الاستاذ الأديب حسين بستانه(*)
ماالذي مكن لعلي أن يكون أديباً متفوقاً ـ ما اثر عنه مما أنتجته عبقريته ـ قيمة أدب الإمام ـ التعريف بنهج البلاغة ـ الاوهام الحائمة حول النهج.
اني لممتحن كيف استفتح الكلام عن باب مدينة العلم علي بن أبي طالب سلام الله عليه، وعلي من علمتم: قد حيزت له محاسن الصفات وخيرها من مآثر محمودة ومواقف مشهودة تقصر الكلم عن استيعابها وينفد الوقت قبل استيفائها لذلك رأيت ان استبقي الغرض من المحاضرة فأقصر القول علد ادبه واختص بذكره.
لقد كان أمير المؤمنين بحق أمير البيان تطاوعه الألفاظ الشاردة وتنقاد اليه المعاني المستعصية فيلبسها من جميل نسجه وبديع وشيه أثواباً محبرة ويخرجها في نسق عجيب عو بعد كلام الله ورسوله شرفاً ومنزلة. وبحسبك ان تفتح لنفسك ابواب المسرة ببدائع بيانه، وتشرح النظر في روايع كلامه فترى النضار كيف يسبك والاسماط كيف تعقد والجواهر كيف تنضد . بل استغفر الأدب فمن اين لهذه المقيمات الماىية ما يؤهلها للاقتران بتلك النفحات القدسية . وذلك المعين السلسل. والروح الخالد الذي سيبلى الزمان ولا يبلى ما دام في الناس طالب للأدب وراغب للحكمة.
ما الذي مكن لعلي أن يكون أديباً متفوقاً:
سؤال يعترض الباحث في الأدب العلوى لابد من الاجابة عليه. فنقول لقد ولد علي في مكة مألف قريش ومنبت البلاغة وينبوع الفصاحة ومهبط الوحي.
ومكة دون ما حرم ذات الأثر الفعال في توحيد اللهجات وتقريب العبارات وتنسيق الألفاظ ، وجعل اللغة بالكيفية التي كانت فيها صالحة لنزول القرأن الكريم حجة البلاغة، ونبراس الهدى؛ يضاف إلى ذلك: ان علياً من بيت الرئاسة الهاشمية في صميمها؛ حفيد عبد المطلب وسليل أبي طالب، ترعرع بين جد وقور؛ وعمومة مهابة؛ وخؤلة رصينة؛ وأب وأم لم يعرف الحنان صدرين ارحب من صدريهما؛ وهؤلاء كلهم أهل لسن وذرابة، انحدرت اليهم البلاغة من آبائهم، وانحدرت عنهم إلى ابنائهم . فاذا عدوت الدم؛ وجانبت عوامل الوراثة، وصفحت عن تأثير البيئة؛ وقعت على عامل مهم، أثر في تربية علي وفي تهذيبه؛ ألا وهو فخر الكائنات رسول الله(ص).
جاء في الخبر أن قريشاً أصابتها ازمة فقال الرسول(ص) لعميه حمزة والعباس، ألا نحمل ثقل أبي طالب في هذا المحل فجاءوا اليه وسألوه ان يدفع اليهم والده ليكفوه امرهم؛ فقال: دعولي عقيلا وخذوا من شئتم. فأخذ العباس طالباً؛ واخذ حمزة جعفراً؛ وأخذ(ع) علياً، فكان علي في حجره منذ السادسة؛ يجد في صدره رحابة أبي طالب؛ وحنان فاطمة بنت أسد بن هاشم يأخذ عنه؛ ويتدرب عليه. مأخوذاً من قبله بتأديب المرشد المشفق. وتعليم المعلم الحاذق. حتى اذا بلغ أشده صيره كاتبه. يدون الوحي المنزل عليه. ويكتب عهوده. وينسخ كتبه. فليس بدعاً ان يكون علي بعد ذلك عباب البلاغة الذي لا يسبر غوره. ولا تدرك شطآنه. وينبوع الحكمة المستمد من الوحي الالهي. والفيض النبوي. وحي القرآن وسيرة محمد(ص) وتأديبه. وبعد ان تكلمنا عن مؤهلاته للبلاغة اجد من الحسن ان اقدم لكم الحكاية الآتية استدلالا بها على مبلغ حبه للأدب الذي شب عليه. واكرامه لأهله. كما كفلت ذلك لديه فطرته اللامعة . وذوقه العالي المشذب . واريحيته الفائقة .
قيل إن اعرابياً وقف عليه فقال: إن لي اليك حاجة رفعتها إلى الله قبل ان ارفعها اليك . فان انت قضيتها حمدت الله وشكرتك وان انت لم تقضها حمدت الله وعذرتك فقال: كرم الله وجهه خط حاجتك على الأرض .
فكتب الرجل اني فقير. فقال: علي يا قنبر ـ يعني خادمه ـ اعطه حلتي الفلانية فلما اخذها الاعرابي مثل بين يديه وقال:
كسوتي حلة تبلى محاسنها ***** فسوف اكسوك من حسن الثنا حللا
ان الثناء ليحيي ذكر صاحبه ***** كالغيث يحيى نداه السهل والجبلا
لا تزهد الدهر في عرف بدأت به ***** فكل عبد سيجزى بالذي فعلا
فقال علي يا قنبر اعطه خمسين دينارا ثم قال اما الحلة فلمسألتك واما الدنانير فلأدبك.
ثلاثة ابيات بخمسين ديناراً مع الاقتفار اليها الا طوبى لذوقك يا علي. ما اثرعنه مما انتحبته عبقريته :
جمع اهل الادب من مأثور الامام عليه السلام: ـ
١ ـ نهج البلاغة .
٢ ـ الف كلمة جمعها ابن ابي الحديد في آخر شرحه لنهج البلاغة .
٣ ـ مجموعة حكم و امثال علمتها ٢٧٨ حكمة .
٤ ـ غرر الحكم ودرر الكلم . مجموعة حكم جمعها ورتبها على حروف الهجاء عبد الواحد بن محمد بن عبد الواحد عددها ٥٣٧ حكمة .
٥ ـ حكم جمعها ابو الفضل الميداني في آخر كتابه مجمع الامثال ذكر بعضها في نهج البلاغة.
٦ ـ سبعة عشر مثلا شرحها الميداني وهذه المجموعات الاربعة جمعها في مجلد واحد المستشرق (كور نيليوس فان) مع ترجمة وشروح لاتينية طبعها في اكسفورد سنة ١٨٠٦ م .
٧ ـ دستور معالم الحكم . كتاب جمعه محمد بن سلامة القضاعي المتوفى بمصر سنة ٤٥٤هـ وهو كتاب حوى حكما ووصايا واجوبة وادعية وبعض الشعر والخطب نشره محمد سعيد الرافعي سنة ١٣٣٢هـ .
٨ ـ نشر الأب لويس شيخو بعض الحكم لعلي نقلا عن مخطوطة قديمة يرتقى عهدها الى سنة ٧٢٧هـ .
٩ ـ نشر السيد احمد رضا خطبا ومواعظ واقوالا لعلي لم تنشر في نهج البلاغة .
١٠ ـ يوجد لعلي خطب واقوال متفرقة في كتب الأدب والتأريخ كالبيان والتبيين والعقد الفريد ومروج الذهب وعيون الأخبار والكشكول وتاريخ الطبري وغيرها .
١١ ـ "كتاب المئة" وهو مئة كلمة اختارها من كلامه عليه السلام الأديب الكبير امين نخلة طبع بمطبعة العرفان . صيدا سنة ١٣٤٩هـ .
١٢ ـ ديوان شعر نسب اليه . لأن اكثر ما فيه لا يدل على انه له .
قيمة أدب الامام :
الواقع ان قيمة الأدب لا تعرف بتسعيرة البورصة ولا تخص غرفة التجارة في شيء لأنها قيمة معنوية تقيمها الافهام المدربة تدريباً ادبياً والداريات المللمة بكثير مما روى عن الخطباء النابهين والشعراء المجيدين والمقاول الذربين من خطب واشعار وامثال وكلمات ورسائل. حيث تناقش تلك الفهوم والدرايات بفضل ما اكتسبه من تدريب ومرانة ما يصل اليها من المرويات وبمقاييس لاحيدة عنها تعرف نضار الكلام من زائفه وصريحه من هجينه وفاضله من مفضوله . تلك المقاييس هي عرض الكلام على قواعد الاعجاز المعروفات مع لحظ ما فيه من ابداع في الابانة ومن جميل الغرض ومقدار ما انطوت عليه تلك الابانة من عقائل المعاني واعيانها ونحن حين ندرس على هذا الضوء ادب الامام في خطبة الجامعة . وحكمه الناجعة . وامثاله السائرة . وكلماته المحكمة . وكتبة النادرة . وادعيته البالغة . ومواعظه الحكمية . وملحه النادرة . وما تصح نسبته اليه من الشعر؛ نحو انفسنا بمواقف من التجلة والتبجيل تدفعنا الى مساير السابقين من علماء الادب والانصياح الى حكمهم : ان كلامه كرم الله وجهه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق حاشا كلام الرسول(ص) .
وبحسبك ان تسرح الطرف بمأثوره فترى رأينا فيه لأنك ستراه، اذ استنهض او نصح، او حاجج، لم يدع من سمات الدراية، وحجج البصير، ونصائح الشفيق؛ ودوافع الهمم؛ شيئاً إلا وعاه واحصاه ، بلسان ذرب ورأي حصيف .
فاذا دعى الله في تبتله؛ ورجاه للاعتصام به؛ خفض جناح الذل له، واحسن الثقة به؛ فدعاه دعوة الساخر من دنياه؛ المعتز بآخرته، وما خبر ضرار ؟؟؟ بسر فقد روى ان معاوية سأله عن أمير المؤمنين فقال : لقد رأيته في بعض مواقفه وقد ارخى الليل سدوله؛ وهو قائم في محرابه؛ قابض على لحيته؛ يتململ تململ السليم؛ ويكى بكاء الحزين؛ ويقول: يا دنيا يا دنيا اليك عني؛ أبي تعرضت؛ ام الي تشوقت؛ لا حان حينك هيهات غري غيري، لا حاجة لي فيك؛ قد طلقتك ثلاثا، لا رجعة فيها؛ فعيشك قصير، وخطرك يسير واملك حقير؛ آه من قلة الزاد وطول الطريق؛ وبعد السفر وعظيم المورد .
ولعل من عجيب ما كان يدعو به الله تعالى قوله :
اللهم أني اعوذ بك ان افتقر في غناك، أو اضل في هداك؛ أو اظام في سلطانك؛ أو اضطهد والأمر اليك . اللهم اجعل نفسي اول كريمة تنتزعها من كرائمي؛ واول وديعة تسترجعها من ودائع نعمك عندي. هذه ادعيته فاذا ارسل الحكمة أو المثل: اهتزت لها النفوس الأريبة، وسعى بها الدهر يحملها حلية في تاجه ليعيرها من شاء التزين بها، أو التملح؛ من ادباء الزمان وسيبلى الزمان ويبقى ادب على فيما يبقى ثمرة لا مقطوعة ولا ممنوعة .
التعريف بنهج البلاغة :
نهج البلاغة ديوان خطب الامام ورسائله وحكمه ومواعظه و وصاياه جمعه سليل المجد نقيب الأشراف الطالبيين في بغداد السيد الشريف الرضي الموسوي عليه الرحمة . في سفر جليل القدر. كان ولم يزل عدة الأدباء وزاد الخطباء ومورد الحكماء ومشرع اهل اللّسن والبلاغة كافة . على امثلته يحذون وبه يستعينون ومنه يقبسون تجملا بغراته واحتجاجاً بآياته وتملحاً بمبادهاته وتشرفاً بعباراته واقتداء بعطاته . لذلك تناوله الفضلاء بالشرح والتبسيط رجاء ان يرفعوا اللافهام الى مستواه ويقفوا المتأدبين على فحواه . ولعمر والادب ما ادرك شارح كنهه ولا سبر غوره ولا وفاه مادح قدره .
على ان العلامة ابا حار عز الدين عبد الحميد بن هبة الله المدائني المعتزلي الشهير بابن ابي الحديد المتوفى سنة ٦٥٦هـ شرحه شرحاً مستفيضا في كتاب يقع في عشرين جزءاً جعلها في مجلدات اربع .
الأوهام الحائمة حول النهج :
يشك كثير من الناس ان كان نهج البلاغة لعلي(عليه السلام) او هو من وضع الشريف الرضي وقد نحله اياه او نحله بعضه وساقوا في معرض الشك مزاعم يصوح بها النظر السليم والاستقراء الحكيم ويقوضها سلطان المنطق وشواهد الاحوال . ولكي نقرع الحجة بالحجة فتطلع على براءة الشريف مما بهت به اجد من الانسب ان اتلو على اسماعكم جملة ما تأتي فيه الشبه ثم اعقب بما اراه مفنداً تلك الشبهات :
وجدوا من المانع ان يكون النهج لعلي:
١ ـ خلو كتب الادب من اكثر ما في النهج من خطب .
٢ ـ كثرة الخطب .
٣ ـ ورود بعض الافكار الفلسفية والتصوفية في بعض الخطب مما لا تصح نسبته الى عصر الامام بزعمهم .
٤ ـ ان بعض الخطب منسوبة في غير النهج الى آخرين .
٥ ـ ورود كثير من الآراء السياسية والادارية والقضائية في قول مشبع مع الاطالة كما في عهد الاشتر النخعي .
٦ ـ التعريض ببعض الصحابة كما في الشقشقية .
٧ ـ ان الخطب المطولة لا يمكن حفظها وروايتها .
٨ ـ اصطباغ بعض الخطب بالفاظ اصطلاحية عرفت في علم المنطق والتوحيد وسائر العلوم التي عرفت بعد عصر الامام .
٩ ـ تناوله بعض الحيوانات الحقيرة بالوصف الدقيق كما في وصف الخفاش .
١٠ ـ تفشى الصناعة اللفظية من سجع وجناس وطباق ومقابلة في كثير من الخطب .
هذه جملة الشبهات التي اوردوها وللرد عليها نقول :
١ ـ ان خلو كتب الادب من اكثر خطب النهج لا ينهض دليلا على أن تلك الخطب غير واردة عنه كرم الله وجهه . لان تلك الكتب اقتصرت على ما يقتضيه موضع الشاهد من خطب علي وغيره وقد فعلت كذلك فيما جاءت به من خطب الرسول(ص) والخلفاء الراشدين(ض) وسائر البلغاء .
٢ ـ ان كثرة الخطب كان بالنسبة لكثرة الاغراض والدواعي التي احاطت الامام فان ظروفه السياسية والاجتماعية والعسكرية والاخلاقية كانت تستدعيه ان يعظ ويزهد ويحمس ويعهد ويدبر وهذه كلها تحتاج الى كلام اكثر مما جاء في النهج وفعلاً كان . فقد روى المسعودي المتوفى قبل مولد الشريف ان مجموع خطب الامام اربعمائة ونيف وثمانون خطبة كان يوردها على البديهة .
٣ ـ ان اشتباههم في ورود بعض الافكار الفلسفية والصوفية في بعض الخطب مما لا تصح نسبته الى عصر الامام كلام لا يصدق لأن من يقرأ النهج لم يجد فيه نظرية يحتاج في معرفتها الى استقراء ودرس خاص كما نبه الى ذلك العالمان الجليلان الاستاذ أحمد زكي صفوة في كتابه "علي ابن ابي طالب" والعلامة الشهرستاني في كتابه "ما هو نهج البلاغة" وكل ما هناك حكم وامثال ارسلها بطبعه لتهذيب الاخلاق واستبقاء الطاعة وسل سخائم الاطماع والاحقاد .
٤ ـ ان نسبة بعض خطب النهج الى غير علي في بعض الكتب لا يبعد ان يكون من خطأ الرواة او من اصطناعهم؛ حكى الجاحظ المتوفى سنة ٢٥٥هـ في كتابه البيان والتبيين قال:
قالوا لما حضرت معاوية الوفاة قال لمولى له من بالباب ؟ قال نفر من قريش يتباشرون بموتك فقال ويحك ولم؟ قال: لا ادري قال: فوالله ما لهم بعدي الا الذي يسوءهم وأذن للناس فدخلوا عليه فحمد الله واثنى عليه ثم خطبهم خطبة اوردها الجاحظ وعقبها بقوله (وفي هذه الخطبة ابقاك الله ضروب من العجب منها ان هذا الكلام لا يشبه السبب الذي دعاهم من اجله معاوية ومنها ان هذا المذهب من تصنيف الناس والاخبار عنهم وعماهم عليه من القهر والاذلال ومن التقية والخوف اشبه بكلام علي وبمعانيه واشبه بحاله منه بحال معاوية ومنها : اننا لم نجد معاوية في حال من الحالات يسلك في كلامه مسلك الزهاد ولا يذهب مذاهب العباد وانما نكتب لكم ونخبر بما سمعناه والله اعلم باصحاب الاخبار وبكثير منهم) .
يبدو للسامع ان الجاحظ شاء ان يقول ان الرواة نحلوها معاوية هذا مع العلم ان الجاحظ لا يتحيز لعلي لأنه كان ناصبياً عثمانياً .
٥ ـ ان اشباع القول كما في عهد الاشتر لم ينفرد به علي وليس هو مما لم يعرف في عصره فقد اوصى عمر بن الخطاب(رض) ابا موسى الاشعري بكتابه اليه حين ولاه البصرة بمثل ما عهد به علي للاشتر النخعي .
٦ ـ ان الشقشقية ليس فيها ما يمنع ان تكون لعلي اما التعرض فيها لبعض الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ فإنه لم يكن سبا وإنما كان من باب ما يفعله الزعماء اليوم من انتقاد بعضهم سيرة البعض وسياسته . يؤيد ذلك ان الشقشقية لم يخطب بها في حفل عام وانما كانت في مجلس خاص . ونحن اذا نظرنا من هذا الوجه نرى ان مثل الشقشقية أو اشد قد سبق صدوره من ابي بكر وعمر رضي الله عنهما الى علي رضي الله عنه وفي رده عليهما في الرسائل التي تحملها ابو عبيدة . فليرجع اليها في عصر المأمون على ان نقد علي لسياسة الشيخين قد وردت ضمنا حين طلب اليه ان يقبل البيعة . قبل عثمان على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة ابي بكر وعمر فأبى وقال: بل على كتاب الله وسنة رسوله واجتهاد رأيي.
ونحن حين نمعن في تعابير الشقشقية لا نجد مساغا لاحد ان يعطعن في صحة نسبتها الى عصر الامام وذلك لما يبدو عليها من تعابير البادية وساليب الخطب المعروفة في عصره كقوله (لشد ما تشطرا ضرعيها) وقوله (فصاحبها كراكب الصعبة ان اشنق لها خرم وان اسلس لها تقحم) واستشهاده ببيت الاعشى .
شتان ما يومي على كورها ***** ويوم حيان اخي جابر
واختتامها بقوله (ولوجدتم دنياكم هذه ازهد عندي من عفظة عنز)
يضاف الى ما تقدم انه اذا صح المتأخر أن يصنع كلاما يسلك به مسلك الامام فمن أين يأتي بالتأثر والثورة والغضب ثم ان الذي ينفى الشك تماما ان هذه الخطبة رويت باوجه واسانيد مختلفة في كتب مختلفة اوردها العلامة الشهرستاني في كتابه "ما هو نهج البلاغة" كلها تستمد من مرجع واحد هو ابن عباس. فلو كان صانعها الرضى لنقلت عن نهج البلاغة بوجه واحد في كل الكتب الأدبية .
٧ ـ ان طول الخطب لا يمنع من حفظها وذلك لأن اللغة الفصحى كانت قطرتهم وان الرواية كانت عمدتهم لقلة علم الجمهور بالكتابة لذلك كان الواحد منهم يحفظ الى حدود العجب. حكى صاحب الاغاني قال ان ابن عباس قد حفظ قصيدة ابن ابي ربيعة .
(امن آل نعم انت غاد فمبكر) بقراءة واحدة . وقد مر ان ابا عبيدة قد حفظ رسائلي ابي بكر وعمر و علي في ظرف واحد وهذه لا تقل عن اطول خطبة مما في النهج . ولو كان حفظ الخطب يستعصي لكان الشك واجبا في كل ما حفظ من خطب النبي والراشدين والحجاج وزياد غيرهم من اهل الجاهلية والاسلام .
٨ ـ ان اتيان بعض الالفاظ من مصطلحات التوحيد والمنطق في خطبه هنا وهناك لا يصلح أن يكون مانعاً من اسناد تلك الخطب لعلي لان تلك المصطلحات الفاظ عربية تقوم بمعناها اللغوي فما المانع من استعمالها من قبله ونقلها الى الاصطلاح في عصر الاصطلاح وعلي أعلم الناس بمواقع اللفظ من المعنى وان التوحيد فكرة الدين الذي تربى في حضانة صاحبه وان المنطق بما فيه من قياس واستدلال ومقدمات من ذهنية العرب وفطرتهم وقد جاءت اشكاله في تعابيرهم وان لفظة صغرى وكبرى وموضوع ومحمول وحد ودليل وتصديق وتصور وما شاكلها الفاظ تقوم بمعناها اللغوي قبل الاصطلاحي فاذا وردت في كلام أحد من المتقدمين فلا يعنى ان كلامه منحول في عصر الاصطلاح . وفي القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه استدلالات منطقية هي خير شاهد على ما نقول: قال جل من قائل .
فلو علم الله فيهم خيراً لاسمعهم . ولو اسمعهم لتولوا .
وقال : وشهد شاهد من اهلها ان كان قميصه قدّ من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وان كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين . وقال : لو كان فيها آلهة الا الله لفسدتا . وقال: وما كان معه من آله . اذا الذهب كل آله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض .
ثم ان المتتبع لخطب الزهاد ومواعظهم في العصر الأول يجدها غير خارجة عن آفاق خطب الامام من حيث المقاصد والالفاظ فهل كانت خطب اولئك مصطنعة عليهم ايضاً .
٩ ـ ان تناول النهج بعض المخلوقات الحقيرة بالوصف الدقيق لا يستبعد صدوره عن الامام لأن الناظر في تلك الخطب يجد أن الوصف فيها لم يجيء لذاته وانما جاء به على سبيل الموعظة وتعظيم الخالق . وتلك طريقة في الوعظ تعلمها على القرآن الكريم . قال تعالى :
"واوحى ربك الى النحل ان اتخذى من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف الوانه فيه شفاء للناس ان في ذلك لآية لقوم يتفكرون" . (النحل) وقال : قالت نملة يا ايّها النمل ادخلو مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لايشعرون (النمل) . وقال: فبعث الله غراباً يبحث في الارض ليريه كيف يواري سوءة اخيه . قال يا ويلتا اعجزت ان اكون مثل هذا الغراب فأوارى سوءة اخي (المائدة) وقال عز من قائل : ان الله لا يستحي ان يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها (البقرة) الخ ..
فما المانع بعد هذا ان يضرب علي مثلا بالخفاش وهو المنشأ في أدب القرآن الكريم كما اسلفنا .
هذا من جهة الموضوع اما اذا كان الشك آتيا من ناحية دقة الوصف واخراج الصور كأنها شاخصه للعيان فذلك مما يأتي به العربي فطرة روي عن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت ان زنبوراً لسعه في طفولته لجاء يشكو حاله الى أبيه فقال: لسعني طوير كأنه ملتف في بردى حبرة وقد ورد الوصف الدقيق في القرآن الكريم على أبهى مثال واروع تصوير قال تعالى :
والذين كفروا اعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى اذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه او كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض اذا اخرج يده لم يكد يراها (النور) وقال في خلق الانسان: فجعلناه نظفة في قرار مكين: خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم انشأناه خلقا آخر فتبارك الله احسن الخالقين "المؤمنون" وقال تعالى :
واتل عليهم نبأ الذي اتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه اخلد الى الارض واتبع هواه فمثل كمثل الكلب ان تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون . (الاعراف) .
هذا وصف الله سبحانه على سبيل الموعظة . فما الذي يمنع علي على ان يحتذيه وهو ربيب من نزل عليه هذا القرآن .
١٠ ـ ان الصناعة اللفظية من سجع وطباق وجناس ومقابلة وغير ذلك وان كانت تعمل فيها في عصور المتأخرين من أيام بني العباس بحيث اصبحت صناعة يتدرب عليها المنشؤن فإنها غير مبتدعة في السبك العربي كي يوجب وجودها في النهج الشك في كونه لعلي .
قال شيخ علماء البلاغة ابو هلال العسكري في كتاب الصناعتين (فهذه انواع البديع التي ادعى من لا رواية ولا دراية عنده ان المحدثين ابتكروها وان القدماء. يعرفوها وذلك لما اراد ان يفخم امر المحدثين . لأن هذا النوع من الكلام اذا سلم من التكلف وبرىء من العيوب كان في غاية الحسن ونهاية الجودة .) انتهى كلامه.
ولكي نسوق الشاهد المؤيد لرأي هذا الاستاذ الجليل نقول: ان القرآن الكريم حجة البلاغة ومعجزتها وان كان خارجاً عن ان يوصف بسجع او ترسل او صناعة فقد جاء حافلا بالمحسنات على اسمى مثال. فمن السجع اللطيف المتسلسل قوله تعالى : والنجم اذا هوى وقوله : يا ايّها المدثر.
بل هناك سور مسجوعة بكاملها مثل سورة (الاعلى) سبح اسم ربك الاعلى الى قوله: صحف ابراهيم وموسى ومثل الشمس . والشمس وضحاها الى قوله ولا يخاف عقباها ومثل سورة الليل والقدر والناس وغيرها .
ثم ان السجع قد كان فاشيا في كلام الصدر الأول وانما الذي نهى عنه الرسول(ص) هو سجع الكهان لأنه عبارة عن هذيان لا غير. يؤيد لنا ذلك ما رواه ابو هلال العسكري عن الرسول قال: كان(ص) ربما غير الكلمة عن وجهها للموازنة بين الالفاظ واتباع الكلمة اخواتها . كقوله(ص): "اعيذه من الهامة والسامة وكل عين لامة وإنما اراد ملمة وقوله(عليه السلام) . ارجعن مأزورات غير مأجورات وإنما اراد موزورات من الوزر فقال مأزورات لمكان مأجورات قصداً للتوازن وصحة التسجيع."
اما المطابقة والجناس والتقابل من انواع البديع فاستمع اليها في القرآن واعتبر ان مجيئها في كلام علي لا يعني انه منحول في عصر الشريف او غيره فمن الجناس الوارد في القرآن قوله تعالى : ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة (الروم) وقوله وهم ينهون عنه وينأون عنه (الانعام) ذلكم بما كنتم تفرحون في الارض بغير الحق وبما كنتم تمرحون (المؤمن) ومن الطباق قوله (وتحسبهم ايقاظاوهم رقود) ـ الكهف ـ .
هل يستوي الاعمى والبصير ام هل تستوي الظلمات والنور (المؤمن) . وهو الاول والآخر والظاهر والباطن (الحديد) وقوله قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء "أل عمران" ومن النقابل قوله تعالى : فاما من اعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى واما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى "الليل" .
وبعد فهذه ادلة جامعة وحجج قاطعة بان النهج لم ينتحل وانه لامير المؤمنين(عليه السلام) هذا اذا سلبنا الثقة عن الشريف وصرفنا البصر عن عفته التي اكبرت شأنه في التاريخ فدونها اهل الخبر صفة بارزة في مزاياه العديدة عليه رحمة الله . وبعد أن سقت البرهان على ان النهج لعلي ارى من الامانة للادب ان ادون ملحوظات اخرى اراها .
اولها ان الشريف لو شاء ان ينحل علياً شيئاً لنحله ديوان شعره او بعض شعره وهو ليس باغلى ولا اثمن من خطب نهج البلاغة .
ثانيها ان الشريف وغيره من الشيعة لو صنع نهج البلاغة على علي لما أبن فيه عمر بن الخطاب "رضى" في الخطبة المشهورة لله بلاد فلان ولو عبث فيه واحد منهم لما ابقى هذه الخطبة وعبث في غيرها .
ثالثها ورد في بعض عباراته مثل لفظة ازل وازلية وهذه لم تعرف في كلام العرب قال الزمخشري في اساس البلاغة . قولهم كان في الازل قادراً عالماً وعلمه ازلي وله الازلية مصنوع ليس من كلام العرب. وكأنهم نظروا في ذلك الى لفظ لم ازل . ومثل هذا يقنعني بانه قد حشى في مواضعه بعد الشريف لما يذكر من ان الشريف لم يكن اقل معرفة باللغة من الزمخشري فحتى لو وقع منه انتحال نهج البلاغة لم يسقط هذا السقوط اللغوي وهو يضع قولا عن على لذلك اذا قررنا بانه وقع في النهج مما ليس للامام فانا لا يعدوا مثل هذه التحشيات التي يدركها العارف باساليب التعبير العربي . الملحوظات الرابعة .
ان الاوهام والشكوك في صحة ان يكون النهج لامير المؤمنين هي غارة يشنها اعداء تراثنا الادبي من شعوبي الغربي والشرق على نهج البلاغة قديماً وحديثاً . حدث صديقي الدكتور زكي مبارك في كتابه النثر الفني ج١ ص٦٩ قال : وقد اراد ؟؟؟ ديمومبين ان يغض من قيمة ما نسب الى علي بن ابي طالب من خطب ورسائل استناداً الى ما شاع منذ ازمان من ان الشريف الرضي هو واضع كتاب نهج البلاغة اما نحن فنتحفظ في هذه المسألة كل التحفظ لان الجاحظ يحدثنا ان خطب علي وعمر وعثمان كانت محفوظة بمجموعات ومعنى هذا ان خطب علي كانت معروفة قبل الشريف انتهى كلام الدكتور. وليعلم ان هذه الشكوك جاءت في الزمن الغابر من طريق غير لاحب كما يفيد ابن ابي الحديد في شرحه وآخر اعتقادي ان هذه الشكوك ولدتها وخزات الصدور والبغضاء التي كانت تضمر للشريف وستبلى دون شك ويبقى الحكم للادب المحض .
--------------------------------------
* أستاذ الأدب العربي في الثانوية المركزية