وقال (عليه السلام): لَيْسَ بَلَدٌ بأَحَقَّ بِكَ مِنْ بَلَد، خَيْرُ الْبِلاَدِ مَا حَمَلَكَ.                
وقال (عليه السلام) : مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا .                
وقال (عليه السلام):مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا.                
وقال (عليه السلام): مَنْ ضَيَّعَهُ الاْقْرَبُ أُتِيحَ لَهُ الاْبْعَدُ .                
وقال (عليه السلام): لاَ خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ، كَمَا أنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ.                
وقال (عليه السلام): يَهْلِكُ فِيَّ رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ، وَبَاهِتٌ مُفْتَر.                
وقال (عليه السلام): الْغِيبَةُ جُهْدُ الْعَاجزِ.                

Search form

إرسال الی صدیق
الرثاء في شعر الشريف الرضي

محمد إبراهيم خليفة الشوشتري *

محمد حسن أمرائي **

الملخص

استطاع الشريف الرضي بشاعريته الفذة القوية، وبلاغته الأصيلة ، وقدرته الباهرة أن يبرز في مقدمة الفحول من الشعراء ، لاسيما في الرثاء والبكاء على الأهل ،والأقارب، والأحباب ووصف تقلبات الزمان ، وظهرت قصائده في الرثاء مليئة بالمشاعر الجياشة.

وجدير بالذكر أنّ قصائده في رثاء الحسين (ع) مثال كامل احتذاه الشعراء من بعده لبيان مظلومية أهل البيت  (ع) وفاجعتهم بمقتل الإمام الحسين (ع) وكانوا يحفظون وينشدون أشعاره الرثائية.

إنّ مراثي الشريف الرضي – مع قلّتها – جعلته بارزاً بين معاصريه وشعراء الشيعة .

تدرس هذه المقالة الرثاء عند الشريف الرضي وتثبت أنّ الرضي من أحسن شعراء الرثاء بلا منازع في العصر العباسي ، وأحسن تصرفاً فيه.

المقدمة

قبل أن نتوغل في موضوع البحث جدير بالذكر والتنويه أن نقول إنه شهد الأدب العربي في عصوره المختلفة ، العديدَ من الشعراء والشخصيات اللامعة فكان لهم دورهم وتأثيرهم في آفاق الأدب العربي وكانت إحدى هذه الشخصيات والشعراء الكبار في العصر العباسي (٣٥٩ – ٤٠٦) العالم الأديب والفاضل الشريف الرضي الذي امتاز بآثاره القيمة العلمية والأدبية، وبمكانته السامية.

وهذا ما دفعنا في هذه المقالة إلى دراسة الرثاء في شعر الشريف الرضي من خلال ديوانه معتقدين «أن الرثاء ينظمه الشاعر على الوفاء فيقضي بشعره حقوقاً سالفةً بينه وبين الميت أو يعبّر الشاعر برثائه عن مشاعره الحزينة التي أحس بها عندما أصابت المنية من يكون عزيزاً ومحبوباً لديه.» (الرافعي، ١٩٧٤ م : ٣/١٠٧) فاختيارنا هذه المقالة ، يرجع إلى السببين الرئيسين :

أولاً : لأجل شخصية الشريف الرضي الذي تميز بالتقوى، والورع، والمنزلة الدينية، والاجتماعية، والسياسية بسبب نشأته الأسرية العظيمة الدينية .

 ثانياً : اشتهاره بأشعار الرثاء أكثر من كلّ أغراضه الشعرية بحيث نستطيع أن نسمّيه شاعر الرثاء بلا منازع، حيث انتشر صيته فيه.

تحتوي هذه المقالة على ثلاثة محاور :

يتعلق المحور الأوّل بحياة الشريف الرضي وأدبه بصورة موجزة وذلك للتعرف على الشاعر وشخصيته في عصره بشكل مختصر. ويختص المحور الثاني بالرثاء لغة واصطلاحا. والمحور الثالث يتطرق إلى الرثاء عند الشريف الرضي وأقسامه وكيفية استخدامه.

ترجمته وآفاقه العلمية والأدبية

«هو أبوالحسن محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، المعروف بالموسوي نقيب الطالبين وكان يلقّب بالرضي ذا الحسبين.(الثعالبي، ١٩٨٣م : ٣/١٥٥)

لقّبه بهاء الدولة بن بويه بالطاهر الأوحد ، والطّاهر ذي المناقب . (ابن أبي الحديد، ١٩٦٥م : ١/١١)

وكان يتولى نقابة الطالبيين ،وإمارة الحج ،والنظر في المظالم.(ابن الأثير، ١٩٦٦م : ٢/٤٨، ابن الجوزى، ١٩٣٩م : ٢٤٧)

وأمه فاطمة بنت حسين بن أبي محمد الحسين الأطروش بن علي بن حسن بن علي بن عمر بن الإمام علي بن أبي طالب (ع). (ابن أبي الحديد ، ١٩٦٥م : ١/٣٢)

وهي امرأةٌ جليلة القدر وقد ألف الشيخ المفيد (ره) كتابه أحكام النساء لأنَّها أوصته به وينشِد الشريف في شأنها (الشريف الرضي، ١٣٠٧ش : ١/١٩) :

لَو كَانَ مِثلَكِ كلُّ أمٍّ برةٍ ***** غَنَي البَنُون بِهَا عَن الآباءِ

انحدر الشريف الرضي من المحتد الأصيل ، ينتهي من أب الإمام موسى الكاظم (ع) ومن أمّ إلى الإمام الحسين بن علي (ع) وكان علوي النسبين ولذلك لقّبه بهاء الدولة بن بويه بالرضي ذا الحسبين وذا المنقبتين. (ابن أبي الحديد، ١٩٦٥م : ١/١١)

كان مولده ببغداد سنه تسع وخمسين وثلاثمائة. (الثعالبي، ١٩٨٣م : ٣/١٥٥)

وكانت ولادته خلال فترة المطيع لله وحكم عزّ الدولة البويهى . (ابن الأثير، ١٩٦٦م : ٥/١٠٣)

نظم السّيد الشريف الرضي الشعر وعمره عشر سنوات. (الثعالبي، ١٩٨٣م : ٣/١٣٦)

جاء محلّقاً في سماء الشعر محرزاً قصب السبق وأَجاد في جميع أغراض الشعر العربي وهذا يدلّ على غزارة مادته. كان ينظم قصائده لِمنحة نفسانية قلّما تؤثر بها العوامل الخارجية. كان أبوه جليل القدر عظيم المزلة في دولة بني العباس ودولة بني بويه وكان من الأجلاء وبهذا توفّرت للشريف أسباب النعمة وطلب العلم، فكان لابدَّ له من أن يتعلّم أنواع المعارف منذُ صغره، كما درس اللغة على  يد ابن جني والفقه على يد شيخ الإمامية وعالهما الشيخ المفيد . (ابن أبي الحديد، ١٩٦٥م : ١/١٣ – ١٤)

وأحضر الشريف الرضي إلى ابن السيرافي النحوي وهو طفل لم يبلغ سنين ولقّنه النحو. (ابن خلكان ، لاتا : ٤/٤٥) ولذلك تمكن الشريف من استيعاب العلوم العربية ، وعلوم البلاغة، والأدب ، والفقه ، والكلام ، والتفسير ، والحديث بكاملها في مدة وجيزة، وينطلق إلى البحث والتدريس ، وقول الشعر وهو في أخريات العشر الأول من عمره.

يقول الثعالبي عنه : «ابتدأ يقول الشعر بعد أن جاوز عشر سنين بقليل.» (الثعالبي ، ١٩٨٣م : ٣/١٣٦)

جديرٌ بالذكر أن نشير على الاغتراب كعنصر أساسي لِلرثاء في حياة الرضي «كان أبوه نقيب الأشراف الطالبيين فصارت إِليه النقابة وأبوه حَيّ وتولى معها إِمارة الحَجّ والمظالم؛ وهو أول طالبيّ جُعِل عليه السواد.» (البستاني، ١٩٨٦م : ٣/١٧٧)

لعلّ هذه الأمور في حياة الرضي أدت إلى حسادة ونمامة الحساد وبالتالي أَدت إلى اغترابه، إلى حَد يشكو هو نفسه من حياته ويقولُ (الشريف الرضي، ١٣٠٧ش : ١/١٥٨):

وَمَالِي طولَ الدَّهرِ أَمِشي كَأَنَّني ***** لِفضلِي في هذا الزَّمانِ غَريبُ

ترتبط هذه الحسادة في بعض الاحيان بأقربائه بلا نصيب من هذه الحسادة , والشريف الرضي في بعض أشعاره يشير إلى هذا الحِقد والكراهية بينه وبين أخيه (المصدر نفسه : ١/٩٦):

وأَخ حُرِمتُ الوُدَّ مِنهُ ***** وبَينَنا نَسبٌ قُرابُ

في نهاية المطافِ «تُوُفي الشريف الرضي يوم الأحد السادس من المحرم سنة ست وأربعمائة ودفن في داره بمسجد الأنباريين إحدى ضواحي الكرخ "الكاظمية" اليوم. (عمر فروخ، ١٩٧٩ م : ٣/٥٩)

عندما مات الشريف الرضي رَثاهُ كثيرٌ من الشعراء ، ولكنَّ أوّل شاعر رثاه هو أخوه السيد المرتضى الذي نظم مرثية الفراق بهذا المطلع (الشريف الرضي، ١٩٩٧م : ٢/١٣):

يا لَلرِجال لِفُجعُةٍ جَذَمت يَدِي ***** وَوَدَدتُ لَوذَهَبَت على بِرأسِي

ورثاه تلميذه مهيار الديلمي بقصيدة يحفظها أكثر الأدباء (زكي مبارك، ١٩٣٨ م : ٢/٢٣١؛ والشريف الرضي، ١٣٠٧ ش : ١/٢٤٩) :

أَقُرَيشُ لا لفَمٍ أَرَاكَ ولا يدِ ***** فَتَوَاكلِي، غَاضَ النَدَى وخَلا النَّدِى

إِنَّ شعر الشريف الرضي يُعطينا صورة صادقة لسمات شخصيته من ناحيةٍ وسمات عصره من ناحية أخرى بحيث إنّ أشعاره تُعيننا على فهم كثير من أحداث عصره، يمتاز الشريف الرضي بشعره ونثره، وبمكانته في علوم البلاغة حيث كشف عن مجازات القرآن الكريم والحديث الشريف.

يقول الباخرزي عن شعره : «كان شعره تغنيّاً بحبّه وآلامه ونشيداً من أناشيد الفخر والعزة.» (الباخرزى، ١٩٨٥م : ١/٢٩٣)

هو شاعرٌ شيعيّ مشبوب العاطفة يقول الشعر إرضاءً لنفسه وينبع شعره من ينابيع وجدانه ولم يتخذه وسيلةً للكسب. (عمر فروخ، ١٩٧٩ م : ٣/٥٩)

لم يقبل صلة من أحد ولا جائزة وردّ صلة أبيه. (ابن أبي الحديد ، ١٩٦٥ م : ١/١١)

«لقد كان الناس في عهد الشريف يتفقهون ليعيشوا ، أمّا هو فكانِ يتفقه ليسود. كان الشعراء في عهد الشريف ينظمون الشعر ليحظَوا بأعطيات الخلفاء، أَما هو فكان ينظم الشعر ليزلزل الرواسي من عروش الخلفاء.» (زكي مبارك، ١٩٣٨م : ١/٤٨)

كما يقول حنا الفاخوري : «لم يقبل صلة من أحدٍ ولا جائزة وكان يُرشح نفسه للخلافة.»( حنا الفاخوري، ١٣٧٨ ش : ٤٩٣)

الشريف الرضي شاعرُ مقتدرُ وفقيهٌ عالمٌ ولذلك لُقِّبَ بالشاعر الفقيه ؛ لِأنَّه إلى جانب الاستدلالات العلمية والفقهية كان يستفيد من سلاح الشعر لبيان أغراضه ومقاصده ولذلك حُساده في أيام عمره القصير لم يستطيعوا أن يمنعوا من ازدهاره العلمي والأدبي.

إِنَّ الزّمان سبب فشله في الوصول إلى الخلافة ولذلك اُصيبَ بخيبَة أمله وهو في هذا الصعيد شبيهٌ بأستاده المتنبي؛ لِأنَّ المتنبي كان يسعى في تأليف دولة عربية كما أنَّ النزعة القومية العربية في شعره مشهودةٌ، والشريف الرضي أيضاً كان يفكر بالخلافة ولكن كلاهما أصيبا بخيبة الأملِ. (شوقي ضيف، ٢٠٠٧م : ٥/٣٧٢)

هو شاعر الحكمة ولا يعمدها كما يقول الدكتور زكي مبارك: «فقد أستطيع أن أجزم بأنه في هذه الناحية أشعر من أُستاده المتنبي؛ لأنّ المتنبي كان يقصد إلى الحكمة قصداً ويتعمدها وهو متكلفٌ ، أما الرضي فكانت الحكمة تسبق إلى خاطره من فيض السجية والطبع فيرسلها عفواً بلا تصنع ولا اعتساف.» (زكي مبارك، ١٩٣٨ م : ٣/١٧٧)

إنّ شعر الشريف الرضي كان سبباً في انطفاء حرارة طموحه إلى المعالي ولم يتكئ عليه لغرض المدح أوالثناء ، إنَّما انقاد إليه لضرورة التي حملته إلى هذا الاتجاه نحو تحقيق طموحه وغاياته و«إلا فهو أحد علماء عصره قرأ عليه أجلاء الأفاضل.» (ابن عنبه، لاتا : ٢٣٢)

يقول ابن سينا : «الشعر لا يتمّ إلا بمُقدمات مُخيلة ووزن ذي إيقاع متناسب ليكون أسرع  تأثيراً في النُفُوس.» (ابن سينا، ١٩٦٩ م: ٢٠)

يوجد في شعر الشريف نماذج رائعة تؤيد كلام ابن سينا لا سِّيما في نظمه قصيدة سمَّاها بـ «العَصماء» ومِنها البيت التالي الذي نكتفي به دليلاً على ذلك (الشريف الرضي ، ١٣٠٧ش : ٢/٥٩٣) :

يا ظَبيَةَ البَانِ تَرعَى في خَمائِلِهِ ***** لِيَهنَكِ اليَومَ أنَّ القَلبَ مَرعَاكِ

يقول زكي مبارك عن أبيات هذه القصيدة : «يرينا الشاعر في هذه الأبيات أن الحلاوة في عيون النساء أمتع من الحلاوة في عيون الظباء والحق في هذه القضية أنّ عيون الغزلان في غاية من الروعة، ولكنها محرومة من صفة أساسية في عيون الملاح ، وهي الإفصاح؛ ذلك لِأنَّها تتمتع بصفة الإفصاح فعين الظبية تروعك، ولكنَّها لا تحدّثُ ، أما عين المرأة فتروعك وتُفضي إليك في لحظة بألف حديث وحديث.» (زكي مبارك ، ١٩٣٨م : ٢/١٣٩)

ولعلّ الشريف قصد إلى ذلك حين قال : فكان الفضل للحاكي (الشريف الرضي، ١٣٠٧ ش : ٢/٥٩٣) :

حَكَت لحِاظُك مَا في الرِّيمِ مِن مُلَحٍ ***** يومَ اللِقَاءِ فَكَانَ الفَضلُ لِلحَاكِي

التعريف بفن الرثاء لغة واصطلاحاً

١- الرثاء لغةً :

يقال رثى فلانٌ فلاناً يرثيه مرثيةً إذا بكاه بعد موته قال : فإن مدحه بعد موته قيل رثّاه يرثيه ترثيةً ورثيتُ المّيت رثيثاً ورثاءً ومرثاةً ومرثيةً ورثيته : مدحته بعد الموت وبكيتهُ ورثوت الميت أيضاً إذا بكيته وعدّدت محاسنه وكذلك إذا نظمت فيه شعراً ورثت المرأة جعلها ترثية ورثيته ترثاة رثاية فيهما. (الزبيدي، ١٤٢٢ ق : مادة رثا)

٢- الرثاء اصطلاحاً : هو تعداد خصال الميت والتفجع عليه بما كان يتصفه به من صفات كالكرم ، والشجاعة ، والعفة ، والعدل والعقل، وإظهار الحزن، واللوعة، والحسرة على فقدانه شعراً كان أم نثراً.

يستعمل الرثاء بحتمية الموت كما يقول طرفة بن العبد في فلسفته الشخصية المتناقضة التي تصطبغ بصبغة اليأس (الزوزني، ٢٠٠٦ م : ٩٠):

لَعَمرُكَ إنَّ الَموتَ مَا أخطأَ الفَتَى ***** لَكا لطّوَلِ الُمرخَى وثنياهُ باليَدِ

الرثاء عند الشريف الرضي

من يلاحظ أشعار الرضي يرى أنّه أمام شاعر كثير البكاء على الراحلين، كثير التعزية لأقاربه وأصدقائه ممّن فقدوا أحبابهم.

إنَّ الشريف الرضي كما جاء في ترجمته كان كثير الصلة على حسب مقتضى حياته بكبارالرجال ممّن يعاصرونه ومن الطبيعي أن يستمرّ هذه الصلة بعد موت هؤلاء الكبار ويتذكرهم ويرثيهم ويتألم لفقدهم لذلك كان الرثاء متنفساً لِآلامه ، وأحزانه، ووفائه ،وإلحاحه في التحسّر على فقدهم.

قد لفتت كثرة مراثي الرضي، التي بلغت إحدى وثمانين قصيدة ومقطوعة، بحرارة عاطفتها نظرَ الأدباء والمؤرخين ، قال الثعالبي: «وهو أشعر الطالبيين من مضى منهم ومن غبر على كثرة شعوائهم المفلقين, ولو قلت أنّه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق.» (أحمد حسن الزيات، لاتا : ٢٠٨)

ثم قال بعد ذلك : «لست أدري في شعراء العصر أحسن تصرفاً في المراثي منه.» (الثعالبي، ١٩٨٣ م: ٣/١٣١)

«إنّ تفجع الرضي لم يكن محدود الإطار ضيق النطاق، ينحصر في الأصدقاء والأقرباء المعروفين فحسُب ، بل كان يتفجع ويبكي حتّى الّذين لم تربطه بهم صلة وثيقة أوعلاقة ودّية صميمة.»(عزيز، ١٤٠٦ ق: ٤٤)

وهنا نستطيع أن نقول «لعلّ أكبرعنصر متغير في مراثي الرضي هو ملائمة لمقتضى الحال فإن كان الراحل فارساً أو كاتباً أو شيخاً نحوياً، أو أستاذاً فقيهاً أو متكلماً أو شاعراً، رجلاً كان أو امراة،حضرياً أو بدوياً، فإن رثاء الرضي يراعي ما يلائم شخصية الراحل من حدود وأوصاف ويزيد على ذلك التزام شىء من الأسلوب قد يليق بالبدوي أكثر من الحضري (كما هو الحال في مراثيه لصديقه البدوي ابن ليلى) وبالفارس أكثر من الكاتب، من هنا نرى أن الرضي جدّ في المعاني والأسلوب على حد سواء.» (أبوعليوي ، ١٩٨٦ م: ٢/٥٨٢)

إنّ الشريف الرضي في قصائده الرثائية لم يفرق بين الأفراد من حيث المنزلة السياسية والاجتماعية بل تزداد مراثي الرضي حرارة وحزنا عميقا على قدرعلاقته بالميت والتصاقه بموّدته وصداقته ، كما نراه يرثي أبا إسحاق الصابي رغم الاختلاف الديني بينهما، بأبلغ الرثاء ولم يأبه لنقد الناقدين؛ لأنّ الصابي من أصدقائه المخلصين وهوالذي طالما أثار في نفس الشريف الطماح نحو المجد والخلافة وجعله يرمي ببصره نحو آفاق سامية ولذلك رثاه الرضي لما توفي ببغداد عام ٣٨٤ ق، كما رثى أباه بأسلوب حزين ثائر، بقصيدته المشهورة التي أولها ، قوله (الشريف الرضي، ١٣٠٧ ش : ١/٢٩٤):

أعَلِمتَ مَن حَمَلُوا على الأعوَأدِ ***** أرَأَيتَ كَيَفَ خَبَا ضِياءُ النَادِي

لم يكن الرثاء عند الشريف الرضي مقتصراً على الرجال المرموقين البارزين ، بل كان يرثي حتى المغمورين من أصدقائه ممن لم يشغلوا مناصب هامة. كما نلاحظ رثاءه لصديقه البدوي أبي العوّام في سنة ٣٩٣ق بقصيدة، هذا مطلعها(الشريف الرضي، ١٣٠٧ ش: ١/١٨٢) :

أُدارِي المُقلَتَينِ عَن ابنِ لَيلَى ***** ويأبى دَمعُها إِلّا لجِاجَا

إنَ ديوان الرضي مشحونٌ بقصائد الرثاء وكان الشاعر معروفا بالرثاء واشتهاره بالرثاء أكثر من كل أغراضه الشعرية بحيث نستطيع أن نقول إنّه شاعر الرثاء بلا منازع، يقول عنه ابن أبي الحديد في مقدمة نهج البلاغة : «وإن قصد في المراثي جاء سابقاً والشعراء منقطع أنفاسها على إثره.»(ابن أبي الحديد ، ١٩٦٥ م : ١/١٥)

ولقد كان الرضي «في علاقاته الاجتماعية وفياً إلى أبعد الحدود وهذا ما يفسر إلحاحه الشديد في رثاء أقاربه وأصدقائه، ولم يكن يقنع في رثاء من يحبّهم بقصيدة واحدة – كما جرى العرف بين الشعراء – ولكنه بكى الكثيرين منهم بحرارة وعاطفة جياشة بأكثر من قصيدة ، كما فعل في رثاء ابن ليلى صديقه البدوي ، ولا طائع العباسي ، وأبي إسحاق الصابي، والحمداني، وبهاء الدولة وغيرهم من أصدقائه.» (أبوعليوي، ١٩٨٦م: ٢/٤١٦)

لقد وجد الشريف الرضي في الرثاء متنفساً لِآلامه وأحزانه وإخفاقه في تحقيق طموحه في الحياة ، يضاف إلى ذلك وفاؤه للذين يرثيهم حتى بعد موتهم وإلحاحه في الحسرة على فقدهم ، كما يضاف إليه منهجه الجديد في رثائه للحسين بن علي (ع) الذي كان يفتخر به وبأهل بيته ويذكر قبورهم ويتشوق إليها.

هذه العوامل النفسية كلّها دفعت الرضي إلى الإجادة والإكثار في هذا الفن وامتزج بمأساة الموت، واستحقّ أن يسمّى : "النائحة الثكلى". (الصفدي ، ١٩٩١م: ٣٧٤)

إنَّ مراثي الرضي – مثل مدائحه – متعددة الأغراض ، فالمرثية تتألف من عدة فنون أبرزها : الوصف ، والشكوى ، والفخر، والحكمة، فضلاً عن الأبيات المفردة, ويلاحظ أنّ مراثي الشريف كلما كانت متعلقة بشخص شديد الصلة به ، كأبيه وأمه ، كلما زادت أبيات الفخر فيها، والملاحظة البارزة أيضا أن الرضي يتفلسف في مرثيته واعظاً ناصحاً، مفتتحاً بعض القصائد الرثائية بخواطر الموت وحتميته وعدم الجدوى من البكاء. (أبوعليوي ، ١٩٨٦ م: ٢/٤٣٢)

والرثاء عنده ليس على نسق واحد، فهو يتفاوت بتفاوت الذين يرثيهم قرباً أوبعداً من نفسه كما يتفاوت عدد الأبيات .

مثلا في رثائه لوالدته كان يرثيها ثم يجىء بعد رثائها بالفخر ، حيث إنّه في سنة ٣٨٥ق رثى والدته فاطمة بنت الناصر بقصيدة مطلعها (الشريف الرضي ، ١٣ ٠٧ ش: ١/١٨):

أَبكِيكِ لَو نَقَعَ الغَليلُ بُكَائِي ***** وَأَقولُ لَو ذّهَبَ المَقالُ بِدَائِي

«فتقع في ثمانية وستين بيتاً تتوزّع على النحو التالي : ٣١ رثاء، ٢١ وصف، ٩شكوى، ٦ فخر، ١ ذم الزمان.» (أبوعليوي ، ١٩٨٦ م : ٢/٤٣١)

ثم يفتخر بوالدته وبآبائها ويعدّ فضائلهم الأخلاقية وأفعالهم البارزة وأنّهم كانوا قد بلغوا غاية المجد ، والفضل، والشرف ولا يدانيهم أحدهم في النعمة والجود (الشريف الرضي ، ١٣٠٧ ش : ١/٢٠):

آباؤُكِ الغُرُّ الذينَ تَفَجّرت ***** بهِم ينابِيعُ مِن النَّعَمَاءِ

يرثي الشاعر في هذه القصيدة والدته أوَّلاً ثم يفتخر بآبائها. وأما بالنسبة إلى الآخرين فالحال يختلف ، فإذا كان المتوفي مثلاً من أصدقائه أو من الكبار فإنّه يرثيهم أولاً ثم يقوم بوصفهم ، كما يرثي أبا طاهر إبراهيم بن ناصر الدولة الحمداني في سنة ٣٨٢ ق بقصيدة مطلعها (المصدر نفسه : ١/٧٨):

أَلقِي السِّلاحَ رَبِيعَةَ بنَ نِزار***** أَودَى الرَّدَى بِقَريعِكَ المِغوَارِ

«فتتالف من تسعة وخمسين بيتاً تتوزّع على : ٣٣ رثاء، ٢٢ وصف ، ٣ شكوى، ١ مفرد.» (أبوعليوي، ١٩٨٦ م : ٢/٤٣٠) فتكلم عن شجاعته في ساحات القتال وقال إنّ ساحات القتال لا ترى بديله أبداً. ثمّ قام بوصفه بعد أبياته الرثائية وتكلم عن شجاعته وبطول باعه في معارك الحرب (الشريف الرضي ، ١٣٠٧ ش : ١/٣٧٩) :

مِن مَعَشرٍ غُلبِ الرِّقابِ جَحَاجِح ***** غَلَبُوا على الأقدَار والأَخطَارِ

ونستطيع أن نقول إنّ مراثي الشريف الرضي في أهل البيت (ع) وأسرته تبدأ أولاً بالرثاء ثم الفخر قصائده الرثائية في أصدقائه الكبار والعلماء والآخرين يكون أولاً الرثاء ثم الوصف.

إنَّ الموت عند الرضي حقٌ وهو يعلم أنّ الطريق الوحيدة التي تُهوِّنُ على الإنسان فقد الأحبة هي أن يعلم الإنسان وبكل إيمان أن الأرواح والأجسام ليست غير أمانة وعارية عند الإنسان. (المصدر نفسه : ١/٢٩٢):

نَعُضُّ على الَموتِ الأنامِلَ حَسرَةً ***** وَإِن كانَ لا يغني غِناءً ولا يجدِي

وَهَل ينفَعُ المَكلُومَ عَضُّ بَنانِهِ ***** ولَومَاتَ مِن غَيظ على الأسَدِ الوَردِ

عُوارٍ مِنَ الدُّنيا يهَوِّنُ فَقدَهَا ***** تَيقُّنُنَا أنَّ العوَارِي لِلرَدِّ

وهو في شعره الرثائي «لا يتعمد الرثاء ككثير من الشعراء إلى العبرة بالدهر والماضي وطلب العزاء وذكر مناقب المرثي ، وإنما يشعرك في أول قصيدة بمصابه هو، وتلتحم المعاني التحاما ، فانت حقّا تستمع إلى النائحة الثكلى .» (محمد حلو، ١٩٨٦ م : ٢/٢٣٢)

إنّ من أهم دواعي الحزن والمأساة عند الرضي هو استضراء الفساد الخلقي ، والتفكك الاجتماعي ، وانتشار الفتن بلحمة المجتمع «ولذا يعكس ببراعة تامة ما كان عليه المجتمع من الغدر ، وعدم الالتزام بالعهود ، والانحطاط، والدناءة ، وما كانت تنطوي عليه ضمائرهم من أضغانٍ وسخائمٍ.» (عزيز ، ١٩٥٨ م : ٤٤)

لأي حَبِيبٍ يحسُنُ الرَأي والوُدُّ ***** وَأَكثَرُ هذا الناسِ لَيسَ لَهُ عَهدُ

أَرَى ذَمِّي الأيامَ مَا لا يضُرُّهَا ***** فَهَل دَأفعٌ عَنِّي نَوَائبِها الحَمدُ

مَا هَذِهِ الدُّنيا لَنَا بِمُطيعَةٍ ***** وَلَيسَ الخَلقُ مِن مُدارَاتِها بُدُّ

(الشريف الرضي، ١٣٠٧ ش : ١/٢٥٨)

الجانب الآخر من رثاء الرضي هو إنّه يستخدم في قصائده الرثائية، الحكمةَ، والوصفَ ، والهجاءَ ، والفخرَ في رثائه ويكوّن قصيدة مزيجة من الفنون المختلفة ، مثل الشريف الرضي في هذا المجال مثل الصيدلي يحسن تركيب الدواء، فهو شخصٌ مسؤولٌ يركّب الدواء بالمقادير معينة ومحدّدة يؤخذ بعضها بالقطارة وبعضها بالميزان ، وهو يعلم أنّ الدواء لو نقص منه جزء أو زيد عليه جزء لأصبح ضاراً أوغير مفيد.» (زكي مبارك ، ١٩٣٨ م : ١/٢١٢)

إنّ كتب التاريخ ، والسّير ، والادب من عصر الرضي إلى العصر الحاضر متفقةٌ على أنّه شيعي إمامي، من أسرة شيعية إمامية ،ولا غبار على معتقده إطلاقاً، ولكنَّ بعض المؤلفين رماه بالزيدية والاعتزال لكي يبرّر طلبه للخلافة . (عبد الرزاق محي الدين ، ١٩٧٧ م : ٧٥)

يقول الدكتور زكي مبارك : « مثل الشريف بين أهل التشيع كمثل الجاحظ بين أهل الاعتزال ، فالجاحظُ لا يدرك مراميه غير الخواص ، كذلك الشريف لا يدرك مراميه غير الخواص.» (زكي مبارك ، ١٩٣٨ م : ١/٢١٢)

وله في بكاء الإمام الحسين (ع) خمس قصائد طوال جميلة «الأولى رائية نظمها سنة ٣٧٧/٩٨٧ والثانية لامية قالها سنة ٣٨٧/٩٩٧، والثالثة هائية نظمها سنة ٣٩١/١٠٠٠، والرابعة دالية قالها سنة ٣٩٥/١٠٠٤، والخامسة مقصورة لم يذكر لها تأريخ ،ويقال : إنّها آخر ما قاله من الشعر ، وإنّها ربّما كانت منحولة.» (أبوعليوي، ١٩٨٦ م : ٢/٤٢١)

والتشكيك في نسبتها يأتي : من أنّها لينة لا تشبه شعره. (عبد الفتاح الحلو، ١٤٠٦ ق : ١/١٧٠)

إنّ الشريف في أبياته في رثاء جده سيد الشهداء (ع) يتخذ موقفاً سياسياً ويعرج على بني أمية ، مهدداً متوعداً بيوم عظيم، «فالمهدي المنتظر (ع)» موتور، شاهراً سيفه في أقاصي الأرض . وأسلوب الرضي هنا رمزية ؛ إذ عبر عمن يخالف العلويين الخلافة بالأموية ، سواء كان بويهيا أم عباسيا ( الشريف الرضي ، ١٣٠٧ ش : ١/٣٧٧):

بني أُمَيةَ ما الأَسيافُ نائِمَةٌ ***** عَن شَاهِرٍ في أَقاصِي الأَرضِ مَوتُورِ

المعاني المطروحة في قصائد الشريف الرضي الرثائية

١. الشكر : من المعاني الرثائية المطروحة في شعر الشريف الرضي إنّه كان يعادي ، ويصادق ، ويعي حقوق الأصدقاء كاملاً ويعاملهم أحسن معاملة، ويحفظ كرامة الصديق في حضوره وغيبته (الشريف الرضي، ١٣٠٧ ش : ٢/٥٦١):

أنا مَولَى العِدَى وإِن ***** كنُتُ عَبدَ الأَصادِقِ

كما يلاحظ هذا الإيفاد والاحتفاظ في حق صديقه أبي إسحاق الصابي ويبقى الشريف يذكر صديقه بأحقّ الذكر ولمّا مات الصابي رثاه أكثر من مرة، مع ماكان بينهما مراتب من الاختلاف في العقيدة ؛ لأنّه لم يكن مسلماً وكان يدين بدين الصابئة (كحالة ، ١٣٧٢ ش : ١/١٢٤؛ التونكي ، ١٣٤٤ ق : ٤/٤٦٧) وكان كلما رثّاه نصّ على قلمه وبلاغته (الشريف الرضي ، ١٣٠٧ ش : ١/٢٩٦) :

ثَكَلَتكَ أرضٌ لمَ تَلِد لَكَ ثانِياً ***** أَنَّى ومِثلُك مُعوِزُ المِيلادِ

مَن لِلبَلاغَةِ والفَصَاحَةِ إِن هَمَى ***** ذاكَ الغَمامُ وعَبَّ ذاكَ الوَادِي

وتستمرّ هذه الرابطة ويدلّ على عمق هذه الرابطة بالمشاعر النابضة وحين يمرّ بعد عشر سنوات على قبر صديقه ، ولا شك أنّه دارس فتثير فيه عهود الصداقة العواطف التي تفيض بداهة، وما أحلى ما ينشدُ (المصدر نفسه : ٢/٥٧١) :

لَولا يذَمُّ الرَكُب عِندَكَ مَوقِفي ***** حَييتُ قَبركَ يا أبا إسحَاقِ

كَيفَ اشتِياقُكَ مُذ نَأَيتَ إلى أخ ***** قَلَقِ الضَمِيرِ إِليكَ بِالأشوَاقِ

أَمضَى وتعطِفُني إِليكَ نَوَازِعٌ ***** بِتَنَفُسٍ كَتَنَفُسِ العُشاقِ

ولا يفوتنا بأنّ اهتمام الرضي بمدح ابن جنّي ورثائه موصول الأواصر بحياته الأدبية فقد كان ابن جني ، استاذ الرضي شرح قصيدته الرئعة في رثاء إبراهيم بن ناصر الدولة الحمداني ، وهذا مطلعها (المصدر نفسه : ١/٣٧٨) :

ألقِي السِّلاحَ رَبِيعَةَ بنَ نِزارِ***** أَودَى الرَّدَى بِقَريعِكَ المِغوَارِ

وتَرَجَّلّي عَن كُلِّ أَجرَدَ سَابِحٍ ***** مِيلَ الرِّقَابِ نَوَاكِسَ الأبصَارِ

إن الشريف الرضي قد مدح ابن جني ورثّاه؛ لأنّه شرح إحدى قصائده في الرثاء وكذلك فعل مع الصاحب بن عباد ، فقد بلّغه أنّ شيئاً من شعره وقع إليه فأعجب به وأنفذ إلى بغداد لاستنساخ سائر شعره فلما بلّغه ذلك أخذ منه الطرب كل مأخذ ، ومدح الصاحب بن عباد بقصيدة بارعة ولكنّه أخفاها منه خوفاً من طلب العطاء به (الشريف الرضي، ١٣٠٧ ش : ١/٢٢٥) :

بَينيِ وبَينَكَ حُرمَتَانِ تَلاقَتَا ***** نَثرِى الذي بِكَ يقتَدِي وقَصيدِي

إِن أُهدِ أَشعَارِي إِليكَ فَإِنَّهُ ***** كَالسردِ أُعَرِضُهُ على دَاوُدِ

والرضي يقتدي به في شعره ونثره فبينهما صلات الأدب ، فإذا أهدى عليه أشعاره فأنه يعرض السّرد على داود.

٢. الالتزام بالتشيع : يزخر ديوان الشريف بقصائد الرثاء وإلى جانب رثائه في الأصدقاء والأحباء، ظهرت قصائده الرثائية تفيض بالعواطف والمشاعر الجياشة ، وقدّم قصائد رائعة في رثاء الإمام الحسين (ع) : تلك المراثي القليلة التي تجعل الشريف الرضي تبرز بين معاصريه وشعراء الشيعة.

وعندما ننظر إلى هذه القصائد نرى فيها طبيعة التفكر الشيعي (المصدر نفسه : ١٣٣) :

كَربَلا لازِلِت كَرباً وبَلا ***** مَالَقِي عِندَكَ آلُ الُمصطَفى

كَم على تُربِكَ لَما صُرِّعُوا*****مِن دَم سَالَ ومِن دَمعٍ جَرَى

فالشريف الرضي شاعرٌ شيعي ملتزمٌ مؤمنٌ بمذهب آل البيت (ع) ويعمل على نشر فضائلهم ويتألم لآلامهم ، ولكنّ ذلك لا يمنعه من احترام الآخرين وتجليلهم وينشد عن "الغدير" (المصدر نفسه : ١/٣٣٠) :

غَدَرَ السُرُورُ بِنَا ووَفاؤُهُ يومَ الغَدِير***** يومَ اَطَافَ بِهِ الوَصِي وقَد تَلَقَّبَ بالأَمِيرِ

وفي موضع آخر نجده يمدح الفاطميين رغم أنه كان يعيشُ في دولة العباسيين. (المصدر نفسه : ١/٢٣٨)

ولعله يكون صحيحاً ما قيل «إنَّ اهتمامه بشرح خصائص البلاغة القرآنية والبلاغة النبوية هو دحضٌ للمفتريات التي وجّهت إلى التشيع والتي ادّعت أنّ الشيعة لا يهتمون بالقرآن والحديث.» (زكي مبارك، ١٩٣٨ م : ١/٢١٢)

 ومن هنا نفهم أنّ الشريف الرضي كان معلماً عظيماً وكان من الساهرين على رعاية الوحدة الاسلامية.

يقول الدكتور عبد اللطيف عمران : «إنّ الشريف الرضي موضوعي في تشيعه، بعيدٌ عن الفتن والميول الذاتية ، إنّه مسلمٌ في الدرجة الأولى ، يرى في الرسول (ع) أوّل عظماء المسلمين وأفضلهم ويرى في عليّ (ع) الرجل الثاني وهذه الموضوعية لم تصرفه عن مدح أو رثاء بعض خلفاء بني العباس كمدح الخليفة الطائع ورثائه.» (عمران ، لاتا : ٢٣٩) إنّ الشريف الرضي في سبيل تشيعه يهجو بني أمية ويقول: «إنّ الخلافة أصبحت بعيدة عن الشعب منعزلة عن الناس والمجتمع قد استولى على منابرها الأمويون.» (نور الدين ، ١٤١١ ق : ١٤٠)

كما نرى هذا المعنى في أشعاره في رثاء الإمام الحسين (ع) (الشريف الرضي، ١٣٠٧ ش : ١/٢٨٠) :

إنَّ الخلَافَة أَصبحَت مَزوِيةً *****عَن شَعبِهَا بِبَياضِهَا وسَوَادِهَا

طَمَّسَت مَنابِرَهَا عُلُوجُ أُميةِ ***** تَترُوا ذِئابهمُ على أَعوَادِهَا

٣. تعداد خصال الفقيد وصفاته : رثّى الرضي عمر بن عبد العزيز من ملوك بني أمية ؛ لأنه تفرّد بالصلاح ، والعدل ، وجميل السيرة من أهل بيته ، كما أثنى على رفقه بأهل البيت (ع) وأشار إلى منعه لتلك العادة التي درجت في عهد الأمويين، وهي سبّ الإمام علي بن أبي طالب (ع) على المنابر ، بقوله (المصدر نفسه : ١/١٦٩) :

يا ابنَ عَبدِ العَزيز لَو بَكَتِ العَيـ ***** ـنُ فَتَى مِن أُمَيةٍ لَبَكيتُك

أَنتَ نَزَهتَنا عَن السَبِّ والقَذ ***** فِ، فَلَو أَمكَنَ الجَزَاءُ جَزيتُك

رثى الرضي أبا علي الحسن بن أحمد الفارسي النحوي وأشاد فيها بقوة الفارسي في مقارعة الخصوم. وفي مرثيته لشريف الدولة البويهي المتوفى سنة ٣٧٩ ق ذكر الشريف في رثائه مجده عليه وعلى أبيه (المصدر نفسه : ٢/٨٤١) :

أَعَادَ عِزَّ أبي غَضّاً وخَوَّلَهُ ***** مَا شَاءَ مِن بَذلِ إِعزَازٍ وإِكرَامِ

وفي رثائه لصديقه أبي منصور المرزبان الكاتب الشيرازي توقف الرضي عند أيام الصداقة وحنَّ إلى المجالس الأدبية الرائعة (المصدر نفسه : ١/١٢٤) :

كَم مَجلِسٍ صَبَّحَتهُ ألسُنُنا ***** تَفُضُّ فِيهِ لَطائِمَ الأَدبِ

وبموته غاض غديرالكلام وهوى علم المجد وكان قرينه ونسيبه (المصدر نفسه : ١/١٢٤) :

كُنت قَرِيني ولَستَ مِن لِدَتي ***** كُنتَ نَسِيبي ولَستَ مِن نَسَبي

وفي مراثيه الثلاثة لصديقه الكبير أبي إسحاق الصابي، شبّهه بالمرثية الأولى بالطود الشامخ ، وبالضياء المنير (المصدر نفسه : ١/٢٩٤) :

أعَلِمتَ مَن حَمَلُوا على الأَعوادِ ***** أَرَأَيتَ كيفَ خَبَا ضِياءُ النَّادِي

وفي مرثيته لأمّه عدّد الرضي لنا صفاتها ومناقبها فهي : عفيفة زاهدة مؤمنة ، اشترت رغد الجنان بعيشة خشناء، فهي أمّ بارّة ، فضلها خالد ومعروفها لا يقدّر (المصدر نفسه : ١/١٩) :

لَو كَانَ مِثلُكِ كُلُّ أُم بَرَةٍ ***** غَني البَنونُ بِهَا عَنِ الآبَاءِ

كيفَ السّلو وكُلُّ مَوقع لحَظَةِ ***** أَثَرٌ لِفَضلِكِ خَالِدٌ بِإِزَائِي

إنّها نجيبة ولدت النجباء، وآثار أيديها البيضاء تظهر في الضيق والأزمات ثم مدح آباءها وافتخر بهم.

وفي مراثيه لوالده عدّد الرضي مناقبه ، فقد مضى الموسوي نقي الثوب والعود ، فقد أغمد المهنّد في الثرى بعد أن ملأت فضائله البلاد (المصدر نفسه : ٢/٧٣٩) :

حَمَلَ العَظَائمَ والمَغَارِمَ ناهِضاً ***** ومَضَى على وَضَحِ الطَرِيقِ الأقوَمِ

ثم مدح فضله وأعماله المجيدة وافتخر به فكان يرتجى في الملمّات لِرأب الصّدع ، فهو الطاهر بن الطاهر يصل إلى جذم النبوّة ، كما افتخر بآبائه ومكانتهم ، وبلغ الفخر مداه بقوله (المصدر نفسه : ٢/٧٤١) :

لا تَحسَبنَّ جَدَثاً طَوَاهُ ضَرِيحُهُ ***** قبراً ، فَذَاكَ مَغارُ بَعضِ الأَنجُمِ

٤. التعزية والمواساة : «لجأ الرضي في معظم مراثيه إلى تعزية ذوي الفقيد ، وأقاربه ، وأُصدقائه ، ومواساتهم ، متسائلاً عن مصير القرون والعظماء.

ففي تعزيته للخليفة الطائع عن ابنه أبي الفتح ، دعاه إلى الصبر والسلوى؛ لأنَّ الابن يمكن أن نجىء بمثله، بينما الخسارة الحقيقية هي خسارة الآباء.» (أبوعليوي ، ١٩٨٦ م : ٢/٤٤٧)

ويعتقد الشريف الرضي بأنّ العزاء الحسن يكون بحسن استخدام العقل (الشريف الرضي، ١٣٠٧ ش : ٢/٦٦٣) :

إذا لم يكُن عَقلُ الفَتَى عَونَ صَبرهِ ***** فَلَيسَ إلى حُسنِ العَزاءِ سَبِيلُ

لعلَّ الشريف الرضي بهذا البيت يشير إلى تأثره بلامية السموأل بن عادياء المشهورة "إنّ الكرام قليلُ" وهو شاعرٌ يهودي عاش في العصر الجاهلي.

وفي مرثيته للصاحب بن عباد ، تساءل الرضي فيها كيف طوى الموت الأمم الغابرة، والملوك ، والسّادة من نِزار، ويمن ، وبني المنذر ، والفرس, كذلك في مرثيته لأستاذه ابن جنّي ، فقد شكا من الفناء، ومضى مكثراً من تسائله «أينَ» ؟ مثل قوله (المصدر نفسه : ٢/٥٦٣) :

فَاَينَ المُلُوكُ الأَقدَمُونَ تَسَانَدُوا ***** إلى جِذمِ أَحسَابِ كِرامِ المَعَارِقِ

هكذا ساقَ الرضي الحكمةَ والموعظة وأورد الحجج المنطقية ليدخل العزاء والسلوان إلى قلوب المفجوعين بموت أحبتهم وأعزّتهم.

٥. فداء الرّاحل وتحدّي الموت : كثيراً ما يتمنى الشريف الرضي دفع الموت في مرثياته وفداء الرّاحل أو الراحلة بنفسه ، أو بفتيانه المدجّجين والمجرّبين في الحروب وساحات الوغى ـ فكأنّه يتصدى الموت بقسوته.

ونرى هذا المعنى في رثاء صديقه أبي إسحاق الصابي ويكرر نفسه في رثاء أمه ، فتمنى لو كانت تفدى، إذن لفداها بالفتيان المدرّبين على القتال ، كما تمنّى أن يفديها بنفسه. وفي مرثيته لصديقه عبد العزيز بن يوسف الحكّار افتتحها بقوله (المصدر نفسه : ١/٤٧٩) :

لَو كَانَ يرتَدِعُ القَضَاءُ بُمردعٍ ***** أو ينثَني بمُدَجَّجٍ ومُقَنَّعِ

فقد جاءَ بالمعنى الذي استغلّه كثيراً من قبل، وهو تمنّية أن يفدى الرّاحل، إذن لدافع عنه بالفرسان المدجّجين بالسِّلاح.

٦. الموت  حتميته في شعر الشريف الرثائي : كفاكم قول الشريف بأنّ الموت لا محالة قادمٌ ، وكلّنا سنموت؛ وليس هناك تفضّل مُثرٍ على فقيرٍ، ولكلّ واحد منّا عند الموت كفنٌ واحدٌ ، وبذلك لا يظلم الموت أحداً :

ألا يا مَوتُ لم أرَ مِنكَ بُدّاً ***** أَتَيتَ، وَمَا تَحِيفُ ومَا تُحَابي

«ترتبطُ أفكار الرضي عن الزمن مأساويته ارتباطاً قوياً بأفكاره عن الموت، بل إنّ الشاعر المرهف الحساس والمبدع يرى في الموت السبب الأوّل لاغترابه الروحي يتحدث عن الموت.» (عزيز ، ١٩٨٥ م : ٣٥)

الموت حتمي على كلّ نفس، فهو يغز وبجيشه كلّ يوم، ولا يرضى بالفداء، أو بالأسرى والسَّبايا (الشريف الرضي، ١٣٠٧ش : ٢/٩٧٣) :

مُغِيرٌ لايفادَى بِالأَسَارَى ***** وسَابٍ لا يُمنُّ على السَّبايا

كثيراً ما يدعو الرضي إلى النّفور من الدنيا وتركها، وعدم التّعلق بأثوابها وزخرفها ، فهو يراها امرأةً كثيرةَ الأزواج (المصدر نفسه : ١/١٨٦) :

إنِّي إذا حَلَبَ البَخِيلُ لُبَانَهَا ***** أُمسِيتُ أَحلِبُهَا دَمَ الأَودَاجِ

خَطَبَتنىي الدُّنيا فَقُلتٌ لَهَا ارجِعِي ***** إِنّي أَرَاكِ كَثِيرةَ الأَزوَأجِ

كما يبدأ مراثيه بخواطر فلسفية وحكمية حول حتمية الموت وقسوته، والشكوى من صروف الدَّهر، وعدم جدوى البكاء والعويل كما في مرثيته لعمر بن إسحاق بن المقتدر المتوفي سنة ٣٧٧ق (المصدر نفسه : ٢/٦٦١) :

أَيرجِعُ مَيتاً رَنَّهٌ وعَوِيلُ ***** ويشفي بِأَسرَابِ الدُّمُوعِ غَلِيلُ

حيث تحدّث بإطناب عن مصير الإنسان فالعمر قصير ولن ينال الفتى في العيش فوق عمره كما أنّ الفناء غاية الناس جميعاً. إنّ الشريف الرضي نثر شيئاً من فلسفته حول الموت وحتميته ، وبطشه، وقسوته في رثائه لأبي طاهر إبراهيم بن ناصر الدولة الحمداني المتوفي سنة ٣٨٢ ق كقوله (المصدر نفسه : ١/٢٨٣) :

تَقُوزُ بِنَا الَمنُونُ وتَستَبِدُّ ***** ويأخُذُهَا الزَمَانُ ولا يردُّ

هكذا يبدو لنا الشريف الرضي في مراثيه حكيماً واعظاً أمام مأساة الموت.

٧. الدعاء بالاستسقاء لقبر المرثى : من سنن العرب المألوفة دعاؤهم لقبر الميت بالاستسقاء بعد أن يدفن في القبر، منها قول متمم بن النُوَيرة في رثاء أخيه مالك (البستاني، ١٩٨٦ م : ٢/٦٥) :

سَقَى اللهُ أرضاً حَلَّها قَبرُ مَالِكِ ***** رَهَامَ الغَوادِي المُزجَياتِ، فأَمرَعَا

يقول : سقى الله تربة مالك بديم السّحب الغوادي فتخصب تربته. في هذا المجال تأثر الرضي بتقاليد القصيدة الجاهلية ودعا بسقيا لقبر الميت على طريقة الجاهليين في مراثيهم فكان تقليدياً في هذه الناحية وسار على منوالهم ، كما يقول في قصيدة يعزي أخاه عن ابنة له توفيت، منها (الشريف الرضي، ١٣٠٧ ش : ١/١٢٧) :

أَرَابَ من يومكَ مَا أَرَابا ***** لازِلتُ أَستَقِي لَكَ السَّحَابَا

كُلّ أَغَرٍّ يدِقُ الذِّهَابَا ***** مُجَرِّرَاً على الرُّبَى أهدَابَا

يوم وفاتك ألقى ريباً عظيماً في قلوبنا وأنا لا أزالُ أدعو وأتمنى من السُّحُب الممطرة أَن تَسقِي ترابك ، ثم شبّه الشريف الرضي هذه السُّحُب الممتلئة بالماء، بالنساء الحبليات اللاتي يجررن أَهدَاب ملابسهن على الأرض لشدة امتلائها بماء المطر.

٨. الشكوى من الزمان : «إنّ الشريف الرضي يرى الدّنيا بعين الرجل المثقف ، المثقف الشريف ، لا المثقف الصعلوك.»(زكي مبارك، ١٩٣٨ م : ١/٤٩)

ولذلك نراه يبين أنّ الدّهر والزمان ليسا ملامين على موت الإنسان ، بل مكلفّان من جانب ربّهما القدير والجليل لأداء واجبهما وهو الموت (المصدر نفسه : ١/١٢٥) :

لا لَومَ لِلدَّهرِ ولا عِتَابَا ***** تَغَابَ إنَّ الجَلدَ مَن تَغابى

صَبراً على الضَّراءِ واحتِسَابا ***** أَصبَرُنا أَعظَمُنا ثَوَابا

ويتحدثُ عن الصبر والتغافل عبر هذه الفاجعة ويرينا انصباب الدموع وغليان الغم في القلوب لأجل الفقيد والميت ؛ وحال كون الدّهر يقوم بعمله ولا يرجع المرثّى بالبكاء والعويل. كما يقول في موضعٍ آخر في القصيدة (المصدر نفسه : ١/١٢٧) :

وإن لِبِستَ للبِلَى جِلبَابَا ***** أرى البكاءَ سَفَهاً وعَابا

لا تَجعَلَنُه دَيدَناً ودَابَا ***** وافَقَ مِنّا أجَلٌ كِتابَا

«لم يقتصر الرضي في بثّ شكواه وذم زمانه على القصائد المستقلّة، بل ظهرت الشكوى في قصائد ذات أغراض متنوعة، فكثيراً ما يذُمُّ زمانه ويتحدّثُ عن قلّة الحظّ وعن خيبة الآمال ويغتنم فرصة مدح سلطانٍ أو خليفة أو رثاء ميتٍ من أسرته لِيشير إلى أنّه لم يعط ما هو أهلٌ له وأنَّ الأيام قد ظلمته واحداث الدّهر وقفت في وجه طموحاته.»(عمران ، لاتا : ٢٠٧)

إنّ من عادات الدّهر في مخيلة الرضي الغارةُ والشَنُّ حين يترصد الإنسان لِيغيرَ عليه ويجذبه في فرصة ملائمة ومناسبة من حيث لا يفهم ، مشيراً إلى هذا المضمون في شعره (الشريف الرضي، ١٣٠٧ ش : ١/١٢٨) :

وَقَد شَنَّ فِيهَا حَادِثُ الَموتِ غَارَةً ***** ثَنَتنا ولمَ تُطلِع إِلَينا كَتائِبَا

يتحدثُ الشريف الرضي في كل موضعٍ من أشعاره عن صفة ملائمة للدّهر على حسب مقتضى الحال والمقام ، كما يتصف الدّهر بصفات مختلفة تارةً كـ"الدَّهر الغَلَّاب" (المصدر نفسه : ١/١٢٥) :

أَمضَى الزَّمانُ حُكمَهُ غَلاَّبَا ***** أَصَابَنا وطَالَ مَا أَصَابَا

يشبّه الشريف الرضي في هذا المجال الدّهر الغلاب بالحاكم الذي يجري ويمضي حكم الموت فينا ويصيبنا بالفاجعة وما يكون أطول هذه الفاجعة بالنسبة إلينا. وتارةً يسمّيه "الدَّهر الغَالِب" ويقول عندما يفاجئنا ويهجم علينا الموت لا يدفعه البوّابون والحُجاب (المصدر نفسه : ١/١١١) :

كَذّا يهجُمُ القَدَرُ الغَالِبُ ***** وَلَايمنَعُ البَابُ والحَاجِبُ

وفي موضع آخر يصفه بِـ"الدّهر الخَؤُون" من خلال ديوانه (المصدر نفسه : ١/ ١١٨) :

لززنا من الدهر الخؤون  بِمَصدَمِ ***** يحَطِّمُ أَشلَاءَ القَرِينِ الُمجَاذِبِ

إنّ هذه الصفات كلّها تظهر سمة من سمات الدّهر لشكواه وانزجاره منه، ليشكوا ممّا في باطنه من أحداث الزّمان وموج الهموم. إنَّ الدّهر عند الرضي من المعنويات المجردّة، والرضي يجسّمه إنساناً في عالم الواقع ويصفة الخؤون. لقد حاء الرضي بهذا الوصف ليؤكد على تصويره في ذهن المتلقي، ثمّ يصوّر له قدرة الكفاح على رقيبه ، ولا يبقى قريناً إلا يحطّم أعضاءه وجوارحه في هذا الكفاح.

النتيجة

- لقد اتّضح أنّ الشريف الرضي كان شاعراً مجيداً مكثراً بارعاً فقيهاً مبدعاً تميز شعره بجودة الألفاظ ، وحسن الصياغة والديباجة، والخُلُو من عيوب التعبير أو ساقطات اللغة ، متفوقاً بذلك على معاصريه أمثال المتنبي وغيره. وقد أجاد في كل قصائده خاصةُ رثائياته في الإمام الحسين بن علي (ع)؛ وقد حذا حذوه فيها كثير من الشعراء لا سيّما شعراء الشيعة الذين يتفجعون على مقتل الإمام الحسين (ع) حيث كانوا يحفظون أشعاره وينشدونها.

- إنّ مراثيه تنقسم بشكل عام إلى قسمين : رثاء أسرته وأهل بيته ، ورثاء الأصدقاء، والملوك ، والأعيان. وهو في رثائه لأسرته وأهل بيته ، يبتدأ برثاء أبيه ، وأمه ، وأهل البيت (ع) ثم يتطرق إلى الفخر بهم ؛ أمّا في قصائده الرثاية للأصدقاء ، والملوك ، والأعيان أوّلاً يرثيهم ثم يقوم بوصفهم.

- عندما ننظر إلى أشعار الشريف الرضي من الناحية الفخرية والرثائية نراها تفوح منها الرائحة السياسية غالباً، وأنّ أشعاره لم تكن للتكسب بل وسيلة إلى أغراضه السياسية لا سيما في مرثياته عندما كان يعبّر عمن يخالف العلويين بالأموية ويتخذ موقفاً سياسياً إزاء هذه القضية ويغير على بني أمية بأسلوبٍ رمزي ، يدعوهم غاصبي الخلافة .

- إنّ الرضي هو شاعر الرثاء الذي وجد في الرثاء طريقاً أفضل للوصول إلى هدفه ، وقد أعانته على ذلك عبقريته الفذّة ، وما أصابه من الآلام والمصائب بسبب فقدان أعزائه وأصدقائه، ورثاؤه يحتوي على فنون أخرى من الفخر، والوصف ، وغيره بحيث يمكن القول إنه بقصائده الرثائية ينظم أشعارً كاملة.

- إنّ رثاء الرضي ليس على نسق واحد ، فهو يتفاوت بتفاوت الذين يرثيهم قرباً أو بعداً من نفسه، كما أنّ أساليبه في الرثاء كانت كذلك. لعلّ أكبر عنصر متغير في مراثيه هو ملائمة المرثية لمقتضى الحال أي إنّه يراعة ما يلائم شخصية المرثى من أوصاف وحدود ، سواء كان الراحل فارساً أو كاتباً أو شيخاً نحوياً، رجلاً كان أو امرأةً، حضرياً أو بدوياً.

- لم يكن الرضي يلتمس الشهرة من رثاء الرجال المرموقين البارزين ، بل كان يرثي حتى المغمورين من أصدقائه ممّن لم يشغلوا مناصب هامة. وتتجلّى الشجاعة في رثائه لأشخاص غضبت عليهم السياسة وانقلب الناس ضدهم ، بينما بقى الرضي على وفائه وإخلاصه لهم كرثائه للطائع لله الخليفة المخلوع، ولأبي بكر بن شاهويه زعيم القرامطة في بغداد. ولهذا الحزن الذي شغل الرضي في حياته ، وللرّقة الحزينة التي تتغلغل وتنساب في قصائده سمّاه الأدباء "نائحة الثكلى".

--------------------------------------------

*. جامعة الشهيد بهشتي ، طهران ايران . (أستاذ مشارك)

**. خريج أكاديمية العلوم الإنسانية والدراسات الثقافية ، طهران ، إيران .

التنقيح والمراجعة اللغوية : د. مهدي ناصري

المصادر والمراجع

ابن أبي الحديد. (١٩٦٥م). شرح نهج البلاغة . تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. الجزء الأوّل . ط٣. بيروت : دار إحياء التراث العربي.

ابن الأثير. (١٩٦٦م). الكامل في التاريخ. الجزء الخامس . بيروت : دار صادر للطباعة والنشر.

ابن الجوزي. (١٩٣٩م). المنتظم. الجزء السابع . ط١. حيدر آباد : مطبعة دائرة المعارف العثمانية.

ابن خلكان. (لاتا). وفيات الأعيان وأنباء الزمان. تحقيق : الدكتور إحسان عباس. الجزء الرابع . بيروت : دار صادر.

ابن سينا، ابو علي حسين بن عبدالله . (١٩٦٩م). المجموع أو الحكمة العروضية. تحقيق : محمد سليم سالم . لامك : لانا.

ابن عنبه ، أحمد بن علي بن الحسين الحسني . (لاتا). عمدة الطالب . بيروت : دار مكتبة الحياة .

أبو عليوي ، حسن محمود. (١٩٨٦م). الشريف الرضي . لبنان : مؤسسة الوفاء.

الباخرزي، أبوالحسن. (١٩٨٥م). دمية القصر. الجزء الأوّل . الكويت : دار العروبة للنشر والتوزيع.

البستاني، فؤاد أفرام . (١٩٨٦م). المجاني الحديثة . الجزء الأول . ط٣. بيروت : دار المشرق.

التونكي ، الشيخ محمود حسن . (١٣٤٤ق). معجم المصنفين. الجزء الرابع . لامك: لانا.

الثعالبي. (١٩٨٣م). يتيمة الدّهر في محاسن أهل العصر. تحقيق: الدكتور مفيد محمد قميحة . الجزء الأوّل . ط١. بيروت : دار الكتب العلمية.

الحوفي، أحمد محمّد. (١٩٧٩م). أدب السياسة في العصر الأموي . مصر : دار نهضة لطبع ونشر.

الديلمي ، مهيار. (لاتا). ديوان. المجلّد الأوّل . ط١. لامك: لانا.

الرافعي ، مصطفى صادق. (١٩٧٤م). تاريخ آداب العرب. الجزء الثالث . ييروت : دار الكتاب العربي .

الزبيدي. (١٤٢٢ق). تاج العروس من جواهر القاموس. تحقيق : عبد الكريم الغرباوي. الكويت : مؤسسة الكويت للتقدّم العلمية.

الزوزني، الحسن بن أحمد. (٢٠٠٦م). شرح المعلقات السبع. تحقيق : محمّد الفاضلي . ط١. طهران : مؤسسة الصادق للطباعة والنشر.

الزيات ، أحمد حسن. (لاتا). تاريخ الأدب العربي . بيروت : دار المعرفة.

الشريف الرضي، أبوالحسن محمد بن الحسين بن موسى . (١٣٠٧ق). ديوان. مع دراسة وإضافة بقلم الشيخ عبد الحسين الحلي . بيروت : المطبعة الأدبية.

الشريف الرضي، أبوالحسن بن موسى . (١٩٧٦م). ديوان. صنعة أبي حكيم الخبري. تحقيق : عبد الفتاح الحلو. الجزء الأوّل. ط١. باريس : دار الطليعة.

الشريف المرتضى ، أبوالقاسم علي بن حسين بن موسى (١٩٩٧م). ديوان. شرحه محمد التونجي. الجزء الثاني . بيروت : دار الجيل.

الصفدي ، صلاح الدين خليل بن أيبك. (١٩٩١م). الوافي بالوفيات. المجلد الثاني. بيروت : دار الكتب العلمية.

ضيف، شوقي. (٢٠٠٧م). تاريخ الأدب العربي. عصر الدول والإمارات . الجزء الخامس. القاهرة : دار المعارف.

عزيز ، جاسم. (١٤٠٦ق). الاغتراب في حياة وشعر الشريف الرضي. بيروت : دار الأندلس.

عمران ، عبد اللطيف. (لاتا). شعر الشريف الرضي ومنطلقاته الفكرية. دمشق : دار الينابيع.

الفاخوري ، حنا. (١٣٧٨ق). تاريخ الأدب العربي. ترجمة : عبد المحمد آيتي. ط٤. طهران : طوس.

فروخ ، عمر، (١٩٧٩م). تاريخ الأدب العربي . الجزء الثالث. ط٧. بيروت : دار العلم للملايين.

كحالة ، عمر رضا. (١٣٧٦ق). معجم المؤلفين. الجزء الأوّل . لامك: لانا.

مبارك ، زكي . (١٩٣٨م). عبقرية الشريف الرضي. بيروت: المكتبة العصرية للطباعة والشنر.

متز ، آدم. (لاتا). الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري. ترجمة : محمد عبد الهادي أبو ريدة . الجزء الأوّل . ط٣ . لامك : لانا.

المتنبي ، أبو الطيب. (٢٠٠٩م). ديوان. راجعه وفهرسه : د. يوسف الشيخ محمد بقاعي. بيروت : دار الكتاب العرب.

محمد حلو، عبد الفتاح. (١٩٨٦م). الشريف الرضي حياته ودراسة شعره. القسم الثاني. لامك : لانا.

محي الدين ، عبد الرزاق. (١٩٧٧م). أدب المرتضى من سيرته وآثاره. ط١. بغداد : مطبعة المعارف.

نور الدين ، حسن جعفر. (١٤١١ق). الشريف الرضي حياته وشعره . ط١. بيروت : دار الكتب العلمية.

منقول من مجلة إضاءات نقدية في الأدبين العربي والفارسي العدد / ١٠ السنة ٢٠١٣

****************************