وقال (عليه السلام): لاَ خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ، كَمَا أنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ.                
وقال (عليه السلام): خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وَإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ .                
وقال (عليه السلام): مَا أَخَذَ اللهُ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا.                
وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ.                
وقال (عليه السلام): مَا لاِبْنِ آدَمَ وَالْفَخْرِ: أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ، وَآخِرُهُ جِيفَةٌ، و َلاَ يَرْزُقُ نَفْسَهُ، وَلاَ يَدفَعُ حَتْفَهُ.                
وقال (عليه السلام): الدُّنْيَا خُلِقَتْ لِغَيْرِهَا، ولَمْ تُخْلَقْ لِنَفْسِهَا.                
وقال (عليه السلام) : مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا .                

Search form

إرسال الی صدیق
كلمات أقطاب العلم وعباقرة الأدب حول نهج البلاغة – الأول

كلمة السيّد كاظم القزوينيّ:
جاء في كتاب شرح نهج البلاغة للسيّد كاظم القزويني: «قرأت في بعض الكتب الحديثة أنّه قد كُتب حتى اليوم مائة ألف كتاب في ترجمة حياة نابليون الفرنسي بشتّى اللغات الدارجة، فإن صحّ هذا القول فقد ظلم المسلمون علياً صلوات الله عليه بتقاعدهم وتكاسلهم وعدم القيام بما يلزم تجاه هذا الإمام صلوات الله عليه, فإنّ ما كتب عن نابليون أكثر عدداً ممّا كتُب عن الإمام علي بن أبي طالب, مع العلم أنّ نابليون لم تكن فيه فضيلة إلاّ الثورة ضدّ حكومة الوقت، ولم ينقل إلينا عن نابليون شيء من العلوم والاكتشافات والروحانيّات والزهد والعدالة والمساواة والتواضع وغير ذلك من مكارم الأخلاق.
أفلا تستحقّ عظمة الإمام علي صلوات الله عليه أن يُكتب عنه مقدار ما كُتب عمّن هو دونه في الفضل والدرجة، مع الالتفات أنّ الفضيلة التي اشتهر بها نابليون وطار صيته بها إنما هي فضيلة واحدة من آلاف الفضائل التي اجتمعت في الإمام علي.
أو ما كان علي جندياً ثائراً على الكفر والشرك من عنفوان شبابه بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟
أوَ ما كان علي قائداً مجاهداً طيلة أيام حياته وخاصّة في عهد النبي؟ وعلى الأخصّ بعد مقتل عثمان حينما أفضت الخلافة إليه، فيوماً قاتل المتمرّدين ـ أصحاب الجمل ـ ويوماً جاهد الدكتاتوريّين ـ أهل صفّين ـ ويوماً كافح الفوضويّين ـ الخوارج ـ وهل حياة الإمام إلاّ ثورة وجهاد وانقلاب وكفاح؟
أضف إلى ذلك بقيّة مناقبه ومواهبه التي كلّ واحدة منها فضيلة تُذكر وتشكر وتليق بكلّ مدح وإطراء وإعجاب وثناء.
ولا أريد أن أقيس نابليون بالإمام علي صلوات الله عليه، فإنّ علياً لا يُقاس به أحد، بل المقصود أنّ هواة نابليون وأتباعه كتبوا عنه هذا العدد الهائل من المؤلّفات، والمسلمون لم يراعوا حقّ علي، بل قصّروا بما يجب عليهم حول علي، إلاّ القليل ممّن وفى لرعاية الحق، ولعلّ الله تعالى يبعث في علماء المسلمين وكتّابهم وحملة الأقلام ومفكّريهم روح النشاط في العمل وإدامة الجهاد المتواصل في سبيل الله وسبيل المبدأ والعقيدة والحق، إنّ الله على كلّ شيء قدير».

كلمة الحجّة آغا بزرك الطهراني:
قال الشيخ الحجّة آغا بزرك قدّس الله روحه في المجلّد الرابع من «الذريعة» تحت عنوان (ترجمة نهج البلاغة): لم يبرز في الوجود بعد انقطاع الوحي الإلهيّ كتاب أمسّ به ممّا دُوّن في نهج البلاغة، نهج العلم والعمل الذي عليه مسحة من العلم الإلهيّ، وفيه عبقة من الكلام النبويّ، وهو صدف لئالي الحكم وسفط يواقيت الكلم!
المواعظ البالغة في طيّ خطبه وكتبه تأخذ بمجامع القلوب، وقصار كلماته كافلة لسعادة الدنيا والآخرة، ترشد طلاّب الحقائق بمشاهدة ضالّتهم، وتهدي أرباب الكياسة لطريق سياستهم وسيادتهم، وما هذا شأنه حقيق أن يعتكف بفنائه العارفون، وينقّبه الباحثون، وحريّ أن تُكتب حوله كتب ورسائل كثيرة حتّى يُشرح فيها مطالبه كلاً أو بعضاً، ويترجم إلى لغات أخر ليغترف أهل كلّ لسان من بحاره غرفة.
وقال في المجلد الرابع عشر منه أيضاً تحت عنوان «نهج البلاغة»: هو كالشمس الطالعة في رائعة النهار، في الظهور وعلوّ الشأن والقدر وارتفاع المحلّ، قد جُعلت رؤيتها لجميع الناس مرأى واحداً لا تخفى على أحد، فيقبح من العاقل البصير سؤال ما هي الشمس الطالعة؟ وهي ممّا يقتبس من إشراق نورها كافّة الكائنات في البرّ والبحر، كذلك النهج قد طبّقت معروفيّته الشرق والغرب، ونشر خبره في أسماع الخافقين، ويتنوّر من تعليمات النهج جميع أفراد نوع البشر لصدوره عن معدن الوحي الإلهيّ، فهو أخ القرآن الكريم في التبليغ والتعليم، وفيه دواء كلّ عليل وسقيم، ودستور للعمل بموجبات سعادة الدنيا وسيادة دار النعيم، غير أنّ القرآن أنزله حامل الوحي الإلهيّ على قلب النبي الأمين (صلى الله عليه وآله)، والنهج أنشأه باب مدينة علم النبي وحامل وحيه، سيّد الموحّدين وإمام المتّقين علي أمير المؤمنين صلوات الله عليه من رب العالمين، وقد قيل فيه:

نهج البلاغة نهج العلم والعملِ ***** فاسلُكه يا صاح تبلغ غاية الأملِ

وقد لمحّنا في ج٤، ص١٤٤ إلى سيادته على سائر الكتب وكونه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق، ونِعم ما قيل فيه:

كلامُ عليٍّ كلامٌ عليٌّ ***** وما قاله المرتضى مرتضى

لقد صارت الكلمات التي يلقيها أمير المؤمنين صلوات الله عليه في خطبه، أو يُمليها إلى كاتبه مخزونة في صدور جمع من أصحابه، على موجب السيرة العربيّة، ثم قيّد ما في تلك الصدور إلى الكتابة في الأصول الأوّليّة، ومنها ما أُلفّ في عصر الأمير (عليه السلام)، مثل (كتاب الخطب) تأليف أبي سليمان زيد الجهني الذي شهد حروب الأمير (عليه السلام)، ثمّ نقل منها إلى سائر الكتب التي أُلّفت في جمع خطبه (عليه السلام) إلى عصر الشريف الرضي (رحمه الله) ممّا لا يُستهان به، وكانت تلك الأصول المعتبرة والكتب المعتمدة في مكتبة الوزير سابور بن أردشير وغيرها في بغداد تحت نظر الشريف الرضي (رحمه الله) يستفيد منها في كلّ حين، حتّى أخرج منها ما اختاره من منشئآت أمير المؤمنين (عليه السلام) وجعلها بين الدفّتين مرتباً على ثلاثة أقطاب (١) الخطب (٢) الكتب (٣) الحكم، وبعد ذلك سمّى ما دوّنه من المنشئات بـ (نهج البلاغة)، وبيّن وجه التسمية في مقدّمة الكتاب بقوله: لأنه يفتح للناظر في تلك المنشآت أبواب من البلاغة، فكلّ واحد من الخطب والكتب والحكم مصداق نهج البلاغة، أي طريقها الواضح، يفتح للناظر فيه أبواب من البلاغة، وبما أنّ ما اختاره ودوّنه في الأقطاب قد رقى في الجزالة والبلاغة أعلى الدرجات، وعجزت عن إدراك مزاياه أفهام كثير من الطبقات، كان محتاجاً إلى التعليق والتحشية والشرح والبيان والترجمة إلى سائر اللغات نظماً ونثراً، لتعميم نفعه لجميع أفراد نوع الإنسان، فقيّض الله جمعاً من أعلام المسلمين من العرب والعجم والسنّة والشيعة وغيرهم، فقاموا بتلك الوظائف كلّ على مبلغ وُسعه وجدّه ومقدرته، وتوفيقه وسعادته، وهم بين مَن شرح جميعه، أو علّق عليه كذلك، أو شرح مشكلاته فقط، أو شرح خطبه، أو شرح كتبه أوجمعها، أو شرح كلماته القصار أو بعض أجزائه، أوترجمه كلاً أو بعضاً إلى لغة أخرى، أو نظمه كلاً أو بعضاً بالفارسية أو غيرها، أو ألّف في بعض ما يتعلّق به من تعداد خطبه وكتبه أو فهرس ألفاظه، أو التعريف له أو غير ذلك ممّا ألّفوه من هذا القبيل حسب ما اطّلعت عليه طيلة السنين، نسأل الله لهم جزيل الأجر والثواب ونشكر جميل مساعيهم، انتهى.

كلمة العلاّمة السيّد هبة الدين الشهرستاني:
وقال العلاّمة الحبر (رئيس محكمة التمييز الجعفريّة في العراق) السيّد هبة الدين الشهرستانيّ (رحمه الله) في كتابه (ما هو نهج البلاغة): نهج البلاغة كتاب عربي اشتهر في مملكة الأدب الأمميّ اشتهار الشمس في الظهيرة، وهو صدف لئالٍ من الحِكَم النفيسة، ضمَّ بين دفّتيه ٢٤٢خطبة وكلاماً، و٧٨ كتاباً ورسالة، و٤٩٨ كلمة من يواقيت الحكمة وجوامع الكلم لإمام الكلّ في الكلّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وذلك المختار من لفظه الحرّ وكلماته الغرّ وما جادت به يراعته الدفّاقة من لؤلؤٍ رطب ودرٍّ نضيد، وإنّ لسامعي هذه الخطب والكلم اهتزاز وَجدٍ وتمايل طربٍ محسوسين، وذانك برهانان لتفوّق الغناء الروحي على نغمات قيثارة ماديّة، بل إنّ النغمات الموسيقيّة وأغانيها تتلاشى وتبيد بمرور الزمن، ورنّة النغم من كلم الإمام خالدة الأثر عميقة التأثير، ومن شآء أن يعرف أنّ الحروف كيف تُطرب، وأنّ الكلمة كيف تجذب، وأنّ الكلام كيف يُكهرب، فليقرأ نهج البلاغة، وهذه الجمل أمثولة منه، إذ يقول في وصف الجنّة بعد وصف الطاووس وعجيب خلقته:
«فَلَوْ رَمَيْتَ بِبَصَرِ قَلْبِكَ نَحْوَ مَا يُوصَفُ لَكَ مِنْهَا لَعَزَفَتْ نَفْسُكَ عَنْ بَدَائِعِ مَا أُخْرِجَ إِلَى الدُّنْيَا مِنْ شَهَوَاتِهَا وَلَذَّاتِهَا وَزَخَارِفِ مَنَاظِرِهَا وَلَذَهِلَتْ بِالْفِكْرِ فِي اصْطِفَاقِ أَشْجَارٍ غُيِّبَتْ عُرُوقُهَا فِي كُثْبَانِ الْمِسْكِ عَلَى سَوَاحِلِ أَنْهَارِهَا وَفِي تَعْلِيقِ كَبَائِسِ اللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ فِي عَسَالِيجِهَا وَأَفْنَانِهَا وَطُلُوعِ تِلْكَ الثِّمَارِ مُخْتَلِفَةً فِي غُلُفِ أَكْمَامِهَا تُجْنَى مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فَتَأْتِي عَلَى مُنْيَةِ مُجْتَنِيهَا وَيُطَافُ عَلَى نُزَّالِهَا فِي أَفْنِيَةِ قُصُورِهَا بِالْأَعْسَالِ الْمُصَفَّقَةِ وَالْخُمُورِ الْمُرَوَّقَةِ» الخ.

كلمة الحجّة العلاّمة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء:
ولحجّة الاسلام الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء رضوان الله عليه كلمة حول نهج البلاغة في كتابه (جنّة المأوى) ص: ١٣٦ جاء فيها:
«ما جادت العصور، ولا انجلت الدهور عن كتاب ـ بعد كتاب الله العظيم ـ أنفع ولا أجمع ولا ألمع وأنصع من نهج البلاغة في إقامة براهين التوحيد ودلائل الصنعة وأسرار الخليقة وأنوار الحقيقة وتذهيب النفس، وسياسة المدن، وحكمة التشريع والعظات البليغة، والحجج الدامغة، وإنارة العقول، وطهارة النفوس، بينا تراه يفيض بينابيع الحكمة النظريّة والعمليّة، ويرهق على توحيد الصانع، ويغرق في وصف الملائكة والمجرّدات بياناً، ويمثّل لك الجنة والنار عياناً كفيلسوف إلهي، وملاك روحيّ، وإذا به يعطيك قوانين الحرب وسوق الجيوش وتعبئة العساكر، كقائد حربي ومغامر عسكريّ، لا تلبث أن تجد فيه ما يبهرك من عجيب وصف الطاووس والخفّاش والذرة والنملة، فيصفها دقيقاً، ويستوعب فيها من عجائب التكوين وبدائع القدرة، حتى يُخيّل لك من دقّة الوصف أنّه هو الذي أبدع تصويرها، وقدّر مقاديرها، وركّب أعضاءها، وربط مفاصلها، هو صانعها ومبدعها، وصوّرها وقدّرها وشقّ سمعها وبصرها».

كلمة ابن أبي الحديد المعتزلي في نهج البلاغة:
قال في المجلد الثاني من شرحه ص ١٦٧: «لو سمع هذا الكلام ـ يعني كلام علي (عليه السلام) ـ النظر بن كنانة لقال لقائله ما قاله علي بن العباس بن جريح لإسماعيل بن بلبل:

قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم ***** وكم أبٍ قد علا بابنٍ ذُرا شرف
كلاّ ولكن لـعمري منـه شيبانُ ***** كما علا برسول الله عدنان

إذ كان يفخر به على عدنان وقحطان، بل كان يقرّ به عين أبيه إبراهيم خليل الرحمن، ويقول له: إنه لم يُعفَ ما شيّدتُ من معالم التوحيد، بل أخرج الله تعالى من ظهري ولداً ابتدع من علوم التوحيد في جاهلية العرب ما لم تبتدعه أنت في جاهليّة النبط، بل لو سمع هذا الكلام أرسطوطاليس القائل بأنّ الله تعالى لا يعلم الجزئيّات لخشع قلبه ووقف شعره واضطرب فكره، ألا ترى ما عليه من الرواء والمهابة والعظمة والفخامة والمتانة والجزالة، مع ما قد أُشرب من الحلاوة والطلاوة واللطف والسلاسة، لا أرى كلاماً يشبه هذا إلاّ أن يكون كلام الخالق سبحانه، فإنّ هذا الكلام نبعة من تلك الشجرة، وجدول من ذلك البحر، وجذوة من تلك النار، وكأنّه شرح قوله تعالى: «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الأَْرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ». [١]  ويعود ثانياً فيقول ص١٥٠ منه: هذا موضع المثل «إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل» [٢]  يعني إذا جاء هذا الكلام الربّاني واللفظ القدسي بطلت فصاحة العرب، وكانت نسبة الفصيح من كلامها إليه نسبة التراب إلى النضار الخالص، ولو فرضنا أنّ العرب تقدر على الألفاظ الفصيحة المناسبة والمقاربة لهذه الألفاظ، من أين لهم المادة التي عبّرت هذه الألفاظ عنها، ومن أين تعرف الجاهليّة ـ بل الصحابة المعاصرون لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ هذه المعاني الغامضة السمائية ليتهيّأ لها التعبير عنها.
أمّا الجاهلية فإنّهم إنّما كانت تظهر فصاحتهم في صفة بعير أوفرس أوحمار وحشي أو ثور فلاة أو صفة جبال أو فلوات ونحو ذلك.
وأمّا الصحابة فالمذكورون منهم بفصاحة إنّما كان منتهى فصاحة أحدهم كلمات لا تتجاوز السطرين أو الثلاثة، إمّا في موعظة تتضمّن ذكر الموت أو ذمّ الدنيا، أو ما يتعلّق بحرب وقتال من ترغيب وترهيب أو نسب.
فأمّا الكلام في الملائكة وصفاتها وصورها وعباداتها وتسبيحها ومعرفتها بخالقها وجماله وولهها إليه وما جرى مجرى ذلك، فإنّه لم يكن معروفاً عندهم على هذا التفصيل، نعم ربّما علموه جملة غير مقسّمة هذا التقسيم ولا مرتّبة هذا الترتيب بما سمعوه من ذكر الملائكة في القرآن العظيم، وأمّا من عنده علم من هذه المادة كعبد الله بن سلام، وأمية بن أبي الصلت، وغيرهم، فلم تكن لهم هذه العبارة، ولا قدروا على هذه الفصاحة , فثبت أنّ هذه الأمور الدقيقة في مثل هذه العبارة الفصيحة لم تحصل إلاّ لعلي وحده، وأُقسم أنّ هذا الكلام إذا تأمّله اللبيب اقشعرّ جلده ورجف قلبه واستشعر عظمة الله العظيم في روعه وجلده، وهام نحوه، وغلب الوجد عليه، وكاد أن يخرج من مسكه شوقاً، وأن يفارق هيكله صبابة ووجداً.
ولاستجلاء هذه الحقائق بأرقامها لا بدّ من ذكر نكتة تؤيّدها وتضمن وجودها: من العلم بالنسب وأنّ معرفة الصحابة محدودة.
حدّث المعتزلي في المجلّد الأول من (شرح النهج) ص ٣٧٨ ط الاولى، ونقل القصة أيضاً المحبّ الطبري في المجلد الأول من كتابه (الرياض النظرة) ص ١٠٢ في أحوال أبي بكر، ونحن ننقلها عن المعتزلي:
روى المعتزلي عن المدائني في كتاب الأمثال عن المفضّل الضبي: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمّا خرج عن مكّة يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج إلى ربيعة ومعه علي (عليه السلام) وأبوبكر، فدُفعوا إلى مجلس ربيعة، فتقدّم أبوبكر ـ وكان نسّابة ـ فسلّم فردّوا (عليه السلام) فقال: ممّن القوم؟ قالوا: من ربيعة، قال: أمن هامّتها أم من لهازمها؟ قالوا: من هامتها العظمى، فقال: من أيّ هامتها العظمى أنتم؟ قالوا: من ذهل الأكبر، قال: أفمنكم عوف الذي يُقال له لا حر بوادي عوف؟ قالوا: لا. قال: أفمنكم بسطام ذو اللواء ومنتهى الأحياء؟ قالوا: لا. قال: أفمنكم جسّاس حامي الذمار ومانع الجار؟ قالوا: لا. قال: أفمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفسها؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة؟ قالوا: لا. قال: أفأنتم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا. قال: فلستم إذاً ذهلاً الأكبر، أنتم ذهل الأصغر.
فقام إليه غلام قد بقل وجهه اسمه دغفل فقال:
إنّ على سائلنا أن نسألهْ والعِبء لا تعرفه أو تحمله يا هذا إنّك قد سألتنا فأجبناك ولم نكتمك شيئاً، فممّن الرجل؟
قال: من قريش. قال: بخٍ بخٍ أهل الشرف والرياسة، فمن أيّ قريش أنت؟ قال: من تيم بن مرة، قال: أمكنت ـ والله ـ الرامي من الثغرة، أمنكم قصيّ بن كلاب الذي جمع القبائل من فهر فكان مجمّعاً؟ قال: لا، قال: أفمنكم هاشم الذي هشم لقومه الثريد؟ قال: لا، قال: أفمنكم شيبة الحمد مُطعم طير السماء؟ قال: لا. قال: أفمن المفيضين بالناس أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل الندوة أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل الوفادة أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل الحجابة أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل السقاية؟ قال: لا. قال: فاجتذب أبوبكر زمام ناقته ورجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) هارباً من الغلام، فقال دغفل: صادف درء السيل درأً يصدعه، [٣]  أما والله لو ثبت لأخبرتُه أنّك من زمعات قريش ـ أي من أرذالها ـ فتبسّم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقال علي (عليه السلام) لأبي بكر: لقد وقعت يا أبا بكر من الأعرابي على باقعة، أي داهية، قال: أجل «إنّ لكل طامة طامة، والبلاء موكل بالمنطق» فذهبت مثلاً.  [٤]
قال ابن أبي الحديد «فهذا الذي تعلمه الصحابة لايتجاوز السطرين أوالثلاثة، أمّا في موعظة أو نسب أو غير ذلك ممّا ذكرنا من صفات الإبل والخيل أو حمار وحشي».
ويعود ابن أبي الحديد ثالثة فيقول في المجلّد الثاني من شرحه ص٥٤٦، في دعم من زعم أنّ خطب نهج البلاغة للشريف الرضي (رحمه الله). تحدّث، بعد ذكر خطبة ابن أبي الشحماء العسقلاني الكاتب فقال:
هذه أحسن خطبة خطبها هذا الكاتب، وهي ـ كما تراها ـ ظاهرة التكلّف، بيّنة التوليد، تخطب على نفسها، وإنّما ذكرت هذا لأنّ كثيراً من أرباب الهوى يقولون: إنّ كثيراً من نهج البلاغة كلام مُحَدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة، وربّما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن وغيره، وهؤلاء قوم أعمت العصبيّة أعينهم فضلّوا عن النهج الواضح، وركبوا بنيات [٥] الطريق ضلالاً وقلّة معرفة بأساليب الكلام، وأنا أوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط، فأقول: لا يخلو إمّا أن يكون كلّ نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً أو بعضه، والأوّل باطل بالضرورة، لأنّا نعلم بالتواتر صحّة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد نقل المحدّثون _كلّهم أو جلّهم ـ والمؤرّخون كثيراً منه وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك، والثاني يدلّ على ما قلناه، لأنّ من قد أنس بالكلام والخطابة، وشدا طرفاً من علم البيان، وصار له ذوق في هذا الباب لا بدّ أن يفرّق بين الكلام الركيك والفصيح، وبين الفصيح والأفصح، وبين الأصيل والمولّد، وإذا وقف على كرّاس واحد يتضمّن كلاماً لجماعة من الخطباء أو لاثنين منهم فقط فلا بدّ أن يفرّق بين الكلامين ويميّز بين الطريقتين، ألا ترى أنّا ـ مع معرفتنا بالشعر ونقده ـ لو تصفّحنا ديوان أبي تمّام فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام ونَفَسِهِ وطريقته ومذهبه في القريض؟ ألا ترى أنّ العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه لمباينتها لمذهبه في الشعر، وكذلك حذفوا من شعر أبي نواس شيئاً كثيراً لما ظهر لهم أنّه ليس من ألفاظه ولا من شعره، وكذلك غيرهما من الشعراء، ولم يعتمدوا في ذلك إلاّ على الذوق خاصّة، وأنت إذا تأمّلت نهج البلاغة وجدته كلّه ماءاً واحداً أو أسلوباً واحداً كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهيّة، وكالقرآن العزيز أوّله كأوسطه، وأوسطه كآخره، وكلّ سورة منه وكلّ آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفنّ والطريق والنظم لباقي الآيات والسور، ولو كان بعض نهج البلاغة منحولاً وبعضه صحيحاً لم يكن ذلك كذلك، فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أنّ هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير المؤمنين (عليه السلام). واعلم أنّ قائل هذا القول يطرق على نفسه ما لا قبل له به، لأنّا متى فتحنا هذا الباب وسلّطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو لم نثق بصحّة كلام منقول عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبداً، وساغ لطاعن أن يطعن ويقول «هذا الخبر منحول وهذا الكلام مصنوع» وكذلك ما نُقل عن أبي بكر وعمر من الكلام والخطب والمواعظ والأدب وغير ذلك، وكلّ أمر جعله هذا الطاعن مستنداً له فيما يرويه عن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمّة الراشدين والصحابة والتابعين والشعراء المترسّلين والخطباء، فلناصر أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يستعدّ إلى مثله فيما يروونه عنه من نهج البلاغة وغيره، وهذا واضح.

كلمة الفيلسوف الشيخ محمّد عبدة:
«مفتي الديار المصرية في مقدّمة شرحه لنهج البلاغة»:
«فقد أوفى لي حكم القدر بالاطّلاع على كتاب نهج البلاغة مصادفة بلا تعمّل، أصبته على تغيّر حال وتبلبل بال وتزاحم أشغال وعطلة من أعمال، فحسبته تسلية وحيلة للتخلية، فتصفّحتُ بعض صفحاته وتأمّلت جُملاً من عباراته من مواضع مختلفات ومواضيع متفرّقات، فكان يخيّل لي في كلّ مقام أنّ حروباً شبّت وغارات شُنّت، وأنّ للبلاغة دولة، وللفصاحة صولة، وأنّ للأوهام عرامة وللريب دعارة، وأنّ محافل الخطابة وكتائب الذرابة (أي الفصاحة)  [٦] في عقود النظام وصفوف الانتظام تنافح بالصفيح الأبلج (أي السيف) [٧] والقويم الأملج (الرمح الاسمر)  [٨]  وتمتلج المهج (أي تمض) [٩] برواضع الحجج، فتفلّ من دعارة الوساوس، وتصيب مقاتل الخوانس، فما أنا إلاّ والحقّ منتصر والباطل منكسر، ومرج الشكّ في خمود، وهرج الريب في ركود، وإنّ مدبّر تلك الدولة، وباسل تلك الصولة، هو حامل لوائها الغالب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام). بل كنت كلّما انتقلت من موضع إلى موضع أحسّ بتغيّر المشاهد وتحوّل المعاهد، فتارة كنتُ أجدني في عالم يغمره من المعاني أرواح عالية في حلل من العبارات الزاهية، تطوف على النفوس الزاكية، وتدنو من القلوب الصافية، توحي إليها رشادها، وتقوّم منها مرادها، وتنفر بها عن مداحض المزال إلى جواد الفضل والكمال، وطوراً كانت تنكشف لي الجمل عن وجوه باسرة وأنياب كاشرة وأرواح في أشباح النمور ومخالب النسور، قد تحفّزت للثواب ثمّ انقضّت للاختلاب، فخلبت القلوب عن هواها، وأخذت الخواطر دون مرماها، واغتالت فاسد الأهواء وباطل الآراء.
وأحياناً كنت أشهد أنّ عقلاً نورانيّاً لا يشبه خلقاً جسدانياً فصل عن الموكب الإلهي واتّصل بالروح الانساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة، وسما به إلى الملكوت الأعلى، ونما به إلى مشهد النور الأجلى، وسكن به إلى عمّار جانب التقديس بعد استخلاصه من شوائب التلبيس.
وآنات كأنّي أسمع خطيب الحكمة ينادي بأعلياء الكلمة، وأولياء أمر الأمّة، يعرّفهم مواقع الصواب، ويبصّرهم مواضع الارتياب، ويحذّرهم مزالق الاضطراب، ويُرشدهم إلى دقائق السياسة، ويهديهم طرق الكياسة، ويرتفع بهم إلى منصّات الرئاسة، ويصعدهم شُرَفَ التدبير، ويشرف بهم على حسن المصير...» إلى آخر كلماته الظاهرة عليها إمارات الدهشة والحيرة.
أجل ولئن اندهش هذا الفيلسوف من كلام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) واضطرب فكره، فقد اضطربت قبله آراء فلاسفة وحكماء، ووقفت أفكارهم عند حدّه.

--------------------------------------------------------
[١] . الأنعام: ٥٩.
[٢] . تاج العروس ٨: ٣٠. ونهر معقل بالبصرة، نُسب إلى معقل بن يسار المزني.
[٣] . يقال للسيل اذا أتاك من حيث لا تحتسبه: سيل درء، أي يدفع هذا ذاك وذاك هذا. النهاية في غريب الحديث لابن الاثير ٢: ١١٠.
[٤] . الأنساب للسمعاني ١: ٣٧.
[٥] . بنيات الطريق: الطرق الصغارتتشعّب من الجادّة.
[٦] . ذرب الرجل إذا فصح لسانه بعد حصره. لسان العرب/ ابن منظور: ١/ ٣٨٥. وله معاني كثيرة منها ما ذُكر.
[٧] . الصفيحة: السيف العريض... قال ابن الأعرابي: المصفحات: السيوف، لانها صفحت حين طبعت.. القاموس المحيط/ الفيروز آبادي: ٣/ ٣٩٣.
[٨] . الملج: السمر من الناس، وفي نوادر الأعراب: أسود أملج.. والأملج الأصفر ليس بأسود ولا أبيض وهو بينهما. لسان العرب: ٢/ ٣٦٩.
[٩] . ملج: ملج الصبي أمه.. وملجها إذا رضعها.. وفي الصحاح: تناول الثدي بأدنى الفم... والإملاج: الإرضاع. لسان العرب: ٢/ ٣٦٩.

يتبع .......

****************************