وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ.                
وقال (عليه السلام): مَا مَزَحَ امْرُؤٌ مَزْحَةً إِلاَّ مَجَّ مِنْ عَقْلِهِ مَجَّةً.                
وقال (عليه السلام): يَهْلِكُ فِيَّ رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ، وَبَاهِتٌ مُفْتَر.                
وقال (عليه السلام): لاَ خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ، كَمَا أنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ.                
وقال (عليه السلام): أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكْتِسَابِ الاْخْوَانِ، وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ .                
وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام):مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا.                

Search form

إرسال الی صدیق
الشريف الرضي (٣٥٩ – ٤٠٦ هـ)

بقلم : الأديبة الكبيرة لميعة عباس عمارة *

تَشٌفُّ خِلالُ المرءِ لي قبل نُطقهِ ***** وقبلَ سؤال القوم في الحي ما اسمُهُ [١]

عن هذه الشخصية الخارقة الذكاء سأتحدث .

ومن أبرز صفاتها الفراسة والتحليل للذات ولنفسية الآخرين , وأحوال المجتمع , أضف إليها وسامة نبيلة ، وإن أردت الكلمة المناسبة فقل جمالاً متميزاً ، وأضف فوقها منصباً أو مناصبَ رفيعة ، ثم توّجها بنسب يرقى إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عبر سلسلة من الأئمّة عليه السلام.

وبعد كل هذا فالشاعر تُوفي وعمره سبع وأربعون سنة فقط، أجمل ما يكون فيها الرجل ، وذروة الشباب , وكأنّه تنبأ بموته المبكر بقوله :

نحن قوم قسم الله لنا ***** بالرزايا ورضينا بالقِسَمْ

إنّما قصَّر من آجالنا ***** أننا نأنف من موت الهرمْ

عاش عمره شاباً فقط ، لم ينتظر الشيخوخة ، ولم يمر بدور الطفولة ، وأين الطفولة من شاعر قبل العاشرة ، ونقيب للطالبيين في الخامسة عشرة ؟ هذه الحياة علَّمته الكثير ، وعرفها هو أكثر وتزهد عن حكمة وفلسفة ، اضطراراً واختياراً.

عن هذا الرجل أريد أن أتحدث ، وأنا أحاول أن لا أكون تحت ضغط الإعجاب به ، وأحاذر ألا يكون حديثي عنه غزلاً .

---------------------------------------
 * هذه المقالة ألفتها شاعرة العراق لميعة عباس عمارة يوم السبت السابع من شهر شباط سنة ٢٠٠٠ م في الصالون الأدبي الذي يُعقد كلَّ شهر في ضيافة الدكتور صاحب ذهب  في منزله بالولايات المتحدة الأميركية. وقد حضر الندوة أكثر من خمسين مثقفاً من الأدباء ، وأهل الصحافة ، وبعض الشخصيّات من مختلف الجنسيات العربيّة .
وأهميتها ترجع إلى:
١- أنْها صدرت عن شاعرة كبيرة وهي تتحدث عن شاعر كبير.
٢- بالرغم أنَّ المقالة تحدثت عن بعض معطيات الرضي الشعرية بشكل فنّي فإنّها حاولت أيضاً دراسة العلاقة بين أبي إسحاق الصابي  ، وبين الشريف الرضي.
وقد نجحت في إضافة بعض التفسيرات بين الطرفين اعتماداً على النصوص الشعرية أولاً ، وثانياً باللجوء إلى مقارنتها بالطقوس الدينيّة الصابئية (التي ترجع إليها كاتبة المقال).
وقد ظهرت من خلال هذه المقالة أنَّ الشاعرة لم تنتخب أبيات الشريف الرضي إلا بعد قراءة مستوعبة لها ، بل حاولت من خلال مختاراتها أن تتوحّد في فضائه الشعري في محاولة مزج عالمها الشعري بعالم الرضيّ الفسيح ، حتى عادت قبساً منه ، أو كما حاولت هي أن تُخْضع عالمه الشعري لروحها الأصيل الشفَّاف.
ومن خلال هذا التوحد أضفت على منتخباتها من شعر الرضيّ صوتها الشعري ، فأخذت تقرأ أبياته بلغتها الشاعرية  ، فغيّرت في بعض ما اختارته منها من كلمات حسبما أوحت بها شاعريتها – دون أن تشير لذلك – وكانّ فضاءهما أصبحا فضاءَ واحداً لا يخلوان من تداخل , وهذه هي إحدى ميزات هذه المقالة.
أمّا ما وردَ فيها من اجتهادات مُتناقلة تتعلّق بنزوع الرضيّ إلى الخلافة وغير ذلك فهو يخضع لجملة آراء متضاربة في تفسير تلك الحُقبة الزمنية المتداخلة الأحداث ، وردت الإشارة إليها في مضانها من الهوامش. (الدكتور جودت القزويني)

وأبدأ ببعض مختاراتي من شعره ، يقول:

حتى الزهد في كل ملذات الحياة وجد خلفه تعويضاً هو السمعة الحسنة ، وثقة الناس ، وكبر المقام ، والاعتداد بالنفس. فلا شيء مقابل لا شيء.

لو لم يُعوضكَ هجرُ العيش صالحةً ***** ما كُنتَ تخرج من أثوابه القُشبِ

زهدتُ وزهدي في الحياة لعلّةٍ ***** وحجّةُ من لا يبلغُ الأملَ الزهدُ

كم من الحقائق المؤلمة  تكمن في هذا البيت بهالة من التواضع والاعتراف بالضعف الإنساني؟

وقوله:

لا تعد العيش شيئاً إنّه ***** نفس يقضى وأيام تُعَدْ

إنَما الأيام يوم واحدً ***** وغرور اسمه اليوم وغَدْ

كنت أردد هذه الأبيات مطلع سنة الألفين ، وأنا أرى مبالغات الإعلام وتهويله لما سيأتي أو سيجد ، بمجرّد تبديل رقم في التقويم ،أليست هي الشمس ذاتها تشرق كل صباح وتغرب كل مساء كما كانت وستكون؟حتى هجاؤه المؤدب جداً عجيب .

يقول:

متقدم في لؤمه ميلادهُ ***** ومن الخمول كأنّه لم يولدِ

هذا التلاعب بالزمن أعطى قدماً لعمر المهجو في اللؤم  يزيد عن عمره الحقيقي بكثير فهو مؤصل عميق الجذر باللؤم . وجعل درجة نباهته تحت الصفر ، وكأنّه بعد لم يولد .

وقوله:

وإني على شَغَفي بالوقار***** أحنُ إلى خطرات الصبا

الوقار والعفّة لازمتا الشريف ، ولكنّه استطاع أن يعبّر بشكل فني ذكي عن رغائب الروح دون المساس بالمُثل الفاضلة التي اختارها سلوكاً كقوله:

ومقبَّل كفِّي وددتُ لو أنّه ***** أومى إلى شفتيَّ بالتقبيلِ

ولنا أن نتصوّر رتلاً من الزائرين والزائرات من شتّى الأعمار في مناسبة ما ، يتباركون بتقبيل يده ، ومن بينهم من يخصُّها بحُبَه دون أن نعلم .

وقوله:

بتنا ضجيعين في ثوبي هوىَ وتقىَ ***** يلفّنا الشوقُ من رأسِ إلى قدمِ

القارئ البسيط قد تفوت عليه الصورة الشاعرية الجميلة ، ويتساءل ببساطة كيف يمكن أن يضطجع محب قرب حبيبته يلفهما الشوق من رأس إلى قدم ، ويظل هناك مكان للتقى؟

الحقيقة الجميلة في هذا البيت ، والصدق الكامل في التعبير عنها ، هو أنَّ الشريف كان أميراً للحجّ أي أنّه مصاحب للحجاج من النساء والرجال ، وحين تستريح القافلة من عناء السير يفترش الحجاج رمال الصحراء فراشاً مريحاً، قريبين من بعضهم مطمئنين ، ومن بين هؤلاء واحدة يعنيها الشاعر ، عن هذا الكون المكشوف الذي لا يخفي سراً ، ولا يحتمل شكّاً يتحدث الشريف .

إذن فكلمة (التقى) هنا حقيقة ، ووجودها ضرور لأنَّ هذا ما حدث فعلاً.

وخفة دمه تنعكس في قوله:

يا حسن الخَلق قبيح الأخلاق ***** إنّي على ذاك إليك مشتاق

ومن إبداعه في المدح قوله:

هم أبدعوا المجد ، لا أن كان أولهم ***** رأى من الجَد فعلاً قبله فحكى

ومن هجائه:

أبى الله أن تأتي بخير فتُرتجى ***** فروع لئام قد ذممنا أصولها

إذا الدار من قبل العفاء نَبتْ بنا ***** فكيف نرجَّي للمقام طلولها

إذا قيل بيت الفخر كنتم ضيوفه ***** وإنّ قيل دار اللؤم كنتم حلولها

وقولة خزي فيكمُ تستفزني ***** وأعلم أنْ لا بدَّ من أنْ أقولها

ولعلَ قصيدته التي مطلعها :

وكم صاحب كالرمحِ زاغتْ كعوبُهُ ***** أبى بعد طول الغمزِ أنْ يتقوَّما

تُعتبرُ من القصائد النموذج ، أو ما يسمى Masterpiece تجمع الحكمة والفلسفة والأخلاق ، وحسن المعاملة حتى للصديق المقصر ، وهي قصيدة قصيرة كافية بالغرض دون إطالة لا مبرر لها ولو أنَّ الشريف اختصر في كل قصائده هكذا لما ترك للنقَاد مجالاً للنقد .

والقصيدة مشهورة ومدروسة لذلك أكتفي بأبيات منها مع أنَّ كل أبياتها من المختار ، يقول عن هذا الصاحب الذي يبدي غير ما يخفي:

ولو أنني كشَفتُهُ عن ضميرهِ ***** أقمتُ على ما بيننا اليوم مأتماً

هي الكفُّ مضِّ تركها بعد دائها ***** وإن قُطعتْ شانت ذراعاً ومعصما

أراكَ على قلبِي وإنْ كنتَ عاصياً ***** أعزَّ من القلب المطيع وأكرما

حملتُكَ حملَ العين لجَّ بها القذى ***** فلا تنجلي يوماً ولا تبلغ العمى

دع المرء مطوياً على ما ذممته ***** ولا تنشر الداء العضال فتندما

إذا العضو لم يؤلمك إلا قطعته ***** على مضضِ لم تُبقِ لحماً ولا دما

ونموذج آخر لقصيدة الرثاء قصيدته في رثاء والدته التي تعتبر من عيون الشعر العربي، وهي مشهورة محفوظة:

أبكيكِ لو نقعَ الغليل بكائي ***** وأقول لو ذهب المقال بدائي

وألوذ بالصبر الجميل تعزياً ***** لو كان بالصبر الجميل عزائي

كم عبرة موَّهتُها بأناملي ***** وسترتها متجملاً بردائي

أبدي التجلّد للعدو ولو درى ***** بتململي لقد اشتفى أعدائي

وماذا عن حجازيات الشريف ، وكلها نموذج للغزل العفيف والفن الرفيع ، ومن لا يحفظ:

يا ظبيةَ البان ترعى في خمائلهِ ***** ليَهنَك اليوم أنَّ القلبَ مرعاكِ

الماءُ عندكِ مبذول لشاربهِ ***** وليس يرويكِ إلا مدمعي الباكي

وقصيدته:

عاد الهوى بظباء ***** مكة للقلوب كما بداها

وقف الهوى بي عندها ***** وسرت بقلبي مقلتاها

بردتْ عليَّ كأنْما ***** طَلُّ الغمامة عارضاها

شمسُ أقبْل جيدها ***** يوم النوى وأجلُّ فاها

وأذودُ قلباً ظامئاً ***** لو قيل وِردك ما عداها

ولو استطاع لقد جرى ***** مجرى الوشاح على حشاها

ياسَرحةُ بالقاع لم ***** يُبلَلْ بغير دمي ثراها

ممنوعة لا ظلُّها ***** يدنو إلىَّ ولا جَناها

أكذا تذوب عليكمُ ***** نفسي وما بَلَغتْ مناها

أينَ الوجوهُ أحبُّا ***** وأودّ لو أني فداها

أُمسي لها متفقّداً ***** في العائدين ، ولا أراها

ومن مختاراتي قوله وقد سقط الثلج على بغداد يندر فيها سقوط الثلج فقال الشريف الرضي:

أرى بغداد قد أخنى عليها ***** وصبحها بغارته الجليدُ

أقول له وقد أمسى مكبا ***** على الأقطار يضعف أو يزيدُ

رويدك فالخواطر باردات ***** على الإحسان والأيدي جمودُ

وأنّك لو تروم مزيد برد ***** إلى برد لأعوزك المزيدُ

يمزج الشريف الظاهرة الجغرافية بالحالة الاجتماعية والسياسية، لأنّه مرتبط بهما.

ومن روائع الشريف ودقيق معانيه قوله الذي غفل المغنون اليوم عن تلحينه:

خل دمعي وطريقهْ ***** أحرامٌ أنْ أريقَهْ

كذبٌ يحسبه الصبُّ ***** من الشوق حقيقهْ

أنعمي يا سرحةَ الحي ***** وإنْ كنتِ سحيقهْ

أتمنى لك أنْ تبقي ***** على النأي وريقهْ

ثمرٌ حرَّمَ واشيك ***** علينا أنْ نذوقهْ

حجازيات الشريف مشهورة ، وسأكتفي بنماذج من المختار مثل:

وما أدعي أني بريء من الهوى ***** ولكنني لا يعلم القوم ما بيا

ترحلتُ عنكم لي أماميَ نظرة ***** وعشر وعشر نحوكم لي ورائيا

وقوله في حصانه:

طَرِبُ للصوت تحسبُهُ ***** عربيَّا يعشقُ الغَزلا

وقوله:

ومولىّ دعا غيري إلى ما يريده ***** ولو كنتُ ممنْ يستجيبُ دعاني

أو قوله:

يا ليلة كاد من تقاربها ***** يعثرُ فيها العِشاءٌ بالسحرِ

وقوله:

ليبكِ الزمانُ طويلاً عليك ***** فقد كنتَ خفَّةَ روحِ الزمان

وقوله:

تُعَدّ النوقُ من شرف فُحُولاً ***** إذا انتسبتْ إلى العَوْدِ الجُلالِ

والعَود الجُلال جمل مشهور.

وقوله:

وأسرفتُ بالبِشْرِ حتى ظننتُ ***** أنك أضجعتْ فيه النفاقا

أو قوله من رثاء الصاحب بن عباد:

كان الغريبةَ في الزمان فأصبحوا ***** من بَعْدِ غاربِ نَجْمهِ أمثالا [٢]

ومن أبياته الموجعة لأنّها الحقيقة الموجعة قوله:

أأبى ولا حدَّ أسطو به ***** وأينَ الإباءُ من الأعزلِ؟

وقوله:

إذا لم يعنك الله يوماً بنصره ***** فأكبرُ أعوانِ عليك الأقاربُ

وقوله:

 إذا قلَّ مالُ المرء قلَّ صديقُهُ ***** وفارقه ذاك التحننُ والودُ

وأصبح يُغضي الطرفَ عن كل منظرٍ ***** أنيق ويلهيه التغرُّبُ والبعدُ

وقوله:

وأكبرُ آمالي من الدهر أنني ***** أكونُ خليّاً لا سرورَ ولا غمَّا

ولكنه كان كما قال:

بأرجوحة بين الخصاصة والغنى ***** ومنزلة بين الشقاوة والنعمى

وقوله:

صورٌ رائعةٌ لا يُرتجى ***** نفعُها مثلُ تهاويلِ النَّمطْ

شمخوا أنْ حلّقَ الجَدُّ بهم ***** غَلِطَ الدهرُ ، وكم يبقى الغلطْ

و(تهاويل النمط) هي نقوش البسط ( جمع بساط) المتقنة المكررة.

وقوله:

لهم مجلسُ ما فيه للمجد مقعدُ ***** ومربطُ عار ما عليه جِيادُ

لهم حسبُ أعمى أضلُ دليلَهُ ***** فلم يُدرَ في الأحساب أينَ يُقادُ

قبابُ يطاطي اللؤمُ منها كأنّها ***** ولو رفعتُ فوق الجبالِ ، وهادُ

وقوله:

ولاحت لنا أبيات آل محرّق ***** بها اللؤم ثاو لا يروح ولا يغدو

خيامُ قصيراتُ العماد كأنّها ***** كلابٌ على الأذناب مُقْعبةٌ رُبْدُ

وقوله:

بلادةُ النعمةِ في طَبْعهِ ***** ورُبما ناقشَ في الحُبَ

وقوله:

فلأرحلنَّ رحبلَ لا متلهف ***** لفراقكم أبداً ولا متلفتُ

وفي هذا البيت إشارة إلى أبياته الذائعة الصيت:

ولقد مررت على ديارهمُ ***** وطلولها بيد البلى نَهْبُ

فوقفتُ [٣] حتى ضجَّ من لَغَبِ ***** لغب نِضْوي ولجَّ بعذلي الركبُ

وتلفتت عيني فمُذْ خفيتْ ***** عني الطلول تلفَّتَ القلبُ

ومن مختاراتي قوله:

لو لم يكن لي في القلوب مهابةُ ***** لم يطعن الأعداء فيّ ويقدحوا

نظروا بعين عداوة ، لو أنها ***** عين الرضى لا ستحسنوا ما استقبحوا

ومما اخترتُ له من الإلفاتات الذكية:

شنُوا الخضابَ حذاراً أنْ يطالبَهم ***** بحلمه الشيبُ أو يقصيهمُ الغَزلُ

تفسير ذكي طريف، فهم يحذرون إذا بدا الشيب عليهم أن يطالبهم الناس بالحكمة والرصانة التي هي من صفات الشيوخ ، بينما هم لم يستفيدوا من العمر حكمة ولا وقاراً بل يريدون ألا يفارقهم زمن اللهو والغزل ، ولذلك هم يخضبون شيبهم.

وله:

مالي لا أرغب عن بلدةٍ ***** ترغبُ في كثرة حسادي

ما الرزق بالكرخ مقيم ***** ولا طوق العلا في جيد بغدادِ

فهل استطاع الشريف أن يهجر بغداد؟ مع أنّه قال مرة:

ما مُقامي على الهوان وعندي ***** مقولُ صارمُ وأنفُ حميُ

ألبسُ الذُل في ديار الأعادي ***** وبمصر الخليفةُ العلويُ

ولكنّه لم يبارح بغداد ، لم يشأ أن يكون لاجئاً سياسياً بتعبير اليوم ، حتى وإن كان من يلجأ إليه هو من دمه ونسبه ، لأنّه ملتزم بعشيرة وأهل ، مرتبط بمبدأ سياسي، وهومعارض من الداخل لا معارض من الخارج ، ولواقتضى الأمر أن يجامل الخليفة العباسي ويمدحه، فبغداد التي يحبها تفرض عليه شروطها : أمَّا أن يبقى ويجامل ويمدح الحاكم، أو يهاجر ، وقد اختار الأولى ، فمدح الخلفاء : الطائع لأمر الله والقادر، والملوك البويهيين.

المتنبي والشريف الرضي

ولد الشريف الرضي بعد وفاة المتنبي بخمس سنوات ، ولكن من يقرأ شعر الشاعرين يتصوّر أن المتنبي أحدث زماناً لأنّه أقرب للحداثة  والشريف أقرب إلى البداوة.

لقد سبقه المتنبي وهذا ما كان يقلقه ، أعني هيمنة المتنبي على إعجاب الناس ، فكان الشريف يحاول أن يبتعد عن نهجه والتشبّه به ، ويحاول التفوّق عليه ولكنه لم يستطع ، بل وقد فرح الشريف لأنَّ ابن جنّي الذي شرح كل شعر المتنبي قد شرح له قصيدة واحدة في الرثاء فمدح ابن جنّي لهذا الفضل.

وفي تفسيري أنَّ الشريف لا يقل شاعرية عن المتنبي ، كلاهما عبقري ، ولكن العبقرية تتطلّب قدراً كبيراً من الأنانية والتفرّغ ، أدرك ذلك المتنبي فتحرّر من قيود الأسرة والعشيرة والانتماء بكل أشكاله، وتحرّر من المكان ، واستعمال اللغة الصعبة والمفردات الغريبة  وتحرر من طول القصائد.

والشريف قد غلبت عليه روح التضحية والالتزام، فهو الابن البار لأبيه وحامل هموم العشيرة، مقيّْد بالمنصب والواجب.

ديوان المتنبي يساوي ربع ديوان الشريف ، فلو حذفت الزيادات من قصائد الشريف الطويلة – وبعض قصائده تجاوز المئة بيت – وحذفت ما لا يهم حذفه وما أجبر نفسه عليه من القافية الصعبة كالذال والثاء والخاء والزاي ليقال إنّه قد نظم على كل حروف الهجاء ، فسيكون الباقي ديواناً بقدر ديوان المتنبي ، ومثله في المنزلة.

حاول الشريف ألا يقتفي خطو المتنبي ، ولكن الأفكار تتشابه أحياناً، فقول المتنبي:

وما كنتُ ممن يدخل العشق قلبه ***** ولكنَّ من يُبصرْ جفونك يعشقِ

يشابهه قول الشريف الرضي:

لا العفُ عفُّ حين تملكُ قلبَهُ ***** تلكَ اللحاظُ ولا الأمينُ أمينُ

واضح الفرق بين بيت المتنبي المهندس ، وبين الاعتراف بالضعف البشري والتسليم للجمال بلا مناقشة في بيت الشريف.

وللشريف قصيدة هي مُعَارضة لقصيدة المتنبي ، والمعارضة ليست سرقة ، إنّما هي فن يتبارى به الشعراء وقلَّ من الشعراء من لم يعارض قصيدة مشهورة ، وقد اختار الشريف قصيدة المتنبي:

(فراق ومن فارقت غير مذمم)

فقال الشريف:

(بعاداً لمن صاحبت غير المقوم)

حتى المعاني التي وردت في قصيدة المتنبي عارضها كقوله:

إذا ما جوادي مرَّ بي في ديارها ***** تقاضى زفيري دائباً بالتحمحمِ

هو معارضة لقول المتنبي:

مررتُ على دار الحبيب فحمحمتْ ***** جوادي ، وهل تشجي الجياد المعالم

والحقيقة أنَّ قصيدة المتنبي ظلّت الأولى ، وأنَّ المعارضة لم تتفوّق عليها.

الشريف الرضي لم يُدرس ولم يشرح شعره والمؤلم أنَّ ديوان الشريف الرضي لم يحظ بالاهتمام اللازم ، ولم يُعطَ حقَّه من الشرح ، فهناك الكثير من المفردات التي هي بحاجة للشرح أهملت ، بينما تكرّر شرح الكلمات السهلة في عدَّة هوامش، والديوان لم ينقح كما يجب.

وكيف نفسّر وجود أخطاء نحوية لا تفوت على متوسطي المعرفة بالقواعد ، وتقع في شعر الشريف؟

وهناك أمثلة لبعض هذه الهنات ففي قوله:

وما زلن العواطن كُلَّ يوم ***** من العلياء يذممن الحوالي

في هذا البيت عود إلى لغة أكلوني البراغيث، وأنا أُجلُّ الشريف عن الوقوع في هذا الخطأ، وألوم الذين يدَّعون أنّهم حققوا الديوان وضبطوه ولم يحسنوا في الحقيقة غير النقل عن سابقيهم ، وإلا لكتبوا (وما زال) بدل (وما زلن) وبها صحّ الإعراب.

وخطأ نحوي آخر أُجلُّ الشريف عن الوقوع فيه ، فالشاعر يكتب ما يخطر بباله على عجل فيؤخذ بموسيقى الشعر وتفوته أحياناً بديهيات في النحو، والمفروض أن ينبّه إليها صديق أو يتلافاها محقق ، مثل قوله في حصانه:

يستشعرُ الطِرفُ زهواً يوم أركبُهُ ***** كأنَّه بنجوم الليل مُنْتَعلُ

والخيلُ عالمةُ ما فوق أظهُرِها ***** من الرجال جبانُ كان أم بطلُ

فكلمة بطل وجبان خبر كان وحقهما النصب ( جباناً أم بطلاَ) ، بينما القصيدة كلها مضمومة الآخر ، وهذا أيضاً من تقصير النسّاخ والمحققين ، فكثير تدخل النسّاخ والمحققين فيما ينقلون ، - وأحياناً كثيرة يضرون بالمعنى .

ولديَّ أمثلة ليس هذا مجالها – لماذا لم يلتفتوا إلى هذا الخطأ ويتلافونه، إذ ليس من المصدق أن الشريف لا يعرف إعراب كان واسمها وخبرها.

في رأيي أن البيت كان ، أو يجب أن يكون هكذا :

والخيلُ عالمةُ ما فوق أظهرها ***** من الرجال جبان ذاك أم بطلُ [٤]

وهذا الحديث – حديث التقصير في حق الشريف الرضي – يؤكّد لنا أنّ ديوانه لم يُشرح أصلاً شرحاً حقيقاً وأحياناً تشرح الكلمة السهلة ، وتهمل الكلمات الصعبة التي تحتاج إلى شرح . وإن الشريف لم يحظَ بالاهتمام اللازم من قبل القدماء أو المحدثين ، وسيظل بحاجة إلى من يشرح شعره ويعطيه حقّه لأنّه من أهم شعراء العربية.

الصداقة الخالدة

كثيرة هي الصداقات المألوفة ، ولكني سأتحدث عن صداقة غير مألوفة وغير عادية، بين رجلين عاشا في العصر العباسي ببغداد (دار السلام) في عصر غريب عجيب، على رأس السلطة خليفة عباسي بالصورة ، لتظل الدولة اسمها الدولة العباسية ، أمّا السلطة الحقيقية فبيد البويهيين الفرس.

الرجلان أحدهما شاعر كبير ، والثاني كاتب كبير يشغل منصب رئاسة ديوان الإنشاء.

حين ولد الشريف الرضي كان عمر أبي إسحاق الصابي ٦٦ سنة ومن الموثوق به أنَّ أبا إسحاق كان على علاقة بوالد الرضي ومعرفة وطّدت لهذه الصداقة غير العادية.

ببغداد على نهر دجلة يقع بيت الكاتب (أبي إسحاق الصابي). أمّا من أين أتيت بهذه المعلومات؟ ذاك لأنَّ هذا الشيخ لا يستغني عن النهر في حياته اليومية أبداً ، يغتسل ويتوضأ ويُعمَد أتباعه بالنهر ، ومن النهر يجلب له أهل بيته – وليس غيرهم – الماء للشرب والطعام. 

من ذلك أعلم أنَّ أبا إسحاق الصابي كان يسكن على ضفّة النهر وليس بعيداً عنها ، وفي جانب الرصافة ، أي الضفة الشرقية من نهر دجلة . أمّا الشريف فيسكن بالكرخ على الجانب الغربي.

حين يريد أبو إسحاق الصابي وهو في جانب الرصافة، أن يزور الشريف الرضي وهو في جانب الكرخ ، يركب طيّارته ويقصد دار صديقه ، والطيَّارة زورق سريع ، وكانوا يسمّون الزوارق الخفيفة السريعة طيّارة ، (وجمعها طيارات) ، وهي مفروشة بفرش ذات ألوان جميلة ، وعليها (سماوة) بيضاء من نسيج سميك تظلل من الشمس والمطر.

هكذا هي زوارق بغداد كما عرفناها ، مريحة أنيقة مظللة ، من زمن العباسيين حتى الآن. وهي بمثابة السيارات الخاصة يملكها الأغنياء .(اسم الطيارة عرفته من أبي حيان التوحيدي وكتابه الإمتاع والمؤانسة).

أمَّا من أين جئت بمعلومة مكان إقامة الرجلين فمن أقوالهما ، من قول الشريف:

ما الرزقُ (بالكرخ) مقيمُ ولا ***** طوقُ العُلى في جيد بغدادِ

وقوله للصابي:

هذا ودجلةُ ما بيني وبينكمُ ***** وجانب العَبرِ غيرُ الجانب الخشنِ

أبو إسحاق الصابي كان هو يزور الشريف الرضي ولا يحدث العكس إلاّ للضرورة الأشد ، مثلاً حين يكون أبو إسحاق مريضاً جداً.

من أين جئتُ بهذه المعلومة؟

الشريف الرضي له مجلس دائم ، للفتاوى والأدب والدرس وما يتّصل بالسياسة والثقافة والدين والعلاقات الاجتماعية ، وبابه مفتوح للقاصد ، أمَّا أبو إسحاق الصابي فلا يتمتّع بمثل هذه الحرية في بيته ، فطعامه لا يمكن أن يمسّه أحد وكذلك ماؤه وآنيته ، هذه هي حياة الرئيس الديني الصابئي معزول عن أقرب الناس إليه.

أولاده مثلاً لا يمكن أن يأكلوا بطبق واحد معه ، أو أن يمسُّوا (ماعون) طعامه، مثل هذا الرجل لا يخالط الناس إلا بحدود السلام والكلام. وها يجرُّنا إلى قصّة حبة الفول.

حكاية حبة الفول

هذه الرواية وردت في كل المصادر التي تطرّقت لعلاقة الشريف والصابي، مختصرها: أن الصابي كان يصوم رمضان احتراماً ومحبة وتعاطفاً مع الشريف ، ويشارك صديقه الصيام ثم يعود إلى داره للإفطار وحده.

وفي يوم تأخَر الصابي عند صديقه، وحلَّ موعد الفطور فأشفق عليه الشريف وعرض عليه أن يفطر معه ، أو أن يشرب ماءَ قبل توجهه إلى بيته ، ثم هوَّن عليه القضية بأن يتناول على الأقل حبّة فول يسدُّ بها رمقه إلى حين وصوله  فاعتذر الصابي حتى عن تناول حبّة الفول . هذه الحكاية وهي حقيقة صحيحة، لكنها جرَّت إلى استنتاج خطأ، فقالوا: ذاك لأنَّ الصابئة تحرِّم أكل الفول.

والصحيح أن الصابئة لا تحرَم أكل الفول مطلقاً، ولكن رجل الدين كما قلنا ممنوع من تناول أي طعام وشراب غير الذي يعدُّه بنفسه أوتعدًّه زوجته ، وبشروط لا يمكن الإخلال بها.

كذلك قالوا بتحريم الثوم عند الصابئة ، وهذه أيضاً نفسها صحيح ، والنصف الثاني استنتاج خطأ ، إنّما يتعلّق الأمر بالسلوك المهذّب وكراهية رائحة الثوم في الفم وبخاصة لرجل له مكانة في المجلس.

في زمن أكثر تسامحاً من زماننا هذا ، وأكثر انفتاحاً قبل ألف عام ، صاحب رجلُ دين صابئي رجلاً مسلماً (أي مسلم)، وصاحب إمام المسلمين وسليل الأئمّة رجلاً من الصابئة مهما كانت مكانته؟ الصداقة بين الرجلين أثارت بعض الشكوك لدى البعض ، رأى هذا البعض أنّها علاقة (العرَّاف) أو(فتَّاح الفال) بالرجل القلق الذي يريد أن يستكشف طالعه وبالأخص حين يعدّ نفسه للخلافة ويرى أنّه أحقّ بها من الخليفة العبّاسي الضعيف.

واعتمدوا على قول الشريف حين أبطأت عليه نبوءة العرّاف:

أظلت السبعةُ العُليا طرائقَها ***** أم أخطأتْ نَهجَها أم سُمّرَ الفلكُ [٥] ؟

والسبعة هي الكواكب المعروفة آنذاك ،وهي التي يعتمد عليها أحد كتب الصابئة ، واسمه

(سفراد ملواشه)، أي (كتاب أسماء البروج) ، ولا يزال الصابئة حتى اليوم يحتفظون بهذا الكتاب.

فهل كانت العلاقة كلّها تختصر بمصلحة يشترك بها الطرفان ، هذا يطمح للخلافة ، وهذا يريد أن يحمي طائفته الضعيفة حين يكون الشريف هو الحاكم؟

هذا التفسير هو جزء من العلاقة بين الرجلين وليس هو كل شيء.

فالعرَّاف لا يكون صديقاً وثيقاً، ويمكن الاتصال به عند الحاجة ، وأهمل المفسَرون الرابطة الفكرية التي تثن اثنين برباط قوي حتى ليكون أحدهما أقرب إلى الآخر من الحبيبة والولد.

عرف الشريف الرضي أبا إسحاق الصابي عن طريق والده ، وهو طفل لكنّه ليس كباقي الأطفال بل هو شاعر ومثقّف وقد نُشىء أحسن نشأة في بيئة كلها أدباء ، تعلّق الصبي الناضج بالشيخ الحكيم الشاعر الكاتب وكانا يلتقيان في مجلس الشريف دائماً ، حتى أنَّ الصابي يجد نفسه مُقصَّراً لو منعه المرض عن الزيارة المنظّمة ، وقد اعتذر عن هذا التقصير بقوله:

أقعدتنا زمانة وزمانُ ***** جائرٌ عن قضاء حق الشريفِ

والفتى ذوالشباب يبسطُ في التقصير*****عذر الشيخِ العليلِ الضعيفِ

فردَّ عليه الشريف بقصيدة طويلة منها:

لم تُوَفَ العشرينَ سنّي وإنَّ ***** الحلم مني على الجبال لمُوفي

فيَّ معنى المشيب حُكماً ***** وإن كان نهوضي عن الصبا وخُفُوفي

هزَّ عطفي إلى الأغر أبي ***** إسحاق ودُّ يلوي عليَّ صليفي [٦]

كيف لا أغلب الزمان وهذا ***** الندبُ يغدوعلى الزمان حليفي

أنت يا فارسَ الكلام تقدَّمتَ ***** وأخليتَ لي مكانَ الرديفِ

مثل هذا القول لا يمكن أن يصدر إلاَّ عن محبة عميقة صادقة واعتراف من الشاب بفضل الشيخ الصديق.

علاقة قد تكون مرَّت ببعضنا لو راجعنا ذكرياتنا ، وهل ننسى علاقة تأريخية أخرى خالدة أعني صداقة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم الشاب النابه، الواضح النبوغ بالشيخ ورقة بن نوفل ؟ عشرات السنين فرق العمر، يلغيها التقارب الفكري فتمتزج بها خبرة الشيخ وحكمته ، وكل ما اختزن من علم وتجربة ، وهذا العقل الشاب المتفتح للمعرفة ، المتعطّش لفك ألغاز الكون وأعماقه الروحية حين يجد أمامه شيخاً يختزن علوم الأوائل متبحّراً بالدينين الإسلامي والصابئي واجداً العلاقة بينهما ، إضافة إلى حديث الشعر والمراسلات الشعرية بينهما  ، وحديث السياسة.

أمَّا قراءة الطالع فقد رأى الصابي في هذا الطفل الخارق الذكاء الواضح النضج والمثقّف في بيئة كلها شعراء وعلماء رأى فيه مخايل النبوغ الموحي بمستقبل عظيم فقال فيه:

أبا حسن لي في الرجال فراسةُ ***** تعوَّدتُ منها أنْ تقولَ فتَصُدقا

فوفيتك التعظيم قبل أوانه ***** وقلتُ أطال الله للسيد البقا

وأضمرتُ منه لفظةً لم أُبخ بها ***** إلى أنْ أرى إطلاقها لي مُطلقا

فإنْ عشتُ أو إنْ مُتُّ فاذكرُ بشارتي ***** وأوجبْ بها حقاً عليك محققا

وكن لي في الأولاد والأهل حافظاً ***** إذا ما أطمأنَّ الجنبُ في موضع البقا

والفراسة غير فتح الفال والخيرة.

فأجابه الشريف بأبيات تؤكّد وفاءه وكرم أخلاقه:

لئن برقت مني مخايلُ عارض ***** لعينيكَ يَقضي أنْ يجودَ ويغدقا

فليس بساق قبل ربعك مربعاً ***** وليس براق قبل جوّك مرتقى

فَوالله لا كذَّبتُ ظنَّك إنّه ***** لعارٌ إذا ما عاد ظنُّك مُخفقا

يفسر هذا في ذلك الوقت بأنَّ الصابي قد نظر في سفر البروج ، ورأى أنّ برج الشريف أعلى من برج الخليفة ، فالشريف إذن سيكون هو الخليفة ، وهذا أيضاً جزء من الحقيقة وليس كلها ، وليس هو من الأمور البعيدة أو المستحيلة.

ففي أي وقت يستطيع الحاكم البويهي أن يخلع الخليفة العباسي الضعيف ، وينصب مكانه الشريف الرضي الرجل الكامل المؤهل – لوشاء ذلك – لكنه لم يفعل إذ ليس من مصلحة الحكّام البويهيين الفرس أن يتولّى الخلافة رجل قوي قادر يحد من نفوذهم الكامل [٧] .

فالعلاقة هي محبة خالصة وتفاهم واع بين عقلين متنورين أراد لها البعض أن تفسر تفسيراً سطحياً محدوداً ، وكيف يفسّرون رائعة الشريف في رثاء الصابي ، والرجل مات ولم تعد منه الفائدة التي يزعمونها؟

أعلمتَ مَنْ حملوا على الأعوادِ ***** أرأيتَ كيفَ خبا ضياءُ النادي؟

وفيها كأنَّه يرد على هذا:

لا درَّ دري إنْ مطلتُكَ ذمةً ***** في باطن مُتَغيّب ، أو بادِ

إن الوفاء كما اقترحتُ فلو يكن ***** حيّاً إذن ما كنتُ بالمُزدادِ

٨٢ بيتاً من عيون الشعر لا يمكن أن تصدر إلأ عن عاطفة صادقة وتأثر عظيم.

أشرت إلى ما استحسنت منها ، فوجدتني لم أستثن غير ٢١ بيتاً، والباقي كله من المختار ، ومنه:

ثكلتْكَ أرضٌ لم تلد لك ثانياً ***** أنى ، ومثُلكَ مُعوذُ الميلادِ

من للبلاغة والفصاحة إنْ همى ***** ذاك الغمامُ وعَبَّ ذاك الوادي

من للملوك يجُزّ في أعدائها ***** بظبى من القول البليغِ حدادِ

ومنها:

قد كنت أهوى أنْ أشاطركَ الردى ***** لكنْ أراد الله غيرَ مُرادي

ما كنتُ أخشى أنْ تضنّ بلفظة ***** لتقومَ بعدكَ لي مقامَ الزادِ

ياليتَ أني ما اقتنيتُكَ صاحباً ***** كم قِنيةِ جلبتُ أسى لفؤادي

ويقولُ مَنْ لم يدرِ كُنْهَكَ إنّهم ***** نقصوا به عدداً من الأعدادِ

هيهات أدرجَ بين بُرديكَ الردى ***** رجل الرجال وأوحد الآحادِ

إلى أن يقول:

الفضل ناسب بيننا إنْ لم يكن ***** شرفي  مُناسبَهُ، ولا ميلادي

إن لم تكن من أسرتي وعشيرتي ***** فلأنتَ أعْلَقُهم يداً بودادي

ضاقت عليّ الأرض بعدك كلُّها ***** وتركتَ أضيقها عليَّ بلادي

حينما توفي الصابي سنة ٣٨٤ هـ كان عمره (٩١) ، وعمر الشريف خمس وعشرون ، وحينما مرّ بقبر الصابي بعد عشر سنوات ، وكان في الخامسة وثلاثين رثاه مجدداً بقصيدة أخرى ، وما زالت مرارة الفقد في نفسه وكاْن لم تمرَ على رحيل الصديق عشر سنوات ، وتجدد حزنه لموت الصابي حين مرَّ بقبره.

فقال:

لولا يذم الركب عندك موقفي ***** حييتُ قبرَكَ ياأبا إسحاقِ

كيف اشتياقُك مُذْ نأيتَ إلى أخِ ***** قلقِ الضمير إليك بالأشواقِ

هل تذكرُ الزمنَ الأنيقَ وعيشُنا ***** يحلوعلى متأمل ومُذاقِ

أمضي وتعطفُني إليكَ نوازعٌ ***** بتنفسِ كتنفس المُشتاقِ [٨]

وأذود عن عيني الدموع ولو خلتْ ***** لجرتْ عليك بوابلٍ غيداقِ

ولو أنَّ في طرفي قذاةً من ثرى ***** وأراك ما قِذَّيتُها من ماقي

إنْ تمضِ فالمجدُ المرجَّبُ خالدُ ***** او تَفْنَ فالكَلمُ العظامُ بواقِ

بعد كل هذه السنين أجد أنَّ نبوءة الصابي قد تحققت بشكل آخر ، لم يكن وارداً في التفسير، فلو مررت بقبر الشريف الرضي وزرت مكتبته بالكاظمية قرب بغداد لوجدت أنَّ الشاعر خالد ، وقبره مزار وتحفة من الفن، فأين قبر الواثق والمقتدر بل أين قبور الخلفاء العباسيين كلهم ، ذهبوا وما تركوا لهم أثراً. وهنا تصدق نبوءة الصابي بأنَّه رأى مقام الشريف الرضي فوق مقام الخليفة.

------------------------------------------------------------------------
[١] . هكذا ورد البيت في المقالة . وفي الأصل : «وقبل سؤالي عنهُ في القومِ ما اسمُهُ»، ينظر : ديوان الشريف الرضي ، ج٢ / ص٣٩٦.
[٢] . هكذا أبدلتُه الشاعرة ، و الأصل هو «كان الغريبة في الأنام».
[٣] . استأثرت الشاعرة كلمة «فبكيتُ» بدلاً من «فوقفتُ».
[٤] . يبدو أنّ (كان) هنا هي التامّة التي تكتفي بمرفوعها فقط. وفي الأصل (جبانَ كان أو بطلُ)، وقد أبدلت الشاعرة حرف العطف (أو) بـ (أم) المعادلة.
[٥] . هكذا أوردت لميعة عباس عمارة البيت . وفي الأصل «أخلْت السبعةُ العُليا طرائقها».
[٦] . أثبتت الكاتبة البيت هكذا (عليَّ صليفي) بدلاً من (عليه).
والصليف هي صفحة العنق كما ورد في التعريف بها في هامش ديوان الشريف الرضي ، ج٢ ، ص٢٩.
[٧] . من المُستبعد كما اُشيع في أغلب الدراسات التي تناولت الشريف الرضي أنّه كان يطمح للوصول إلى السلطة المتمثلة (بالخلافة) فلم يكن صراع الشريف الرضي صراعاً على السلطة، خصوصاً على سلطة الخليفة العباسي. و أنَّ ما عبَّر عنه الشريف من طموح يمكن أن يُفسر باعتداده بنفسه و مكانته الاجتماعية ، مضافاً إلى ملكاته العلمية في مجالات علوم عصره. و إذا كان فرضُ طموحه لتسلّم زمام السلطة صحيحاً، فالصراع لم يكن على منصب الخليفة العباسي، و إنّما هو قائم على منصب الحاكم البويهي نفسه. لأنَّ الشريف الرضي كان يعتبر البويهيين هم صنيعة جدّه لأمة الحسن الأطروش الذي فتح بلاد الديلم ، و أسلم بنو بويه على يديه.
إنْ صراع البويهيين على السلطة فيما بينهم ، و تداخل الأمور السياسية تداخلاً معقَداً ، و اعتقال والد الرضي الشريف أبي أحمد الحسين الموسوي ، و نفيه إلى شيراز سنة ٣٦٩ هـ كل هذه الأمور جعلت الأسباب والنتائج تخضعُ للتفسيرات المحمَلة بالافتراضات . (جودت القزويني).
[٨] . هكذا وردَ البيت في المقالة. وفي ديوان الشريف الرضي «العُشَّاق» بدل «المشتاق».

 ضبط النصَ وعلَق عليه: الدكتور جودت القزويني

مقتبس من كتاب دائرة المعارف الاسلامية الشيعية – حسن الامين / المجلد ٢٨

****************************