أحمد ياسين
يُعدّ السِّفر الشريف والموسوم بـ"نهج البلاغة" للإمام علي بن أبي طالب، سِفراً فريداً في بابه وثابتاً في توجهات محمولات مضمونه المستقاة من نبع ديني صافٍ جعلته مرجعية فكرية أثبتت أصالتها الأدبية من دون منازع.
إذ هو يتصدّر المرجعيات الأدبية ـ الفكرية العربية والإسلامية التي تصدّت لكل شأن من شؤون الحياة العامة والخاصة، على أساس قرآني بحت لمراعاته، بشكل دقيق وحاسم، المعايير الإنسانية كافة، والتي جعلته صالحاً لكل زمان ومكان، لما يحويه من قيم إنسانية وخلقية رفيعة مستمدّة من شخصية صاحبها وروحه، وما يتّصل بذلك من شؤون سياسية وهموم فكرية بجوانبها الدينية والاجتماعية.
فهذا السِّفر الذي يحتوي على "مما أورده الشريف الرضيّ عن أثر مولانا الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)"، قد صدر حديثاً بتمامه عن مؤسسة الأعلمي للمطبوعات في بيروت. فقد جمع بقية نصوصه وأخرجها الى النور كاملة ـ هي التي كانت مبعثرة في بطون الكتب والمخطوطات التاريخية القديمة والحديثة ـ العلامة السيد صادق الموسوي الشيرازي، الذي أنجز "النهج" مجدداً، بتحقيقه وتتميمه وتنسيقه بعنوان "تمام نهج البلاغة" (النسخة المسْندة). لذا يجيء هذا السِّفر مهماً في ذاته أولاً، ومهماً في ظهوره بحلّته الجديدة ثانياً، لأنه يُعيد الى واجهتنا الثقافية نتاجاً تراثياً ثَرّاً لعظيم من عظمائنا التاريخيين، مدموغاً ببصمته الخاصة اللامعة كرمز إسلامي هو قدوة حسنة في مجاله البارز.
وما يجدر قوله هنا، إن من يطّلع على "تمام نهج البلاغة" يتبيّن له مدى الجهد الذي بذله المحقّق، مع ما تحمّله من أعباء المهمة الشاقة التي كلّف نفسه القيام بها حتى توصّل الى وضع هذا السِّفر بحلّته النهائية.
وعندما قابلت السيد صادق الموسوي بهدف الإطلاع على كيفية الخطوات التي قام بها في هذا السبيل، ذكّرني حديثه الدافئ إليّ بقول المتنبي "على قدر أهل العزم تأتي العزائم"، ذلك لأن ما قام به سماحته هنا، هو مغامرة علمية، بكل ما تعني المغامرة من معنى، إذْ لم يَخُض غمارها باحث من قبل، بهذا الشكل العميق والواسع. فجرأة المحقّق الموسوي تجسّدت في اقتحام حقل ثقافي لم يجرؤ الكثيرون على اقتحامه من قبل، على الرغم من محاولات محدودة للبعض وقفت عند شرح وتحليل النصوص الموجودة في "نهج البلاغة"، بعيدة عن محاولات البحث عن النصوص المتمّمة لها.
غاية مزدوجة الهدف سعى الى بلوغها العلامة المحقق في عمله الضخم هذا الذي يمكن تسمية سعيه الحثيث لتحقيقه بـ"النضال الثقافي المرّ".
فهدفه الأول عامٌّ (دينوي)، وقد تحقق بقوله: "الآن باستطاعة كل من يريد أن يعرف شخصية عليّ، يعرفها من خلال قراءة خُطب وكلام ووصايا وكُتب الإمام كاملة، بتواصل غير متقطع في "تمام نهج البلاغة".
أما هدفه الثاني فهو شخصي بحت (أخروي)، إذ أن منبعه دينيّ محض، فالعلامة الموسوي بحكم موقعه الديني ـ الفقهي، يؤمن إيماناً قاطعاً بأن "الأَجْر على قدر المشقّة"، لذا فهدفه هنا يتمثل برجائه من الله سبحانه وتعالى، مبتهلاً إليه أن يُنيله الأجر المعني (الخلاصيّ) الأكبر بإنالته شفاعة جدّه الإمام عليّ "يُعْسوب المؤمنين وزعيم ملّته وقسيم النار والجنة يوم الحساب بين أمّته"، يوم الدينونة الكبرى حيث لا ينفع مالٌ ولا بنون، إلاّ مَن أتى الله بقلب سليم. ومثله في ذلك مَثَل حفيد عليّ الإمام الصادق الذي قال: "ولايتي لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، خير من ولادتي منه".
ما تقدّم أعلاه، هو خلاصة فحوى ما قاله لي العلامة السيد صادق الموسوي الشيرازي في لقائي معه الذي دار فيه حديثنا حول كيفية توصّله الى إتمام "تمام نهج البلاغة" الذي أنجزه سماحته في وفائه لعهد، وإنجازه لوعد قطعهما على نفسه في بلوغ الغاية المرجوة من وضعه لهذا العمل الموسوعي الفريد.
فلقد كان الموسوي مدركاً، منذ البداية، أنه أمام مهمة شاقة وعسيرة من كل جوانبها لجمع المادة الأصلية الكاملة للكتاب. فإلى عمليات البحث والتنقيب، في كمّ هائل من المصادر التاريخية، والتي هي محلّ ثقة في هذا المجال، تُضاف عملية التثّبّت القطعي والحاسم، بقدر عال من المسؤولية والوعي والالتزام لكل فقرة أو قطعة بعينها، من الكلام المعثور عليه والذي تصحّ نسبته للإمام عليّ، إضافة الى عمليات التجميع والتنسيق والتبويب في الإخراج النهائي الصحيح، في اتّساق علميّ موضوعي عبر إلحاق الفرع بالأصل بتوحيد الإطار المرجعي الشامل الواحد والموحّد للنصوص، بعد الاطمئنان الى وحدتها الموضوعية، لغوياً وفكرياً، وتثبيت خصوصية مناخها البلاغي الوثيق، عبر تحقيق مبدأ وحدتها وانسجامها بإيفاء الموضوع حقّه الكامل من الوضوح والشفافية بدلالاتها الخاصة، التي من شأنها أن تُظهر ما يمثّله الإمام عليّ في بلاغته النقيّة، الفذّة والفريدة في الضمير الإسلامي خاصة والإنساني عامة، من قيمة علمية ودينية وأخلاقية وفكرية تراثية عالية.
وما قام به الباحث المحقٍّق من جهود جبارة فعلاً في تحقيق عمله هذا تمثّل بثلاث نقاط أساسية: الأولى تتعلق بعملية "الإسناد" التي يعتمد عليها النصّ المكتَشَف، أو الجزء المكتَشَف من النص الأصلي. والثانية: تتمثل بتوحيد السياق الصحيح والحقيقي لمتْن النصّ. والثالثة: تتمثل بالدلالة العامة للنص الكامل.
فجاء "تمام نهج البلاغة" بنسخته المُسندة هذه موزعاً على سبعة أجزاء مع جزء ثامن للفهارس. وتضمّ الأجزاء الأربعة الأولى، فصل الخُطَب التي ألقاها الإمام عليّ، في مناسبات مختلفة بينها خُطبة البيان المشهورة التي استحوذت مع شروحاتها على جزء كامل (نحو ٦٠٠ صفحة). وفي شروحاتها رواية كاملة لظروف إلقائها والإطالة فيها.
وخُصّص الجزء الخامس من الكتاب لفصل الكلمات، والسادس لباب الوصايا الشفهية والأدعية. فيما احتوى الجزء السابع على فصل الكُتُب (الرسائل) والعهود والأحلاف والوصايا المكتوبة.
على أن مشروع إتمام نهج البلاغة مرّ بثلاث مراحل استلزمت ثماني عشرة سنة كاملة من البحث والتنقيب والتحقيق، تطلّبت من المحقّق قراءة ما عدده سبعين ألف كتاب، الى جانب قراءته لعدد كبير من النُسخ المخطوطة، أيضاً، ما أفضى الى بلوغ الزيادات التي أُضيفت الى المتن الأصلي لنهج البلاغة المتداول، أي نسخة "الشريف الرضيّ"، أكثر من عشرة أضعاف.
ففي المرحلة الأولى صدرت "النسخة المشروحة" في العام ١٤١٤ للهجرة وقد ذُيّلت بأربع شروحات مُدْمَجة للوبري والبيهقي والشيخ محمد عبده والدكتور صبحي الصالح. تلاها إصدار "النسخة الموثّقة" في العام نفسه، والتي ذُكرت فيها المصادر فقط. إلى ان صدرت "النسخة المسندة ـ تمام نهج البلاغة" في نهاية العام المنصرم ١٤٢٦ للهجرة ٢٠٠٦ للميلاد. وهي النسخة المشتملة على النصوص الكاملة للامام علي والتي ورد فيها ـ اضافة الى المصادر التي بلغت حدود الثمانمائة من المصادر الموثوقة ـ سلسلة السند لكل رواية وحديث.
على ان هذا الجهد المميز باضافاته المكملة، وفهرسة مصادره، الى جانب اعتنائه بنشر اسم الكتاب والمؤلف وتاريخ وفاته، واسم المؤسسة الناشرة، ورقم الطبعة، ما يساعد القارئ على الوصول، مباشرة وبسهولة الى المصدر.
هذا وقد تحتم على المحقق لجمع مادة هذا الكتاب لاخراجه بشكله الأخير الذي اتخذه ان يقصد مكتبات عربية وعالمية عدة، ابرزها مكتبات: القاهرة، الرباط، بيروت، تونس، صنعاء، الرياض، جدة، دمشق، دبي، مدريد، لندن، روما، ميلانو، باريس، نيودلهي، بومباي، حيدر آباد، فيينا، بون، واشنطن، نيويورك وأوتاوا. وقد زار المحقق هذه المكتبات وسواها مزوداً بتعميمين يساعدانه على تحقيق مهمته: الأول من وزارة الخارجية الايرانية، الى سفاراتها وقنصلياتها في هذه المدن، والثاني من رئيس رابطة الثقافة والعلاقات الاسلامية محمد علي تسخيري الى الملحقين الثقافيين في البلاد المذكورة.
ولكن لماذا كل هذا العناء في سبيل تحقيق هذا الانجاز التاريخي؟ يجيب العلامة الموسوي بأن "ثمة خصوصية في التاريخ، وهي: أن جميع النصوص ـ ما عدا الآيات القرآنية المباركة ـ نقلت في اكثرها بالمعنى (اي نقلت بمعناها اكثر من حرفيتها، وسئل النبي محمد والأئمة في كثير من الحالات، ان نحن لا نستطيع ان نحفظ اللفظ بكامله، فهل من ضير، اذا نقلناه بالمعنى والمضمون، فقط؟ فكان الجواب: لا مانع من ذلك، الاّ يستثنى من هذا الموضوع تعاطي جميع الرواة والمؤرخين بكلام الامام علي بن ابي طالب، الذي قيل فيه: "انه دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوقين"، لذا ـ يصيف الموسوي موضحاً ـ فقد جهد جميع الرواة والمؤرخين ان يحفظوا كلام الامام علي بلفظه (بحرفيته)، بالرغم من الظروف السياسية الصعبة جدا التي مرت على الأمة الاسلامية قبل تسلّم الامام علي مقاليد الحكم وبعد استشهاده، بحيث ان ذكر اي شيء له علاقة بعلي بن ابي طالب كان محظوراً في حقبة طويلة من مرحلة ما بعد وفاة النبي، الى يوم تسلّم الامام علي الحكم، ومن يوم استشهاده حتى فترة حكم عمر بن عبد العزيز".
وكلام العلامة الموسوي، هنا، يفسر لماذا اقتضى اشتمال "نهج البلاغة" المتداول على اجزاء متفرقة، فقط من كلام الامام علي، وليس على النصوص الكاملة لخطبه ورسائله وكتبه ووصاياه.
فنهج البلاغة الذي حققه السيد الشريف الرضي في القرن الرابع الهجري، واجه هذه المشاكل التي ذكرناها اعلاه الى فترة عصره، فاضافة الى عدم توفر "الرضيّ" على المصادر التي قطعت أو ورّت (من تورية) أو حجبت فقرات أو أجزاء من نصوص الامام. كان انشغاله بأمور أساسية حياتية كثيرة استهلكت وقته بالكامل، ووقفت عائقاً دون اتمامه للنصوص المختارة للامام في "نهج الرضيّ" الذي اعتمد، ايضا، في جمعه لمادة الكتاب، على ذهنية بلاغية، مما احدث انقطاعًا في سياق النصوص، الأمر الذي ادى الى انقطاع المعاني امام القارئ. فالشريف الرضي كان من جملة ما كان: مدرّساً في الفقه، وشاعراً وأديباً ومفسراً، ونقيباً للاشراف وأميراً للحج، كما انه في فترة ناب عن والي بغداد.
فمجموع هذه الانشغالات، وسواها ادت الى منعه من اتمام "نهج البلاغة"، وهو نفسه يقول في ذلك: "وعاقت عن اتمام بقية الكتاب، مُحاجزات الزمان، ومماطلات الايام".
ولا بد من القول بأن ما قام به العلامة الموسوي في تحقيقه لتمام النهج، هو انجاز تاريخي بامتياز، وبلغت اضافاته على "النهج" (الذي طالما نهل منه طلاب العلم واللغة والدين والأخلاق وبلاغة اللسان) الى حدود الـ ٩٧ أو الـ ٩٨ بالمائة، ويقول: انه لما يزل يبحث ويستقصي ليصل باتمام النهج الى حدود المائة بالمائة ان شاء الله تعالى اسمه.
فلقد عاش السيد صادق، الموسوي الشيرازي وبسبب من تربيته الدينية اجواء "نهج البلاغة"، والبحوث العلمية ـ الدينية والمدنية ـ على السواء، منذ نعومة اظفاره، ماجعله في اطلالته الأولى على "النهج" مأخوذاً ـ على حد قوله ـ بدقة انتقاء الشريف الرضي للمقاطع أو الفقرات، بوقوفه مدهوشًا امام عظمة كلام الامام علي، يدفعه شوقه الى الاطلاع على كامل الكلام الصادر عن أمير المؤمنين وهذا ما فعله حتى تمكن من انجاز السِّفر الذي نحن بصدده.
ويقّر السيد الموسوي بأنه مدين للشريف الرضي بصفته الجامع الأول لمتن هذا الكتاب الذي اتمّه السيد الموسوي محاطاً برغبة ورهبة معاً: "لأنني كنت أُحاط اولاً بعظمة صاحب الكلام، وهو باب علم النبيّ ثم أُحاط ثانيًا بعظمة الشريف الرضي، الرفيع المقام في العلم والبلاغة والأدب. ثم لأنني كنت متأخراً عمن سبقني في مجال التفتيش عمّا ورد عن علي كالمرحوم، الشيخ محمد باقر المحمودي والسيد عبد الزهراء الخطيب، ولكني استفدت من تجربتهما وأعاناني كثيراً طوال فترة التحقيق و"البحث".
ويتصدر "تمام نهج البلاغة" نصوص تقديمية وتقريظات وإشادات، للعديد من الأعلام الكبار الذين نوّهوا بالجهد الذي بذله المحقّق، يتقدهم الرئيس الايراني الأسبق السيد محمد خاتمي الذي قدّم للكتاب.