قال الرضي رحمه اللَّه : « وربّما جاء فيما أختاره من ذلك فصول غير متّسقة ، ومحاسن كلم غير منتظمة ، لأنّي أورد النكت واللَّمع ، ولا أقصد التتالي والنسق » .
إنّ نظرة خاطفة إلى مؤلَّفات الرضي تكشف عن اهتماماته الأدبية بالتراث الإسلامي ، فإنه قد كتب في مجاز القرآن والمجازات النبويّة ، وبلاغة الإمام علي بن أبي طالب سلسلة مترابطة دفعته إلى ذلك مواهبه التراثية من الأدب العربي وتقدّمه في حلبة الشعر ، وقد عالج الميادين الثلاثة بأسلوبه الخاص ، ومن مزايا هذه الشخصية الواعية أنّه قد شرح أسلوبه في مقدمة كل كتاب ألَّفه ، معلنا من البدء أنّ ما يستهدف إليه : البلاغة بما فيها من المجاز والاستعارة . وهذا أسلوبه في جمع نهج البلاغة ، كما لا يخفى على المتتبع المنصف .
وقد تنبّه إلى هذا الأسلوب جمع ممّن درس النهج ، ولعلّ أوّلهم ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة حيث قال قال ما لفظه : « ولكن الرضي رحمه اللَّه يلتقط كلام أمير المؤمنين عليه السّلام التقاطا ، ولا يقف مع الكلام المتوالي ، لأن غرضه ذكر فصاحته عليه السّلام ، ولو اتى بخطبه كلَّها على وجهها لكانت أضعاف كتابه الذي جمعه انتهى [١].
وأوضح أسلوبه ذلك الشيخ هادي كاشف الغطاء بتفصيل ، قال : « مؤلف النهج لا يروي إلَّا ما يختاره ويصطفيه فيختار الأبلغ فالأبلغ والأفصح فالأصح بحسب ذوقه ومعرفته ، فربما اختار من الخطبة فقرات معدودة ويترك الباقي ، وربما جمع خطبة واحدة من خطب شتى أو من كلمات متفرقة في مواضع متباينة ، وقد صرّح بذلك كلَّه في خطبة كتابه ، فما كان في النهج من هذا القبيل لا يوقف له على مصدر مطابق ، نعم يمكن للمتتبع
ان يقف على فقرات غير متتابعة ولا متتالية كما اتفق لنا الوقوف على ذلك في بعض المواضع من النهج » [٢].
وقال أيضا : « ثم إنّ هاهنا ملاحظة يجب ان يستلفت النظر إليها وبها تندفع الشكوك التي يستثيرها الإسهاب في عهد أو خطبة ، وهي أنّ السيد الشريف ربما لَّفق الخطبة من خطب يختار فصولها وفقرات يضمّ بعضها إلى بعض ، وربما كان ذلك من خطب شتى وكلمات مشتتة فيجمع ما يختاره ويجعله كخطبة واحدة ، وقد المحنا إلى ذلك فيما سلف ووجدت شراح النهج : الشارح الفاضل والشارح العلامة والأستاذ محمد عبده نبّهوا على ذلك في شرح قوله : ( فقمت بالأمر حين فشلوا ) . قال الشيخ محمد عبده في شرحه ص ٥٥ : هذا كلامه ساقه الرضي كأنّه قطعة واحدة لغرض واحد ، وليس كذلك ، بل هو قطع غير متجاورة ، كلّ قطعة منها في معنى غير ما للأخرى ، وهو أربعة فصول . . . إلى آخر ما قال .
وأقول : هذا الأمر ربما يستفاد من خطبة كتاب النهج ، فإنّه رحمه اللَّه قد نبّه على ذلك فيها وبيّن عذره ، فلا اعتراض عليه » [٣].
قال عبد العزيز الدهلوي ( ت / ١٢٣٩ ) في التحفة الاثني عشرية : « في كلام له : ألزموا السواد الأعظم ، فإنّ يد اللَّه على [ كذا ] الجماعة ، وإياكم والفرقة ، فإنّ الشاذ من الناس للشيطان كما أنّ الشاذّ من الغنم للذئب » ثم قال ما ترجمته : « . . . وفي شرح نهج البلاغة من يضيف ما جاء مما صحّ عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه كتب إلى معاوية : « ألا إنّ للناس جماعة يد اللَّه عليها ، ولعنة اللَّه على من خالفها قبل حلول الغضب »
وقد أورد الرضي بعض هذا الكتاب ، وأسقط عنه شطرا ، لكونه مخالفا لمذهبه المبتني على الفرقة ، من آخره وهو قوله :
« واتّق اللَّه فيما لديك وانظر في حقّه عليك » [٤] .
قال الجلالي : وهذا جهل منه بأسلوب التأليف والتاريخ ، فإنّ الجماعة كانت على خلافة عليّ عليه السّلام ، والفرقة حصلت من معاوية ، فهو الشاذّ عن جمهور المسلمين في عصره ، فصدر الخطبة لا يخالف مذهب الرضي ، وإنما لم يذكره لأنّ أسلوبه في الجمع هو التركيز على الكلام البليغ ، ففي رواية :
« اتّق اللَّه فيما لديك وانظر في حقّه عليك »
من السجع والبلاغة ما ليس في ما ذكره ، ومن فقد هذا الذوق لا ينفع معه النطق .
وحصل مثل ذلك من عمر فرّوخ حيث قال : « إن الشريف الرضي لم يستطع إثبات جميع رسائل الإمام عليّ وخطبه ، لأنّ بعضها كان قد ضاع بتطاول الزمن عليه قبل عصره ، حتى أنّ كثيرا من الخطب التي وصل إليها الشريف الرضي لم يصل إليها كاملة . ولذلك تجد أكثر الخطب المثبتة في نهج البلاغة مسبوقة بقول الشريف الرضي نفسه : « ومن خطبة له عليه السّلام » ، مما يدل على أن هذه الخطب لم تصل إليه كاملة » [٥].
فإنّ أسلوب الشريف هو الانتقاء من الخطب ، وليس إيراد الخطب كاملة ، فقد اختطَّ الشريف في جمعه أسلوبا واحدا هو أسلوب الانتقاء ممّا يرى فيه قيمة أدبية - كما يتطلَّبه اختصاصه وذوقه الأدبي ، وهو الحال في أصحاب الأدب .
هذا ، وقد أعرض أيضا عن أسلوب المحدثين في ذكر الأسانيد ، وليس هذا انتقاص للبحوث الأخرى التي تتعلق بهذه الروايات ، فإن ذلك ليس من اهتمامه ، وظني أنّه لو كان يعلم أن ذلك ستكون شبهة لذكرها .
وقد استخدم هذا الأسلوب بالنسبة إلى بلاغة القرآن وبلاغة الحديث النبوي ، وكان من الطبيعي أن يتبعهما ببلاغة الكلام العلوي .
ومن تقرير أسلوب الشريف في خطبة الكتاب وكتبه الأخرى الطافحة بالولاء لأهل البيت والدفاع عنهم والاعتزاز بتراثهم لا نشك في أنه اعتمد بالدرجة الأولى على روايات أهل البيت عليهم السّلام في جمع النهج ، وإذا ذكر غيرهم فإنما هو من باب القاء الحجة على الخصم بسرد الموافقات ، ومن ذلك يظهر ما في كلام الدكتور احسان عباس في كتابه « الشريف الرضي » حيث قال : « لا أستبعد أنه لم يكن يهتم كثيرا بتحقيق نسبة الكلام الذي يجمعه ، وهو نفسه قد أقرّ أنّ روايات كلام سيدنا عليّ تختلف اختلافا شديدا [٦] ، وكانت غايته الكبرى هي تفضيل الأفصح والأبلغ ، وفي سبيل هذه الغاية توسّع في الطلب فلم يتوقف حين تشتبه نسبة شيء إلى الإمام علي ، ولم يرفض ما هو مشترك النسبة ، ذلك هو الذي يفسر حقيقة الكتاب اعني طريقة الشريف في الجمع والاختيار . فهناك خطبة أوردها الجاحظ في البيان لمعاوية وشكَّك الجاحظ نفسه فيها وقال : « إنّها بكلام عليّ أشبه » ، فأدرجها الرضي في النهج اعتمادا على تشكيك الجاحظ وهو في رأيه ناقد بصير ، غير أنّ الجاحظ أورد في البيان خطبة أخرى لقطرى بن الفجاءة وجعلها الشريف في النهج لعليّ ، ولم يثق هذه المرة في رواية من سمّاه ناقدا بصيرا » [٧].
فإنّ الشريف الرضي قدّس سرّه اعتمد على روايات أهل البيت في خطبة الإمام ، وإنما أورد كلام الجاحظ تأييدا وانتصارا ، لأنّ الجاحظ ليس بشيعيّ حتى يتّهم في قوله الموافق لمذهب أهل البيت ، ولم يذكر ما لم يوافقه عليه ، وكون الجاحظ ناقدا بصيرا لا يستلزم ان يكون كذلك في كلّ رواية وفي كلّ حالة .
---------------------------------------------