اسمه ونسبه:
الشريف الرضي ـ ذو الحسبين ـ أبو الحسن محمّد بن أبي أحمد الحسين بن موسى الأبرش بن محمّد الأعرج بن موسى أبي سبحة بن إبراهيم المرتضى بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمّد الباقر بن الإمام عليّ السجّاد بن الإمام الحسين بن الإمام عليّ بن أبي طالب (عليهم السلام).
ولد ببغداد سنة ٣٥٩ هـ بإجماع المؤرّخين وأرباب السير وكانت بغداد إذ ذالك عروسة العلم والفضيلة مزينة بأرباب العلم والأدب، حاضرة الشعر والشعراء، مدينة الفقه والفقهاء ومأوى المتكلمين والفلاسفة، فأخذ وليدها ينهل من العلم والشعر، ودرج من أحضان الفقه والنثر، شامخاً بالأدب والثقافة، مظلّلاً بالزعامة والعظمة، فنشأ كما يقول:
فتىً لَمْ تُوَرّكْهُ الإمَاءُ وَلَمْ تَكُنْ | أعارِيبُهُ مَدْخُوَلَةً بالأَعاجِمِ[١] |
والده:
السيّد الأجل الطاهر الأوحد، ذو المناقب والفضائل، النقيب الشريف أبو أحمد الحسين بن موسى بن محمّد بن موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، الموسوي، البغدادي.
العالم الفاضل، عظيم المنزلة مهاب الجانب وذو مكانة سامية مما أوجب على سلاطين زمانه ـ دولة بني العبّاس ودولة بني بويه ـ احترامه ورعاية جانبه لقّب بـ: الطاهر ذي المناقب، وخاطبه بهاء الدولة أبو نصر بن بويه بـ: الطاهر الأوحد، ولي منصب قضاء القضاة سنة ٣٩٤ هـ وولاية الحاج والمظالم ونقابة العلويين خمس دفعات، ومات وهو متقلّداً لها بعد أن حالفته الأمراض وذهب بصره، كان مولده سنة ٣٠٤ هـ، وتوفّي ليلة السبت لخمس بقين من جمادى الأُولى سنة ٤٠٠ هـ عن سبع وتسعين سنة، فصلّى عليه ابنه الأكبر السيد المرتضى، ودفن بداره، ثمّ نقل إلى مشهد الحسين (عليه السلام) بكربلاء، ليدفن عند جدّه إبراهيم ـ المجاب ـ بن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)[٢]، ورثاه الشريف الرضي بقصيدة بلغت تسعة وثمانين بيتاً، مطلعها:
وَسَمَتْكَ حَالِيَةُ الرَّبيعِ المُرْهِمِ | وَسَقَتْكَ سَاقِيَةُ الغَمَامِ المُرزِمِ | |
قَدْ كُنتُ أَعذُلُ قَبلَ مْوتِكَ مَنْ بَكى | فاليومَ لِي عَجَبٌ مِنَ المُتَبَسِّمِ | |
لا قُلتُ بَعْدَكَ للمدامِعِ كَفكِفي | مِن عَبرةٍ ولو أنَّ دَمعِي مِن دَمي[٣] |
ورثاه ابنه المرتضى بقصيدة مطلعها:
ألا يا قومَ للقَدَرِ المُتَاحِ | وللأيّامِ ترغبُ عن جِراحي | |
سلامُ اللّه تنقُلُه اللَّيالي | ويُهديهِ الغدوُّ إلى الرُّواحِ | |
على جَدَثٍ تشَّبثَ من لُؤَيٍّ | بينبوعِ العبادةِ والصَّلاحِ[٤] |
والدته:
السيّدة فاطمة بنت الحسين بن أبي محمّد الحسن الأطروش بن عليّ ابن الحسن بن عليّ بن عمر بن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام).
من جليلات النساء، عالمة فاضلة، ولدت ونشأت في بيت عُرف بالعلم والأدب والسياسة، اعتنت بتعليم وتربية ولديها الشريفين المرتضى والرضي عناية تامّة.
ذكرت المصادر قضيّة إن دلّت على شيء فإنّها تدلّ على اهتمام هذه السيّدة بولديها، وهي أنّ الشيخ المفيد رأى في منامه أنّ فاطمة الزهراء عليهاالسلام دخلت عليه مسجده ومعها ولداها الحسن والحسين عليهماالسلام، فقالت له: يا شيخ، خذ ولديّ هذين وعلّمهما الفقه، فلمّا أفاق تعجّب من ذلك. وذهب صبيحة ذلك اليوم إلى مسجده الذي يدرّس فيه، فدخلت عليه فاطمة بنت الناصر ومعها ولداها المرتضى والرضي، وقالت له: يا شيخ، خذ ولديّ هذين وعلّمهما الفقه، ففتح اللّه عليهما من أبواب العلوم ما شاع ذكره.
توفّيت رحمها اللّه في ذي الحجّة سنة ٣٨٥ هـ[٥]، ورثاها ولدها الشريف الرضي بقصيدة مطلعها:
أبكِيكِ لَوْ نَقَعَ الغَليلَ بُكَائي | وأقوُلُ لَوْ ذَهَبَ المَقالُ بِدائي | |
وَأعوُذُ بالصَّبرِ الجَميلِ تَعَزّياً | لَوْ كَانَ بالصَّبرِ الجَميلِ عَزَائِي[٦] |
إخوته:
ذكر صاحب روضات الجنّات نقلاً عن كتاب أنساب الطالبيين لابن الصوفي:
فولد أبو أحمد الحسين: زينب وعليّاً ومحمّداً وخديجة أربعة أولاد[٧].
فيكون بذلك أن للرضي ثلاثة أشقّاء، أُختان هما: زينب وخديجة، وأخ واحد هو عليّ المرتضى، علم الهدى، نقيب العلويين.
ولعلّ ذكر ابن الصوفي أسماء إخوته بهذا الترتيب آخذاً بنظر الاعتبار الأكبر فالأكبر سنّاً، فيكون بذلك أنّ الأكبر من إخوته هي السيّدة زينب، والتي توفّيت في حياته، ورثاها بقصيدة منها:
شقيقتي إنّ خَطْباً | عَدا عَلَيكِ لَخَطْبُ | |
وإنَّ رُزْءاً رَمَاني | بالبُعْدِ عنكِ لَصَعْبُ[٨] |
وتوّفيت الثانية سنة ٤١٩ هـ، أي: بعد وفاته، ورثاها أخوها المرتضى.
وأمّا أخوه المرتضى، فهو غني عن التعريف؛ إذ هو علم الهدى، ونقيب العلويين، وفقيه الشيعة الإماميّة الأوحد في عصره، وعلاّمة المفسّرين، وشيخ الأُدباء ومرجعهم في أدبهم، والحاذق بعلم الكلام وأُصول الجدل، وكتابه الشافي دليل على طول باعه في الجدل، وإمام أئمّة العراق بين الاختلاف والاتّفاق، إليه فزع علماؤها، وعنه أخذ عظماؤها، فهو الذي سارت أخباره، وعُرفت أشعاره، وحُمدت في ذات اللّه مآثره.
وأمّا مؤلّفاته، فهي كثيرة، منها:
الشافي في الإمامة، المحكم والمتشابه، المقنع في الغيبة، غرر الفوائد ودر القلائد، الانتصار، الذريعة في أُصول الفقه، ديوان شعره، جمل العلم والعمل، تنزيه الأنبياء وغيرها.
ولد ببغداد في رجب سنة ٣٥٥ هـ، وتوفّي في ربيع الأوّل سنة ٤٣٦، ودفن في داره، ثمّ نُقل إلى المشهد الحسيني بكربلاء[٩].
شيوخه وأساتذته:
تلمّذ الشريف الرضي على أيدي مجموعة من كبار علماء عصره في فنون العلم والمعرفة، مستوعباً ومنقحاً لها ومزيداً عليها فحضى باحترام مشايخه وأرباب العلم والأدب وصار يشار إليه بالسمو والرفعة وطول الباع في أبواب العلوم وفنون المعرفة، ساد أقرانه وصار فخر زمانه وأيد بعلمه رسوله وأمامه وشيد أركان مذهبه ومعتقده وأزاح عنه شبهات الملحدين والحاقدين لعترة سيد المرسلين بأقوى وأتم بيان، هذا وقد جاء ذكر مشايخه وأساتذته في مصادر ترجمته وأشار هو قدسسره إلى جملة منهم في مصنفاته، من مشاهيرهم:
١ ـ أبو سعيد الحسن بن عبداللّه بن المرزبان النحوي المعروف بالسيرافي (ت ٣٦٨).
٢ ـ أبو يحيى عبدالرحيم بن محمّد، المعروف بابن نباتة (ت ٣٧٤).
٣ ـ أبو عليّ الحسن بن أحمد بن عبدالغفّار الفارسي النحوي (ت ٣٧٧).
٤ ـ أبو محمّد سهل بن أحمد بن عبداللّه بن أحمد بن سهل الديباجي البغدادي (ت ٣٨٠).
٥ ـ أبو عبيداللّه محمّد بن عمران المرزباني (ت ٣٨٤).
٦ ـ أبو محمّد هارون بن موسى التلعكبري (ت ٣٨٥).
٧ ـ أبو القاسم عيسى بن عليّ بن عيسى بن داوُد بن الجرّاح (ت ٣٩١).
٨ ـ أبو الفتح عثمان بن جنّي الموصلي (ت ٣٩٢).
٩ ـ أبو بكر محمّد بن موسى الخوارزمي الحنفي (ت ٤٠٣).
١٠ ـ أبو عبداللّه محمّد بن محمّد بن النعمان، المعروف بالشيخ المفيد (ت ٤١٣).
١١ ـ أبو الحسن القاضي عبدالجبّار بن أحمد المعتزلي (ت ٤١٥).
تلامذته والرواة عنه:
تخرّج على يديه مجموعة من العلماء الأعلام تربّعوا على منابر العلم والمعرفة سنوات متمادية، تاركين لنا كنزاً من مؤلّفاتهم الثمينة، منهم: ١ ـ شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (ت ٤٦٠).
٢ ـ الشيخ جعفر بن محمّد الدوريستي.
٣ ـ الشيخ أبو عبداللّه محمّد بن عليّ الحلواني.
٤ ـ القاضي أبو المعالي أحمد بن عليّ بن قدامة (ت ٤٨٦).
٥ ـ أبو زيد السيّد عبداللّه بن عليّ كيابكي الحسيني الجرجاني.
٦ ـ أبو منصور محمّد بن أبي نصر محمّد بن أحمد بن الحسين بن عبدالعزيز العكبري.
٧ ـ الشيخ المفيد عبدالرحمن بن أحمد بن الحسين النيسابوري.
وفاته:
توفّي الشريف الرضي رحمهالله يوم الأحد ٦ محرّم سنة ٤٠٦ هـ.
حضر الوزير فخر المُلك جنازته متقدماً للصلاة عليها وسائر الوزراء والأعيان، ودُفن في داره الواقعة في محلّة الكرخ.
ولشدة تعلق السيد المرتضى بأخيه الشريف الرضي ولحبه المفرط له لم يستطيع النظر إلى نعشه الشريف فلم يشهد جنازته ولم يصلِّ عليه، فخرج إلى مشهد الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) طالباً من إمامه تسكين ألمه وإعانته على تحمل هذا المصاب الجلل.
قال الأميني في الغدير: ذكر كثير من المؤلِّفين نقل جثمانه إلى كربلاء المشرّفة بعد دفنه في داره بالكرخ، فدفن عند أبيه أبي أحمد الحسين بن موسى، ويظهر من التاريخ أنّ قبره كان في القرون الوسطى مشهوراً معروفاً في الحائر المقدّس[١٠].
ورثاه الكثير من الشعراء والأُدباء، وفي مقدّمتهم أخوه علم الهدى بقصيدة منها:
يا لَلرجالِ لَفَجْعَةٍ جَذَمَتْ يَدِي | وددتُها ذَهَبَتْ عَلَيَّ بِراسي | |
ما زلتُ أحذر وِرْدَها حتّى أتَتْ | فحسوتها في بعضِ ما أنا حاسِ | |
ومطلتُها زمناً ولمّا صَمَّمَتْ | لم يَثْنِها مَطْلي وطولُ مِكاسي | |
لا تُنكِروا من فيض دمعِيَ عبرةً | فالدّمعُ غيرُ مساعدٍ ومُواسي | |
واهاً لعُمرِك من قصيرٍ طاهرٍ | ولَرُبَّ عمرٍ طال بالأرجاسِ[١١] |
وممّن رثاه تلميذه مهيار الديلمي بقصيدة مطلعها:
مَن جبَّ غاربَ هاشم وسَنامَها | ولوى لؤيّاً فاستزَلَّ مقامَها[١٢] |
ورثاه بقصيدة أُخرى مطلعها:
أقريشُ لا لفمٍ أراكِ ولا يدِ | فتواكلي غاض النّدى وخلا الندّي[١٣] |
بعض ما قيل فيه:
لقد أطراه كلّ من ترجم له وتعرّض لسيرته بأجمل العبارات وأجزلها، وأحكم الجمل وأفضلها، مفصحةً عن أدبه وشعره وفضائله، اخترنا منها جُملاً يسيرة، وهي:
١ ـ الثعالبي (ت ٤٢٩ هـ):
ابتدأ يقول الشعر بعد أن جاوز العشر سنين بقليل، وهو اليوم أبدع أبناء الزمان، وأنجب سادة العراق، يتحلّى مع محتده الشريف ومفخره المنيف، بأدبٍ ظاهر، وفضل باهر، وحظٍّ من جميع المحاسن وافر، ثمّ هو أشعر الطالبيين من مضى منهم ومن غبَر، على كثرة شعرائهم المفلقين: كالحِمّاني وابن طباطبا وابن الناصر وغيرهم، ولو قلت: إنّه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق، وسيشهد بما أجريه من ذكره شاهد عدل من شعره العالي القِدح، الممتنع عن القَدح، الذي يجمع إلى السلاسة متانةً، وإلى السهولة رصانةً، ويشتمل على معانٍ يقرب جناها، ويبعد مداها[١٤]....
٢ ـ الباخرزي (ت ٤٦٧هـ):
له صدر الوسادة بين الأئمّة والسادة، وأنا إذا مدحته كنت كمن قال لذُكاءٍ: ما أنورك ! ولخُضَارةٍ[١٥]: ما أغزرك ! وله شعر إذا افتخر به أدرك من المجد أقاصيه، وعقد بالنجم نواصيه، وإذا نسب انتسب رقّة الهواء إلى نسيبه، وفاز بالقِدْحِ المعلّى في نصيبه، حتّى إذا أنشد الراوي غزليّاته بين يدي العِزهاة[١٦]، لقال له من العزّ: هات، وإذا وصف فكلامه في الأوصاف أحسنُ من الوصائف والوصّاف، وإن مدح تحيّرت فيه الأوهام بين مادحٍ وممدوحٍ، له بين المتراهنين في الحلبتين سبق سابق مَروح، وإن نثر حمدت منه الأثر، ورأيت هناك خرزات من العقد تنفضُّ، وقطرات من المزن ترفضّ، ولعمري إنّ بغداد قد أنجبت به فبوّأتهُ ظِلالها، وأرضعته زُلالها، وأنشقته شمالها، ووردَ شعره دجلَتها فشرب منها حتّى شرق، وانغمس فيها حتّى كاد يقال:غرق، فكلّما أُنشدت محاسن كلامه تنزّهت بغدادُ في نضرة نعيمها، واستنشقت من أنفاس الهجير بمراوح نسيمها[١٧]....
٣ ـ ابن أبي الحديد (ت ٦٥٦هـ):
حفظ الرضي القرآن بعد أن جاوز ثلاثين سنة في مدّةٍ يسيرةٍ، وعَرَفَ من الفقه والفرائض طرفاً قوّياً، وكان رحمهالله عالماً أديباً، وشاعراً مُفلِقاً، فصيح النظم، ضخم الألفاظ، قادراً على القريض، متصرِّفاً في فنونه، إن قصد الرِّقَّة في النسيب أتى بالعجب العُجاب، وإن أراد الفخامة وجزالة الألفاظ في المدح وغيره أتى بما لا يُشَقُّ فيه غباره، وإن قصد في المراثي جاء سابقاً والشعراء منقطعٌ أنفاسها على أثره، وكان مع هذا مترسِّلاً ذا كتابةٍ قويّةٍ، وكان عفيفاً شريف النفس، عالي الهمّة، ملتزماً بالدين وقوانينه، ولم يقبل من أحدٍ صلةً ولا جائزةً حتّى إنّه ردَّ صِلات أبيه، وناهيك بذلك شرفَ نفسٍ[١٨]....
٤ ـ يوسف بن يحيى الصنعاني (ت١١٢١هـ):
فاضل تزاحمت مناقبه، وغلبت في حلبة الفخار مناقبه، فهو يفتخر بغير الشعر كأبيه، وإنّما رقّ لعصابة الشعر ففصلها بلآلئ فكرته لكلّ نبيه، وما رضي في مواشاته بغير السبق، فأضحى رأس الصناعة ومن ينكر يُضرب على الفرق، فنظم ما هو أعبق من المنثور، وأبهى من العسجد في جيد اليعفور، معاني كمعاني الشعب طيباً، وكمنزلة الربيع من الزمان حبيباً، لا تمليها رتوت الشعر في إنشادها[١٩]....
٥ ـ السيّد محسن الأمين (١٣٧١هـ):
كان أوحد علماء عصره، وقرأ على أجلاّء الأفاضل، فكان أديباً بارعاً متميّزاً، وفقيهاً متبحّراً، ومتكلّماً حاذقاً، ومفسّراً لكتاب اللّه وحديث رسوله محلقاً، وأخفت مكانة أخيه المرتضى العلميّة شيئاً من مكانته العلميّة، كما أخفت مكانته الشعرية شيئاً من مكانة أخيه المرتضى الشعرية[٢٠]....
٦ ـ الشيخ عبدالحسين الأميني (ت ١٣٩٠هـ):
سيدنا الشريف الرضي هو مفخرة من مفاخر العترة الطاهرة، وإمام من أئمّة العلم والحديث والأدب، وبطل من أبطال الدين والعلم والمذهب، هو أوّل في كلِّ ما ورثه سلفه الطاهر من علم متدفّق، ونفسيّات زاكية، وأنظار ثاقبة، وإباء وشمم، وأدب بارع، وحسب نقيٍّ، ونسب نبويٍّ، وشرف علويٍّ، ومجد فاطميٍّ، وسؤدد كاظميٍّ، إلى فضائل قد تدفّق سيلها الأتيّ، ومآثر قد ارتطمت أواذيّها الجارفة، ومهما تشدّق الكاتب فإنَّ في البيان قصوراً عن بلوغ مداه، وللتنقيب تقاعساً عن تحديد غايته، وللوصف انحساراً عن استكناه حقيقته[٢١]....
٧ ـ ونحن نقول:
شاءت السنون أم أبت، بصرت عيون الحاقدين أم عمت، سيبقى الشريف الرضي خالداً ما مضت عليه الدهور، وتأتي به العصور؛ ببركة جمعه لكلمات إمام المتّقين، وقائد الغرّ المحجّلين، أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، هذه المختارات بقيت مقرونةً باسمه طوال القرون الماضية، وستظل إلى أن يرث اللّه الأرض ومَن عليها[٢٢].
مؤلّفاته:
ترك لنا الشريف الرضي رحمهالله مصنّفات في شتّى العلوم في الأدب والنحو واللُّغة والتفسير والحديث وغيرها، فكانت وما زالت تحتلّ مكاناً سامياً، ومميّزاً بين مصنّفات علمائنا الأفذاذ.
ومن الملفت للنظر أنّ من ترجم له ـ من مخالفيه في العقيدة ـ أظهر الجانب اللُّغوي والأدبي إضافة لشاعريّته، من شخصيته العلمية وأخفى أو خفي عليه الجانب الفقهي، فقد كان الشريف الرضي فقيهاً بارعاً، فالباحث يجد آراؤه الفقهيّة جليّة واضحة بين ثنايا كتبه، كتأويل القرآن، والمجازات النبويّة، وحقائق التأويل، إضافة لتأليفه كتاباً في الفقه المقارن، وهو: تعليق خلاف الفقهاء، قال عنه الشيخ الطهراني: ولعلّه تعليق على مسائل الخلاف في الفقه لأخيه المرتضى، كما في الفهرست، أو شرح مسائل الخلاف له، كما في رجال النجاشي[٢٣].
وعلى كلٍّ، فإليك سرد ممّا وقفنا عليه من مؤلّفاته:
١ ـ أخبار قضاة بغداد.
٢ ـ تعليق خلاف الفقهاء.
٣ ـ تعليقه على إيضاح أبي عليّ الفارسي.
٤ ـ تلخيص البيان عن مجازات القرآن.
٥ ـ الحسن من شعر الحسين.
٦ ـ حقائق التأويل في متشابه التنزيل.
٧ ـ خصائص الأئمّة.
٨ ـ ديوان شعره.
٩ ـ الزيادات في شعر أبي تمام.
١٠ ـ الزيادات في شعر ابن الحجاج.
١١ ـ سيرة والده الطاهر.
١٢ ـ فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام).
١٣ ـ ما دار بينه وبين أبي إسحاق من الرسائل شعراً.
١٤ ـ مجازات الآثار النبويّة.
١٥ ـ مختار شعر أبي إسحاق.
١٦ ـ معاني القرآن.
١٧ ـ نهج البلاغة، وسنتكلّم عنه مفصّلاً إن شاء اللّه تعالى.
نهج البلاغة:
الكتاب الذي بلغ من الشهرة والرفعة والخلود والسموّ ما لم يبلغه كتاب آخر غير القرآن الكريم، فقد انبهر بكلام أمير المؤمنين (عليه السلام) الأُدباء، واندهش ببلاغته البلغاء، حتّى وصفوه قديماً بأنّه: دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق، ومن شدّة انبهارهم واندهاشهم به أطروه بأقوال مضيئة، نذكر نماذج يسيرة منها:
١ ـ قول عليّ بن زيد البيهقي، أبو الحسن (ت ٥٦٥ هـ ) ـ في معارج نهج البلاغة ـ:
وها أنا ذا أقول: هذا الكتاب النفيس مَملُوء من ألفاظ يتهذَّب بها المُتكَلِّم، ويتدرَّب بها المُتعلِّم، فيه من القول أحسنُه، ومن المعاني أرْصنُه، كلامٌ أَحلى من نَغَم القِيان، وأَبْهى من نِعَمِ الجِنان، كلام مَطلَعُه كسُنَّةِ[٢٤] البَدْرِ، ومَشْرَعُه مَورِد أهل الفَضل والقَدْر، وكلماتٌ وَشْيُها حِبَر[٢٥]، ومَعانيها فِقَر[٢٦] وخُطَبٌ مَقاطِعُها غُرَر[٢٧]، ومبادِؤُها دُرَر، استعاراتُها تحكي غمزاتِ الألحاظ المِراض[٢٨]، ومواعِظُها تُعَبِّر عن زَهرات الرِّياض. جمع قائل هذا الكلام بين ترصِيع بديع، وتجنيس أنيس، وتطبيق أنيق.
فللهِ دَرُّ خاطرٍ عن مخايل[٢٩] الرشد ماطِر، وعَينُ اللّهِ على كلام إمام وَرِث الفضائل كابراً عن كابر، ولا غَرْو للِروضِ الناضِر إذا انْهَلَّت فيه عَزالي[٣٠] الأنواء أن تخضرّ رُباه وتفوح رَيّاه، ولا للِسّارِي في مَسالِك نهج البلاغة يَحْمَد عند الصباح سُراه، ولا لمُجيل قِداحِ الطَّهارَة إذا صَدَقه رائد التوفيق والإلهام أن يَفُوز بِقِدْحَي المُعَلَّى والرقِيبِ، ويمتَطِي غَوارِب كُلِّ حظٍّ ونَصيب[٣١]....
٢ ـ قول قطب الدين الراوندي (ت ٥٧٣هـ) في كتابه منهاج البراعة:
كنت قديماً شرحت الخطبة الأُولى من نهج البلاغة بالإطناب، وكشفت بيان جميع ما فيها من أنواع العلوم التي أومأ إليها بالإسهاب، وهو كلام عند أهل الفطنة والنظر دون كلام اللّه ورسوله وفوق كلام البشر، واضحة مناره مشرقة آثاره، ولا يستبعد في هذا الدهر أن يلتبس شيء من مشكلاته على من يقتبس إمّا من ألفاظه الغرائب أو معانيه العجائب[٣٢]....
٣ ـ قول قطب الدين الكيدري محمّد بن الحسين النيشابوري (من أعلام القرن السادس) في كتابه حدائق الحقائق:
هذا الكتاب ـ الذي نحن بصدده وهو كتاب نهج البلاغة ـ نطفة من بحار علومه الغزيرة، ودرّة من جواهر أصدافه الجمّة الغفيرة، وقطرة من قطرات غيثه المدرار، وكوكب من كواكب فلكه الدوّار، ولعمري إنّه الكتاب الذي لا يدانيه في كمال الفضل كتاب، وطالب مثله في الكتب كالعنزي لا يرجى له إياب، وهو محجر عيون العلوم، وفي خلال الكتب كالبدر بين النجوم، ألفاظه عِلْوِيّة عَلَوِيّة، ومعانيه قُدسيّة نبويّة، وهو عديم المثل والنظير... وإذ قد كان هذا الكتاب الغاية في بلاغة البلغاء، والنهاية في فصاحة الفصحاء، تعيّن الفرض علينا أن نصدّر شرحه بجملة وجيزة من أقسام البلاغة وأحكامها[٣٣]....
٤ ـ مقاطع من أقوال ابن أبي الحديد (ت ٦٥٦هـ) في شرحه لنهج البلاغة:
قال: وأمّا الفصاحة فهو (عليه السلام) إمام الفصحاء، وسيّد البلغاء، وفي كلامه قيل: دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوقين. ومنه تعلَّم الناس الخطابة والكتابة، قال عبدالحميد بن يحيى: حفظتُ سبعين خطبة من خطب الأصلع، ففاضت ثمّ فاضت. وقال ابن نُباتة: حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده الإنفاق إلاّ سعة وكثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ عليّ بن أبي طالب....
ويكفي هذا الكتاب [نهج البلاغة] الذي نحن شارحوه دلالة على أنّه لا يُجارى في الفصاحة، ولا يُبارى في البلاغة، وحسبك أنّه لم يدوّن لأحدٍ من فصحاء الصحابة العُشْر ولا نصف العُشْر ممّا دُوِّن له[٣٤]....
وقال في شرح الخطبة «٩٠» المعروفة بخطبة الأشباح/ في صفة الملائكة:
إذا جاء هذا الكلام الربّاني، واللفظ القدسي، بطلت فصاحة العرب، وكانت نسبة الفصيح من كلامها إليه، نسبة التراب إلى النُّضَار الخالص، ولو فرضنا أنّ العرب تقدِرُ على الألفاظ الفصيحة المناسبة أو المقاربة لهذه الألفاظ، من أين لهم المادّة التي عبَّرت هذه الألفاظ عنها ؟ ومن أين تعرف الجاهليّة بل الصحابة المعاصرون لرسول اللّه (صلى الله عليه و آله) هذه المعاني الغامضة السمائيّة ليتهيّأ لها التعبير عنها ؟ !
أمّا الجاهليّة، فإنّهم إنّما كانت تظهر فصاحتهم في صفة بعير، أو فرس، أو حمار وحش، أو ثور فلاة، أو صفة جبال أو فلوات ونحو ذلك.
وأمّا الصحابة، فالمذكورون منهم بفصاحةٍ إنّما كان منتهى فصاحة أحدهم كلمات لا تتجاوز السطرين أو الثلاثة، إمّا في موعظة تتضمّن ذكرالموت، أو ذمّ الدنيا، أو ما يتعلّق بحربٍ وقتال... فثبت أنّ هذه الأُمور الدقيقة في مثل هذه العبارة الفصيحة لم تحصل إلاّ لعليّ وحده؛ وأُقسم إنّ هذا الكلام إذا تأمّله اللّبيب اقشعرّ جلده، ورجفَ قلبُه، واستشعر عظمة اللّه العظيم في رَوْعه وخَلده، وهام نحوه، وغلب الوجد عليه، وكاد يخرج من مُسْكه شوقاً، وأن يفارق هيكله صَبابةً ووجداً[٣٥].
وقال في شرح الخطبة «١٠٨»:
من أراد أن يتعلّم الفصاحة والبلاغة، ويعرف فضلَ الكلام بعضه على بعض، فليتأمّل هذه الخطبة، فإنّ نسبتها إلى كلّ فصيح من الكلام ـ عدا كلام اللّه ورسوله ـ نسبة الكواكب المنيرة الفلكيّة إلى الحجارة المظلمة الأرضيّة... فجزى اللّه قائلها عن الإسلام أفضل ما جزى به وليّاً من أوليائه، فما أبلغ نصرته له، تارةً بيده وسيفه، وتارةً بلسانه ونطقه، وتارةً بقلبه وفكره. إن قيل: جهاد وحرب فهو سيّد المجاهدين والمحاربين، وإن قيل: وعظٌ وتذكير فهو أبلغُ الواعظين والمذكّرين، وإن قيل: فقه وتفسير فهو رئيس الفقهاء والمفسّرين، وإن قيل: عدل وتوحيد فهو إمام أهل العدل والموحدين[٣٦]....
ما قيل في نهج البلاغة من نظم:
لشدّة انبهار الأُدباء والشعراء ببلاغة وفصاحة ومعاني نهج البلاغة، نظموا فيه الشيء الكثير، اخترنا نماذج يسيرة منه: قال عليّ بن زيد البيهقي (ت ٥٦٥هـ): وأنشدي في الإمام الحسن بن يعقوب لوالده الاُستاذ الإمام يعقوب في وصف كتاب نهج البلاغة:
نَهجُ البَلاغة نَهجٌ مَهْيَعٌ جَدَدُ | لِمَنْ يُرِيدُ عُلُوّاً مالَه أَمَدُ | |
يا عادِلاً عنهُ تَبْغِي بالهَوى رَشَداً | اعْدِل إليهِ فَفيهِ الخَيرُ والرَّشَدُ | |
واللّه واللّه إنَّ التارِكيهِ عَمُوا | عن شافياتٍ عِظاتٍ كُلُّها سَدَدُ | |
كأنَّها العقْدُ مَنْظُوماً جَواهِرُها | صَلّى على نَاظِميها رَبُّنا الصَّمَدُ | |
ما حالَهُم دُونها إنْ كُنتَ تَنْصِفُني | إلاّ العُنُودُ وإلاّ البَغيُ والحَسَدُ |
وقال: وأنشدني الإمام الحسن بن يعقوب مقتدياً بوالده رحمهما اللّه:
نَهجُ البَلاغة دُرْجٌ ضِمْنُهُ دُرَرُ | نَهجُ البَلاغة رَوضٌ جادَهُ دِرَرُ | |
نَهجُ البَلاغة وَشْيٌ حاكُه صَنَعٌ | من دون مَوشِيّه الديباجُ والحِبَرُ | |
أو جُونَةٌ مُلِئَتْ عِطْراً إذا فُتِحَتْ | خَيْشُومَنا فَغَمَتْ ريحٌ لها ذَفَرٌ | |
صَدْقتُكُم سادَتي والصدْقُ عادَتُنا | وَإنَّهُ خَصْلَةٌ ما عابَها بَشَرٌ | |
صَلّى الإلهُ على بحرٍ غَوارِبُهُ | رَمَتْ بِهِ نحوَنا ما لألأَ القَمَرُ |
وقال السيّد الإمام كمال الدين أوحد العترة أبو الحسن عليّ بن محمّد العلوي الزُّبارة في هذا الكتاب والمصنّف:
أَنا مَن تَجاوَزَ قِمَّةَ الجَوزاءِ | بأَبٍ مُبيدٍ للعِدى أَبّاءِ | |
زوجِ البَتولِ أَخِي الرسولِ مُنابِذِ الـ | ـكُفّارٍ دامِغِ صَولَة الأعداءِ | |
مُتشبِّثٍ بعُرَى التقى معروفةٌ | يمناهُ بالإعطابِ والإعْطاءِ | |
ذي عزّةٍ قمريّةٍ وَعَزِيمةٍ رَضَوِ | يّةٍ وسجيَّةٍ مَيْثاءِ | |
قد طَلَّقَ الدنيا بِلا كُرهٍ ولم | يَغْتَرَّ بالصّفراءِ والبيضاءِ | |
لَو لم يكن في صورةٍ بشريَّةٍ | ما كان يُدعى من بَني حوّاءِ | |
نهجُ البَلاغةِ مِن مقالتِهِ التي | فيها تَضِلُّ قَرائِحُ البُلَغاءِ | |
كَمْ فِيه مِن خُطَبٍ تَفُوحُ عِظاتُها | كالروضِ غِبَّ الديمةِ الوَطْفاءِ[٣٧] |
وقال عليّ بن ناصر السرخسي: وقلت في عنفوان عمري:
للّه درُّكَ يا نهجَ البلاغةِ من | نهجٍ نجا من مهاوي الجهلِ سالِكُه | |
أودعتَ زُهْرُ نُجومٍ ضلَّ منكرُها | وجار عن جدد عنا مسالِكُه | |
لأنت درُّ وياللّه ناظِمُهُ | وأنت نضر وياللّه سابِكُه[٣٨] |
وقال قطب الدين الكيدري:
نهجُ البلاغةِ نهجُ كلِّ مسدِّدِ | نهجُ المرامِ لكلِّ قرم أمجدِ | |
يا من يبيتُ وهمُّه درك العُلى | فاسلكه تحظَ بما ترومُ وتزددِ | |
إنسانُ عينٍ للعلومِ بأسرها | مضمونة وذوو البصائر شُهَّدِ | |
بَهَرَ النجومَ الزُّهْرَ بل شمسَ الضُحى | معنىً وألفاظاً برغمِ الحُسَّدِ | |
ينبوعُ مجموعِ العلومِ رمى بهِ | نحو الأنام لِيقتفيهِ المهتدي | |
فيه لطُلاّبِ النهايةِ مَقْنَعٌ | فليلزمنهُ ناظر المسترشدِ | |
صلّى الإلهُ على منظّمهِ الذي | فاقَ الورى بكمالهِ والمحْتَدِ[٣٩] |
وقيل:
نهجُ البلاغةِ نهجُ العلمِ والعملِ | فاسلكهُ يا صاح تبلُغْ غايَةَ الأملِ | |
كتابٌ كأنَّ اللّهَ رصَّعَ لفظَهُ | بجوهرِ آياتِ الكتابِ المفصَّلِ | |
حوى حِكَماً كالوحي ينطقُ معجِزاً | ولا فرقَ إلاّ أنّه غيرُ مُنْزَلِ |
وقيل:
نهجُ البَلاغةِ نهجُ الفضْلِ والأدبِ | ونهجُ كلِّ هدىً يبغيهِ ذُو الأدبِ | |
في ضمنهِ كَلِمٌ في ضِمنها حِكَمٌ | تشفي القلوبَ من الأدواءِ والريَبِ |
وقيل:
نهجُ البلاغةِ نِعْمَ الذُّخرُ والسَّنَدُ | وفيهِ للمؤمنينَ الخيرُ والرَّشَدُ | |
عَينُ الحياةِ لِمنْ أضحى تأمّلها | يا حبّذا معشراً في مائها وَرَدوا | |
ما إنْ رأتْ مثلَها عينٌ ولا سَمِعَتْ | أُذنٌ ولا كَتَبَتْ في العالَمينَ يَدُ |
شروح نهج البلاغة:
بما أنّ نهج البلاغة رزق من الشهرة ـ بعد كلام اللّه تعالى وكلام رسوله (صلى الله عليه و آله) ـ ما لم يرزقه كتاب آخر، فلا غرو أن يتناوله الأعلام بمختلف عقائدهم ومذاهبهم، شارحين خطبه ورسائله وقصار كلماته من القرن السادس وحتّى يومنا هذا، بحيث يتعذّر الوقوف على جميعها، وسنُشير إلى من أحصى هذه الشروح ـ قدر الإمكان ـ بصورة إجماليّة، وهم:
١ ـ المحدِّث الشيخ حسين النوري الطبرسي (ت ١٣٢٠هـ)، عدَّ منها ٢٦ شرحاً[٤٠].
٢ ـ العلاّمة السيّد محسن الأمين العاملي (ت ١٣٧١هـ)، عدَّ ٣١ شرحاً[٤١].
٣ ـ العلاّمة السيّد هبة الدين الشهرستاني (ت ١٣٨٦هـ)، عدَّ ٤٥ شرحاً[٤٢].
٤ ـ العلاّمة الشيخ آقا بزرك الطهراني (ت ١٣٨٩هـ)، عدَّ ١٤٨ شرحاً[٤٣].
٥ ـ العلاّمة الشيخ عبدالحسين الأميني (ت ١٣٩٠هـ)، عدّ ٨١ شرحاً[٤٤].
٦ ـ ونجله الدكتور الشيخ محمّد هادي الأميني، عدّ ١٢٩ شرحاً[٤٥].
٧ ـ والعلاّمة السيّد عبدالزهراء الخطيب (ت ١٤١٤هـ)، عدَّ ١٠١ شرحاً[٤٦].
دفع الشكّ عن نهج البلاغة:
ما إن أتمّ الشريف الرضي رحمهالله جمع نهج البلاغة، حتّى تلاقفته طبقات الفضيلة، وروّاد المعرفة بكل إكبار وتقدير، وأخذت تدرسه وتشرحه وتحفظه وتشجّع العمل على ضوئه، ولا غرو في ذلك، فإنّه كلام أمير البيان وسيّد البلغاء بعد النبيّ (صلى الله عليه و آله) أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فكلامه يمسّ القلوب ويبعث فيها الأمل والطمأنينة.
نعم، تسنّم نهج البلاغة المنزلة العظيمة في المجتمعات الثقافية والعلمية على مرّ القرون، ممّا أثار حفيظة نفر من أتباع مَن خالف أمير المؤمنين (عليه السلام) في حياته، فراحوا يوردون عليه الشكوك سعياً منهم لإيجاد خدش بقائل نهج البلاغة أو بجامعه.
وما أشبه اليوم بالبارحة، فقد مُني نهج البلاغة بما مُني به كتاب اللّه جلّ شأنه، فقال المنكرون للتنزيل: إنّ القرآن الكريم من كلام محمّد (صلى الله عليه و آله) وليس من كلام اللّه، وقال المرتابون في نهج البلاغة: إنّه كلام جامعه الشريف الرضي وليس من كلام الإمام عليّ (عليه السلام)!!
فأوّل من أثار الشكّ في نهج البلاغة هو ابن خلّكان في كتابه وفيات الأعيان، حيث قال: وقد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام الإمام عليّ بن أبي طالب رضىاللهعنه، هل هو جمعه أم جمع أخيه الرضي ؟ وقد قيل: إنّه ليس من كلام عليّ، وإنّما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه[٤٧]!!
ثمّ جاء بعده أقوام ساروا على نهجه، وتعاهدوا تلك البذرة التي بذرها وسقوها بماء الخبائث فكانت: «كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاْءَرْضِ مَالَهَا مِن قَرَارٍ»[٤٨]، وهم: الصفدي في الوافي بالوفيات[٤٩]، واليافعي في مرآة الجنان[٥٠]، والذهبي في ميزان الاعتدال[٥١]، وابن حجر في لسان الميزان[٥٢]، وابن كثير في البداية والنهاية[٥٣]، وغيرهم.
وقد أُثيرت شبهات كثيرة حول خطب نهج البلاغة ونعق الكثير بها قديماً وحديثاً، ولا تستحقّ الردّ؛ لعدم صمودها أمام الدليل، وهي أوهن من بيت العنكبوت، واخترنا أوّل شكّ ـ الذي أثاره ابن خلّكان ـ للردّ عليه بقولنا:
لقد جُمع كلام أمير المؤمين (عليه السلام) وخطبه وحكمه في الكثير من الكتب من قبل أن يولد الرضي رحمهالله بمئات السنين، بل دوّن الكثير منه في حياته (عليه السلام)، فضلاً عن الذي كان محفوظاً في صدور محبّيه.
فقد روى الكليني في الكافي، والصدوق في كتاب التوحيد بإسنادهما عن أبي إسحاق السبيعي، عن الحارث الأعور قال: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) يوماً خطبةً بعدَ العصرِ، فَعَجِبَ الناسُ من حُسنِ صِفَتِهِ وما ذكره من تعظيم اللّه جلّ شأنه.
قال أبو إسحاق: فقلت للحارث: أَوَ مَا حَفِظتها ؟ قال: قد كتبتها، فأملاها علينا من كتابه: «الحمدُ للّهِ الذي لاَيَموتُ، ولاَ تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ...»[٥٤].
فالحارث المتوفّى سنة ٦٥هـ ـ كما في المصادر الرجالية[٥٥] ـ لديه كتاب جمع فيه خُطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، والشريف الرضي ولادته كانت سنة ٣٥٩هـ، فانظر الفارق الزمني بين التاريخين ؟ ذكرنا هذه المقارنة لتكون مصداقاً لمدّعانا بتدوين خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) من قبل أن يولد الرضي بمئات السنين، وإليك ثلّة من الذين جمعوا خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) قبل الرضي وألّفوا فيها كتاباً:
١ ـ الحارث الأعور، المتوفّى سنة ٦٥هـ، كما أسلفنا.
٢ ـ زيد بن وهب (ت٩٦هـ)[٥٦].
قال الشيخ الطوسي: له كتاب خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) على المنابر في الجُمع والأعياد وغيرها[٥٧].
٣ ـ هشام بن محمّد بن السائب الكلبي (ت ٢٠٦هـ)[٥٨].
قال ابن النديم ـ عند سرده لكتبه ـ: وله من الكتب المصنّفة... كتاب خطب عليّ (عليه السلام)[٥٩].
٤ ـ محمّد بن عمر بن واقد الأسلمي البغدادي (ت ٢٠٧هـ)[٦٠].
قال الشيخ آقا بزرك الطهراني: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) برواية الواقدي[٦١]....
٥ ـ عليّ بن محمّد بن عبداللّه البغدادي المدائني (ت ٢٢٥هـ)[٦٢].
أثبت له ابن النديم كتاب خطب عليّ (عليه السلام)، وكذلك الشيخ الطهراني بعنوان: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)[٦٣].
والعجيب من الذهبي ـ الذي يسير خلف ابن خلّكان بالتشكيك في نهج البلاغة ـ يتّهم السيّد المرتضى في ميزان الاعتدال[٦٤].
بوضعه لنهج البلاغة الذي هو خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) وكتبه، ويُثبت للمدائني المتوفّى سنة ٢٢٥هـ ـ في سير أعلام النبلاء[٦٥] ـ كتاب خطب عليّ وكتبه ؟!
نترك الحكم عن الذهبي وأمثاله للقارئ اللبيب.
هؤلاء ثلّة يسيرة من الذين جمعوا خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) من قبل أن يولد الرضي بمئات السنين، وفي المصادر عشرات آخرين منهم لا يسع المجال لذكرهم.
منهجيّة الرضي في جمعه لنهج البلاغة:
بما أنّ خُطب وكتب وحكم أمير المؤمنين (عليه السلام) قد جمعت ـ كما أسلفنا ـ قبل الرضي بمئات السنين، فقد اجتمعت كلّ هذه المخطوطات ـ أو جلّها ـ بمتناول يد الشريف الرضي رحمهالله من خلال مكتبة أخيه علم الهدى الشخصيّة، والتي تحدّثت عنها المصادر باحتوائها على ثمانين ألف مجلّد، سوى ما أهدى منها إلى الأُمراء[٦٦]، أو من خلال المكتبات العامّة، وكانت كلّها في بغداد، كخزانة كتب محلّة الكرخ التي وقفها الوزير سابور ابن أردشير وزير بهاء الدولة، قال عنها ياقوت الحموي: لم يكن في الدنيا أحسنُ كتباً منها، كانت كلّها بخطوط الأئمّة المعتبرة وأُصولهم المحرّرة[٦٧]، إضافة لمؤهّلات فريدة كان يمتاز بها الشريف الرضي رحمهالله هيّأته بأن يقدم على جمع خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، فجمعها ضمن المنهجيّة التي أشار إليها في مقدّمة نهج البلاغة، نُشير إليها في النقاط التالية:
١ ـ عندما فرغ الشريف الرضي رحمهالله من تأليف كتابه خصائص الأئمّة (عليهم السلام)، جعل الفصل الأخير منه الكلمات القصار لأمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال:... فجاءَ في آخرِها فصلٌ يتضمّن محاسنَ ما نُقل عنه (عليه السلام) من الكلامِ القَصير في المواعظِ والحِكمِ والأمثالِ والآدابِ.
فاستحسنه جماعة من أصدقائه، وشجّعوه على أن يجمع خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) الطويلة، فعزم رحمهالله على جمع ما تفرّق من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) من المصادر الأصليّة المدوّنة ـ أغلبها ـ بخطّ مؤلّفيها، كما أسلفنا.
٢ ـ لا يخفى أنّ جمع الرضي لخطب النهج لم يكن جمعاً وتدويناً كمّياً، بل هو اختيار من الخطب، حيث يقول: ابتدِئ بتأليف كتابٍ يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في جميع فنونه....
٣ ـ قام الشريف الرضي بتصنيف نهج البلاغة إلى: خطب وأوامر، وكتب ورسائل، وحكم ومواعظ، كما قال: وَرَأيتُ كلامهُ (عليه السلام) يَدُورُ على أقطابٍ ثلاثةٍ: أوَّلُها: الخُطَبُ والأوامِر، وثانيها: الكُتُبُ والرسائل، وثالثها: الحِكَمُ والمَواعِظ....
ثمّ ترك في ذيل كلّ من هذه الأقطاب أوراقاً بيضاء زائدة؛ ليستدرك فيها ما لم تصل إليه يده من كلامه عاجلاً، ويثبته فيها لو أمكن له الظفر والوصول إليه في الآجل، كما قال: ومُفَصِّلاً فيهِ أوراقاً؛ لِتكُونَ مُقدِّمةً لاستدراكِ ما عَسَاهُ يَشُذُّ عَنِّي عاجِلاً، وَيَقَعُ إِلَيَّ آجِلاً.
٤ ـ لمّا كان الرضي رحمهالله أديباً، ويتميّز بذوق أدبي فريد، فلذلك كانت تجذبه وتُغريه قوّة البلاغة والبيان والسجع، وعلى هذا الذوق رتّب النهج، ولذلك لم يراعِ التتالي والتنسيق، كما يقول: وربّما جاء فيما أختارُهُ من ذلك فصولٌ غيرُ مُتّسِقة، ومَحاسنُ كَلِمٍ غَيرُ مُنْتَظِمَة؛ لأنّي أُورِدُ النُّكَتَ واللُّمَعَ، ولا أقصُدُ التَّتالِيَ والنَّسَقَ.
٥ ـ وعلى هذه المنهجيّة سار الرضي في جمعه لنهج البلاغة، فنلاحظه ربّما اختار مقاطع من خطب طويلة وليس كلّها، أو يقطع مقطعاً من خطبة ويدرجه ضمن خطبة أُخرى، أو يجمع خطبة من خطب شتّى، أو يوزّع خطبة واحدة إلى عدّة فصول[٦٨]، كما قال: وربّما جاء في أثناء هذا الاختيار اللفظ المردّد، والمعنى المكرّر، والعُذر في ذلك أنّ روايات كلامه (عليه السلام) تختلف اختلافاً شديداً، فربّما اتّفق الكلام المختار في روايةٍ فنُقِلَ على وجهه، ثمّ وُجِد بعد ذلك في رواية أُخرى موضوعاً غير موضعه الأوّل: إمّا بزيادة مختارة، أو لفظ أحسن عبارة، فتقتضي الحالُ أن يُعاد؛ استظهاراً للاختيار، وغيرةً على عقائل الكلام....
مصادر ترجمة الشريف الرضي:
لا شكّ أنّنا لم نكن ندّعي الإحاطة بكلّ جوانب شخصيّة الشريف الرضي، بل في حياته جوانب كثيرة أُخرى لم نتطرّق إليها، كحياته السياسيّة، والاجتماعيّة وغيرهما، ولكنّنا ذكرنا ما منحتنا الأوراق السابقة من مساحة، فلذلك نذكر مجموعة من المصادر التي ترجمة له؛ لتكن مفتاحاً لمن رام مزيد التعرّف عن شخصيّته، وهي:
رجال النجاشي: ٣٩٨/١٠٦٥، رجال ابن داوُد: ١٧٠/١٣٦٠، خلاصة الأقوال: ٢٧٠/٩٧٤، نقد الرجال ٤: ١٨٨/٤٦٢٠، الدرجات الرفيعة: ٤٦٦ ـ ٤٨٠، روضات الجنّات ٦: ١٩٠/٥٧٨، رياض العلماء ٥: ٧٩، معالم العلماء ١: ٥٨٩/٣٤٢، تنقيح المقال ٣: ١٠٧/١٠٥٩٠، الفوائد الرجاليّة ٣: ١٢٩، جامع الرواة ٢: ٩٩، الكنى والألقاب ٢: ٢٦٦/٢٨٨، إنباه الرواة ٣: ١١٤/٦٣٢، أعيان الشيعة ٩: ٢١٦، أمل الآمل ٢: ٢٦١/٧٦٩، تأسيس الشيعة: ٢١٣ و٣٣٨، مجالس المؤمنين ١: ٥٠٣، نسمة السحر ٣: ٥٢/١٤٤، الغدير ٤: ١٨١، العدد الخامس من مجلّة تراثنا الصادرة عن مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لاحياء التراث، وهو عدد خاص صدر بمناسبة مرور ١٠٠٠ عام عن وفاة الشريف الرضي، ومن الكتب المستقلّة: كتاب الشريف الرضي لحسن محمود عليوي، كتاب الشريف الرضي للدكتور الشيخ محمّد هادي الأميني.
الكامل في التاريخ ٩: ٢٦١، تاريخ بغداد ٣: ٤٠/٦٦٤، معجم طبقات المتكلّمين ٢: ٢٣٧/١٩٣، وفيات الأعيان ٤: ٤١٤/٦٦٧، يتيمة الدهر ٣: ١٥٥/١٣، المحمّدون من الشُعراء للقفطي: ٣٣٦/٢٢١، سير أعلام النبلاء ١٧: ٢٨٥/١٧٤، العبر ٢: ٢١٣، ميزان الاعتدال ٦: ١١٨/٧٤٢٤، المنتظم ١٥: ١١٥/٣٠٦٥، شذرات الذهب ٣: ١٨٢، عمدة الطالب: ٢٥٣، مرآة الجنان ٣: ١٥، البداية والنهاية ١٢: ٣، تاريخ الإسلام للذهبي ٢٥: ١٤٩/٢٠٤، جمهرة أنساب العرب: ٦٣، توضيح المشتبه ٤: ٢٠١، نزهة الجليس ١: ٥٤٤ و٥٥٣، تاريخ آداب اللغة العربية ١: ٥٦٧/١١، الأعلام للزركلي ٦: ٩٩، وغيرها.