو الغضب، وأخرى لكلّ مستوى من مستويات ذلك الفرح، أو الحزن، أو الغضب. تصبح اللغة بذلك عبئاً ثقيلاً لا قِبل لأي إنسان أن يحمله. ولقد تنبّه الرماني إلى ذلك، منذ القرن الرابع للهجرة حين قال: "إن دلالة الأسماء والصفات (الكلمات) محدودة، أما دلالة التأليف فلا حدود لها".

يأتي التأليف إذا، وعبر المجاز على وجه الخصوص، ليعوّض ذلك القصور، وليمكّن الأديب من تقديم خصوصيّة رؤيته.

فاللغة التي اضطرت، بحكم طبيعة الإنسان، أن يكون معجمها متّسماً بالقصور المنهجي، أوجدت البدائل التعويضيّة عبر المجاز وأقرانه السيميولوجيّة. ويجرّنا هذا إلى طرح سؤال مبدئيّ. كيف يتمكّن المجاز، وبالاستعارة خصوصاً، أن يعوّض قصور النظام المعجميّ؟

إذا كان التشبيه قراءة للعالم المرجعيّ في مستوى يستحضر ما هو فنيّ إلى جانب ما هو مرجعي، فالاستعارة قراءة في مستوى آخر ينتفي فيه حضور المرجعي لصالح الفنيّ وحده.

وحضور المرجعي بهويته الواقعية، في التشبيه، ليس حضوراً مجانياً يمكن تغييبه أو الاستغناء عنه، لأنّ هذه الهويّة هويّة مشكليّة.

النظر إليها من المرسِل والمرسَل إليه نظر خلافيّ، والحسم برأي واحد فيها أمرٌ شديد الصعوبة. واستحضارها استحضار وظيفيّ.

قال علي (ع): "إنّ المال والبنون حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة" (ص ٦٤).

ولقد وضعنا كلامه هذا أمام الآية الكريمة: "المال والبنون زينة الحياة الدنيا". وهذا ما يلفتنا إلى تمكّن هذين الأمرين من حياة الناس.

ومجيء حرث الدنيا في مقابلة حرث الآخرة يضيء ما يعنيه كلّ من المال والبنين للبشر، وإن كان معنى خاطئاً، ويبرز قوة حضوره في نفوسهم. هذا المعنى الذي يجب أن يستحضر بما هو عليه لكيّ يُرجّ بالمعنى الإسلاميّ الصائب.

ولو كان المال والبنون بنظر الناس متماثلين مع ما هما عليه في نظر عليّ لما احتجنا إلى التشبيه، التشبيه أداة برهانية حجاجية بامتياز. يُلجأ إليه لجلاء ما هو مشكليّ.

فهو رؤية ناقدة لرؤية أخرى، وتغليب لإحداهما على الأحرى.

التشبيه قائم داخل صراع رؤى غير متصالحة. إنّه تعبير عن صراع ثقافي مادّته العالم المرجعي.

موضوع القراءة وأدبيّته منتمية إلى ثقافة الأديب القادرة على طرح الأسئلة المحرجة في مواجهة الثقافة الراسخة في الأذهان.

أما مع الاستعارة فهويّة العالم المرجعيّ غائبة.

وهذا الغياب قادر على الانتقال بالمتلقي من عالمه المنطقي السببي إلى عالم ذاتيّ بامتياز، تصير معه الهويّة الفنيّة التي أسبغت على المستعار له، العالم المرجعي، حقيقةً فنيّة. وذلك؛ لأنّ رؤية الأديب في الاستعارة رؤية مهيمنة تهدف إلى إلحاق رؤية المتلقّي بسببيّتها الخاصة.

وإذا عجز التشبيه عن نقل المتلقي من عالمه السببي إلى عالمه الفني،استطاعت الاستعارة اجتراح ذلك، من خلال إدخال ذلك المتلقّي في شراكة مفروضة.

هذا والشراكة بين الأديب والمتلقي متدرّجة.

تبدأ بالانعدام على مستوى علاقات المواضعة بين الكلمات.

إذا يظلّ المتلقّي خارج النصّ يصغي إلى معلومات تقدّم إليه فيقبلها أو يرفضها من دون أيّ تأثير له في إنتاجها أو تحديد مراميها وأبعادها.

وتأتي بعد هذه الدرجة درجة التشبيه الذي يبقي العالم المرجعيّ حاضراً، فيبقى انتماء القارئ إليه، وإن تُرك له أن يتصوّر، ومن خارج النصّ، العالم المرجعيّ ذا أبعاد يكون شريكاً فاعلاً في تحديدها من خلال رؤيته الشخصيّة، فهو مشدود، بطرفٍ أوّل، إلى عالم مرجعيّ ذي دلالة تقريريّة،ومشدودٌ، بطرف ثانٍ، إلى عالم فني ذي دلالة احتمالية.

يعني إن شراكته، في التشبيه، محدودة، وسيطرة الأديب عليه محدودة أيضاً، أمّا الدرجة الثالثة فهي درجة الاستعارة، التي ينتفي معها حضور الهويّة الواقعية للعالم المرجعي السببي ذات الدلالة المقرّرة سلفاً وتسود محلّها الهويّة الفنيّة ذات الدلالة الاحتماليّة والعلاقات الذاتيّة غير السببيّة.

هكذا يجد القارئ نفسه وقد انتقل إلى عالم مختلف له فيه ما للمؤلّف، وإن كانت رؤيته فيه رؤية من الدرجة الثانية تشتغل من داخل آليات اشتغال رؤية الكاتب.

وإذا كانت لذّة المؤلّف كامنة في الإمساك بالمتلقي والسيطرة عليه داخل خصوصيّة تشكيله العالم، فإنّ لذّة المتلقي كامنة في الحريّة التي أُعطيت له داخل ذلك التشكيل،فبات بمقدوره أن يرى فيه تشكيله الخاصّ به.

ومهما يكن من أمر، فإنّ لذّة الفريقين تكون أرقى كلّما اقتربتا من الدرجة الثالثة، وتبعاً لذلك الاقتراب تتحرّك الأدبية.

ب- العالم المرجعي المستعار له:

ويبقى لنا أن نسأل بعد هذا المهاد النظري الطويل نسبيّاً: ما الجوانب التي قرأها علي (ع) بوساطة الاستعارة وكيف قرأها؟

إنّ أهمّ ما يلفت في العالم المرجعيّ الذي قرأه عليّ (ع) هو أنّه مستقطب حول مفردتين أساسيّتين تمثّلان بؤرة الهمّ الذي وجد الإمام (ع) نفسه في مواجهته.

والمفردتان هما: الفتنة والدنيا اللتان تشكلان الثنائية (المفتاح) في نصّه الخطابي لتردّدهما الكبير في النهج عموماً، وفي استعارته على وجه الخصوص.

فالفتنة التي شهدت ولادتها باكراً في الحياة الإسلامية وكانت على شكل جنين باتت المعضلة التي رافقت عليّاً (ع) منذ اليوم الأوّل لتوليه الخلافة وحتى استشهاده (ع).

أمّا الدنيا فكانت الفاعل الأساسيّ الذي أمدّ الفتنة بكل ما تحتاج إليه من وقود، كيف لا، وقد قُيّض لها رجال أجادوا استثمار الضعف البشري حيالها، واستخدموها مطيّة لمآربهم السلطويّة.

وإن يواجه الإمام (ع) مشكلتين مترابطتين بهذا القدر، وفي ظلّ قسمة ثقافية أخلاقية ضيزى أبناء الآخرة قلة.

يعني أن يكون مشروعه مهزوماً في مرحلة لم يستطع الناس فيها أن يدركوا أنّ مشروع العدالة الإنسانيّة الذي تبناه عليّ (ع) هو خيرهم.

وكان من الطبيعي أن يبرز التقاطب قوياً بين نماذج أهل الآخرة: الأنبياء،والصالحون، والمؤمنون، والأتقياء ونماذج أهل الدنيا: بنو أميّة،والناكثون، والمتخاذلون، والضالون، والخوارج، وعلى رأسهم الشيطان.

بين العقيدة التي تشكل مأمناً من الفتنة: العبادة، والشهادة، واليقين ،والتقوى،والإيمان، والعمل الصالح، وبين ما يناقضها: الفتنة،والضغينة ،والثائرة ، والضلالة.

بين القيم الأخلاقية التي تنشد الآخرة: العدل والحق والصدق والصبر والوفاء،وبين ما ينافيها: الجور، واستباحة المال، والباطل.

ج- المستعار منه والعالم الفني:

ويبقى أن الحديث عن العالم المرجعي المستعار له، لم يكن الغاية، كان وسيلة لتعرّف العالم الفني الجمالي الذي أنتجته الاستعارة في خطبة النهج.

وذلك من خلال المستعار منه.

ولعلّ ثقافة المتلقي العادي كانت الفاعل القويّ في تحديد المستعار منه الذي كان مثل تلك الثقافة حصيلة التجربة العمليّة في مقاربة الواقع والحياة.

كانت الصحراء والبداوة حاضرين قويّين:المطيّة،والعدّة، والبعير ، والحادي ،والمعالم، والسبل، والوحش، والحمة، والأخفاق والأظلاف، والسنابك.

وكذلك كانت الحياة الاقتصاديّة الحضرية: الرهينة، والأموال، والتجارة ،والسلعة ، والحياة العملية البدوية: الخيمة، والسواري، والدعائم، والجلباب ،والثوب، والحبل.

إنّها الثقافة القائمة على البديهيّات وعلى الوقائع العنيدة التي لا تفسح يقينيّتُها في المجال أمام أيّ نوع من أنواع الجدلِ وهذا مكمن أهميتها الخطابيّة الحجاجيّة. فلو لم يكن عليّ (ع) ذا وجهة نظر لم يتفهّمها المتلقون لما كان بحاجة إلى مثل تلك الخطب. يعني ذلك أنّ عاملين أساسيين فاعلين في تكوين فنيّة الاستعارة العلويّة: وجهة نظر عليّ (ع)، وإستراتيجيّته الإقناعية.

د- قراءة ثنائية (الفتنة / الدنيا):

د.١- الفتنة:

كان دفع الفتنة همّاً محورياً عند عليّ (ع)، خصوصاً في زمن خلافته، فكيف تبدّت له؟ وكيف قرأها؟

تحدّث (ع) عمّن أطاعوا الشيطان وسلكوا مسالكه قائلاً: "في فتن داستهم بأخفافها، ووطئتهم بأظلافها، وقامت علي سنابكها" (ص ٤٧).

وهو حين أسند الفعلين: (داست) و(وطئت) إلى الفتن، وعدّى الأوّل منهما إلى الأخفاف بوساطة حرف الجر، والثاني إلى الأظلاف، غيّب الهويّة الموضوعيّة المجرّدة لتلك الفتن، وأكسبها هويتين فنيتين هما: هويّة الجمل التي تبدّت من خلال الأخفاف، وهويّة النور التي ظهرت من خلال الأظلاف.

وهاتان الهويّتان البهيميّتان تقدّمان الفتنة قوّة هائلة متمكنةً من السحق، غير مدركة مَن تسحق،ولا ما ينجم عن هذا السحق.

وهذا أمر شديد البشاعة بالنسبة إلى عربيٍّ تلك المرحلة الحضارية. وحين يتصوّر الخائضون غمار الفتنة أنهم بعض وقودها لا بد من أن يأخذ الوجل قلوبهم فيرعووا. يعني ذلك أنّ الاستعارة العلويّة لم تقم بالوظيفة التعويضية وحدها، وظيفة الكشف عن خصوصيّة رؤية الإمام (ع) إلى الفتنة، ولكنّها قامت بوظيفة ثانية، هي الوظيفة الإقناعيّة.

هذا ولم ترتكز العملية الإقناعية، عبر هذه الاستعارة، على المنطق السببي، ولكن على إخراج المتلقي من واقعة الموضوعي والدخول به إلى عالم فني تتبدّى الفتنة فيه جملاً وثوراً.

ويصبح المتلقي معه جزءاً من آليات اشتغال هذا العالم المخيف الذي يدخل الخوف من الفتنة قلبه فيبتعد عنها.

د.٢- الدنيا:

ولقد تعامل (ع) مع الدنيا بمثل ما تعامل به مع الفتنة. وإذا ما قُدِّمت الفتنة بشاعة تدفع للتخلّص منها، فإنّ جهداً أشدّ قد بُذل لتخليص الناس من شرور الدنيا.

وهو (ع) عندما يتحدّث عن الدنيا، فإنّه غالباً ما يبدأ حديثه بحرف الاستفتاح (ألا)؛ لما فيه من طاقة تنبيهيّة لافتة تهيّئ المتلقي لنقلة من عالم إلى عالم.

ولقد أرسل الإمام (ع)، بعد واحد من استفتاحاته جملة تقريرية "ولّت حذّاء" هي عبارة عن كناية تسحب الدنيا من حوالي المتلقي، وتنسيه أنه يعيش فيها،لتقدّمها مستقلة عنه، قد تراجعت بفعل طبيعتها التي لا يوثق بها.

ولا يكتمل خروج المتلقي من عالمه الواقعي، مع هذه الاستقلالية اللافتة، إلاّ مع الهويّة الجديدة التي صارت إليها الدنيا بفعل الاستعارة، إذ "لم يبق منها إلاّ صُبابة كصُبابة الإناء اصطبّها صابّها" (ص ٨٤).

باتت الدنيا، في أصلها، مع هذه الهويّة ماءً في إناء.

والإناء مهما كان كبيراً يظلّ في نظر المتلقي محدود السعة، فكيف إذا لم يكن قد بقي فيه إلا صبابة، بقيّة عافها صاحبها؛ لأنها لا تبلّ ظمأ. إنّ هويّة كهذه لا تمكن المتلقي من امتلاك هذه الدنيا وفاق خصوصيّة رؤيته إليها فحسب، ولكنها تدخل في قناعاته هزال قيمة الدنيا الغائبة خصوصاً أن انحسارها مترافق مع إقبال ما يضادّها، نعني به الآخرة.

"ألا وإنّ الآخرة قد أقبلت" إقبالاً يجعلها تشكل مع الدنيا ثنائية تتعالى فيه الآخرة بشكل حاسم،وذلك وسط دعوة للانتماء إليها، إذ يوجد "لكلّ منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا" (ص ٨٤).

وأهميّة الانتماء في الاستعارة العلويّة عائدة إلى أنه انتماء اختياري غير مفروض.

وإذا كان الانتماء إلى هذه العشيرة أو تلك انتماء قدرياً لا قبل للإنسان بتغييره، فإننا مع علي (ع) أمام انتماء إسلامي يحدّد المرء موقعه فيه.

لقد أدخلت الاستعارة المتلقي عالماً رؤيوياً تسود الأسريّةَ فيه قيمٌ جديدة يذهب معها خيال كلّ متلقّ بالقدر وبالاتجاه الذي تتيحه له رؤيته الخاصة.

إنه شريك بقوّة الاستعارة في إنتاج ذلك العالم، وفي الانتماء إليه.

وتطلّ (ألا) الاستفتاحية في موضع ثانٍ من النهج (ص ٨٩).

ليرسل الإمام (ع) إثرها سلسلة من الكنايات التي تهيّء المتلقي إلى الانقطاع الكليّ عن عالمه السببي من مثل: "إنّ الدنيا قد تصرّمت، وأذنت بانقضاء، وتنكر معروفها،وأدبرت حذّاء".

تأتي بعدها هويّة السملة التي أُسبغت  على الدنيا،في توازٍ مع هويّة الصبابة، لتصل بالمتلقي إلى ذلك الانقطاع الكليّ، إذ "لم يبق فيها إلا سملة كسملة الأداوة، أو جرعة كجرعة المَقلة، لو تمزّزها الصديان لم ينقع".

وإذا كانت السملة، بقية الماء في إناء وهي هويّة فنية للدنيا تبرز مدى ضآلتها،فإن علياً (ع) قد عضدها بأداتين تسهمان في إظهار شحّ تلك الضآلة. الأولى هي الأداوة، بما هي إناء ماء التطهّر، تمثل السملة فيه، ما علق في قعره من رطوبة،علامةً على ما لا يمكن الإفادة منه.

والثانية فيه هي المَقلة، تلك الحصاة التي تقاس بها الجرعة المحدّدة للفرد حين تقلّ المياه.

وإذا كانت الجرعة في ظروف شح الماء هي الدنيا، فإنّ قوله (ع): "لو تمزّزها الصديان لم ينقع" علامة شديدة الإيحاء بخروج الدنيا من دائرة المفيد. والعربيّ الذي تشكّلت ذاكرته التاريخية على قاعدة الماء تبدو الدنيا أمام ناظريه هوانا فوق هوان، كريهة الوجه يذهب كلّ متلقّ في تصوّر بشاعتها مذهباً تمكّنه منه خصوصيّة رؤيته إلى العالم. وإذا كانت الاستعارة العلويّة الخاصّة بالدنيا استعارة وظيفيّة تهوّن أمر الدنيا،فإن هذا التهوين تهوين وظيفيّ أيضاً، يحاول تسفيه الفتنة من خلال تسفيه الأساس الذي قامت عليه.

ويؤكّد هذا كلّه أنّ الخطبة العلويّة خطبة حجاجيّة نموذجيّة.

هـ-الشيطان /الإيمان:

كانت الفتنة الفاعل القويّ في محاولة إفشال مشروع عليّ (ع) في إدارة الشؤون الإسلامية، وكانت الدنيا السلاح الأمضى في يد أعدائه.

وصراع كهذا هو ضالّة الشيطان، بل هو فعله الذي يواجه به الإيمان والآجلة، حين يرغب بالعاجلة،مرتكزاً إلى الضعف البشري. وإذا كان القرآن الكريم قد قدّم نموذج عمله من خلال تجربة آدم في الجنة، لم يبق أمام علي (ع) إلاّ أن يقدّم رؤيته الخاصة إلى الحضور الشيطاني في المجتمع الإسلامي.

هذا المجتمع الذي أُضعفت مجتمعيّته من خلال محاولات إجهاض الجوهر الثقافي الذي يقوم عليه.

تحدّث (ع) عن أهل الفتنة قائلاً: "اتخذوا الشيطان لأمرهم ملاكاً،واتخذهم له أشراكاً، فباض وفرّخ في صدورهم، ودبّ ودرج في جحورهم، فنظر بأعينهم،ونطق بألسنتهم" (ص ٥٣).

فإذا بالجملة الأولى تنتج كناية تحدّد طبيعة العلاقة القائمة بين أهل الفتنة والشيطان. تلك العلاقة التي كان الشيطان فيها ملاك أمرهم يحدّد آليّة تفكيرهم وسلوكهم في كلّ كبيرة وصغيرة.

وتهيّئ مثلُ هذه العلاقة المتلقي للدخول في عالم رؤيويّ تخلع فيه الاستعارة عن الشيطان، من جهة أولى، هويته الحقيقية مسبغة عليه هويّة الصياد وما تقتضيه مهنة الصيد من مراوغة واحتيال، وتجرّد أهل الفتنة، من جهة ثانية،من هويتهم الآدميّة،منحدرة بهم نحو التشييء عبر هويّة الأشراك.

وحين تلين عريكة أهل الفتنة للشيطان (الصيّاد)، تدخل الاستعارة طوراً جديداً، فيحدث تحوّل في هويّتي كلّ من الشيطان وأهل الفتنة.

يصير الشيطان أنثى الطير المشؤومة المتئمة، ويصير صدر أهل الفتنة خربة تأوي إليها البوم والغربان.

وهذه صورة من أبشع صور حضور الشيطان.

هذا الحضور الذي يمثّل المكوّن المحوري بين مكوّنات بنية الفتنة.

وحين يصبر الشيطان جزءاً من تلك البنية تتبدى خطورتها أمام ناظري المتلقي فتكون الحجة عليه إذا لم يرعوِ.

وما كانت أحابيل الشيطان لتنجح لو كان هؤلاء الناس مؤمنين حقيقيين.

"خُذِل الإيمان، فانهارت دعائمه، وتنكّرت معالمه، ودرست سبله، وعفت شُرُكه (طرقه) (ص ٥٣).

وجملة (خُذل الإيمان) كناية موحية بهوية الخاذلين التي تأخذ في ذهن كلّ متلقّ الصورة الأبشع.

وكناية كهذه تمهّد لاستعارةٍ تخلع عن الإيمان هويته الموضوعية لتسبغ عليه هويّة البنيان ذي المعالم والسبل المتنوعة التي تؤدّي إليه.

وهويّة كهذه لا تضيء باتجاه واحد.

ولكنها تضيء باتجاهين: يتجه الأوّل نحو مؤسّسي ذلك البينان، والثاني نحو مخرّبيه. كلّ ذلك بعين علي (ع) الذي يواجه فتنة رجالها رجال الشيطان الذين لم تعد الآخرة لتشغل بالهم في شيء.

انهارت دعائم ذلك البنيان في وجدانهم، فتنكّرت معالمه التي كانت تدلّ عليه، ودرست السبل التي كانت تؤدّى إليه، وإذا هو أثر بعد عين.

ولا توحي هذه الهويّة التي تداعت بجريمة ثقافية محدودة بزمان ومكان.

ولكنها توحي بجريمة ثقافية تاريخية تتحمّل مفاعيلها السلبيّة البشرية على امتداد أجيالها.

فكأن علياً (ع) لا يتحدّث إلى متلقين عاصروه بقدر ما يرسلها صيحة عابرة للأجيال.

و- أهل الدنيا/أهل الآخرة:

وممّا يجدر ذكره، هنا، أنّ البعد الحجاجيّ، وإن كان ناجحاً بامتياز في إبراز الحقيقة، إلاّ أنّه لم يكن قائماً قصد التحويل، تحويل المتلقين من موقف إلى آخر. اليأس شديد الوضوح، والشيطان قد باض وفرّخ في الصدور، والإيمان، قد انهارت دعائمه، وتنكرت معالمه.

باتت وظيفة الحجاج إلقاء الحجة على الآخر،وتبرئة النفس أمام التاريخ.

وأهل الدنيا، في النهج، متعدّدو المشارب والمناهج والغايات.

فهم بنو أميّة،والناكثون، والمتخاذلون، والضالون.

وبنو أميّة هم رعاة الدنيا ورأس الفتنة. ذكرهم (ع) على هامش حديثه عن عثمان حين قال: "إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه، بين نثيله ومعتلفة، وقام معه بنو أبيه يخضمون (الخضم أكل الشيء الرطب) مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع" (ص ٤٩).

وهم حين تدرجهم هويّتهم التي اكتسبوها بفعل الاستعارة في عداد البهائم، يعني أنّهم قد أعلوا الغريزة على العقل. ومن يُعل الغريزة فهو منصاع لشهواته الدنيوية.

والإشارة إلى خضم مال الله تجعل من ذلك المال معتلفاً يفقده وظيفته الحقيقيّة المحكومة بالعقل ليؤدّي وظيفة أخرى محكومة بالغريزة.

وإذا ببني أميّة، وفاق هذه المعادلة الجديدة، خارجون على سلّم القيم الإسلامية والأخلاقيّة والإنسانية.

هذه خصوصيّة رؤية علي (ع) إلى رجال الدنيا، أما خصوصيّة رؤيته إلى رجال الآخرة فقائمة على نوع من المأسوية اليائسة.

دعا الناس قائلاً: "كونوا كالسابقين قبلكم، والماضين أمامكم" (ص ٢٥١).

في إشارة واضحة إلى جيل صالح تقضّى زمانه.

ورجال هذا الجيل "قوّضوا من الدنيا تقويض الراحل، وطوَوْها طيّ المنازل" (ص ٢٥١) .

واستحضار الخيام منزلاً استحضارٌ لفكرة الرحيل بقوّة. فبيوت الطين والحجارة بيوت استقرار يصحّ أن تطلق عليها اللغة العربية كلمة (مساكن)، أما الخيام فبيوت قلق مستمرّ ورحيل حاضر باستمرار، يصحّ أن تطلق عليها اللغة كلمة (منازل) الكلمة عينها التي استخدمها علي (ع) في استعارته. ويوحي هذا إيحاء شديداً بقلق رجال الآخرة في دنياهم.

والتقويض منها داراً، وطيّها طيّ المنازل إشارة إلى تفاهتها في نظرهم، وإلى استعدادهم للقيام بكلّ ما يؤمّن لهم آخرة مُطَمْئنة.

ويعني كلّ ذلك أنهم أصحاب سلّم قيمي إنسانيّ سام محصّنون من الانزلاق في مهاوي الدنيا وفتنتها.

ز- المنظومةالمفاهيمية:

لم يقتصر جهاد عليّ (ع) على إبراز جحيم الفتنة معرّياً أبناء الدنيا أمام الصورة الجليلة لرجال الآخرة، تعدّى ذلك إلى معالجة المنظومة المفاهيميّة التي تحكم تفكير كلّ فريق وسلوكه.

قرأ باستعارته (التقوى) مثلما قرأ (اليقين) و(الوفاء) و(الصدق). وقرأ بها (الثائرة) مثلما قرأ (الضلال) و(الخطيئة).

فهو قد قدّم الثائرة لهبًا حين قال (ع) عن الرسول أنّه قد "أطفأ الثوائر" (ص ١٤١).

وهل كالنار مقدِّماً لفعل الحميّة الجاهليّة التي تتهاوى عندها وظيفتي العقل والتقوى؟ وقدّم الخطيئة ذات إبرة تسلع كابرة الزنبور: "ألا بالتقوى تقطع حمة الخطايا" (ص ٢٢١).

وان تتخلّى الخطيئة عن هويّتها المرجعيّة هنا عبر إضافة (الحمة) إليها لا يعني أنّها صارت زنبوراً، أو معادلاً وظيفياً للزنبور.

فالتقوى،قوام المقام عند الله "إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم"، لا تواجه حمة الزنبور، تواجه حمة ما يضادّها، حمة الخطيئة التي تدخل نار جهنّم. فالاستعارة تقريب للفكرة من ذهن العوام، داخل سياق الحجاج العلوي في مواجهة الواقع المرير الذي آلت إليه الحياة الإسلامية.

وقبالة بشاعة المنظومة المفاهيميّة السلبيّة، أقامت الاستعارة العلوية صورة غرّاء للمنظومة المفاهيمية الإيجابية. فالصدق والوفاء جُنّة واقية "أيّها الناس إنّ الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جُنّة أوقى منه" (ص ٨٣).

واليقين بنيان واقٍ من الحرّ والبرد والخوف إذا ما تعالى صوته.

أمّا "والناس في فتن انجذم فيها حبل الدين" (ص ٤٦)، فقد "تزعزعت سواري اليقين" (ص ٤٦)، فضاع المسكن المأمن. وفي مثل هذه الظروف يصير الصبر بالنسبة إلى الخائف "مطيّة نجاته"(ص ١٠٣)،والتقوى "عدّة وفاته" (ص ١٠٣).

لقد تجلّت المنظومة المفاهيميّة الإيجابيّة ذات بعد حمائي. وما كان هذا البعد الحمائي ليصير محوريّاً بهذا القدر لو كانت الظروف ظروف تعالي الدين على الدنيا.

في مثل هذه الحال تكون وظيفة هذه المنظومة إبداع حياة راقية.

أمّا والظروف ظروف تعالي الدنيا، فالناس غير مشغولي البال بالإبداع، فما يعانونه في ظروف الخوف والضياع يشكل مدعاة لرؤية تحتاج إلى ما يحمي وليس إلى ما يرفع.

ح- كلمة أخيرة:

ويبقى أن الاستعارة العلويّة التي أسهمت، بوصفها أداة تعبيريّة، في الكشف عن العالم المرجعي من خلال رؤية علي (ع) إليه، لم تقم بوظيفة التعويض عن القصور اللغوي في تقديم خصوصيّة الرؤية فحسب، ولكنها استطاعت، من خلال خياراتها المتعلّقة بالمستعار منه أن تعبّر، وبشكل جليّ، عن عالم مأزوم. فثنائية (الخوف / الأمان) التي شكلت محور الصورة العلويّة نتاج طبيعي لذلك العالم.

ولقد جاءت الاستعارة العلويّة، بالإضافة إلى ذلك، في سياق حجاجيّ. فما انتصر على أرض الواقع هو الدنيا.

وانتصار الدنيا انهيار لسلم قيمي مرتبط بالإنساني والإبداعي في مجال سياسة الأمور. ويفرض هذا الانهيار أن تنبري الخطبة العلوية للدفاع عن قيم الإسلام. ويعني ذلك أن تصير الاستعارة، مثلها مثل التشبيه، استعارةً رسالية.

والذي يبدو أن المنطق العلوي قد تجلّى منطقاً يائساً من تصحيح المعادلة وتصويب الميزان، فالمتلقي لا يشيم فيه أي ملمح لبرق تغييري.

ولذلك كانت وظيفة الاستعارة متمحورة حول إلقاء الحجّة، قصد إثبات أنه قد فعل ما بوسعه، ولا حجة لأحد عليه.

وهي في محاولتها الحجاجية الدفاعية هذه قد تجاوزت زمانها لتعبّر بشكل عميق عن رحله الفتنه عبر التاريخ البشري الممتد إلى زماننا.

ومما يجدر ذكره في هذا المقام، أنّ زماننا الحالي شبيه، إلى حدّ كبير، بزمن علي (ع).

فالفتنة تحدق بمجتمعنا، والمفتونون رجال أجراهم المال وراءه فتخلوا عن المنطق، وأسقطوا سلطان العقل، حتى ليصرخ عاقل هذا الزمان: أبهذا القدر ما زال الإنسان متهافتاً؟ فالدنيا بفتنتها تُستخدم مرّة أخرى لإجهاض أرقى ما أنتجته الأمّة، وإن كانت المعركة لم تُحسم بعد، فما زال الواقفون مع خيار عليّ (ع) كثيرين أقوياء، ولذلك فالأمّة بخير والحمد لله.

****************************