أما بعد، فإن (نهج البلاغة) اسم وضعه الشريف الرضي على كتاب جمع فيه، ـ كما هو مذكور ـ المختار من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، في جميع فنونه ومتشعبات غصونه.
وقد اشتمل على عدد كبير من الخطب والمواعظ والعهود والرسائل والحكم والوصايا والآداب، توزعت على ٢٣٨ خطبة و٧٩ بين كتاب ووصية وعهد، و٤٨٨ من الكلمات القصار، واحتوت على عوالم وآفاق متعددة منها: عالم الزهد والتقوى، عالم العرفان والعبادة، عالم الحكمة والفلسفة، عالم النصح والموعظة، عالم الملاحم والمغيبات، عالم السياسة والمسؤوليات الاجتماعية، عالم الشجاعة والحماسة وغير ذلك.
ولقد انفرد هذا المصنف بسمات قلما نجد لها مثيلاً في أي كتاب إسلامي آخر سوى القرآن والسنة النبوية، إذ لا نكاد نرى كتاباً تميز بقطعات مختلفة يجمعها سلك واحد من الشخصية والواحدة والأسلوب الواحد كما نراه في (نهج البلاغة). وهو اليوم وبعد أربعة عشر قرناً من عهده، يحافظ على نفس الحلاوة والطلاوة، ونفس القدرة في تحريك العواطف والأحاسيس، تلك التي كانت له في عهده، رغم كل ما حدث من تحول وتغيير في الأفكار والأذواق والثقافات لأن كلماته لا تحدّ بزمان أو مكان، بل هي عالمية الوجهة، إنسانية الهدف، من حيث أنها تتجه إلى كل إنسان في كل زمان ومكان.
ومنذ أن صدر هذا الكتاب عن جامعه، سار في الناس ذكره، وتألق نجمه، وأعجب به كل من وصل إليه، وتدارسوه في كل مكان، لما اشتمل عليه من اللفظ المنتقى والمعنى المشرف، وما احتواه من جوامع الكلم في أسلوب متساوق الأغراض، محكم السبك يجمع بين البلاغة والشمول ويعد في الذروة العليا من النثر العربي الرفيع.
لقد شغل الإنسان بكل أبعاده، مختلف خطب الإمام علي (عليه السلام) وكلماته بهدف تحريره من ربقة الجهل وإنارة عقله بالعلوم والمعارف، تمهيداً لإيقاظه من سباته وبعثه على التأمل في الكون وما يتخلله من أنظمة ونواميس وما يحكمه من إرادة خفية دقيقة التنظيم، ليخلص من ذلك كله إلى الإيمان بالله خالق الكون وواهب الحياة.
وليس بوسع هذا الإنسان المحدود حياة وقدرة، أن يدرك هذه الحقيقة المطلقة، ما لم يرتفع فوق الصغائر والشهوات، ويتحرر من قيود المادة وأغلالها ويحترز من أغوائها وأهوائها ويفطم طبيعته عن ألبانها، لذلك فقد ركزت خطب الإمام علي (عليه السلام) على التقوى تلك التي تهب النفس القوة والنشاط، وتصونها عن الانحراف والشطط، وتدفع بها إلى ملكوت الله حيث السعادة الأبدية.
ولا يعني ذلك، ترك المجتمع واعتزاله، إذ لا رهبنة في الإسلام، ولا يبدو من كلماته (عليه السلام) أنها تدعو إلى مثل ذلك، بل هي توحي إلى الإنسان بأن يتقي الله في دنياه، ويعمل لدنياه كما لآخرته، ويعيش حياته بكل بساطة وقناعة، في ظل علاقة اجتماعية ورابطة حيوية تنبع من المسؤولية بالتعهدات الاجتماعية والمطالب الحياتية لكافة الناس، هذه المشاركة في الحياة تفرض على الإنسان أن يعيش لغيره كما يعيش لنفسه في مستوى واحد من الحماسة والاهتمام.
هذه المعاني الإنسانية الخالدة التي تضمنها نهج الإمام علي (عليه السلام) جعلته موضع اهتمام الباحثين ورجال الفكر في كل عصر وجيل وسوف يبقى كذلك ما دامت العقول تكتشف فهي منطلقات جديدة لبناء هذا الإنسان حتى يعود إلى الصورة التي أراد لها الله أن تكون.
ومع هذه الأهمية التي حظي بها كتاب (النهج) فقد امتدت إليه سهام الشك منذ أن صدر عن جامعه وحتى يومنا هذا، واختلفت فيه الآراء، وفي كونه للإمام علي (عليه السلام) أم للشريف الرضي، وما زالت المواقف على حالها دون البت في ذلك، رغم أن الموضوع قد استنفذ البحث.
و مما جاء في كتاب تاريخ الأدب العربي , العصر الإسلامي للدكتور شوقي ضيف قوله : وقد خلّف عليٌّ خطباً كثيرة , نجد منها أطرافاً في البيان والتبيين وعيون الأخبار والطبري .
على أنه ينبغي أن نقف موقف الحذر مما يُنسب إليه من خُطبٍ في الكتب المتأخرة وخاصة نهج البلاغة فإن كثرته وُضعت عليه وضعاً .وقد تنبّه إلى ذلك السابقون , واختلفوا في واضعها, هل هو الشريف المرتضى أو الشريف الرضي .وقد توفيّ أولهما في سنة ٤٣٦ للهجرة بينما توفي الثاني سنة ٤٠٦ .
وممن يقول أنه الشريف المرتضى, الذهبي في ميزان الاعتدال وابن حجر العسقلاني في لسان الميزان . وذهب النجاشي المتوفى سنة ٤٥٠ للهجرة في كتابه ( الرجال ) إلى أن مؤلف الكتاب هو الشريف الرضي , وأقرّ هو نفسه بذلك .إذ ذكر في الجزء الخامس المطبوع من تفسيره أنه هو الذي ألّفه ووسمه باسمه : نهج البلاغة , وذكر ذلك أيضاً في كتابه مجازات الآثار النبوية .
والمظنون أن الوضع على عليٍ قديم , فقد ذكر المسعودي في مروج الذهب أن له أربعمائة خطبة ونيّقاً وثمانين يتداولها الناس .