يعد الحديث عن علي(عليه السلام) أو نهج البلاغة عملاً سهلاً وفي نفس الوقت وليس بسهل! فهو ليس بسهل بالنسبة لمن يروم الغوص في أعماق علي(عليه السلام) والوقوف على كنهه وحقيقته والاحاطة بكافة جوانبه الفكرية وسعة إيمانه وقوة صبره وعظم فضائله وملكاته، أو أن يتعرف على نهج البلاغة كما هو في حقيقته.
ولكن من السهل الوقوف على بعض قبسات هذين النبراسين العظيمين والقمرين الزاهرين. لا تخفى شخصية علي(عليه السلام) على مسلم، فكل من له أدنى معرفة بعلي(عليه السلام)وتاريخه وسيرة حياته سيوقن بأنّه الإنسان الكامل ـ بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)ـ وأنّه آية من آيات الحق جل وعلا وان كتابه نهج البلاغة ليس الاّ شعاعاً من شمسه المنيرة. فنهج البلاغة بحر من العلم ومحيط من الحكمة وكنز لا ينضب وحديقة غناء بالزهور وسماء مزينة بالنجوم ومصدر لسعادة الإنسان في مسيرته الدنيوية.
وممّا لاشك فيه أنّ من يروم إقتحام هذا الميدان عليه أن يعدّ الكتب والمجلدات علّه يحصي بعض حقائق الاُمور، بينما لا نهدف ـ في هذه المقدمة ـ إلاّ إلى التطرق إلى بعض الإشارات المقتضبة من أجل التمهيد للخوض في شرح كلمات أمير المؤمنين(عليه السلام) والتي نراها أفضل طريقة للتعريف به، وهل الجو المشمس إلاّ دليل على وجود الشمس.
وهنا أود أن ألفت إنتباه الاخوة القراء إلى أنّ عدداً كبيراً من العلماء والأدباء والزعماء ـ ولا سيما من غير المسلمين ـ قد تناولوا بالبحث والدرس كتاب نهج البلاغة فرأوا أعظم ممّا ظنوا وتصوروا فأطلقوا عباراتهم المعروفة بشأن نهج البلاغة بما يكشف عن مدى تأثرهم والذهول الذي أصابهم فلم يتمالكوا أنفسهم ويعبروا عن أحاسيسهم ومشاعرهم وعواطفهم.
ويبدو أن كل واحد من هؤلاء قد تأثر بجانب معين من نهج البلاغة، وربما أمكننا إيجاز هذه الجوانب في المحاور الرئيسية الثلاث الآتية:
١ ـ فصاحة وبلاغة نهج البلاغة.
٢ ـ المضامين العميقة لنهج البلاغة.
٣ ـ الجاذبية الخارقة لنهج البلاغة.
١ـ فصاحة النهج وبلاغته
لابدّ في هذا الأمر من الاستشهاد بأقوال البلغاء والفصحاء والأدباء والشرّاح والكتّاب الذين سيروا ـ حسب قدرتهم ـ أغوار نهج البلاغة فتأثروا بما لمسوه من حلاوة وطلاوة في فصاحته وبلاغته وسحر بيانه بما لم يعهدوه، فأطلقوا عباراتهم بشأنه ومنهم:
١ ـ وما أحرانا أن نتجه بادئ ذي بدء صوب جامع نهج البلاغة والذي يعتبر من جهابذة الفصاحة والبلاغة الذي احتل الصدارة من بين فصحاء العرب وبلغائها وقد أفنى عمره في جمع خطب نهج البلاغة، ألا وهو السيد الرضي الذي وصفه الكاتب المصري المعروف الدكتور «زكي مبارك» في كتابه «عبقرية الشريف الرضي» قائلاً: «هو اليوم أبدع أبناء الزمان، وأنجب سادة العراق، يتحلى بأدب ظاهر، وفضل باهر، وحظ من جميع المحاسن وافر، ثم هو أشعر الطالبيين، ولو قلت إنّه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق».
يقول الشريف الرضي في مقدمته الرائعة لنهج البلاغة: «كانَ أميرُ الْمُؤمِنينَ(عليه السلام) مَشْرِعَ الْفَصاحَةِ وَمَوْرِدَها وَمَنْشَأ الْبلاغَةِ وَمَوْلِدَها وَمِنْهُ ظَهَرَ مَكْنُونُها وَعَنْهُ أخذَتْ قوانينُها وَعَلى أمْثِلَتِهِ حَذا كُلُّ قائِل خَطيب وَبِكلامِهِ اسْتَعانَ كُلُّ واعِظ بَليغ وَمَعَ ذلِك فَقَدْ سَبَقَ وَقَصَّرُوا وَقَدْ تَقَدَّمَ وَتَأخّرُوا»، ثم يفسر هذا الكلام فيقول: «لأن كلامه(عليه السلام) الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي».
٢ ـ الشارح المعروف الذي أفنى عمراً في شرح وتفسير نهج البلاغة وتحدث بشغف وإعجاب عن علي(عليه السلام) وهو عز الدين عبد الحميد ابن أبي الحديد المعتزلي الذي يعدّ من أشهر علماء العامة للقرن السابع الهجري [١] .
فقد تحدث مراراً وكراراً بهذا الشأن في شرحه وأذعن لعظمة فصاحة وبلاغة النهج. فقد قال على سبيل المثال بشأن الخطبة ٢٢١ التي أوردها علي(عليه السلام) ـ بشأن البرزخ ـ «وينبغي لو اجتمع فصحاء العرب قاطبة في مجلس وتلي عليهم، أن يسجدوا له كما سجد الشعراء لقول عدي ابن الرقاع: قلم أصاب من الدواة مدادها... فلم قيل لهم في ذلك قالوا إنا نعرف مواضع السجود في الشعر كما تعرفون مواضع السجود في القرآن» [٢].
ثم قال في موضع آخر حين عرض للمقارنة بين كلام أمير المؤمنين علي(عليه السلام)وكلام «ابن نباتة»(٢) الخطيب المعروف الذي عاش في القرن الهجري الرابع: «فليتأمل أهل المعرفة بعلم الفصاحة والبيان هذا الكلام بعين الانصاف ليعلموا أنّ سطراً واحداً من كلام نهج البلاغة يساوي ألف سطر منه بل يزيد ويربي على ذلك» [٣] .
وينقل أيضاً إحدى خطب ابن نباتة في الجهاد والتي تمثل قمة الفصاحة وقد ضمنها عبارات أمير المؤمنين(عليه السلام) الواردة في الجهاد «ما غزي قوم في عقر دارهم إلاّ ذلّوا» فيقول: «فانظر إلى هذه العبارة كيف تصيح من بين الخطبة صياحاً وتنادي على نفسها نداءً فصيحاً، وتعلم سامعها أنّها ليست من المعدن الذي خرج باقي الكلام منه، ولا من الخاطر الذي صدر ذلك السجح عنه، ولعمر الله، لقد جمّلت الخطبة وحسنتها وزانتها وما مثلها فيها إلاّ كآية من الكتاب العزيز يتمثل بها في رسالة أو خطبة، فانّها تكون كاللؤلؤة المضيئة تزهر وتنير، وتقوم بنفسها، وتكتسي الرسالة بها رونقاً، وتكتسب بها ديباجة» [٤] .
وأخيراً نختتم كلامه بما أورده في مقدمة شرحه للنهج حيث قال:«وأمّا الفصاحة فهو(عليه السلام)إمام الفصحاء وسيد البلغاء وفي كلامه قيل:دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة» [٥] .
٣ ـ «جورج جرداق» الكاتب المسيحي اللبناني المعروف الذي ألف كتابه المشهور«الإمام علي صوت العدالة الإنسانية» حيث أفرد فصلاً من كتابه لبيان خصائص الإمام علي(عليه السلام) فقال بخصوص نهج البلاغة: «أمّا في البلاغة، فهو فوق البلاغات، كلام ضم جميع جمالات اللغة العربية في الماضي والمستقبل، حتى قيل عنه: كلام دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين» [٦].
٤ ـ «الجاحظ» الذي عاش مطلع القرن الهجري الثالث ويعدّ من أبرز أدباء العرب ونوابغهم، حيث أورد بعض كلمات أمير المؤمنين(عليه السلام) في كتابه المعروف «البيان والتبيين» فجعل يثني عليه. ومن ذلك قال في المجلد الأول من كتابه المذكور حين طالعته كلمته(عليه السلام): «قيمة كل امرء ما يحسنه» [٧]; لو لم تكن في كل هذا الكتاب إلاّ هذه الجملة لكفت، بل وزادت، فأفضل الحديث ما كان قليلاً ومفهومه ظاهر جلي ويغنيك عن الكثير، وكأنّ الله كساه ثوباً من الجلال والعظمة وحجاباً من نور الحكمة بما يتناسب وطهر قائله وعلو فكره وشدة تقواه.
٥ ـ «أمير يحيى العلوي» مؤلف كتاب «الطراز» حيث أورد في كتابه عبارة عن الجاحظ انّه قال: «إنّه الرجل الذي لا يجارى في الفصاحة ولا يبارى في البلاغة، وفي كلامه قيل دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين، ولم يطرق سمعي كلام بعد كلام الله ورسوله سوى كلمات أمير المؤمنين كرم الله وجهه من قبيل قصار كلماته «ما هلك امرء عرف قدره» و«من عرف نفسه عرف ربه» و«المرء عدو ما جهل» و«استغن عمن شئت تكن نظيره واحسن إلى من شئت تكن أميره واحتج إلى من شئت تكن أسيره». وعليه فليس من العبث أن يعرب هذا الأديب الزيدي «صاحب كتاب الطراز» عن دهشته لاستناد كبار علماء المعاني والبيان بدواوين شعراء العرب وأدبائهم بغية السبيل إلى الفصاحة والبلاغة بعد كلام الله وكلام النبي(صلى الله عليه وآله) وولوا ظهورهم لكلمات الإمام علي(عليه السلام)، بينما كانوا يعلمون أنّه يمثل قمة الفصاحة والبلاغة وفي كتاب نهج البلاغة كل ما يريدون من فنون أدبية من قبيل الاستعارة والتمثيل والكناية والمجاز والمعاني و...» [٨].
٦ ـ الكاتب المشهور «محمد الغزالي» الذي نقل في كتابه «نظرات في القرآن» عن اليازجي أنه أوصى ولده قائلاً: «إذا شئت أن تفوق أقرانك في العلم والأدب وصناعة الانشاء فعليك بحفظ القرآن ونهج البلاغة». [٩]
٧ ـ المفسر المعروف «شهاب الدين الآلوسي» الذي قال ـ حين بلغ اسم نهج البلاغة ـ : «إنّ انتخاب هذا الاسم لهذا الكتاب نابع من كونه يشتمل على كلام فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق المتعال، وهو كلام يقترب من الاعجاز يضم البدائع في الحقيقة والمجاز» [١٠]
٨ ـ الاستاذ «محمد محيي الدين عبد الحميد» الذي قال في وصفه لنهج البلاغة: «كلّ هذه المزايا مجتمعة، وتلك الصفات متآزرة متناصرة; وما صاحبها من نفح إلهي وإفهام قدسى، مكنت للإمام عليّ من وجوه البيان، وملكته أعنّة الكلام، وألهمته أسمى المعانى وأكرمها، وهيأت له أشرف المواقف وأعزها، فجرت على لسانه الخطب الرائعة والرسائل الجامعة والوصايا النافعة». [١١]
٩ ـ أحد شرّاح نهج البلاغة «الشيخ محمد عبده» إمام العامة والكاتب العربي المعروف، الذي قال بشأن النهج في مقدمته عليه ـ بعد أن إعترف بأنّه تعرف مصادفة على هذا الكتاب الشريف ـ ويبدو أنّ هذه قضية جديرة بالتأمل ـ : «حين تصفحت نهج البلاغة وتأملت موضوعاته بدا لي وكأنّ هذا الكتاب عبارة عن معارك عظيمة، الحكومة فيها للبلاغة والقوّة للفصاحة وقد حملت من كل حدب وصوب على جنود الظنون الباطلة وسلاحها الأدلة القويّة والبراهين الساطعة».
١٠ ـ «السبط بن الجوزي» أحد أبرز الخطباء والمؤرخين والمفسرين المعروفين العامة، الذي صرّح في «تذكرة الخواص» قائلاً: «وقد جمع الله له بين الحلاوة والملاحة والطلاوة والفصاحة لم يسقط منه كلمة ولا بادت له حجة، أعجز الناطقين وحاز قصب السبق في السابقين الفاظ يشرق عليها نور النبوة ويحير الافهام والألباب». [١٢]
١١ و١٢ ـ ونختتم هذا الفصل بقولين لأديب مسيحي معروف وهو الكاتب والمفكر العربي المشهور «ميخائيل نعيمة» الذي قال: لو كان علي مقتصراً على الإسلام لم يتعرض شخص مسيحي (يشير إلى الكاتب والمفكر المسيحي اللبناني جورج جرداق صاحب كتاب الإمام علي صوت العدالة الإنسانية) لسيرته وحياته ويتابع الأحداث التي واجهته فيترنم بشجاعته التي أصابته بالدهشة والذهول; ولم تقتصر شجاعة الإمام وبسالته على ميدان الحرب، فقد كان رائداً في البلاغة وسحر البيان والاخلاق الفاضلة وعلو الهمّة وعمق الإيمان ونصرة المظلومين واتباع الحق وبسط العدل. ثم قال في موضع آخر بأن ما قاله وفعله هذا النابغة ما لم تره عين وتسمعه أذن، وأنّه لأعظم من أن يسع المؤرخ بيانه بقلمه ولسانه. وأخيراً فقد قال فيه ابن أبي الحديد: وأمّا الشجاعة فانه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله، ومحا اسم من يأتي بعده، ومقاماته في الحرب مشهورة يضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة; وهو الشجاع الذي مافرّ قط، ولا ارتاع من كتيبة، ولا بارز أحداً إلاّ قتله، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الاولى إلى ثانية، وأمّا السخاء والجود ففيه يضرب المثل فيهما، فكان يصوم ويطوي ويؤثر بزاده، وقال الشعبي: كان أسخى الناس; كان على الخلق الذي يحبه الله: السخاء والجود، ما قال (لا) لسائل قط. وأمّا الحلم والصفح: فكان أحلم الناس عن ذنب، وأصفحهم عن مسيء; وقد ظهر صحة ما قلناه يوم الجمل حيث ظفر بمروان بن الحكم ـ وكان أعدى الناس له وأشدّهم بغضا ـ فصفح عنه، وأمّا الفصاحة فهو(عليه السلام) إمام الفصحاء وسيد البلغاء، ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة، ولما قال محفن بن أبي محفن لمعاوية: جئتك من عند أعيا الناس، قال له: ويحك! كيف يكون أعيا الناس! فو الله ماسن الفصاحة لقريش غيره.
٢ـ المضامين الرصينة الشاملة لنهج البلاغة
من المميزات التي يتصف بها نهج البلاغة التي تلفت انتباه القارئ إذا ما أقبل عليه إنّما تكمن في شموليته وتنوع مضامينه الرصينة، بحيث «تجعله يصدق أنّ هذه الأقوال المتقنة الدقيقة التي تعالج اُمور شتى تصل إلى حدِّ التضارب إنّما تصدر من عين واحدة، ومن المسلم به أنّ هذا الأمر لا يصدر إلاّ من أمير المؤمنين علي(عليه السلام)الذي أودع قلباً حافظاً وروحاً سامية تفيض علوماً ومعارفاً إلهية حقة وأسراراً جمة لا يسعها سوى ذلك القلب. ويسرنا هنا أن نستشهد بالإقوال التي ساقها كبار العلماء والمفكرين بهذا الخصوص.
١ ـ ونستهل ذلك بما أروده العالم المعروف «محمد عبده» إمام العامة، فقد رسم صورة رائعة عن حاله وهو يطالع لأول مرة نهج البلاغة وما اشتمل عليه من خطب ورسائل وكلمات قصار عجزت العقول أن تجود بمثلها فصاحة وصياغة وبلاغة، فقال: «وكان لطيف الحِسّ، نقيّ الجوهر، وضاء النَّفس; سليمَ الذّوق، مستقيم الرأي، حتسنَ الطريقة سريع البديهة، حاضر الخاطر; حوّلاً قلبًا; عارفاً بمهمّات الاُمور إصداراً وإيراداً.
٢ـ نقل «الشيخ البهائي» في «كشكوله» عن كتاب «الجواهر» ان «أبو عبيدة» قال: قال علي(عليه السلام) تسع جمل عجزت بلغاء العرب عن الإتيان بواحدة منها; ثلاث في المناجاة، وثلاث في العلوم، وثلاث في الادب. [١٣] ثم خاض في شرح هذه العبارات التي وردت ضمن كلماته في نهج البلاغة وسائر أحاديثه.
فالكلام هنا لا يتناول سعة المعلومات وكسب المعارف والعلوم، بل قصره على استشعار الهمة والمروءة وسمو النفس في ظل التمعن بالنهج.
٣ ـ «ابن أبي الحديد» هو الآخر أعطى الكلام حقّه فقال: ولم تحصل العدالة الكاملة لأحد من البشر بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلاّ لهذا الرجل، ومن أنصف علم صحة ذلك، فان شجاعته وجوده وعفته وقناعته وزهده يضرب بها الأمثال. وأمّا الحكمة والبحث في الاُمور الإلهية، فلم يكن من فن أحد من العرب، وهذا فن كانت اليونان وأوائل الحكماء وأساطين الحكمة ينفر دون به، وأول من خاض فيه من العرب علي(عليه السلام) ولهذا تجد المباحث الدقيقة في العدل والتوحيد مبثوثة عنه في فرش كلامه وخطبه، ولا تجد في كلام أحد من الصحابة والتابعين كلمة واحدة من ذلك .
٤ـ أورد «المرحوم السيد الرضي» بعض العبارات المقتضبة العميقة المعنى في كتابه الشريف بشأن مضامين نهج البلاغة، وهى جديرة بالتأمل والاهتمام، من ذلك ما ذكره ذيل الخطبة «٢١» حيث قال:
«إنّ هذا الكلام لو وزن بعد كلام الله سبحانه وبعد كلام رسول الله(صلى الله عليه وآله) بكل كلام لمال به راجحاً وبرز عليه سابقاً». أمّا الخطبة «٢١» فهي:
«فإنّ الغاية أمامكم وإنّ وراءكم الساعة تحدوكم، تخففوا تلحقوا فانّما ينتظر بأولكم آخركم». كما أورد مثل هذا المعنى ذيل الحكمة «٨١» من كلماته القصار فقال: «وهى الكلمة التي لا تصاب لها قيمة ولا توزن بها حكمة، ولا تقرن إليها كلمة».
٥ ـ ونطلق الحديث هنا للكاتب المصري المعروف «عباس محمود العقاد» الذي يعدّ من كبار الأدباء المعاصرين لنرى مدى اعجابه بنهج البلاغة، فقد أورد بعض العبارات الجزيلة في مواضع من كتاب «عبقرية الإمام علي(عليه السلام)» والتي تبيّن عمق معرفته بشخصية الإمام ومدى تأثره بكلماته، فقد قال: «إن نهج البلاغة عين متدفقة بآيات التوحيد والحكمة الإلهية التي توسع معارف الباحثين في العقائد والتوحيد والمعارف الإلهية» [١٤].
وقال في موضع آخر: «إنّ كل نموذج من كلماته شهادة؟
على قدرته الإلهية بيان الحقائق، أنّه لا شك من أبناء آدم الذي علم الأسماء، فهو مصداق لقوله تعالى: (اوتوا الكتاب) و (فصل الخطاب) [١٥].
وقال أيضاً: «إنّ كلماته(عليه السلام) تمثل قمة الحكمة والفصاحة والبلاغة، وقد قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «علماء أمتي كأنبياء بني اسرائيل». فهذا الحديث يصدق على علي(عليه السلام)قبل غيره، فكلماته الحكيمة في مصاف كلمات الأنبياء(عليهم السلام).[١٦]
٦ ـ وقال الكاتب والأديب المعاصر «محمد أمين النووي» يصف نهج البلاغة: «إنّه الكتاب الذي جعله الله حجة واضحة وقد ضمنه علي(عليه السلام) الأمثال القرآنية والحكم الربانية بفصاحة وبلاغة قل نظيرها». [١٧]
٧ ـ وهذا الأديب المصري المعروف «طه حسين» الذي يعتبر عميد الأدب العربي، فقد قال بعد أن تعرض لردّ علي(عليه السلام) على السائل الذي كان شاكاً في حرب الجمل: «إني لم أر ولم أعرف جواباً بعد الوحي وكلام الله أعظم وأروع من هذا الجواب». [١٨]
٨ ـ المرحوم «ثقة الإسلام الكليني» الذي نقل في الجلد الأول من كتابه الكافي إحدى خطبه(عليه السلام) في التوحيد، فقال: «هذه من خطبه المعروفة ولو اجتمعت الانس والجن لبيان حقائق التوحيد لعجزت عمّا بينه علي(عليه السلام) ولولاه لما عرف الناس سبيل الوحدانية». [١٩]
٩ ـ ونختتم البحث بما أورده العلاّمة الفقية آية الله الخوئي، إذ قال: «حين يرد الإمام(عليه السلام)بحثاً في خطبه من نهج البلاغة فانه لا يترك مجالاً بعده للحديث حتى يخيل لاُولئك الذين لا علم لهم بسيرة أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قضى عمره في ذلك الموضوع» [٢٠].
٣ـ جاذبة نهج البلاغة الخارقة
لقد شعر جميع من تعامل مع نهج البلاغة ـ من قبل أشياع علي(عليه السلام) أو سائر العلماء والاُدباء المسلمين ومن سائر الأديان ـ دون استثناء بوجود قوة كامنة تشدهم إليه وتجعلهم يتأثرون به ويتكهربون بأجوائه.
والحق إنّ مثل هذه الجاذبة التي اتسمت بها كافة خطبه ورسائله وكلماته هى التي دفعت بفريق من العلماء لتناول هذا الكتاب النفيس بالشرح والتفسير وتدوين المقالات والأبحاث والاستغراق في مختلف جوانب شخصية الإمام علي(عليه السلام). بدورنا نرى أن هذه الجاذبة تختزن عدّة دوافع، يمكن إيجاز أهمها في ما يلي:
١ ـ لقد شحن نهج البلاغة بالأقوال التي تصرح بمواساة الطبقات المحرومة والمستضعفة، إلى جانب الحديث عن مجابهة الظلم والطغيان ومقارعة حكام الجور والطواغيت. فقد تعرض في عهده الذي عهده إلى مالك الأشتر حين ولاه مصر إلى الخطط والبرامج التي ينبغي اعتمادها في كيفية إدارة شؤون البلاد. يتحدث(عليه السلام) في هذا العهد عن حقوق ووظائف الطبقات الاجتماعية السبع، حتى إذا بلغ الطبقة المحرومة من الناس أفصح عن مكنوبات نفسه وسيرته في التعامل معها فيوصي عامله قائلاً له: «الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزمنى...»، ثم يؤكد عليه: «فلا يشغلنك عنهم بطر فانّك لا تعذر بتضييعك التافه لاحكامه الكثير المهم. فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعر خدك لهم، وتفقد اُمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون، وتحقره الرجال» ولم تقتصر وصاياه(عليه السلام)بهذا المجال في هذا العهد فحسب، بل لم ينفك يؤكد ذلك في كل خطبة من خطبه وموعظة من مواعظه لعماله وولاته.
٢ ـ لقد سلك نهج البلاغة سبيل تحرير الإنسان من أسر الهوى والشهوات التي تؤدي به إلى البؤس والشقاء، وكذلك تحريره من قيود الطواغيت والظلمة، فهو يستفيد من كل فرصة لتحقيق هذا الهدف المقدس، إلى جانب تأكيده على أنّه ما جاع فقير إلاّ بما متع به غني، وأن تراكم الثروة يفيد تضييع الحقوق وعدم العمل بالأحكام الشرعية. [٢١]
ويصرح الإمام (عليه السلام): «أمّا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألقيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز»! فهو يؤكد على شدة تنمره في إعادة روح الحرية والعدالة والمساواة التي لا يعرف المهادنة فيها، بل أبعد من ذلك في أنّه لا يرى الامرة والحكومة سوى وسيلة ووظيفة لتحقيق هذه الاهداف [٢٢].
ويخطىء كل من يظن أنّ علياً(عليه السلام) يمكنه أن يتهاون في هذا الأمر، ولم يعرف عمق شخصية علي; الأمر الذي أكده في رسالته إلى عثمان بن حنيف [٢٣].
٣ ـ النفحات العرفانية التي ينبض بها نهج البلاغة إنّما تناغم الأرواح المتعطشة للحكمة فتسقيها الشراب الطهور الذي يسكرها بالعلم والمعرفة!
فلا يرى القارئ لخطبه في الله وصفاته الجمالية والجلالية سوى أنّه يحلق مع الملائكة ليخترق حجب المعرفة والكمال [٢٤] امّا إذا تحدث عن أهوال القيامة وسكرات الموت والعاقبة التي تنتظر الإنسان فلا تراه إلاّ وكأنّه أمسك بقبضة الغافلين وأخذ يسوقهم نحو المصير الذي منه يهربون والعاقبة التي عنها لاهون. [٢٥]
٤ ـ قوة الجاذبية الاُخرى التي يختزنها نهج البلاغة والتي أشرنا إليها سابقاً أنّه(عليه السلام)أمير الكلام في كل موضوع يطرقه بما يجعلك تتصور أنّه بارع في هذا الموضوع وقد أفنى عمره في بيان عناصره ومقوماته وسائر جوانبه، ولا يحسن شيئاً آخر سواه وسرعان ما يتبدد هذا التصور حين تطالعه وقد تحدث في موضوع آخر ـ فاذا تناول ـ على سبيل المثال ـ قضية التوحيد وشرح أسماء الله وصفات الجلال، خيل إليك أنّه فيلسوف رباني سبر أغوار التوحيد وانهمك فيه لسنوات متمادية وليس له مثل هذا العمق فيما سواه; فليس للتجسم من سبيل إلى حديثه، ولا من سبيل إلى سلبه الصفات، بل يقدم صورة عن التوحيد تجعل الإنسان يرى ربّه ببصيرته في كافة السموات والأرضين حاضر فيها وفي نفسه فيمتلئ قلبه حبّاً لله ومعرفة به. بينما لا تكاد العين تقع على خطبته في الجهاد، حتى لا تغيب عنها صورته كآمر شجاع ومقاتل باسل مغوار قد ارتدى بزته العسكرية وأخذ يستعرض أساليب الحرب وفنون القتال وستراتيجية الدفاع والهجوم، وكأنّه أفنى عمره في ميادين الوغى وساحات القتال ولم تدعه يفكر في ما سواها.
فاذا تصفحنا نهج البلاغة وطالعتنا خطبه ووصاياه لعماله وولاته حين أخذ بزمام الاُمور وتزعم قيادة الاُمّة، رأيناه يكشف النقاب عن عناصر تألق الحضارات وازدهارها وأسباب سقوطها وانهيارها، إلى جانب استعراض مصير الأقوام الظالمة والاُمم المستبدة بالاضافة إلى الاسس والمبادئ التي من شأنها ضمان سلامة الأنظمة الاجتماعية والسياسية الحاكمة، بما يجعلك تظن بأنّه عكف عمراً على هذه الاُمور ويختص بها دون الاهتمام بسائر ميادين الحياة ونواحيها. ثم نقلب صفحات النهج لنراه زعيماً أخلاقياً هادياً البشرية نحو تهذيب النفس ومكارم الأخلاق. يلتقيه أحد الأصفياء من أصحابه ويدعى «همام» الذي يسأله أن يصف له المتقين. فيعدد له(عليه السلام) ما يقارب المئة من صفاتهم بعبارات أحكم صياغتها وبلاغتها كأنّه جلس عمراً لدروس الأخلاق والتهذيب وتربية النفوس حتى يصعق همام صعقة كانت نفسه فيها. حقاً إنّ هذه الأبحاث العميقة الفريدة المتنوعة التي شحن بها نهج البلاغة تعدّ من الخصائص والمميزات التي اتصف بها هذا الكتاب العجيب.
[١] . يقع شرحه في عشرين مجلداً وقد استغرق في تأليفه أقل بقليل من خمس سنوات وهى مدّة خلافة علي(عليه السلام)على حد تعبيره.
[٢] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١١ / ١٥٣.
[٣] . هو أبو يحيى عبد الرحيم بن محمد بن اسماعيل بن نباتة المتوفى عام ٣٧٤.
[٤] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٧ / ٢١٤.
[٥] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ / ٨٤ .
[٦] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١ / ٢٤.
[٧] . علي صوت العدالة الإنساني ١ / ٤٧.
[٨] . نهج البلاغة، قصار الكلمات ٨١ .
[٩] . الطراز ١ / ١٦٥ ـ ١٦٨.
[١٠] . نظرات في القرآن / ١٥٤، طبق نهج البلاغة ١ / ٩١.
[١١] . نقلاً عن كتاب (الجريدة الغيبية) عن مصادر نهج البلاغة / ١.
[١٢] . مصادر نهج البلاغة ١/٩٦.
[١٣] . تذكرة الخواص، الباب السادس / ١٢٨.
[١٤] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٦/١٤٦.
[١٥] . العبقريات ٢ / ١٣٨ (طبعة دار الكتاب اللبناني).
[١٦] . العبقريات ٢ / ١٤٤.
[١٧] . العبقريات ٢ / ١٤٥.
[١٨] . مصادر نهج البلاغة ١ / ٩٠.
[١٩] . جولة في نهج البلاغة / ١٨ و ١٩.
[٢٠] . أصول الكافي ١/١٣٦.
[٢١] . البيان / ٩٠.
[٢٢] . الإمام علي صوت العدالة الإنسانية ٣/١٧٧.
[٢٣] . الخطبة الشقشقية (الخطبة ٣).
[٢٤] . الرسالة رقم ٤٥.
[٢٥] . الخطبة الاولى وخطبة الأشباح / ٩١ وسائر الخطب بهذا الشأن.
منقول من كتاب (نفحات الولاية فى شرح نهج البلاغة)