وقال (عليه السلام): لاَ خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ، كَمَا أنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ.                
وقال (عليه السلام): مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ.                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                
وقال (عليه السلام) : مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا .                
وقال (عليه السلام): الدُّنْيَا خُلِقَتْ لِغَيْرِهَا، ولَمْ تُخْلَقْ لِنَفْسِهَا.                
وقال (عليه السلام): مَا لاِبْنِ آدَمَ وَالْفَخْرِ: أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ، وَآخِرُهُ جِيفَةٌ، و َلاَ يَرْزُقُ نَفْسَهُ، وَلاَ يَدفَعُ حَتْفَهُ.                
وقال (عليه السلام): مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا.                

Search form

إرسال الی صدیق
الشريف الرضي وخصائص شعره

للأستاذ عبد الرحمن شكري

الشريف الرضي لا يضارع ابن الرومي في تحليله المعنى وتقصيه إياه ، ذلك التقصي الذي ساعد ابن الرومي على إجادة الوصف سواء أكان وصفاً لهمسات النفس وخطراتها أو لأوجه الطبيعة والمرئيات .

ولا يضارع الشريف أبا تمام فيما يتقنه من فلتات الصنعة النادرة التي تأتي بالأبيات الفذة الخالبة الآخذة بمجامع القلوب والتي تستهوي القلوب وتشعل الخيال .

 ولا يضارع الشريف المتنبي وأبا العلاء المعري ، ولا سيما المعري في التفكير في النفس والحياة ، وأخلاق الناس . ولكن للشريف نصيباً لا يستهان به من هذه الميزات ؛ وهو مع ذلك قد اختص بالشعر الوجداني .

ولكني أحسب أن الشريف أبرزهم جميعاً في هذا الضرب من الشعر . وهو قد أمن ما يعتور ابن الرومي في بعض الأحايين من الفتور بسبب ما قد يبدر منه من الأفراط  في التقصي والتحليل وتتبع الجزئيات ؛ وأمن الشريف زلل المبالغة في الصنعة الذي قد يقع فيه أبوتمام إذا أفرط في حبه للاختراع والتوليد وإتيان ما لم يأت به أحد من التشبيه أوغيره من صيغ الصنعة ؛ وأمن أيضاً ما قد ترى في ديوان سقط الزند للمعري من مبالغات المتأخرين التي لا تعبر عن وجدان صادق .

ولو قارنت بين شعر الشريف وشعر معاصريه لوجدت فرقاً كبيراً في الأسلوب والذوق ، فإن الصنعة كانت قد انتشرت في عصره وغالى الشعراء فيها من إبعاد في التشبيه ومغالاة في المعنى من غير سيل دافق من العاطفة والوجدان يلبسها لباس صدق الإحساس ، ومن ألاعيب لفظية ومعنوية.

وحسبك أن حكيم الشعر العربي المعري التزم ما لا يلزم في لزومياته مجاراة لصنعة عصره ، ويولع أحياناً بالجناس وغيره من المحسنات الفظية التي لا تناسب ما هو فيه من التفكير والحكمة والجد .

ولا عبرة بما يقوله بعض المطلعين على الشعرالأوربي من أن الشاعر العالمي الإنجليزي (شكسبير) يفعل ذلك ويغري أحياناً بتلك الأعيب اللفظية ، فإن شكسبير يفعل ذلك في غير موضع الجد المؤثر ، وعلى لسان أناس من طوائف خاصة ، أو لهم صفات خاصة.

والشريف يترفع عن أساليب هذا التلاعب بالألفاظ. ولعل هذا هوما ينبغى أن يكون ، لأن الشريف شاعر الوجدان ، والتلاعب بالألفاظ يتلف أثر الشعر الوجدانى في النفس إذ لا يستقيم معه . وإن أطرب التلاعب باللفظ بعض الناس طرباً سطحياً إلا . أنه ليس طرب الوجدان والعاطفة .

وهذه الألاعيب اللفظية هي نزهة ولعب يلهو به الذكاء في استنباطها واختراعها ومقارنة معانيها ؛ والذكاء من العقل ، فلاغرو إذا قبله المعري شاعر العقل لأنه كان سائداً في عصره ، وان كان هذا الهزل ضد جده .

ولا عبرة بما يقول القائل من أنه أراد أن يلفت بعبثه هذا الناس عن حرية القول والفكر والعقيدة في بعض شعره كما فعل (رابليه) الكاتب الفرنسي  في تغطيته نقده لعقائد رجال الدين في قصصه بالعبث الصاخب، وإن كان عبث رابليه مجوناً لا يطيقه المعري .

ولا عبرة بقول من يقول إن المعري أحس من مرارة نفسه أن الحياة والخليقة وإن كانت مقدسة تدعو من أجل قداستها إلى مرارة النقد، إلا أنها مهزلة أيضاً ؛ فهي مهزلة مقدسة كما سماها (دانتي) الشاعر الإيطالي ، ومن أجل أنها مهزلة أباح هزل الألاعيب اللفظية في أثناء جد بالفكر .

ومن أجل أن الشريف شاعر الوجدان كان أقرب شعراء عصره إلى الأقدمين.

وكان بدوي النزعة وإن كان قد أخذ بنصيب من الصنعة العباسية لإعظام أثر المناجاة أو النداء أو الاستفهام أو النفي الوجداني في شعره ، فانه يستخدم هذه الصيغ البيانية ويتعرف وسائل الصنعة في تكرارها وموقعها ولكنها صنعة طبيعية لا تحسُّ أنها صنعة وهي لا تنافس الوجدان بل تقوي أثره .

وإذا قرأ القارىء له غزله أو رثاءه أو إخوانياته أو تحسره على انحسار الشباب أو مناجاته الديار.

 ظهرت للقارىء آثار هذه الصيغ في إشباع الوجدان وإقناعه، فإن الشريف الرضي يشبع الوجدان ويقنعه ويطربه ويستميله بالنداء الوجداني ، أو الاستفهام والسؤال ، أو النفي أو الإخبار بصيغة التحقيق والتأكيد أو الأمر أو للمناجاة بأساليب أخرى.. ويفعل الشريف كل ذلك حتى ليخيل إلى القارىء أن لأدوات هذه الصيغ في شعره معنى ليس لها في شعر غيره؛ وهو إذا رأى تلك الأدوات والحروف مثل (يا) أو(الهمزة) للاستفهام أو النداء أو(أين) أو(كيف) أو(لن) أو(قد) عرف أنه يجيد استخدامها لأغراض الشعر الوجداني أكثر من إجادة غيره استخدامها ، ففي رثاء أحبابه وأودائه ينادي الدهر فيقول:

(يا) دهر رَشْقًا بكل نائبة ***** (قد) انتهى العتب وانقضى العجب

(رُدَّ) يدي ما استطعتَ عن أَرَبي ***** (لَمْ) يبق لي بعد موتهم أرب

ففي هذين البيتين استخدم النداء والإخبار بالتحقيق والأمر والنفي كلها بصيغة وجدانية تؤثر في النفس.

فهذه هي الصنعة اللفظية المحمودة لا الجناس والألاعيب اللفظية التي أولع بها معاصروه.

ويخاطب وينادي النظرة ويسأل مع النفي في قوله:

ذكرتكُم ذكر الصبا بعد عهده ***** قضى وطرا منه وليس بعائد

(فيا) نظرة لا تملك العين أختها *****إلى الدار مِنْ رمل اللوى المتقاود

(أمَا) فارق الأحباب قبلي مفارق ***** ولا شيَّع الأظعان مثلي واجد؟

ففي هذه الأبيات استخدم الإخبار ثم النداء ثم الاستفهام المنفي ، وهذه صيغ لفظية وصنعة لفظية لا يحسُّ القارىء أنها صنعة؛ وهي صنعة الطبع التي تُقْنع الوجدان، ويتفنن الشريف ويفتن في مناجاته ومناداته الوجدانية فينادي وقفة الأحباب فيقول: (يا وقفة بوراء الليل أعهدها الخ) وينادى بؤس القرب القصير من الأحباب الذي يعقبه الفراق الطويل فيقول:

فيا بؤس للقرب الذي لا نذوقه ***** سوى ساعة ثم الفراق مدى الدهر

وينادي نفسه ويشجعها على تحمل آلام الحياة ومتاعبها فيقول:

يا نفس لا تهلكي يأساً ولا تدعي ***** لَوْكَ الشكائم حتى ينقضي العُمُرُ

وينادي الشباب فيقول:

فمن يك ناسياً عهداً فاني ***** لِعَهدِكَ ياشبابي غير بأسي

فمن يك ناسياً عهداً فاني ***** لِعَهدِكَ ياشبابي غير بأسي

فإن العيش بعدك غير عيش***** وإن الناس بعدك غير ناس [١]

وينادي بؤس نفسه في الغزل فيقول:

يا بؤس مقتنص الغزال طماعة ***** ذهب الغزال بلب ذاك القانص

كالدرة البيضاء حان ضياعها*****مِنْ بَعْدِ ما ملأت يمين الغائص

ما كان قربك غير برق لامع ***** وّلّى الغمام به وظل قالص

أغدو على أمل كحبك زائد ***** وأروح عن حظ كوصلك ناقص

وينادي الحبيب صاحب القلب الصحيح الخالي من الهوى فيقول:

ياصاحب القلب الصحيح أَما اشتفى ***** ألم الجوى من قلبي المصدوع

ولاحظ أنه لم يكتف بصيغة النداء في (يا) بل قرن إليها صيغة الاستفهام المنفي في قوله (أَمَا). وهي ألفاظ إذا جاءت في كتب النحو كانت ميتة، ولكنها هنا تثبت حياة كالسمك عند إخراجه من الماء.

ويخاطب الشريف السرحة ويرمز بها إلى من يحب فيقول:

إسْلمي يا سرحة الحي وإن كنت سحيقَهْ

أتمنَّى لك أن تبقَىْ على النأي وريقَهْ

ثمَرٌ حَرَّمَ واشيكِ علينا أَن نذوقَهْ

وينادى بالهمزة في قصيدته المطربة فيقول:

أمعيني على بلوغ الأماني ***** وشفائي من غلتي واشتياقي

وينادي طائر البان في قصيدته المشهورة فيقول:

يا طائر البان غِرّيداً على فننٍ*****ما هاج نوحك لي يا طائر البان!

(هل أنتُ مبْلغُ من هام الفؤاد به ... الخ)

فانظر إلى أثر (يا) و(ما) و(هل) ، وإلى تلك الصنعة اللفظية التي تقنع الوجدان كل الإقناع.

وقد يُقْنع الوجدان أيضاً بالمناجاة من غير أدوات النداء فيناجي الموطن والدار فيقول:

سكَنتُكِ والأيام بيضُ كأنها ***** من الطيب في أثوابنا تتقلَّبُ

ويُعجبُنِي منك النسيمُ إذا سَرَى ***** أَلا كلٌّ ما سَرَى عن القلبِ مُعْجِبُ

ويقول:

كأنك قدمةَ الأمل المرَّجى ***** عَلَّيّ وطلعة الفرج القريب

ويقول:

وأهجركم هجر الخليّ وأنتّمُ ***** أعزُّ على عيني من طارق الكرى

ويقول:

وإني لأقوى ما أكون طماعةً ***** إذا كذبت فيك المنى والمطامع

ويقول في قصيدة مطربة:

فإنْ لم تكن عندي كسمعي وناظري ***** فلا نظرت عيني ولا سمعت أذني

----------------------------------------------------------
[١] . أسقطنا أبياتا بين هذين البيتين وهي أبيات مطربة ولكنا أردنا الاختصار .

مقتبس من مجلة الرسالة العدد ٢٨٧ السنة ١٩٣٩

****************************