قال في المجلد الثاني من شرحه ص ١٦٧:
«لو سمع هذا الكلام ـ يعني كلام علي (عليه السلام) ـ النظر بن كنانة لقال لقائله ما قاله علي بن العباس بن جريح لإسماعيل بن بلبل:
قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم ***** وكم أبٍ قد علا بابنٍ ذُرا شرفٍ
كلاّ ولكن لـعمري منـه شيبانُ ***** كما علا برسول الله عدنان
إذ كان يفخر به على عدنان وقحطان، بل كان يقرّ به عين أبيه إبراهيم خليل الرحمن، ويقول له: إنه لم يُعفَ ما شيّدتُ من معالم التوحيد، بل أخرج الله تعالى من ظهري ولداً ابتدع من علوم التوحيد في جاهلية العرب ما لم تبتدعه أنت في جاهليّة النبط، بل لو سمع هذا الكلام أرسطوطاليس القائل بأنّ الله تعالى لا يعلم الجزئيّات لخشع قلبه ووقف شعره واضطرب فكره، ألا ترى ما عليه من الرواء والمهابة والعظمة والفخامة والمتانة والجزالة، مع ما قد أُشرب من الحلاوة والطلاوة واللطف والسلاسة، لا أرى كلاماً يشبه هذا إلاّ أن يكون كلام الخالق سبحانه، فإنّ هذا الكلام نبعة من تلك الشجرة، وجدول من ذلك البحر، وجذوة من تلك النار، وكأنّه شرح قوله تعالى: «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الأْرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ».
ويعود ثانياً فيقول ص١٥٠ منه:
هذا موضع المثل «إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل» يعني إذا جاء هذا الكلام الربّاني واللفظ القدسي بطلت فصاحة العرب، وكانت نسبة الفصيح من كلامها إليه نسبة التراب إلى النضار الخالص، ولو فرضنا أنّ العرب تقدر على الألفاظ الفصيحة المناسبة والمقاربة لهذه الألفاظ، من أين لهم المادة التي عبّرت هذه الألفاظ عنها، ومن أين تعرف الجاهليّة ـ بل الصحابة المعاصرون لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ هذه المعاني الغامضة السمائية ليتهيّأ لها التعبير عنها.
أمّا الجاهلية فإنّهم إنّما كانت تظهر فصاحتهم في صفة بعير أوفرس أوحمار وحشي أو ثور فلاة أو صفة جبال أو فلوات ونحو ذلك.
وأمّا الصحابة فالمذكورون منهم بفصاحة إنّما كان منتهى فصاحة أحدهم كلمات لا تتجاوز السطرين أو الثلاثة، إمّا في موعظة تتضمّن ذكر الموت أو ذمّ الدنيا، أو ما يتعلّق بحرب وقتال من ترغيب وترهيب أو نسب.
فأمّا الكلام في الملائكة وصفاتها وصورها وعباداتها وتسبيحها ومعرفتها بخالقها وجماله وولهها إليه وما جرى مجرى ذلك، فإنّه لم يكن معروفاً عندهم على هذا التفصيل، نعم ربّما علموه جملة غير مقسّمة هذا التقسيم ولا مرتّبة هذا الترتيب بما سمعوه من ذكر الملائكة في القرآن العظيم، وأمّا من عنده علم من هذه المادة كعبد الله بن سلام، وأمية بن أبي الصلت، وغيرهم، فلم تكن لهم هذه العبارة، ولا قدروا على هذه الفصاحة , فثبت أنّ هذه الأمور الدقيقة في مثل هذه العبارة الفصيحة لم تحصل إلاّ لعلي وحده، وأُقسم أنّ هذا الكلام إذا تأمّله اللبيب اقشعرّ جلده ورجف قلبه واستشعر عظمة الله العظيم في روعه وجلده، وهام نحوه، وغلب الوجد عليه، وكاد أن يخرج من مسكه شوقاً، وأن يفارق هيكله صبابة ووجداً.
ولاستجلاء هذه الحقائق بأرقامها لا بدّ من ذكر نكتة تؤيّدها وتضمن وجودها: من العلم بالنسب وأنّ معرفة الصحابة محدودة.
حدّث المعتزلي في المجلّد الأول من (شرح النهج) ص ٣٧٨ ط الاولى، ونقل القصة أيضاً المحبّ الطبري في المجلد الأول من كتابه (الرياض النظرة) ص ١٠٢ في أحوال أبي بكر، ونحن ننقلها عن المعتزلي:
روى المعتزلي عن المدائني في كتاب الأمثال عن المفضّل الضبي: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمّا خرج عن مكّة يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج إلى ربيعة ومعه علي (عليه السلام) وأبوبكر، فدُفعوا إلى مجلس ربيعة، فتقدّم أبوبكر ـ وكان نسّابة ـ فسلّم فردّوا (عليه السلام) فقال: ممّن القوم؟ قالوا: من ربيعة، قال: أمن هامّتها أم من لهازمها؟ قالوا: من هامتها العظمى، فقال: من أيّ هامتها العظمى أنتم؟ قالوا: من ذهل الأكبر، قال: أفمنكم عوف الذي يُقال له لا حر بوادي عوف؟ قالوا: لا. قال: أفمنكم بسطام ذو اللواء ومنتهى الأحياء؟ قالوا: لا. قال: أفمنكم جسّاس حامي الذمار ومانع الجار؟ قالوا: لا. قال: أفمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفسها؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة؟ قالوا: لا. قال: أفأنتم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا. قال: فلستم إذاً ذهلاً الأكبر، أنتم ذهل الأصغر. فقام إليه غلام قد بقل وجهه اسمه دغفل فقال:
إنّ على سائلنا أن نسألهْ والعِبء لا تعرفه أو تحمله
يا هذا إنّك قد سألتنا فأجبناك ولم نكتمك شيئاً، فممّن الرجل؟
قال: من قريش. قال: بخٍ بخٍ أهل الشرف والرياسة، فمن أيّ قريش أنت؟ قال: من تيم بن مرة، قال: أمكنت ـ والله ـ الرامي من الثغرة، أمنكم قصيّ بن كلاب الذي جمع القبائل من فهر فكان مجمّعاً؟ قال: لا، قال: أفمنكم هاشم الذي هشم لقومه الثريد؟ قال: لا، قال: أفمنكم شيبة الحمد مُطعم طير السماء؟ قال: لا. قال: أفمن المفيضين بالناس أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل الندوة أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل الوفادة أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل الحجابة أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل السقاية؟ قال: لا. قال: فاجتذب أبوبكر زمام ناقته ورجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) هارباً من الغلام، فقال دغفل: صادف درء السيل درأً يصدعه، أما والله لو ثبت لأخبرتُه أنّك من زمعات قريش ـ أي من أرذالها ـ فتبسّم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقال علي (عليه السلام) لأبي بكر: لقد وقعت يا أبا بكر من الأعرابي على باقعة، أي داهية، قال: أجل «إنّ لكل طامة طامة، والبلاء موكل بالمنطق» فذهبت مثلاً.
قال ابن أبي الحديد «فهذا الذي تعلمه الصحابة لايتجاوز السطرين أوالثلاثة، أمّا في موعظة أو نسب أو غير ذلك ممّا ذكرنا من صفات الإبل والخيل أو حمار وحشي».
ويعود ابن أبي الحديد ثالثة فيقول في المجلّد الثاني من شرحه ص٥٤٦، في دعم من زعم أنّ خطب نهج البلاغة للشريف الرضي (رحمه الله). تحدّث، بعد ذكر خطبة ابن أبي الشحماء العسقلاني الكاتب فقال:
هذه أحسن خطبة خطبها هذا الكاتب، وهي ـ كما تراها ـ ظاهرة التكلّف، بيّنة التوليد، تخطب على نفسها، وإنّما ذكرت هذا لأنّ كثيراً من أرباب الهوى يقولون: إنّ كثيراً من نهج البلاغة كلام مُحَدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة، وربّما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن وغيره، وهؤلاء قوم أعمت العصبيّة أعينهم فضلّوا عن النهج الواضح، وركبوا بنيات الطريق ضلالاً وقلّة معرفة بأساليب الكلام، وأنا أوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط، فأقول: لا يخلو إمّا أن يكون كلّ نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً أو بعضه، والأوّل باطل بالضرورة، لأنّا نعلم بالتواتر صحّة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد نقل المحدّثون _كلّهم أو جلّهم ـ والمؤرّخون كثيراً منه وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك، والثاني يدلّ على ما قلناه، لأنّ من قد أنس بالكلام والخطابة، وشدا طرفاً من علم البيان، وصار له ذوق في هذا الباب لا بدّ أن يفرّق بين الكلام الركيك والفصيح، وبين الفصيح والأفصح، وبين الأصيل والمولّد، وإذا وقف على كرّاس واحد يتضمّن كلاماً لجماعة من الخطباء أو لاثنين منهم فقط فلا بدّ أن يفرّق بين الكلامين ويميّز بين الطريقتين، ألا ترى أنّا ـ مع معرفتنا بالشعر ونقده ـ لو تصفّحنا ديوان أبي تمّام فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام ونَفَسِهِ وطريقته ومذهبه في القريض؟
ألا ترى أنّ العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه لمباينتها لمذهبه في الشعر، وكذلك حذفوا من شعر أبي نواس شيئاً كثيراً لما ظهر لهم أنّه ليس من ألفاظه ولا من شعره، وكذلك غيرهما من الشعراء، ولم يعتمدوا في ذلك إلاّ على الذوق خاصّة، وأنت إذا تأمّلت نهج البلاغة وجدته كلّه ماءاً واحداً أو أسلوباً واحداً كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهيّة، وكالقرآن العزيز أوّله كأوسطه، وأوسطه كآخره، وكلّ سورة منه وكلّ آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفنّ والطريق والنظم لباقي الآيات والسور، ولو كان بعض نهج البلاغة منحولاً وبعضه صحيحاً لم يكن ذلك كذلك، فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أنّ هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير المؤمنين (عليه السلام).
واعلم أنّ قائل هذا القول يطرق على نفسه ما لا قبل له به، لأنّا متى فتحنا هذا الباب وسلّطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو لم نثق بصحّة كلام منقول عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبداً، وساغ لطاعن أن يطعن ويقول «هذا الخبر منحول وهذا الكلام مصنوع» وكذلك ما نُقل عن أبي بكر وعمر من الكلام والخطب والمواعظ والأدب وغير ذلك، وكلّ أمر جعله هذا الطاعن مستنداً له فيما يرويه عن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمّة الراشدين والصحابة والتابعين والشعراء المترسّلين والخطباء، فلناصر أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يستعدّ إلى مثله فيما يروونه عنه من نهج البلاغة وغيره، وهذا واضح.