تحدث الأستاذ (جورج جرداق) ـ وهو من أفاضل الكتّاب والمؤلّفين المسيحيين ـ في مؤلّفه «الإمام علي صوت العدالة الانسانية»، وتحت عنوان «الأسلوب والعبقريّة الخطابيّة» عندما يتحدّث عن (نهج البلاغة) قائلاً:
«نهج البلاغة آخذ من الفكر والخيال والعاطفة آيات تتّصل بالذوق الفنّي الرفيع ما بقي الانسان وما بقي له خيال وعاطفة وفكر، مترابط بآياته متساوق، متفجّر بالحسّ المشبوب والإدراك البعيد، متدفّق بلوعة الواقع وحرارة الحقيقة والشوق إلى معرفة ما وراء هذا الواقع، متآلف يجمع بين جمال الموضوع وجمال الاخراج، حتّى ليندمج التعبير بالمدلول، أو الشكل بالمعنى، اندماج الحرارة بالنار، والضوء بالشمس، والهواء بالهواء، فما أنت أزاءه إلاّ ما يكون المرء قبالة السيل إذ ينحدر، والبحر إذ يتموّج، والريح إذ تطوف، أو قبالة الحدث الطبيعي الذي لا بدّ له أن يكون بالضرورة على ما هو كائن عليه من الوحدة، لا تفرّق بين عناصرها إلاّ لتمحو وجودها وتجعلها إلى غير كون.
بيانٌ لو نطق بالتقريع لانقضّ على لسان العاصفة انقضاضاً، ولو هدّد الفساد والمفسدين لتفجّر براكين لها أضواء وأصوات، ولو انبسط في منطقٍ لخاطب العقول والمشاعر، فأقفل كلّ باب على كلّ حجّة غير ما ينبسط فيه، ولو دعا إلى تأمّل لرافق فيك منشأ الحس وأصل التفكير، فساقك إلى ما يريده سوقاً، ووصلك بالكون وصلاً، ووحّد فيك القوى للاكتشاف توحيداً، وهو لو راعاك لأدركت حنان الأب ومنطق الأبوّة وصدق الوفاء الانساني وحرارة المحبة التي تبدأ ولا تنتهي، أمّا إذا تحدّث إليك عن بهاء الوجود وكمالات الخلق وجمالات الكون فإنّما يكتب على قلبك بمدادٍ من نجوم السماء.
بيانٌ هو بلاغة من البلاغة وتنـزيل من التنـزيل.
بيانٌ اتّصل بأسباب البيان العربي، ما كان منه وما يكون، حتّى قال أحدهم في صاحبه: إنّ كلامه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق.
وخطب الإمام جميعاً تنضح بدلائل الشخصيّة، حتّى لكـأنّ معانيها وتعابيرها هي خوالج نفسه بالذات، وأحداث زمانه التي تشتعل في قلبه كما تشتعل النار في موقدها تحت نفح الشمال، فإذا هو يرتجل الخطبة حسّاً دافقاً وشعوراً زاخراً وإخراجاً بالغاً غاية الجمال، وكذلك كانت كلمات علي بن أبي طالب المرتجلة، فهي أقوى ما يمكن للكلمة المرتجلة أن تكون من حيث الصدق وعمق الفكرة وفنّية التعبير، حتّى أنّها ما نطقت بها شفتاه إلاّ ذهبت مثلاً سائراً.
والخلاصة أنّ علي بن أبي طالب أديب عظيم نشأ على التمرّس بالحياة، وعلى المرانة بأساليب البلاغة، فإذا هو مالك ما يقتضيه الفنّ من أصالة في شخصية الأديب، ومن ثقافة تنمو بها الشخصيّة وتتركّز الأصالة.
أمّا اللغة لغتنا العربية الحبيبة التي قال فيها (مرشلوس) في المجلّد الأول من كتابه (رحلة إلى الشرق) هذا القول الذكي: «اللغة العربية هي الأغنى والأفصح والأكثر والألطف وقعاً بين سائر لغات الأرض بتراكيب أفعالها، تتبع طيران الفكر وتصوّره بدقّة، وبأنغام مقاطعها الصوتية تقلّد صراخ الحيوانات، ورقرقة المياه الهاربة، وعجيج الرياح وقصف الرعد». أمّا هذه اللغة بما ذكر (مرشلوس) من صفاتها وبما لم يذكر، فإنّك واجدٌ أصولها وفروعها وجمال ألوانها وسحر بيانها في أدب الإمام علي، وكان أدباً في خدمة الانسان والحضارة».
ولمّا كان في نفسه أن يُشبع الموضوع ويستعرضه عرضاً دقيقاً، استرسل في حديثه ثانية بقوله:
وإنّ قسط علي بن أبي طالب من الذوق الفنّي، أوالذوق الجمالي لممّا يندر وجوده لدى الكثيرين، وذوقه هذا كان المقياس الطبيعي الضابط للطبع الأدبي عنده، أمّا طبعه في ذلك فهو طبع ذوي الأصالة والموهبة الذين يرون فيشعرون، ويدركون فتنطلق ألسنتهم بما تجيش به قلوبهم وتنكشف عنه مداركهم انطلاقاً عفويّاً، لذلك تميّز عليٌّ بالصدق كما تميّزت به حياته، وما الصدق إلاّ ميزة الفنّ الأُولى ومقياس الأسلوب الذي لا يُخادع.
وإنّ شروط البلاغة ـ التي هي موافقة الكلام لمقتضى الحال ـ لم تجتمع لأديب عربي كما اجتمعت لعلي بن أبي طالب، فإنشاؤه أعلى مَثَل لهذه البلاغة بعد القرآن، فهو موجز على وضوح قويّ جيّاش تامّ الانسجام لما بين ألفاظه ومعانيه وأغراضه من ائتلاف، حلو الرنّة في الأذن، موسيقيّ الوقع، وهو يرفق ويلين في المواقف التي لا تستدعي الشدّة، ويشتدّ ويعنف في غيرها من المواقف، لاسيّما ساعة يكون القول في المنافقين المراوغين وطلاّب الدنيا على حساب الفقراء والمستضعفين وأصحاب الحقوق المهدورة، فأسلوب علي صريح كقلبه وذهنه، صادق كطويّته، فلا عجب أن يكون نهجاً للبلاغة، وقد بلغ أسلوب علي من الصدق حدّاً ترفّع به حتّى السجع عن الصنعة والتكلّف، فإذا هو ـ على كثرة ما فيه من الجمل المتقاطعة الموزونة المسجعة ـ أبعد ما يكون عن الصنعة وروحها، وأقرب ما يكون من الطبع الزاخر.
فانظر إلى هذا الكلام المسجّع وإلى مقدار ما فيه من سلامة الطبع «يَعْلَمُ عَجِيجَ الْوُحُوشِ فِي الْفَلَوَاتِ وَمَعَاصِيَ الْعِبَادِ فِي الْخَلَوَاتِ وَاخْتِلَافَ النِّينَانِ فِي الْبِحَارِ الْغَامِرَاتِ وَتَلَاطُمَ الْمَاءِ بِالرِّيَاحِ الْعَاصِفَاتِ». أو إلى هذا القول في إحدى خطبه: «وَكَذَلِكَ السَّمَاءُ وَالْهَوَاءُ وَالرِّيَاحُ وَالْمَاءُ فَانْظُرْ إِلَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنَّبَاتِ وَالشَّجَرِ وَالْمَاءِ وَالْحَجَرِ وَاخْتِلَافِ هَذَا اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَتَفَجُّرِ هَذِهِ الْبِحَارِ وَكَثْرَةِ هَذِهِ الْجِبَالِ وَطُولِ هَذِهِ الْقِلَالِ وَتَفَرُّقِ هَذِهِ اللُّغَاتِ وَالْأَلْسُنِ الْمُخْتَلِفَاتِ... الخ».
و أُوصيك خيراً بهذا السجع الجاري من الطبع «ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ وَضِيَاءِ الثَّوَاقِبِ وَأَجْرَى فِيهَا سِرَاجاً مُسْتَطِيراً وَقَمَراً مُنِيراً فِي فَلَكٍ دَائِرٍ وَسَقْفٍ سَائِرٍ... الخ».
فإنّك لو حاولتَ إبدال لفظٍ مسجوع في هذه البدائع جميعاً بآخر غير مسجوع لعرفت كيف يخبو إشراقها ويبهت جمالها، ويفقد الذوق فيها أصالته ودقّته، فالسجع في هذه الأقوال العلويّة ضرورة فنّية يقتضيها الطبع الذي يمتزج بالصنعة امتزاجاً، حتّى لكأنّهما من معدن واحد، يبعث النثر شعراً له أوزان وأنغام ترفق المعنى بصورٍ لفظيّة لا أبهى منها ولا أشهى.
وإذا قلنا إنّ أسلوب علي تتوفّر فيه صراحة المعنى وبلاغة الأداء وسلامة الذوق الفنّي، فإنّما نشير على القارئ بالرجوع إلى نهج البلاغة ليرى كيف تتفجّر كلمات عليٍ من ينابيع بعيدة القرار في مادّتها، وبأي حُلّة فنية رائعة الجمال تمور وتجري.
وإليك هذه التعابير الحسان في قوله: «الْمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ» وفي قوله: «الْحِلْمُ عَشِيرَةٌ» أو في قوله: «مَنْ لَانَ عُودُهُ كَثُفَتْ أَغْصَانُهُ» أو في قوله: «كُلُّ وِعَاءٍ يَضِيقُ بِمَا جُعِلَ فِيهِ إِلَّا وِعَاءَ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ يَتَّسِعُ» أو في قوله أيضاً: «لَوْ أَحَبَّنِي جَبَلٌ لَتَهَافَتَ» أوفي هذه الأقوال الرائعة: «الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ» «رُبَّ مَفْتُونٍ بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ» «إِذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا عَلَى أَحَدٍ أَعَارَتْهُ مَحَاسِنَ غَيْرِهِ وَإِذَا أَدْبَرَتْ عَنْهُ سَلَبَتْهُ مَحَاسِنَ نَفْسِهِ» «لْيَكُنْ أَمْرُ النَّاسِ عِنْدَكَ فِي الْحَقِّ سَوَاءً» «افْعَلُوا الْخَيْرَ وَلَا تَحْقِرُوا مِنْهُ شَيْئاً فَإِنَّ صَغِيرَهُ كَبِيرٌ وَقَلِيلَهُ كَثِيرٌ» «هَلَكَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ» «مَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ».
فأنت ترى ما في أقواله هذه من الأصالة في التفكير والتعبير، هذه الأصالة التي تلازم الأديب الحقّ بصورة مطلقة، إلاّ إذا فاتته الشخصية الأدبية ذاتها.
ويبلغ أسلوب علي قمّة الجبال في المواقف الخطابية، هذه الأصالة التي تثور بها عاطفته الجيّاشة، ويتّقد خياله فتعتلج فيه صور حارّة من أحداث الحياة التي تمرّس بها، فإذا بالبلاغة تزخر في قلبه، وتتدفّق على لسانه تدفّق البحار، ويتميّز أسلوبه في مثل هذه المواقف بالتكرار بغية التقرير والتأثير، وباستعمال المترادفات، وباختيار الكلمات الجزلة ذات الرنين.
والخطباء في العرب كثيرون، والخطابة من فنونهم الأدبية التي عرفوها في الجاهلية والإسلام، ولاسيّما في عصر النبي والخلفاء والراشدين، لما كان لهم بها من حاجة، أمّا خطيب العهد النبويّ الأكبر فالنبي لاخلاف في ذلك، أمّا في العهد الراشدي وفيما تلاه من العصور العربية قاطبة، فإنّ أحداً لم يبلغ ما بلغ إليه علي بن أبي طالب في هذا النحو، فإنّ الله يسّر له العدّة الكاملة بالفطرة السليمة والذوق الرفيع والبلاغة الآسرة، ثمّ بذخيرة من العلم انفرد بها عن أقرانه، وبحجّة قائمة وقوّة إقناع دامغة وعبقريّة في الإرتجال نادرة.
وابن أبي طالب على المنبر رابط الجأش شديد الثقة بنفسه وبعدل القول، ثمّ إنّه قوي الفراسة، سريع الإدراك، يقف على دخائل الناس وأهواء النفوس وأعماق القلوب، زاخر جنانه بعواطف الحريّة والانسانية والفضيلة، حتّى إذا انطلق لسانه الساحر بما يجيش به قلبه أدرك القوم بما يحرّك فيهم الفضائل الراقدة والعواطف الخاصّة.
أمّا إنشاؤه الخطابي فلا يجوز وصفه إلاّ بأنّه أساس في البلاغة العربية. يقول أبو هلال العسكري (في الصناعتين): «ليس الشأن في إيراد المعاني ـ وحدها ـ وإنّما هو في جودة اللفظ وصفائه وحسنه وبهائه ونزاهته ونقائه وكثرة طلاوته ومائه, مع صحّة السبك والتركيب، والخلوّ من أود النظم والتأليف، من الألفاظ ما هو فخم كأنه يجرّ ذيول الأرجوان أنفةً وتيهاً، ومنها ما هو ذو قعقعة كالجنود الزاحفة في الصفيح، ومنها ما هو كالسيف ذي الحدّين، ومنها ما هو كالنقاب الصفيق يلقى على بعض العواطف ليستر من حدّتها ويخفّف من شدّتها، ومنها ما له وميض البرق، ومنها ما له ابتسامة السماء في ليالي الشتاء، من الكلام ما يفعل كالمقرعة وهو كلام الانتقاد والتنديد، ومنه ما يجري كالنبع الصافي وهو المعدّ للرضى والغفران، ومنه ما يضيء كالشهاب وهو كلام التعظيم، كذلك من الكلام ما ليس له طابع خاصّ فيؤتى به لتقوية الجملة ودعم المعنى، فهو يلائم كلّ حال».
كلّ ذلك ينطبق على خطب الإمام علي في مفرداتها وتعابيرها، هذا بالاضافة إلى أنّ الخطبة تحسن إذا انطبعت بهذه الصفات اللفظية على رأي صاحب الصناعتين، فكيف بها إذا كانت كخطب ابن أبي طالب تجمع روعة هذه الصفات في اللفظ إلى روعة المعنى وقوّته وجلاله، انتهى.
لم يسمع الناس بكلام قطّ بعد كلام الله تعالى ورسوله أعمّ نفعاً، وأصدق لفظاً، وأعدل وزناً، وأجمل مذهباً، وأكرم مطلباً، ولا أحسن موضعاً ولا أسهل مزجاً، ولا أفصح عن معناه، ولا أبين في فحواه، من كلام علي أميرالمؤمنين (عليه السلام)، فقد شاهدنا روّاد العبقريّة الانشائيّة مسترشدين بكلمه (عليه السلام) وخطبه وكتبه.
حكى عبد المسيح في شرح قصيدته أنّ شيخه ناصيف اليازجي قال له: «ما أتقنت الكتابة إلاّ بدرس القرآن العظيم ونهج البلاغة القويم، فهما كنـز العربيّة الذي لا ينفد وذخيرتها للمتأدّب، وهيهات أن يظفر أديب بحاجته من هذه اللغة الشريفة إن لم يُحيي لياليه سهراً في مطالعتهما والتبحّر في عالي أساليبهما».
وقال عبد الحميد بن يحيى ـ الذي يُضرب ببلاغته المثل -: «حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع ففاضت ثمّ فاضت» ـ يعني بالأصلع سيّدنا علياً (عليه السلام).
وقال ابن نباتة: «حفظت من الخطب كنـزاً لا يزيده الانفاق إلاّ سعة، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب».
وقد زيّن الجاحظ كتبه مثل «البيان والتبيين» بفصول من خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) إعجاباً بها، وإعداداً للنفوس لبلوغ أقصى البلاغة، وشاهدنا جماهير العرب والعجم والشرقيّين والمستشرقين ممّن يتطلّبون بلاغة اللسان وبراعة القلم يستظهرون نهج البلاغة لما فيه من فصاحة بانسجام، وبلاغة خالية من كلّ تعقيد أو تكلّف، وعروبة صحيحة تعالى عهدها عن تصنّعات عهد المولدين، هذه غاية الأدباء في حفظ كلامه (عليه السلام).
وكم يعود الأسف بليغاً إذا نبذنا مثل هذا الكتاب وراءنا ظِهريّاً، وحرمنا النشء من فنون بيانه، وتركناه صفر الكفّ من شذور عقيانه، عكس ما لو يثقّف بدراسته دراسة تفقّهٍ واستحضار وتدبير واستظهار، فندّخر بهذا ومثله لأفلاذ أكبادنا كنـزاً من الحكمة أو جَنّة باقية وجُنّة واقية تقيهم في مزالق الانشاء، وتملّكهم مقاليد البلاغة في البيان، والبيان من أهم عوامل الرقيّ في الحياة. لم لا نُصغي لنداء مرشدنا الروحي الذي يخاطبنا من صميم ضميره الحرّ بداعية الهداية، وما هو ـ لو أنصفناه ـ إلاّ أستاذ الكلّ في الكلّ، يلقّن العالم نتائج المعارف العالية، ويلقي دروسه على صفوف من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب بلهجة من لغة الضاد رقّت وراقت فلا يوجد أجمل منها حسناً وبهاءاً.