د. أحمد راسم النفيس
هل روى الشريف الرضي المتهم بالتزوير والاختلاف وحده خطب الإمام على وأدعيته وحكمه ؟
من يشككون في نهج البلاغة ساعين إلى شطبه من وجدان الأمة يرتكبون خطايا الهبوط بوعى الأمة وذوقها الأدبى والفكرى
ما زال البعض يشكك في أصالة كتاب ( نهج البلاغة ) الذى جمعه الشريف الرضي رحمة الله عليه وينفي نسبة ما فيه من روايات للإمام على بن أبى طالب زاعماً أن هذا الكلام منحول وأنه من وضع الشريف الرضي .
مما لا شك فيه أن الجدل الذى اندلع أخيرا حول ( كتب السنة ) بين طرفين أحدهما يرى أن كل ما في هذه الكتب هوصحيح ومقدس وطرف آخر ينفي قيمة هذه الكتب نفياً تاماً قد ألقى بظلاله أيضا على نهج البلاغة وعلى كتب الروايات المنسوبة لأئمة أهل البيت .
نفي مطلق وقبول عشوائي
وقبل أن نثبت أصالة ( نهج البلاغة ) ونسبته إلى الإمام على نود أن نؤكد نقطة بالغة الأهمية هى أنه لا وجه للمقارنة بين القرآن الكريم كتاب الله الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأى كتاب غيره على وجه هذه الأرض .
القرآن ( وهوكلام الله ) إنما هوخط مستور بين الدفتين ، لا ينطق بلسان ، ولابد له من ترجمان ، وإنما ينطق عنه الرجال .
ومن هنا فكل كلام غير القرآن ترتبط قيمته بارتباطه بالأصل الأصيل وهوالقرآن وبكونه ترجمة لمعانى كتاب الله وتطبيقاً لها على قضايا الكون والمجتمع والإنسان والأخلاق .....
يروى الإمام الصادق عن رسول الله صلى الله عليه وآله : إن على كل حق حقيقة ، وعلى كل صواب نوراً ، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه .
الذى نوقن به أن ما نقل إلينا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وعن أئمة أهل البيت هوفي حقيقته مردود إلى كتاب الله يفسر ليبين ما جاء فيه من العلم والحكمة ولا يعد أصلاً قائماً بذاته .
المستند الأبرز للتشكيك في أصالة نهج البلاغة هوعدم ذكر الشريف الرضي للأسانيد والرواة وكأن الإسناد وحدثنى فلان عن فلان يعد مبرراً كافياً لإقناعنا لابتلاع كل البلايا والغصص .
لنضرب مثلاً على انعدام قيمة الإسناد عندما تصبح الرواية نوعاً من اللغوالفارغ كما فعل الشيخ البخارى في قصة القردة التى زنت . روى البخارى قال : ٣٦٣٦- حدثنا نعيم بن حماد : حدثنا هشيم ، عن حصين ، عن عمروبن ميمون قال : رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة ، قد زنت ، فرجموها ، فرجمتها معهم . [١]
لا أفهم لماذا روى البخارى هذه الأسطورة وما قيمة ذكر الإسناد في هذا الصدد ؟؟!!.
الشريف الرضي
الشريف الرضي هوالسيد أبوالحسن محمد بن الحسين بن موسى وينتهى نسبه إلى الإمام موسى الكاظم وقد عاش رحمة الله عليه في الفترة ما بين عامى ٣٥٩ هـ وإلى عام ٤٠٦ هـ وكان شاعرا فحلا من أعظم شعراء العرب .
الزعم بأن الرجل قد اخترع هذا الكلام ونسبه إلى الإمام على يتوقف في إثباته على نفي أى وجود لهذا الكلام البليغ المتجاوز للمألوف من بلاغة العرب في كتب التاريخ قبل نهاية القرن الرابع الهجرى !!.
كما يحتاج إثبات دعوى اختلاق نهج البلاغة إلى إثبات أن الشريف الرضي وحده هومن روى هذه الخطب .
لنأخذ ما رواه ابن جرير الطبرى في تاريخه وقد مات الرجل عام ٣٠٤ هـ أى قبل ولادة الشريف الرضي بأكثر من خمسين عاماً حيث ذكر محاورة الإمام على مع الخوارج ( إنا لسنا حكمنا الرجال إنما حكمنا القرآن وهذا القرآن إنما هوخط مسطور بين دفتين لا ينطق إنما يتكلم به الرجال قالوا فخبرنا عن الأجل لم جعلته فيما بينك وبينهم قال ليعلم الجاهل ويتثبت العالم ولعل الله عز وجل يصلح في هذه الهدنة هذه الأمة ) الطبرى ج ٥ ، ص ٦٦ .
وهونفس ما ذكره الشريف الرضي في خطبة ١٢٥ من كتابه نهج البلاغة .
خذ عندك ما رواه نصر بن مزاحم المنقرى ( المتوفي سنة ٢١٢ هـ ) في كتاب موقعة صفين وهي نفس الخطبة التى رواها الشريف الرضي في النهج رقم ٤٢ ( أيها الناس ! إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان : اتباع الهوى ، وطول الأمل : فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق ، وأما طول الأمل فيُنسِى الآخرة ألا وإن الدنيا قد ولَّت حذّ َاء ....).
السؤال التالى : هل أن الشريف الرضي المتهم بالتزوير والاختلاق هومن روى وحده هذه الخطب والأدعية والحكم ؟!.
بالرجوع إلى كتاب البداية والنهاية لابن كثير في ترجمته لكميل بن زياد النخعى يقول : في عام ٨٢ هـ قتله الحجاج الثقفي . وقد روى كميل بن زياد عن عمر وعثمان وعلى وابن مسعود وأبى هريرة وشهد مع على صفين ، وكان شجاعاً ، زاهداً عابداً ، قتله الحجاج ، وقد عاش مائة سنة صبراً بين يديه : عندما شتم الحجاج علياً ونال منه فصلى عليه كميل ، فقال له الحجاج : والله لأبعثن إليك من يبغض علياً أكثر مما تحبه أنت ( ! ) فأرسل إليه رجلا من أهل حمص ، فضرب عنقه . قال ابن كثير : وقد روى من كميل جماعة كثيرة من التابعين وله الأثر المشهور عن على بن أبى طالب الذى أوله ( القلوب أوعية فخيرها أوعاها ) وهوطويل قد رواه جماعة من الحفاظ الثقات وفيه مواعظ وكلام حسن رضى الله عن قائله . البداية والنهاية ج/ص: ٩/٥٨ .
وهي الحكمة ١٣٩ الموجودة في نهج البلاغة .
تفسير ابن كثير
كما يذكر ابن كثير في تفسير قوله تعالى ( إن الله وملائكته يصلون على النبى يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً ) الاحزاب ٥٦ ، من طريق سعيد بن منصور ويزيد بن هارون وزيد بن الحباب ثلاثتهم عن نوح بن قيس حدثنا سلامة الكندى أن علياً رضى الله عنه كان يُعلم الناس هذا الدعاء :
اللهم داحى المدحوات وبارئ المسموكات وجبار القلوب على فطرتها شقيها وسعيدها اجعل شرائف صلواتك ونوامى بركاتك ورأفة تحننك على محمد عبدك ورسولك الفاتح لما أُغلق والخاتم لما سبق والمعلن الحق بالحق والدامغ لجيشات الأباطيل كما حمل فاضطلع بأمرك بطاعتك مستوفزاً في مرضاتك غير نكل في قدم ولا وهن في عزم واعياً لوحيك حافظاً لعهدك ماضياً على نفاذ أمرك حتى أورى قبساً لقابس ..........
وهي نفسها الخطبة ٧١ الواردة في نهج البلاغة .
ورداً على من أثار شكوكاً عن نسبة ما في كتاب نهج البلاغة إلى الإمام على يقول ابن أبى الحديد : " كثير من أرباب الهوى يقولون : إن الكثير من نهج البلاغة كلام محدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة وربما عزوا بعضه إلى الرضي أبى الحسن أوغيره وهؤلاء أعمت العصبية أعينهم فضلوا عن النهج الواضح . وأنا أوضح لك ما في هذا الخاطر من الغلط فأقول : لا يخلوإما أن يكون كل نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً ، أوبعضه .
والأول باطل بالضرورة ، لأنا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد نقل المحدثون ، كلهم أوجلهم - والمؤرخون كثيرا منه ، وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك . والثانى : يدل على ما قلناه ، لأن من قد أنس بالكلام والخطابة وشدا طرفاً من علم البيان وصار له ذوق في هذا الباب ، لابد أن يفرق بين الكلام الركيك والفصيح وبين الفصيح والأفصح وبين الأصيل والمولد وإذا وقف على كراس واحد يتضمن كلاما لجماعة من الخطباء أولاثنين منهم فلابد أن يفرق بين الكلامين ويميز بين الطريقتين ، ألا ترى أنا مع معرفتنا بالشعر ونقده ، لوتصفحنا ديوان أبى تمام فوجدنا في أثنائه قصائد أوقصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبى تمام نفسه وطريقته ومذهبه في القريض ، ألا ترى أن العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه لمباينتها لمذهبه في الشعر ! .
الذين يشككون في نهج البلاغة ساعين إلى شطبه بالكلية من وجدان الأمة ويقاتلون في نفس الوقت من أجل إثبات صحة كل ما جاء في البخارى لا لشئ سوى أنه قدم لما ورد فيه بحدثنى فلان عن فلان يرتكبون عدة خطايا من بينها الهبوط بوعى الأمة وذوقها الأدبى والفكرى ولا يقدمون لها بديلا سوى قصة القردة التى زنت فأقيم عليها الحد من دون أن يخبرونا عن اسم هذه القردة وعما إذا كانت محصنة أوغير محصنة وهل تعدد الزوجات عند القرود جائز أومستحب ؟! .
وأسئلة أخرى مكانها الوحيد هوعالم الحيوان وليس عالم الثقافة والفكر والدين !!!!.
خ نعيم بن حماد حدثنا هشيم عن أبي بلج وحصين عن عمروبن ميمون قال رأيت في الجاهليةقردةاجتمع عليها قردة فرجموها فرجمتها معهم.
شبابة حدثنا عبد الملك بن مسلم حدثنا عيسى بن حطان قال حدثنا عمروبن ميمون قال كنت في حرث فرأيت قروداً كثيرة قد اجتمعن فرأيت قرداً وقردة قد اضطجعا ثم أدخلت القردة يدها تحت عنق القرد واعتنقها وناما فجاء قرد فغمزها فنظرت إليه وانسلت يدها من تحت رأس القرد ثم انطلقت معه غير بعيد فنكحها وأنا أنظر ثم رجعت إلى مضجعها فذهبت تدخل يدها تحت عنق القرد فانتبه فقام إليها فشم دبرها قال فاجتمعت القردة فجعل يشير إليها فتفرقت القردة فلم ألبث أن جيء بذلك القرد بعينه أعرفه فانطلقوا بها وبه إلى موضع كثير الرمل فحفروا لهما حفيرة فجعلوهما فيها ثم رجموهما حتى قتلوهما.
رواه عبد الله بن أبي جعفر الرازي عن عبد الملك نحوه.
وختاما فإننا كأهل سنة نعتز بكتاب نهج البلاغة ونوقن بأنه من كلام باب مدينة العلم الإمام على كرم الله وجهه وما يشكك في نسبته للإمام إلا الوهابيين وهي فرقة ضالة لا وزن لها في عداد المسلمين السنة ولا اعتبار لآرائها الفاسدة .
------------------------------------------------------
[١] . لعل هذه الرواية مدسوسة على مخطوطة صحيح البخارى فهى رواية لا تعقل ولا تصح وعلى كل حال فهى غير ذات قيمة وليست حديثا نبويا بل مجرد خبر لا علاقة له بالإسلام ولا بالنبى والراوى عمروبن ميمون لم يروى سواها فهوليس براوأحاديث شهير .. وهذا متن الرواية .