وقال (عليه السلام) : مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا .                
وقال (عليه السلام): مَا مَزَحَ امْرُؤٌ مَزْحَةً إِلاَّ مَجَّ مِنْ عَقْلِهِ مَجَّةً.                
وقال (عليه السلام): يَهْلِكُ فِيَّ رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ، وَبَاهِتٌ مُفْتَر.                
وقال (عليه السلام): أَشَدُّ الذُّنُوبِ مَا اسْتَخَفَّ بِهِ صَاحِبُهُ.                
وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                
وقال (عليه السلام): مَنْهُومَانِ لاَ يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْم، وَطَالِبُ دُنْيَا.                

Search form

إرسال الی صدیق
عاشوراء في شعر الشريف الرضي

بقلم د. حسن عباس نصر الله

عاشوراء، يا ملهمة الشعراء ، يا شمساً لا تغيب ، يا رجاء قلبي الكئيب.

منجم الثورات ، مصنع البطولات، صفاء العبرات.

عاشوراء زهرها نجيع ، ثمرها شهداء.

كل ثورة إسلاميَّة ، حرَّكتها قطرة دم حسينيّة، سفكت في كربلاء.

كل زهرة بيضاء، نبتت على دمعةٍ ذرفتها عين «زينب» يوم عشوراء.

أنت الحسينُ رميت بدمك إلى السماء.

فلوَّنت الشفق، ومنذ رَمْيتِكَ ولدت لأوّل مرَّةٍ حمرةُ الأفق، وما عرفها الكون قبل دماك.

أحقيقةٌ أم أسطورةُ تلمّست علاك؟

رواها التاريخ فكرة ، حوَّلتها الأجيال معجزات، صاغها شاعر الفلاسفة ، أبوالعلاء ، وساماً زيَّن صدر الزمن ، وحكمة عطرّت شفاه الرواة:

وعلى الأفق من دماء الشهيد ***** ين علي ونجلِهِ شاهدان

فهما في أواخر الليل فجرا ***** نِ وفي أوْلياتِهِ شفقان

كربلاء قضيةُ، ولدها الكونُ مرَّة، وفاز بها خامسُ أهل الكساء.

قتل الأنبياء والأوصياء، والمصلحون والحكماء، والملوك والجبابرة ، والأغنياء والفقراء، وبكاهم ذووهم، وندبتهم شعوبهم، أسبوعاً وشهراً، وربما سنة ، وبضع سنوات، أمّا أنت فذكراك ، رفيقة الحياة.

لا يمرُّ يوم من العام إلاّ وتقام عاشوراء .

تتلى آيُها في مدينة تحفل بالضجيج ، في قرية منسيَّة ، في قصر عظيم، في بيت متواضع، في مسجد، في حسينية، في ساحةٍ، في بيت متواضع، في مسجد ، في حسينية، في ساحةٍ، في طريق ، في قلوب محبيك ... الأتقياء «كل يوم عاشوراء ، وكل أرض كربلاء».

وكلنا يردد مع الشريف الرضي الذي لوَّعه الحزن ، فوعى هذا المعنى ، فأنشد [١] :

يا يوم عاشوراء كم لك لوعة ***** تترقّصُ الأحشاء من ايقادها

كربلا ، لازلت كرباً وبلا ***** ما لقي عندكِ آلُ المصطفى [٢]

مواجدُ الشريف الكربلائية:

كان الشريف الرضي (٣٥٩- ٤٠٦ هـ) (٩٧٠ – ١٠١٥م) في عاشورياته صادقاً، يتألم لمصاب جدِّه الحسين (ع).

عاش المأساة بكلِّ جوارحه ، فتوحَّد معها في إندماج كليّ ، فألهمته المعاني ملوَّنة بالعفوَّية والطبعية بعيداً عن التكلف والتصنع.

ولِمْ لا ؟ فالحسين عليه السلام جدّه وإمامه، وكربلاء قضيته ديناً وأسرة ، فراح ينشد [٣] :

صبغ القلبَ حُبُّكم صبغة الشيب ***** وشيبي لولا الردى لا يحولُ

أنا مولاكُم، وإن كنتُ منكم ***** والدي حيدرُ ، وأميّ البتولُ

وجدانية الشريف ، مصدرها إنفعالية تأثرية، فاضت قصائد رثاء : ثائرة ، وباكية ، مخضوبة بالدماء ، مغسولة بالدموع. اللون الأول منحها القوَّة والثورة، والضجيج الملحمي ولون الحزن منحها البعد الإنساني، فكانت صافية المعانية مشرقة الصور، يسمعها المرء فيصغي ويشارك ، ويذرف العبرات ، وكأنه يشهد يوم الطفوف، وكأن المأساة ترتبط به ، ويعاني أحداثها.

بفضل هذه الإنفعالية الثائرة إستطاع الشريف أن ينقل إلينا – عبر العصور – الواقعة التي جرت فصولها في كربلاء سنة إحدى وستين هجريَّة ، بوجدانية حنون، فأحياها عبر الأجيال ، التي ما زالت تردد أبياته ، وهي لا تدري أن الشريف صاحبها [٤] :

يا حساماً فلَّت مضاربُه الها ***** مَ وقد فلّه الحسام الصقيل

يا غريبَ الديار ، صبري غريبٌ ***** وقتيل الأعداء ، نومي قتيلُ

بي نزاعُ يطغى إليك ، وشوقُ ***** وغرامُ ، وزفرةُ ، وعويلُ

لقد أطلق مواجده كلها في هذه الأبيات : غربة الصبر، قلق النوم ، حديث الشوق والغرام ، آهات الزفير والعويل. ثم تنامى حزنه ، متلمساً طريق التدرج المنطقي ، مفرقاً في المعاناة حتى الاندماج الحلولي.

فرخصت الحياة الفرديَّة ، حياة الشاعر الثنائية فتمنى لو كان ضجيع قبر الحسين فداءً وبديلاً [٥] :

ليت أني ضجيعُ قبرك ، أو أ ***** نَّ ثراه بمدمعي مطلول

وبعد أن قدَّم الرثاءَ جزءاً من ذاته ، إنتهى إلى الإستسقاء على طريقة الشاعر الجاهلي، إستسقاء يبلله بوح بدعاء، ضفر منه أكاليل ورد ، وزَّعها على أضرحة الشهداء في الغاضرية ، أكاليل يرويها مطرُ ناعمُ ، ويحركها نسيم غضُّ نديُّ ، ويحفظ نضارتها ظلُّ ظليل [٦] .

هذه المواجد الآثرة تكررت في مجمل قصائده الحسينية ، وكانت كلوماً وهموماً غلَّفت قلبه مدَّة حياته.

ومضاتُ ملحميّة :

لو قدِّر للشريف الرضي أن يعرف الشروط الفنيَّة للملحمة ، لنظم من عاشوراء ملحمة الشعر العربي. إذ توافرت لديه المقومات التي تضع صاحبها في حلبة هذا الفن الذي إستعصى على العرب.

أولاً : الموهبة الشاعرية التي تتدفق زخوراً عند الشريف ، مع تمكن من تطويع اللغة لأغراض النظم ، وديوانه فاق كميَّة دواوين الفحول: أمثال المتنبي وأبي تمام والبحتري وأبي نؤاس.

ثانياً: تنوع القصائد الكربلائية وتعددها  ، وكان باستطاعته أن ينسّقها أناشيد متوالية ومتلاحمة تستوعب أحداث عاشوراء ، مع تنويع الأوزان والقوافي. (كل قصيدة لها وزن وقافية).

ثالثاً: عنصر القرابة ، ربط الشاعر بقضية كربلاء ، ووفّر الحماس للنظم فيها، وأجّج كوامن النفس الشريفية.

رابعاً: كربلاء موضوع تاريخي وبطولي وديني ، أحداثه تكوّن موضوعاً ملحمياً رائقاً.

خامساً: الأحداث الغيبية التي إرتبطت بموضوع كربلاء من إخبار الغيب وضجيج الملائكة ، ونواح الجن [٧] ...

ومهما قيل فالشريف الرضي احتفى بانشاد الشعر الحسيني، إذا زار كربلاء نظمه عربون وفاء، وزاد توسُّل. وإذا هلَّ المحرَّم إستقبله بقصيدة حسينية. وتميَّز عطاؤه هذا بصدق العاطفة ، وعنصر القدسيَّة ، وسرد التاريخ ، وتصوير البطولات ، وتأجج الثورة ، وطلب الثأر مع صفاء الأسلوب وتجدد الصورة.

إن صدق العاطفة وقى الرضي من المبالغات الفجَّة ، وانساب شعره يشرح واقع الحادثة الكربلائية، ويحلل أسبابها ، ويرسم تضحيات الحسين في سبيل الدين مقارناً أعماله الإيمانية بأفاعيل الهمجيَّة التي إرتكبها الطغاة ضد آل البيت (ع). من هنا كان العنصر الأسطوري أقرب إلى الحقيقة ، لا يلجأ إلى المعجزات الموغلة في الإستحالة.

عنصر التقديس :

مادته الغيبيات المقدسة، إذا إستطاع الرضي أن يقرِّب الواقع من «الميثولوجيا» بعد أن أضفى على الأئمة بعضاً من الصفات القدسية ؛ إستلهمها من القول بالعصمة . فالإمام المعصوم لا يخطيء ، وهو بشر مميز مصطفى، يعيش بين الناس لكنَّه تحلَّى بالعصمة، وأعماله الحياتية يسيّرها وحي سماوي غير مباشر، لذلك رأى الشريف في مقتل الحسين تقويضاً لعُمدُ الدين ، وتنكيساً لأعلام الهدى وتساءل [٨] :

كيف لم يستعجلِ الله لهم ***** بانقلاب الأرض ،أو رجم السماء

ولا غرو في ذلك ما دام السبط  خامس أصحاب الكسا، الذين ودَّ جبرائيل لو يكون سادسهم :

يا قتيلاً قوَّضَ الدهرُ به ***** عُمُدَ الدين ، وأعلام الهدى

قتلوه بعد علم منهمُ ***** أنه خامسُ أصحاب الكسا

وهالة القدسية دافعها عقيدة إيمانية – بآل البيت ، قوَّى جذورها الإضطهاد المتواصل الذي عانى منه الأئمة عليهم السلام. ونشر أجنحته على أتباعهم من المؤمنين الذين وجدوا إرتياحاً نفسياً، في الحديث عن أئمة فاقوا أعداءهم من فضائل وتقى وعلم غيب ومعجزات . وآمنوا بكرامات عظيمة ، وتخلف من الإمامين : علي والحسين بطلي حروب فاقا البشر، وأفزعا الجن، وأذهلا الملائكة .

إرتبطت المغالاة بالإمام الأول علي بن أبي طالب وكأنه إستنشق بوادرها تنمو في زمنه فنهى عنها بكلمته المأثورة : «هلك فيَّ رجلان: محبُّ غالٍ، ومبغض قالٍ» [٩].

لكن الشريف الرضي ظلَّ ضمن المعطيات الدينية المختصة بالإمام علي : هو قسيم الجنَّة والنار ، والساقي على الحوض ، وفاتحة الصراط ، وقالعُ باب خيبر...

قسيمُ النار جدّي يوم يُلقى ***** به بابُ النَّجاة من العذابِ

وساقي الخلق، والمهجاتُ حرَّى ***** وفاتحةُ الصراطِ إلى الحساب

أما في باب خيبر معجزاتُ ***** تصدَّقُ، أو مناجاةُ الحبابِ [١٠]

صوفيَّةُ تتسامى فباب خيبر معجزة مرتين : عنصر إنساني متفوق ، وعنصر إلهي غيبي إستمطرته مناجاة الحبيب ليساعد حبيبه علياً في إقتلاع الباب.

البطولات :

وعى الشريف أبعاد حادثة كربلاء ، واعتبرها قضيته ، وارتسمت حوادثها وفصولها في ضميره ، فأجاد تصويرها ، ومنحها البعد الإنساني ورسمها مأساة البشرية في العصور كلها. وكان صادقاً في إخراجها ، ملتزماً بانشادها ، إستهوته ثورة الحق ، وجذبته صلة الدم ، وأغراه طلب الشفاعة يوم الحشر.

فكل قصيدة حسينية في ديوانه تمثل مشهداً من «الملحمة الإماميَّة» تنقلنا إلى الغاضريَّة لنرى الأحداث تتحرك أمامنا.

يقف السبط مع سبعين من أنصاره بوجه جحافل الضلال تدفعها بنوأميَّة ويبدو بطلاً يقود أنصاراً وآلاهُمْ [١١] :

فوارس الغارات لا يطربهم ***** إلاَّ نوازي نغم الصَّواهل

هذه القلة شغوفة بالحرب تطرب لسماع أصوات الخيول ، تستلهم الشجاعة من إمامها ، تتراص في المعركة صانعة – على قلتها – فيلقاً بالسيوف ، تخاله برقاً تدلى على أرض الطفوف [١٢]:

فيلق شرقٍ بالبيض تحسبه ***** بَرْقاً تدلى على الآكام والقور

أفاض الشاعر في إضفاء الصفات الملحمية على الإمام الحسين : هو حسامُ فلَّت مضاربه الهام والسيوف ، وصبغ الخيول من دماء الأعادي ، مستطيلُ على  الأزمان ، مستعص على الأقدرار بل يتحكم فيها ، يثير النقع، ويصنع الجلبة والضوضاء المصميتين ، ويترك السوابق (الخيول) تزحف بلا أيدِ ، ويفرض التعب على عناصر المعركة : إنساناً وخيلاً وسلاحاً [١٣] :

يوم طاحت أيدي السوابق فـ ***** ي النقع وفاض الونى وغاض الصهيل

واستمر في الصراع صبوراً جلداً لا تحد من حركته كثرة الجراح ، ولا يرهب كثرة السلاح:

يلقى القنا بجبين شان صفحته ***** وقعُ القنا بين تضميخ وتعفير

ولما كان الحسين بشراً تخلى عن العناصر التقديسية ، وملّ الحياة مع الظالمين فظفر به الموت بعدما عاد الموت ريان الأظافر من دماء الأبطال الذين صرعهم الإمام الحسين:

إن يظفر الموتُ منَّا بابنِ منجبةٍ ***** فطالما عاد ريَّان الأظافير

الحسين بطل المعركة حياً وبطلُ بعد الموت أرعب قلوب الأعداء في ساحة الوغى ، وجثته أرهبت الأبطال وأخافت الوحوش:

تهابه الوحش أن تدنو لمصرعه ***** وقد أقام ثلاثاً غير مقبور

بقي ثلاثة أيام صريعاً، تصهره حرارة الشمس ، مسلوب الرداء. فشاركت الطبيعة في المأتم ، وكانت أشد شفقة من الإنسان ، عطفت الرُّبى على جسد الحسين فظللته ، ونسجت أذيال الأعاصير ضباباً من الرمال حوله . فسترته عن النواظر. وبذلك تناهى المشهد رقياً في التسامي الملحمي . وبتنا نجد أناشيد ومواقف متشابهة بين شعر الشريف الكربلائي والألياذة الهوميرية.

إن الحسين بطل أفزع الأفلاك ، وأرعب الموت ، وتحكم بالقدر لكنه عابد زاهد جمع الشجاعة والورع ، هو من صفوة تفتك بالأعداء المشركين وتتزهد في الدينا [١٤] :

هي صفوة الله التي أوحى بها ***** وقضى أوامره إلى أمجادها

الزهد والأحلام في فتاكها ***** والفتك ، لولا الله ، في زُهادها

وإن كان «هكطور» قد خاض حرب طروادة مكرهاً لأنه هاديء الطبع محب للسلم [١٥]، فالحسين رسول السلام تمسك به ونادى جيش العدو، أن يكف عن قتال إبن بنت رسول الله. وفي ظهيرة اليوم العاشر رمى سلاحه وأمَّ الناس للصلاة . لكن الأعداء رشقوه بالنبال ، فامتشق حسامه مكرهاً ، دفاعاً عن الدين والنفس والأهل ودفعاً للمذلة والهوان ، وأطلق مبدأه الإنساني: «والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أقر إقرار العبيد» قالها الإمام الحسين مختصراً تاريخ الإسلام ، الكلمة أولاً ، والسيف ثانياً ، ولما رفضوا الإنصياع للكلمة حماها بسيفه وسقاها دمه.

إن أسرف هوميروس في وصف أدوات الحرب من سيوف ورماخ ودروع وقسي ومركبات وخيول فقد أجاد الشريف الرضي الموضوع نفسه. ولا نجد قصيدة حسينية تخلومن ذكر البيض تعلوقمم الأعداء [١٦] والسمر تهتز كالذئاب [١٧] والقنا ترتوي من الدماء ولألآء السيوف يفضض النهار [١٨] والخيول الجرد تثير الغبار ، وتملأ الأجواء صهيلاً ، أما الوحوش والطيور فتقع على جثث القتلى وتشبع من أجساد الأبطال [١٩] ...

وإن صنعت الآلهة شكة الحرب «لآخيل» من ذهب وفضة وبرونز وقصدير، فسيف الحسين ذوالفقار نزل به جبرائيل من السماء وسلّمه إلى علي بن أبي طالب، وورثه الحسين ، وكان ذوالفقار يلمع كالشمس في معركة كربلاء يجلو ظلمات النقع ، ويفضض بلألآئه لون النهر ، يرعف من المشركين الذين ضلوا طريق السماء والنبوّة.

وعن سقوط الأبطال صرعى في ساحة الوغى تكاد الصورة تتوحّد في المشهدين ، ولا يميزها إلا الإطناب عند الأغريق الآريين ، والإيجاز عند العرب الساميين . فيهوي البطل الاغريقي هوي شجرة السنديان ، أو كحورة أعمل فيها الحطاب فأسه [٢٠] في حين يخر الفارس العربي كالطود الشامخ الذي تدكدك. وأحياناً كالأنجم التي تهوي أو الأقمار التي تغيب [٢١] وإن ربط الأغريق جثة هكطور إلى عربة وداروا بها حول أسوار طروادة ، فقد رضّت الخيل صدر الحسين ، وجالت على وجهه، وحملوا رأسه على رمح طويل ، وطافوا به البلدان ونقلوه إلى الشام [٢٢] :

حملوا رأساً يصلّون على ***** جدِّه الأكرم طوْعا وإبا

وخرَّ للموت لا كفُ تقلبهُ ***** إلا  بوطء من الجُرْد المحاضير

العنصر النسائي :

لم يغفل الرضي دور النساء العنصر الفعال في الملاحم ، ورسم الطريق لمن أتى بعده ، وأقترب في عطائه من أناشيد الالياذة. لقد كان وداع هكطور لزوجه وطفله مثيراً ووجدانياً [٢٣] أما وداع الحسين لأخته (زينب) وزوجه (الرباب) وإبنته (سكينة) فكان رقيقاً يفيض حناناً ، يكشف صراع النفس الإنسانية بين العاطفة والواجب الديني ... سكينة تتشبث بأذيال والدها لتبقيه إلى جنبها وتتوسل إليه ليردها إلى المدينة المنوَّرة ، الركن الأمين «يا أبتاه ردنا إلى حرم جدَّنا» فيجيبها «هيهات لو ترك القطا  ليلاً لغفا ونام» وبرع الشريف في تصوير السبايا ، وقد حُملن على النجائب ، وشققن الجيوب ، قلوبهنّ دامية، ودموعهن هاملة ، سلبن القناع ، فاستعضن بالعفاف وتنقبن بالأنامل [٢٤]:

كم حَصَانِ الذيل يروي دمعها *****خدَّها عند قتيل بالظّما

تمسح الترب على إعجالها *****عن طُلى نحر رميل بالدِّما

معجلات لا يوارين ضحى ***** سُنَنَ الأوجه أو بيض الطُّلى

هاتفات برسول الله في***** بُهَرِ السَّعي، وعثرات الخطى

العنصر التاريخي :

تجلى في وقائع التاريخ الإسلامي ، وحديث الثارات القديمة ، وأحقاد الجاهلية ، ويوم بدر وبني الطلقاء . ولم ينس الشريف الرضي الخلافة ، الوعد الذي حلم به ، والأرث المغتصب ، وقد  ندّت عن الهاشميين ، إختلسها الأمويون، وقتلوا الإمام الحسين ، وقدّموا رأسه مهراً لها  . ثم تقمصها العباسيون، أبناء عمومة الهاشميين. ولمَّا فكر المأمون في ردّ الوديعة إلى أهلها أعني تسليم الخلافة إلى الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام ، تنمَّر العباسيون، ومنعوا الرضا من التحرك ، ثم دسّوا له السم، وكانوا في نظر الشريف أشد قساوة على الهاشميين من الأمويين.

والخلافة هذه حملت الرضي على ذكر الثأر في قصائده الحسينية ، الثأر من بني الطلقاء الإنتهازيين الذين وقفوا ضد الإسلام ثم دخلوه مراءاة. وحديث الثأر للحسين وآله من الأمويين له مدلول سياسي. فيزيد وإبن زياد ماتا، ودولة الأمويين زالت وانقضت .

فالشاعر يريد أن يثأر من يزيد وعصره هادفاً إلى أمرين: إزالة الظلم عن شيعة آل البيت ثم إسترداد الخلافة الضائعة . ولا يمكنه المجاهرة بعداوة العباسيين، الذين إنتقموا من الثورات العلويَّة بقسوة. فتستّر في دعواه وراء المناداة بالثأر للحسين . وتحت جناحها يمكنه أن يجهر بآرائه الثائرة ضد مغتصبي الخلافة ، حكام عصره الظالمين:

وأجرُّ القنا لثارات يوم الطف ***** يستلحق الرعيلَ الرعيلُ

في هذا المنحى توجه إلى العباسيين بعتاب تنضح منه المرارة ، عتاب كان يتحول أحياناً إلى لوم عنيف ، وتهديد مبطن [٢٥]:

ويا ربَّ أدنى من أميَّة لحمة ***** رمونا على الشنآن رمي الجلامدَ

طبعنا لهم سيفا ، فكنَّا لحدِّه ***** ضرائب عن ايمانهم والسواعدِ

الا ليس فعل الأولين وإن علا ***** على قبح فعل الآخرين بزائد

يريدون أن نرضى وقد منعوا الرضى ***** لسير بني أعمامنا غير قاصد

وقال أيضاً [٢٦] :

يا غيرة الله اغضبي لنبيه ***** وتزحزحي بالبيض عن أغمادها

من عصبة ضاعت دماء محمد ***** وبنيه بين يزيدها وزيادها

لقد حوَّل الشريف الشعر الكربلائي من مأساة تضج بالبكاء والعويل ، كما في شعر دعبل الخزاعي، والكميت الأسدي ، إلى ثورة مستمرة ميدانها صدر الزمن، ورواتها شفاه التاريخ ، ويرسم أبعادها مشاعل تضيء كلما  نام السلام ، واستيقظ الظلم.

وها نحن اليوم في لبنان أخذنا مشعلاً من مشاعل إمامنا الحسين واستلهمنا  ثورته جهاداً ضد الغزو الإسرائيلي ، ودول الإستكبار ، وتمكنت فئة قليلة من المؤمنين الحسينيين بأسلحة متواضعة أن تمرِّغ بالذل أنف إسرائيل ، بل صنعت المعجزات . وإذا كان تعريف المعجزة، هي العمل الخارق لنواميس الطبيعة فحقاً صنع المؤمنون المعجزة عندما استطاعوا الإنتصارعلى جيش الغزو الإسرائيلي ، وقد عجزت عنه الدول العربية مجتمعة ومتفرقة  منذ حرب ١٩٤٨ وحتى ١٩٨٦.

لقد عجزت الدول بأساطيلها البرية والجوية والبحرية عن تحرير شبر واحد من أراضيها المغتصبة. اللهم إلاّ ما تحرره باذاعاتها حتى بات التحرير كذبة رخيصة.

لوعادوا إلى شعر الشريف ، لاهتدوا إلى ثورة كربلاء وتعلموا التضحية والشهادة وبهما يتم النصر والتحرير.

تشكل الصورة العاشورائية :

في ديوان الشريف أبيات أحسُّها هاربة من أعماق القرن العشرين صورة وإيحاءً، قال يصف جسد الحسين [٢٧]:

كأن بيض المواضي ، وهي تنهبه ***** نارٌ تحكم في جسم من النور

تحنو عليه الرُّبى ظلاً، وتستره ***** عن النواظر أذيال الأعاصير

نكهة علوية سبقت عصرها بقرون، رشفها الشريف من نهج البلاغة ، ورضعها ثقافة أغنت شعره ، وأكسبته صفة التجدد، ومواكبة الأزمنة المتطورة.

ألوان السيوف والنار ، والنور ، متناسبة في إشراقة المعركة وجسم الحسين النوارني ! ألآ يوحي بالتسامي نحو الملائكية؟ الملائكة  نور، والحسين نور...

وفي قوله «تحنوعليه الربى ظلاً» قفزة تعانق الخلود في الشاعرية . ومتى كانت الربى تحنو؟ وهل عطفت على غير الحسين ، يوم ظللّت جسده العريان في العراء؟ تكامل «اللون» النور الملائكي مع «الحركة» الفعل الذي حرّك عناصر الطبيعة ، وبثها الحياة ، ومنحها صفة المشاركة الإنسانية.

هذه النكهة دليل على دحض الآراء الغامزة من نسبة نهج البلاغة إلى الإمام علي (ع) لأن الإشراقات والتأملات متوافرة في النهج بيد أنها أتت نادرة في ديوان الرضي، إقتصرت على بيت أو بيتين في بضع قصائد فقط. ولو كانت من الشريف : نبعاً وطبعاً وفطرة، لأكثر منها ، ولزيَّن بها مجمل قصائده ، ولفاز بالتربع على عرش الشعر العربي. هذا السحر في البيان قبسه الشريف من جده علي مرَّتين: يوم أولده ، ويوم جمع النهج. وباح بذلك مبدياً إعجابه معلقاً على كثير من إشراقات النهج مستعيراً منه المعنى والأسلوب.

أخذ الشريف كلمة الإمام «تخففوا تلحقوا» ونظمها بقوله [٢٨] :

وأمَّلتُ أن أجري خفيفاً إلى العلى ***** إذا شئتم أن تلحقوا فتخففوا

ومضات سريعة تشرق إشراقة النهج ، وسرعان ما تتلاشى، لأنها تنخطف من أجواء الإبداع، وتضيع في تيار التقليد. الإمام علي في النهج مبدع والشريف في الإقتباس منه مقلّد.

تفنّن الرضي في إستخدام العناصر المكوَّنة للصورة الكربلائية: الألوان والحركة ، والظلال ، والأصوات، والأشكال ... وإن تعدَّد اللون الواحد بين فاقع وقاتم، إستغل الشريف تفاوت الألوان بين الأسماء والصفات فأعطانا اللون الأحمر في الدم والنجيع والورد ، والأبيض في السيوف والشيب وأضفى الحزن على الألوان وحوّل الأبيض إلى ضدّه الأسود عندما استعاض عن لفظه بـ «صبغة الشيب» ليدل على لون الحزن في قلبه أما الحركة فخيول تسبح ، ورماح تشتجر ، وسيوف تتهاوى ، ودماء تسيل وأبطال يجولون ويتساقون كؤوس الردى.

إن الصورة الكربلائية في الشعر الرضي، فيها نمط الإبتكار والتفرد ، فكوَّنت مدرسة للشعراء ، يردون منهلها ، ويصدرون مرتوين.

مدرسة الشريف الكربلائية :

رسم الشريف في قصائده الحسينية مباديء مدرسة شعرية لا تقتصر على البكاء وسرد المأساة. بل حدَّدت معنى الثورة، وسنت روح الثأر من الطغاة لتصحيح مسار التاريخ. وخط بعمله نهج الشعر الكربلائي. وسرعان ما سلكه الشعراء الذين خلفوه فاتكأوا على معانيه وصوره ومبادئه. وتميز عنهم بصدق العاطفة وإشراقة الأسلوب والتزم الواقعية.

إن المدرسة الكربلائية بعد الشريف ، تشعبت حركتها وامتدت لتشمل مختلف الأقطار الإسلامية. وانتسب إليها مئات الشعراء ، وتكثّف نشاطهم في العراق خلال القرن التاسع عشر ، فكان السيد حيدر الحلي (١٢٤٦-١٣٠٤هـ) والسيد جعفر الحلي (١٢٧٧-١٣١٥هـ) والسيد موسى الطالقاني ، والحاج هاشم الكعبي ، وصالح الكواز ، وعبد المحسن الكاظمي...

وروعة كربلاء الممزوجة بعطر النبوة جذبت فئة من العلماء الشعراء فقصروا نظمهم على الرسول وآل البيت ، ولم ينتجوا قصيدة واحدة في مدح الملوك والأغنياء ... فالشيخ حسين زغيب – شمس العراقين – (١٢٣١-١٢٩٤هـ) أبى أن ينشد الشعر إلا في كربلاء، وأسمى ديوانه : «شفاء الداء في رثاء سيد الشهداء» [٢٩] .

تلك ملحمة عاشوراء ، وميزتها أنها لم تعتمد الأسطورة والخرافة بل انطلقت من قلب الحقيقة فالحسين إنسان مات في كربلاء . وحيي بموته الإسلام وخلد إلى أن تتبدل الأرض والسماء.

-------------------------------------------------------------------
[١] . ديوان الشريف الرضي: ١/٣٦٤.
[٢] . ديوان الشريف الرضي: ١/٤٤.
[٣] . الديوان: ٢/١٩٠.
[٤] . الديوان: ٢/١٨٨.
[٥] . الديوان: ٢/١٨٩.
[٦] . الديوان: ٢/١٨٩.
[٧] . أبو مخنف : مقتل الحسين: ١٧٩ ؛ الأصبهاني : الأغاني : ١٨/١٣٩.
[٨] . الديوان: ١/٤٦.
[٩] . نهج البلاغة : قصار الحكم.: ٤٦٩.
[١٠] . الديوان: ١/١١٦.
[١١] . الديوان: ٢/١٧٣.
[١٢] . الديوان: ١/٤٨٩.
[١٣] . الديوان: ٢/١٨٨.
[١٤] . الديوان: ١/٣٦٢-٣٦٣.
[١٥] . الالياذة : تعريب سليمان البستاني: ٢١٢.
[١٦] . الديوان: ٢/١٧٣.
[١٧] . الديوان: ٢/١٧٣.
[١٨] . الديوان: ١/١١١.
[١٩] . الديوان: ١/١١٢ ، ١/٤٨٨ ، ١/٣٦٣ ، ٢/١٨٨
[٢٠] . الياذة هوميروس: ترجمة عنبرة سلام: ٢٠٤.
[٢١] . الديوان: ١/٤٤.
[٢٢] . الديوان: ١/٤٦ ؛ ١/٤٨٨.
[٢٣] . النشيد السادس: تعريب البستاني.
[٢٤] . الديوان: ١/٤٤ – ٤٥؛ ٢/١٨٩.
[٢٥] . الديوان: ١/٣٦٦.
[٢٦] . الديوان: ١/٣٦٣.
[٢٧] . الديوان: ١/٤٨٨.
[٢٨] . الديوان: ٢/٢١.
[٢٩] . تاريخ  بعلبك: ٢/١٦٥.

مقتبس من مجلة الثقافة الاسلامية العدد/ ٢٠ السنة ١٩٨٨م

****************************