ا.د. محمد علي آذرشب
استاذ في جامعة طهران
هو محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن ابراهيم بن موسى الكاظم، من أعيان القرن الرابع الهجري فـي الفقه والأدب والنقد والسياسة، ولد ببغداد سنة ٣٥٩هـ، له مؤلفات قيّمة منشورة منها ديوان شعره، ومنها مؤلفه المشهور فـي التفسير حقائق التأويل فـي متشابه التنزيل، وكتابه: خصائص أمير المؤمنين ورسائله إلى الصابئ ورسائل الصابئ إليه، وتلخيص البيان عن مجازات القرآن، ومجازات الآثار النبوية، إضافة إلى جهده التاريخي الكبير فـي جمع خطب نهج البلاغة، وهذه المؤلفات مطبوعة ومحققة ومتداولة بين أيدي الناس اليوم، أما مؤلفاته الأخرى غير المنشورة فهي كثيرة أيضاً، ولم تصل إلينا، وقد ذكرتها كتب التراجم [١] .
والبحث فـي صلة أدب الشريف الرضي ببلاط عضد الدولة البويهي يأخذ هنا طابعاً مختلفاً، إذ أن الشريف لم يمدح الملك أبداً، بل كان ساخطاً عليه، وإذا ذكره فـي شعره فـيذكره بغضب ومرارة، بل ينظم قصيدة حين وفاته تنم عن أمل وتفاؤل وراحة بال، وبالمقابل فإن مدائحه فـي أولاده شرف الدولة، وصمصام الدولة وبهاء الدولة هي من أجمل قصائد ديوانه.
ونبين هذا بإيجاز لأن التفصيل والوضوح فـيه قد تحققا من قبل فـي دراسة نشرتها بعنوان: شعر الشريف الرضي ومنطلقاته الفكرية [٢].
والشاعر الرضي من الأشراف الطالبيين، وقد تقلد أمر نقابة الإشراف، وكان أبوه أبو أحمد الموسوي قد تقلدها من قبل، وصلة الأشراف بالبويهيين قامت منذ قدوم البويهيون إلى بغداد لكن المصادر لا تحدد تاريخاً لهذه الصلة قبل سنة ٣٥٤هـ، قبيل ولادة الرضي، ففـي هذه السنة كان معز الدولة البويهي مستقراً ببغداد ويحكمها، وفـي عهده تقلّد أبو أحمد الموسوي والد الشريف الرضي نقابة الطالبيين ببغداد وكتب له منشور بهذا من ديوان الخليفة العباسي المطيع لله، وبعد معز الدولة حكم بغداد ابنه بخيتار عز الدولة الذي قرب أبا أحمد الموسوي وأدنى مجلسه وزاد فـي إكرامه وكلفه بمهام كثيرة واعتمد عليه فـي حكمه وجعله سفـيراً له فـي أمور عديدة، منها السفارة فـي خلاف بين البويهيين والحمدانيين، وربما كان حسن علاقة والد الرضي بعز الدولة سبباً فـي سوء علاقته بعضد الدولة الذي هزم عزالدولة وقتله بعد أن استولى على بغداد.
دخل عضد الدولة بغداد سنة ٣٦٧هـ، وانصرف كما هو معروف إلى محاربة اللصوص والدعار والفتن والفساد، وكان طبيعياً أن تكون علاقته بأبي أحمد الموسوي حسنة، وببقية الأشراف كذلك، فنراه يعهد إليه سنة ٣٦٨ بمهام عديدة منها مناصرة سعد الدولة بن سيف الدولة فـي حربه ضد سلامة البرقعيدي متولي ديار مضر لأبي تغلب بن حمدان، فقاد أبو أحمد الجيش وانتصر، وكان لأبي أحمد منـزلة حسنة وكبيرة عند العامة والخاصة، هذه الأمور يبدو أنها ضايقت وزير عضد الدولة المطهر بن عبد الله الذي خشي حسن منـزلة أبي أحمد ورفعتها فأسهم فـي تأجيج الخلاف بين عضد الدولة وأبي أحمد مستغلاً علاقة الأخير الطيبة بعز الدولة عدو عضد الدولة اللدود، متهماً إياه أنه كان فـي حيّز بختيار فقام عضد الدولة سنة ٣٦٩هـ وعزل أبي أحمد وبمصادرة أملاكه وبإبعاده عن بغداد سجيناً فـي فارس [٣] ، فساءت العلاقة يومها بين الأشراف والبويهيين ولا سيما حين تجرأ وزير عضد الدولة المطهر بن عبد الله فسخر من نسب الأشراف وقال للشريف الرضي: كم تدل علينا بالعظام النخرة، فنظم الرضي قصيدة طويلة فـي نحو من ثمانين بيتاً وسنّه فوق العشر بقليل يهجو فـيها الوزير، ويأسف لقبول البويهيين هذا الأمر، ولسكوتهم عليه، ويرى أن الأمر لو حدث بين الفاطميين - أمر السخرية من نسب الأشراف - لكانت النتيجة قتل الوزير، ولعل هذه القصيدة تكاد تكون أفضل صورة وأجملها تنقل إلينا رأي الشريف الرضي فـي عضد الدولة البويهي ومطلعها:
نُصَافي المَعَالي ، وَالزّمانُ مُعانِدُ ***** وَنَنْهَضُ بِالآمَالِ ، وَالجَدُّ قَاعِدُ [٤]
وفـيها يمدح والده، ويهجو أسباب عزله، ويرى أن أمر أرض بابل، وأمر الأشراف إلى هوان حين يكون الرأي الفاسد للوزير مسموعاً ومقبولاً عند عضد الدولة، فـيسبّ الأشراف، ويساء إلى النبي (ص)، وهذا الجحود لو حدث فـي أرض الفاطميين لقابله قصاص، ويعرّض فـي البيت الرابع صراحة بعضد الدولة:
يقر بعيني ان ارى ارض بابل ***** تخوض مغانيها الجياد المزاود
تُعَيِّرُ رَبّ الخَيرِ بَالي عِظَامِهِ ****** الا نزهت تلك العظام البوائد
وَلَوْ كانَ بَينَ الفاطِمِيّينَ رَفْرَفَتْ ***** عليه العوالي والظبي السواعد
فِدًى لكَ يا مَجدَ المَعالي وَبَأسهَا ***** فعال جبان شجعته الحقائد
يَدِلّ بِغَيرِ اللَّهِ عَضْداً وَناصِراً ***** وَناصُرُكَ الرّحمَنُ ، وَالمَجدُ عاضِدُ
ضجرت من العلياء فاخترت عزلها ***** كانك قد افنت نداك المحامد
عُزِلْتَ وَلَكِنْ ما عُزِلتَ عنِ النّدى ***** وجودك في جيد العلى لك شاهد
وَلَكِنْ رَأى سَبّ النّبيّ غَنيمَةً ***** وَمَا حَوْلَهُ إلاّ مُرِيبٌ وَجَاحِدُ
ألا إنّ جَدبَ الحِلمِ عندَكَ مُخصِبٌ ***** وان لئيم المجد عندك رافد
إن محنة والد الرضي محرض شاعريته، فكثيرة القصائد التي نظمها الشاعر فـي مدح هذا الأب وفـي ذكر محنته ومنـزلته سوية، فكانت مسألة أبيه منبع إلهام وحافزاً على الإبداع، وشأنها فـي شعره شأن سيف الدولة فـي شعر المتنبي، وشأن الروميات فـي شعر أبي فراس الحمداني، ولعل هذه المسألة كانت وراء تفتق قريحته الشعرية مبكراً، فهذه القصيدة نظمت فـي حياة عضد الدولة، والمعروف أن عضد الدولة توفـي سنة ٣٧٢هـ، وعمر الشاعر ثلاث عشرة سنة.
وكانت وفاة عضد الدولة سنة ٣٧٢هـ مثار بشر وتفاؤل فـي نفس الشريف الرضي، فلعل سجن الأب يزول، ويعود إلى بغداد مكرماً، فحين يصل نعي عضد الدولة إلى مسامع الرضي ينظم قصيدة يزف فـيها النبأ إلى والده على أنه فأل خير، وفاتحة عهد جديد واعد بالأمل، يقول الشاعر:
أبلغا عني الحسين ألوكاً ***** إنّ ذا الطّوْدَ بَعدَ عَهدِكَ سَاخَا
وَالشّهَابَ الّذِي اصْطَلَيْتَ لظَاهُ ***** عكست ضوءه الخطوب فياخا
والفنيق الذي تدرع طول الأ ***** رض خوى به الرد فأناخا [٥]
وتمضي الأيام بعد وفاة عضد الدولة فلا يطلق صمصام الدولة ابنه سراح والد الشاعر، وفـي سنة ٣٧٦ينتزع شرف الدولة بغداد من أخيه، ويطلق سراح والد الشاعر ويعيده إلى بغداد معززاً مكرماً، فـينظم لشاعر قصيدته يمدح فـيها شرف الدولة ويشكر صنيعه، مطلعها:
أحظَى المُلُوكِ مِنَ الأيّامِ وَالدّوَلِ ***** من لا ينام غير البيض والأسل [٦]
وفـي سنة ٣٧٩ توفـي شرف الدولة فرثاه الرضي [٧]، وخلفه أخوه بهاء الدولة، الذي كان قوياً مهاباً مطاعاً كأبيه عضد الدولة، لكنه قرّب الأشراف وأحسن إلى الرضي وأسرته، وردّ إلى أبيه الأعمال التي كان يقوم بها من قبل واستدعاه إلى دار الخلافة ومعه ولداه فـي سنة ٣٨٠هـ، وقلّد والد الشاعر نقابة الأشراف الطالبيين، والنظر فـي المظالم، وإمارة الحج، وكتب عهد بذلك، واستخلف ولداه المرتضى والرضي وخلع عليهما من دار الخلافة، واستمرت علاقة الأشراف بالبويهيين حسنة فـي أيام بهاء الدولة الذي تتابع فـي عهده إكرام الرضي وأسرته سنة بعد سنة، فـيخاطبه الشاعر:
كل يوم فضل عليَّ جديد ***** وعلاء أنا له من علاكا [٨]
ونجد الرضي فـي سنة ٣٨٨، مثالاً، ينظم أربع قصائد فـي مدح بهاء الدولة يذكر فـيها فضله وحسن معاملته حيث أرضى بهذا مبادئ الدين الحنيف التي تقتضي بإكرام آل البيت، يقول فـي إحداها:
لَقَدْ أرْضَى قِوَامُ الدّينِ فِينَا ***** وَصَاةَ اللَّهِ وَالدّينَ اليَقِينَا
وقد افتنّ الشاعر فـي مدائح بهاء الدولة، وأحسن التصرف فـي الخروج مما يفرضه سوء العلاقة السابقة مع عضد الدولة والد الممدوح، فهو ينظر إلى بهاء الدولة على أنه أفضل آل بويه وأكرمهم، إذ يقول:
مِنَ العُظَماءِ أطْوَلُهُمْ عِماداً ***** وأنداهم إذا مطروا يمينا [٩]
وهو يصنع فـي مدحه هنا كما صنع المتنبي فـي مدحه السابق الذكر حين قدم ممدوحه عضد الدولة علىأبيه، فقام الشريف الرضي وقدم ممدوحه بهاء الدولة على أبيه وغيره من آل بويه، وكان سخط الشاعر على عضد الدولة مشوباً بالحذر، وغالباً ما يقرنه بذكر إسهام وزيره المطهر بن عبد الله فـي ما حل بوالد الشاعر الذي يقول:
لا أقَالَ الإلَهُ مَنْ خَانَكَ العَهْ ***** دَ ، وَجازَاكَ بَغضَةً بالوَدادِ
ظن بالعجز ان حسبك ذل ***** وَالمَوَاضِي تُصَانُ بِالأغْمَادِ [١٠]
كانت علاقة الرضي بالبويهيين، عامة، حسنة، لايشوبها إلا مالقيه والده من عضد الدولة الذي قام بنوه من بعده وعوضوا الرضي وأسرته إكراماً وإحساناً ومودة، فـيقرر ألا ينصرف إلى سواهم، بعد أن ألمح إلى نيته بالرحيل إلى الفاطميين، لكنه يعود عن نيته ويمدحهم فـيقول:
أآلَ بُوْيْهٍ ما نَرَى النّاسَ غَيرَكمْ ***** ولا نشتكي للخلق اولاكم فقدا
خُذُوا بزِمَامي قَدْ رَجَعْتُ إليكُمُ ***** رجوع نزيل لا يرى منكم بدا [١١]
نرى منعكم جودا ومطلكم جدا ***** وَإذْلالَكُمْ عِزّاً وَإمرَارَكم شَهدَا
وَعَيشَ اللّيالي عِندَ غَيرِكُمُ رَدًى ***** وَبَرْدَ الأمَاني عِندَ غَيرِكمُ وَقْدَا
ولابد هنا من الإشارة إلى أثر ذات الشاعر الحقيقية فـي طبيعة علاقته بالبويهيين وغيرهم فهو يصدر فـي شعره وفـي حياته عن نفس أبيه طموح إلى المعالي دؤوب فـي سبيل المجد لا ترضى بغير المجد والعلى، لكنها الأيام، وصروف الدهر التي حالت دون تحقيق مطامحه، فـيعود فـي القصيدة نفسها إلى ذكر خيبة الأمل فـيقول:
احل عقود النائبات وانثنى ***** وَخَلفي يَدٌ للدّهْرِ تُحكِمُها
كاني اذا جادلت دون مطالبي ***** أُجَادِلُ لِلأيّامِ ألْسِنَةً لُدّا
وشعر الرضي فـي البويهيين كثير، وقصائده فـيهم غرة ديوانه، ولعل من أجملها تلك القصيدة التي جمع فـيها بين المتناقضات من الموضوعات والمشاعر إذ كان موضوعها الرثاء والمدح، والتعزية والتهنئة فـي وقت واحد، وقد تحقق هذا للرضي ببراعة وحسن، فـيوم وفاة بهاء الدولة عقد أمر الملك لابنه أبي شجاع فناخسرو سلطان الدولة، فنظم الرضي قصيدته الجميلة الشهيرة وفـيها يرثي بهاء الدولة ويعزي ابنه، فـي الوقت الذي يمدح فـيه الابن ويهنئه ويمدح آل بويه ويذكر أمجادهم وفضائلهم، وقد افتتحها بمطلع من أجمل مطالع قصائد الشعر العربي وفـيه يقول:
تمضى العلى وإلى ذراكم ترجع ***** شَمسٌ تَغيبُ لكمْ وَأُخرَى تَطلُعُ [١٢]