قال الشيخ الحجّة آغا بزرك قدّس الله روحه في المجلّد الرابع من (الذريعة) تحت عنوان (ترجمة نهج البلاغة):
لم يبرز في الوجود بعد انقطاع الوحي الإلهيّ كتاب أمسّ به ممّا دُوّن في نهج البلاغة، نهج العلم والعمل الذي عليه مسحة من العلم الإلهيّ، وفيه عبقة من الكلام النبويّ، وهو صدف لئالي الحكم وسفط يواقيت الكلم!
المواعظ البالغة في طيّ خطبه وكتبه تأخذ بمجامع القلوب، وقصار كلماته كافلة لسعادة الدنيا والآخرة، ترشد طلاّب الحقائق بمشاهدة ضالّتهم، وتهدي أرباب الكياسة لطريق سياستهم وسيادتهم، وما هذا شأنه حقيق أن يعتكف بفنائه العارفون، وينقّبه الباحثون، وحريّ أن تُكتب حوله كتب ورسائل كثيرة حتّى يُشرح فيها مطالبه كلاً أو بعضاً، ويترجم إلى لغات أخر ليغترف أهل كلّ لسان من بحاره غرفة.
وقال في المجلد الرابع عشر منه أيضاً تحت عنوان «نهج البلاغة»: هو كالشمس الطالعة في رائعة النهار، في الظهور وعلوّ الشأن والقدر وارتفاع المحلّ، قد جُعلت رؤيتها لجميع الناس مرأى واحداً لا تخفى على أحد، فيقبح من العاقل البصير سؤال ما هي الشمس الطالعة؟ وهي ممّا يقتبس من إشراق نورها كافّة الكائنات في البرّ والبحر، كذلك النهج قد طبّقت معروفيّته الشرق والغرب، ونشر خبره في أسماع الخافقين، ويتنوّر من تعليمات النهج جميع أفراد نوع البشر لصدوره عن معدن الوحي الإلهيّ، فهو أخ القرآن الكريم في التبليغ والتعليم، وفيه دواء كلّ عليل وسقيم، ودستور للعمل بموجبات سعادة الدنيا وسيادة دار النعيم، غير أنّ القرآن أنزله حامل الوحي الإلهيّ على قلب النبي الأمين (صلى الله عليه وآله)، والنهج أنشأه باب مدينة علم النبي وحامل وحيه، سيّد الموحّدين وإمام المتّقين علي أمير المؤمنين صلوات الله عليه من رب العالمين، وقد قيل فيه:
نهج البلاغة نهج العلم والعملِ فاسلُكه يا صاح تبلغ غاية الأملِ وقد لمحّنا في ج٤، ص١٤٤ إلى سيادته على سائر الكتب وكونه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق، ونِعم ما قيل فيه:
كلامُ عليٍّ كلامٌ عليٌّ ***** وما قاله المرتضى مرتضى
لقد صارت الكلمات التي يلقيها أمير المؤمنين صلوات الله عليه في خطبه، أو يُمليها إلى كاتبه مخزونة في صدور جمع من أصحابه، على موجب السيرة العربيّة، ثم قيّد ما في تلك الصدور إلى الكتابة في الأصول الأوّليّة، ومنها ما أُلفّ في عصر الأمير (عليه السلام)، مثل (كتاب الخطب) تأليف أبي سليمان زيد الجهني الذي شهد حروب الأمير (عليه السلام)، ثمّ نقل منها إلى سائر الكتب التي أُلّفت في جمع خطبه (عليه السلام) إلى عصر الشريف الرضي (رحمه الله) ممّا لا يُستهان به، وكانت تلك الأصول المعتبرة والكتب المعتمدة في مكتبة الوزير سابور بن أردشير وغيرها في بغداد تحت نظر الشريف الرضي (رحمه الله) يستفيد منها في كلّ حين، حتّى أخرج منها ما اختاره من منشئآت أمير المؤمنين (عليه السلام) وجعلها بين الدفّتين مرتباً على ثلاثة أقطاب (١) الخطب (٢) الكتب (٣) الحكم، وبعد ذلك سمّى ما دوّنه من المنشئات بـ (نهج البلاغة)، وبيّن وجه التسمية في مقدّمة الكتاب بقوله: لأنه يفتح للناظر في تلك المنشآت أبواب من البلاغة، فكلّ واحد من الخطب والكتب والحكم مصداق نهج البلاغة، أي طريقها الواضح، يفتح للناظر فيه أبواب من البلاغة، وبما أنّ ما اختاره ودوّنه في الأقطاب قد رقى في الجزالة والبلاغة أعلى الدرجات، وعجزت عن إدراك مزاياه أفهام كثير من الطبقات، كان محتاجاً إلى التعليق والتحشية والشرح والبيان والترجمة إلى سائر اللغات نظماً ونثراً، لتعميم نفعه لجميع أفراد نوع الإنسان، فقيّض الله جمعاً من أعلام المسلمين من العرب والعجم والسنّة والشيعة وغيرهم، فقاموا بتلك الوظائف كلّ على مبلغ وُسعه وجدّه ومقدرته، وتوفيقه وسعادته، وهم بين مَن شرح جميعه، أو علّق عليه كذلك، أو شرح مشكلاته فقط، أو شرح خطبه، أو شرح كتبه أوجمعها، أو شرح كلماته القصار أو بعض أجزائه، أوترجمه كلاً أو بعضاً إلى لغة أخرى، أو نظمه كلاً أو بعضاً بالفارسية أو غيرها، أو ألّف في بعض ما يتعلّق به من تعداد خطبه وكتبه أو فهرس ألفاظه، أو التعريف له أو غير ذلك ممّا ألّفوه من هذا القبيل حسب ما اطّلعت عليه طيلة السنين، نسأل الله لهم جزيل الأجر والثواب ونشكر جميل مساعيهم، انتهى.