إرجاعات الجامع
وقد أحال الشريف الرضي إلى نهج البلاغة في كتبه الأخرى في مناسبات مختلفة بما يدل بكل وضوح على أنّه هو الجامع للكتاب دون أخيه المرتضى، كما يدل على اهتمامه واعتزازه بكتاب نهج البلاغة، وإليك كلامه في مواضع:
قال في المجازات النبوية في مواضع، منها قوله: « ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: « أغبط النّاس عندي مؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاة »
وفي هذا القول استعارة، لأن الحاذ على الحقيقة: اسم لما وقع عليه الذّنب - إلى أن قال: - لأن الدنيا بمنزلة المضمار، والناس فيها بمنزلة الخيل المجراة، والغاية هي الآخرة. فكلَّما كان الواحد منهم أخف نهضا وامتراقا، كان أسرع بلوغا ولحاقا، ويبيّن ذلك
قول أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام، في كلام له: « تخفّفوا تلحقوا »
وقد ذكرنا لك في كتابنا الموسوم بنهج البلاغة الذي أوردنا فيه مختار جميع كلامه صلَّى اللَّه عليه وسلم وعلى الطاهرين من أولاده »[١].
ومنها: « ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لأزواجه: « أسرعكنّ لحاقا بي أطولكن يدا »[٢].
- إلى أن قال: - ومثل ذلك قول أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام: « من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة »
ومعنى هذا القول أنّ من يبذل خير الدنيا يجزه اللَّه خير الآخرة، وكنّى عليه السّلام عما يبذل من نفع الدنيا باليد القصيرة لقلَّته في جنب نفع الآخرة، لأنّ ذلك زائل ماض وهذا مقيم باق. وقد ذكرنا ذلك في كتابنا الموسوم بنهج البلاغة »[٣].
ومنها:« ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في خطبة له: « ألا وإنّ الدّنيا قد ارتحلت مدبرة، وإنّ الآخرة قد ارتحلت مقبلة ».
وهذه استعارة، لأنه عليه الصلاة والسلام جعل الدنيا بمنزلة - إلى أن قال: - ويروى هذا الكلام على تغيير في ألفاظه لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام، وقد أوردناه في كتابنا المسوم بنهج البلاغة، وهو المشتمل على مختار كلامه عليه السّلام في جميع المعاني والأغراض والأجناس والأعراض »[٤].
ومنها:« ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: « ما نزل من القرآن آية إلَّا ولها ظهر وبطن، ولكلّ حرف حدّ، ولكلّ حدّ مقطع » وفي هذا الكلام استعارتان: أحدهما:
قوله عليه الصلاة والسلام: « ما نزل من القرآن آية إلَّا ولها ظهر وبطن »
وقد قيل في ذلك أقوال: منها أنّ يكون المراد أنّ القرآن يتقلَّب وجوها، ويحتمل من التأويلات ضروبا كما وصفه أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام في كلام له، فقال: « القرآن حمّال ذو وجوه »
أي يحتمل التصريف على التأويلات، والحمل على الوجوه المختلفات. وقد ذكرنا هذا الكلام في كتابنا الموسوم بنهج البلاغة، ومن ذلك قول القائل: قلَّبت أمري ظهرا لبطن »[٥].
ومنها:« ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: « القلوب أوعية بعضها أوعى من بعض »،
وهذه استعارة. والمراد تشبيه من حيث حفظ ووعى، كالوعاء من حيث جمع وأوعى، وربما نسب هذا الكلام إلى أمير المؤمنين عليه السّلام على خلاف في لفظ، وقد ذكرناه في جملة كلامه لكميل بن زياد النّخعيّ في كتاب نهج البلاغة »[٦].
وقال الشريف الرضي في حقائق التأويل ما لفظه: « إنه لو كان كلام يلحق بغباره، أو يجري في مضماره - بعد كلام الرسول صلَّى اللَّه عليه وآله - لكان ذلك كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام، إذ كان منفردا بطريق الفصاحة، لا تزاحمة عليها المناكب، ولا يلحق بعقوه فيها الكادح الجاهد، ومن أراد أن يعلم برهان ما أشرنا اليه من ذلك، فلينعم النظر في كتابنا الذي ألَّفناه ووسمناه بنهج البلاغة، وجعلناه يشتمل على مختار جميع الواقع إلينا من كلام أمير المؤمنين عليه السّلام في جميع الأنحاء والأغراض والأجناس والأنواع من خطب وكتب ومواعظ وحكم، وبوّبناه أبوابا ثلاثة، ليشتمل على هذه الأقسام مميّزة مفصّلة، وقد عظم الانتفاع به، وكثر الطالبون له، لعظيم قدر ما ضمنه من عجائب الفصاحة وبدائعها، وشرائف الكلم ونفائسها، وجواهر الفقر وفرائدها »[٧].
وأظن في ذلك كفاية لمن انصف بأنّ الشريف الرضي جمع في كتاب نهج البلاغة ما وجد من الروايات عن جده علي بن أبي طالب عليه السّلام، ولا يدله فيها سوى الجمع والانتفاء بالأسلوب الذي اختاره وشرحه في خطبة الكتاب.