وقال (عليه السلام): الغِنَى والْفَقْرُ بَعْدَ الْعَرْضِ عَلَى اللهِ.                
وقال (عليه السلام) : مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا .                
وقال (عليه السلام): الْغِيبَةُ جُهْدُ الْعَاجزِ.                
وقال (عليه السلام): الْحِلْمُ وَالاَْنَاةُ تَوْأَمَانِ يُنْتِجُهُمَا عُلُوُّ الْهِمَّةِ.                
وقال (عليه السلام): الرِّزْقُ رِزْقَانِ: طَالِبٌ، وَمَطْلُوبٌ، فَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا طَلَبَهُ الْمَوْتُ حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْهَا،مَنْ طَلَبَ الاْخِرَةَ طَلَبَتْهُ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رِزْقَهُ مِنْهَا.                
وقال (عليه السلام): مَا لاِبْنِ آدَمَ وَالْفَخْرِ: أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ، وَآخِرُهُ جِيفَةٌ، و َلاَ يَرْزُقُ نَفْسَهُ، وَلاَ يَدفَعُ حَتْفَهُ.                
وقال (عليه السلام): إِذَا وَصَلَتْ إِليْكُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ فَلاَ تُنْفِرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْرِ .                

Search form

إرسال الی صدیق
ما قاله بعض العلماء من القرن الخامس عشر الهجري في نهج البلاغة – الثاني

الشيخ محمد بن حسن القبيسي العاملي [١]
فإن كتاب (نهج البلاغة) الذي جمعه نابغة عصره وفريد زمانه الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن الحسين الموسوي، فهو كتاب في غاية الإتقان يتلو في عظمته القرآن ويتشابه في أهدافه الفرقان، لأنه يفرق بين أهل الهدى وأهل الضلال.
ولكونه حاوياً لكلمات سيد الأوصياء. ومن هو ترجمان القرآن وعدل الجديدان لايفترقان حتى يردا الحوض على سيد ولد عدنان(صلى الله عليه وآله). لذلك لا يسع لأحد وصفه. ووصف ما فيه من فنون الفصاحة. وأنواع البلاغة والحكم الإلهية. والنفائس الربانيّة. التي لا يماثلها ولا يدانيها سوى كلام خالق البريّة.
وقد تضمّن (نهج البلاغة) من غرائب العبر ونفائس الدرر ما يعجز عن حصره جميع البشر. ولا غرو من ذلك.. ولا استغراب من ذلك أليس هو أمير المؤمنين وسيد الوصيين عليه أفضل الصلاة السلام، وهو مشرع الفصاحة وينبوع البلاغة ومولدها وموردها. منه(عليه السلام) ظهر مكنونها، وعنه اُخذت قوانينها، وعلى منهجه درج السالكون، ولأثره اكتفى الطالبون، ومن ينابيع فيضه شرب وارتوى كل متكلّم وخطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ ومع ذلك لم يزل بحره المتلاطم يطفح ويزيد، فلم يلحقه لاحق، ولم يساوه متصاعد.
ولهذا اجتهد العظماء من الفلاسفة والعلماء. من المتقدّمين والمتأخرين. كل على قدر بضاعته وجهده واستعداده، في تفسير جمل كلامه، وفهم مشكلاته وتوضيح معضلاته. ولكن لم يأت أحد فيها رأيته بكل ما حواه كتابه وشمله بيانه [٢].
وله أيضاً:
كما افتتن الناس بعظمة الإمام(عليه السلام) من حيث ذاته القدسيّة. فكذلك افتتنوا في عظمة كلامه الفريد، وبلاغة بيانه المجيد، حتى أجمع أرباب الفصاحة والبلاغة أنّ كلامه(عليه السلام) (دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق).
وشاهدنا العيان على صحة ما نقول نهجه القويم الذي هو ثاني القرآن الكريم. الذي قد احتوى من حقائق البلاغة ودقائق الفصاحة. ما لا يبلغ قعره الفكر، وجمع من فنون المعاني وشؤون البيان ما لا ينال غوره النظر، وضمّن من الأسرار العربية والنكات الأدبية، والمحاسن البديعية ما يعجز عن تقريره لسان البشر [٣].

الشيخ محمد بن فاضل اللنكراني (١٤٢٨هـ) [٤]
إنّ أبسط وأقصر تعريف للقرآن الكريم هو أنّه كلام الله الذي أوحي إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله). وما يمكن قوله بشأن نهج البلاغة ـ كتعريف شامل وبسيط ـ هو أنّه كلام أمير المؤمنين علي(عليه السلام) الذي ضمّ بين طيّاته خطبه ورسائله ووصاياه وكلماته القصار ونصائحه ومواعظه وأحكامه، وقد دوّن قبل ألف عام على هيئة كتاب يدور حول ثلاثة محاور: الخطب والرسائل وقصار الحكم .
لكن لا التعريف الأوّل للقرآن ولا البيان الثاني لنهج البلاغة يعدل قطرة من البحار، ولا ذرّة من العوالم التي ينبغي قولها وسماعها وتدوينها وقراءتها بشأنهما.
والواقع أنّ سوق مثل هذا التعريف للقرآن بصفته كتاب الوحي، ولنهج البلاغة ـ الذي يمثّل الامتداد الحقيقي المتقن للقرآن ـ لايجرّ على القائل والمستمع سوى الحسرة والعجز والقصور.
فكيف يمكن الحديث عن نهج البلاغة، وقد اخترقت أنوار عظمته ظلمات العالم البشري منذ مئات السنين، واختزل التأريخ برمّته وأصاب البشرية بالذهول لرفعته وسموّ مكانته حتّى عيت وخرست مقابل عظمته، فلم تر بُدّاً أم كيف يمكن الكلام عن كتاب تناقلته الألسن منذ آلاف السنين إلى جانب القرآن الكريم، وقد أثنى عليه الأعداء فضلاً عن الأصدقاء، ولم يملكوا سوى التواضع لعظمته؟
وليت شعري كيف ببيان عمق مضامينه وسعة معانيه، وقد عيت العقول وذهلت الفحول على مدى العصور والدهور، ودوّنت المجلّدات، وألّفت الدراسات، وخُطّت ملايين الصفحات، ورُتّبت العبارات، وهُذّبت الصياغات، في حين ما زالت البشرية تسبح على شواطئ محيطاته، ولم ولن تتمكّن من الغوص في أعماقه وسبر أغواره؟ وعليه فلا يسعنا والحالة هذه سوى الاكتفاء بتعريف بسيط مقتضب لهذا الكنز النفيس، أملاً بأن تلهمنا العون أنفاسه القدسية ليتمكّن الأتباع من التعرّف أكثر على هذا الكتاب العظيم، ويغترفوا ما أسعدهم الحظّ من بحر علومه ومنهله العذب ومفاهيمه السامية النبيلة [٥] .

محمد بن مصطفى المجذوب [٦] (ت١٤٢٠هـ)
وقد منّ الله عليّ بهذه المعرفة، فيما أعتقد وجلا تلك الغشاوة عن عيني ونفسي فإذا أنا أُشرف من وراء هذه الحجب الصفيقة على عالم لاينعم بروعته إلاّ من كشف الله عن بصيرته فعرف ابن أبي طالب على حقيقته، وكان ذلك منذ عام حين يسّر لي أن أتجاوز كل أقاويل الناس عن علي تدل على الاتصال المباشر بروحه، تلك الروح التي كمنت وراء (نهج البلاغة) فكان لها أشبه بالدليل الهادي الذي يقود الخابط في الصحراء إلى الواحة المحيية من أقرب سبيل وكنا اثنين من الذين نزع الله ما في قلوبهم من غل فجمعنا على الصداقة البريئة نقضي بياض أيامنا في عمل مشترك من التعليم ثم نفري سواد الليالي بنور من العلم نتدارسه في طوايا الكتب، تاركين كراسي المقاهي لأولئك الذين أخذوا أنفسهم بالاستجابة لشيطان اللهو فراحوا يقتلون أماسي الشتاء على موائد النرد والبناكل والدومينو وكان كتاب (النهج) في قائمة الأسفار التي انكببنا عليها وهنا أعترف بحقيقة لا مناص من التنويه بها، وهي أن الصورة التي كانت قد انطبعت في خيالي عن هذا الكتاب لم تكن مما يشجع الإقبال عليه.
لقد لقّننا بعض (الموثوقين) من الذين كتبوا عن شأنه أنه كتاب منحول: الزائف فيه أكثر من الصحيح، ولم يعوزهم الدليل على رأيهم فحسبهم حجّة أن فيه بعض الحديث عن شؤون من الغيب لايدركها إلاّ الله، وأن في أسلوبه فناً فجامعه رجل من أبناء علي وشيعته، فهو متعصّب له عامد إلى إكباره، ورفع شأنه إلى ما فوق الناس.
وعلى هذا ولجت الكتاب وفي نفسي رغبة التثبت من هذه الحقائق كشيء من اليقين لا مرد له، ولا ريبة فيه، بيد أن لله إرادة غير إرادة الناس فالمرء لايجرئه أن يريد ليكون ما يريد، وإنما هي قلوب بين أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء وقد شاء الله أن يكون غير ما أردت فإذا أنا أتابع ما يقرأ عليّ من النهج بانطلاق عقلي وتجرد روحي لا حدّ لهما، وإذا أنا أخيراً وجهاً لوجه بين يدي روح من وراء هذا العالم تطوي تحت جناحيها حقائق الكون كله، فهي لا ترسل القول إرسالاً يثير فضول النفس وريبة المنطق فيخضع للمناقشة والمحاكمة بحيث يكون لك الخيار في ردّه أو قبوله..
ولكنه من النوع الأسمى الذي يمليه صاحبه عليك إملاء الوحي لامناص من الخضوع له، لأنه يحدّثك عن شيء يقع تحت نظره ويفيض عليك من عالم مشهود يضم عليه جانحيه في قلبك نزول اليقين لا مغمز فيه للشك ويملأ روحك بنشوة من المعرفة لاقبل لك بنكرانها فكأنه هو الحق الذي عناه الله بقوله الحكيم على لسان نبيه الكريم: (قُل هذِهِ سَبِيلي أَدعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أنَا وَمَنِ اتَبَعَني) [٧] ومع ذلك فهو قول يجري على طريقة الناس فيه حماسة الخطيب وفن الشاعر وتعليل الفيلسوف ولكن فيه شيء آخر لايسمو إليه واحد من أولئك إذ هو شيء من روح السماء التي لا يبلغها إلا رسل السماء.
وكنت كلما أوغلت في تذوق ذلك النفس العلوي أحسن أبواباً غير منظورة تتفتح لعيني كما تتفتح آلة الإذاعة عن أصوات جديدة كلما أدرت مفتاحها يمنة أو يسرة، وإذا بي أقع أخيراً على الحلول القاطعة الحاسمة لتلك الشبهات التي اعترت أولئك الموثوقين حين خيّل إليهم أنّ مثل ذلك يجوز عليه أن يكون من الكلام المنحول، ولعمري لقد كان في مكنتهم أن يقعوا على هذه الحقيقة لو ذكروا أنهم أمام ذلك (السبرمان) الذي أعدّه الله إعداداً خاصاً ممتازاً ليكون التلميذ الخاص الممتاز لمدرسة القرآن، وليكون بحياته الممتازة كذلك سجلاً عملياً للمدى الذي قد يبلغ إلى مثله أمرؤ أخذ نفسه بتحقيق مثل القرآن..
ومضينا في الكتاب على هذا النحو من الاستغراق الروحي حتى كانت تلك الليلة التي لا أنساها وكان صاحبي يقرأ عليّ بعض كلام الإمام عن هول المحشر، وكنت أراني مجذوباً إلى ما يقرأ كالمنوّم وضع زمامه في قبضة منومّة، وكأنني والله لا أسمع كلاماً يتلى وإنما أطلّع بنفسي فأرى بعيني وأسمع بأذني وأحس بيدي وكنت أشعر بل أتيقن أنني مضغوط في زحمة الحشود وقد ماجت ساحة الحساب بأرتال الخلق كأنهم اليمّ المتلاطم: فالنفوس ملتاعة والأعين مرتاعة والقلوب هالعة والأعصاب جازعة وقد بلغت الروح الحلقوم وخشعت الأصوات للحي القيوم.
ثم ما لبث صاحبي أن انتهى بي إلى جواب الإمام في مسألة (همام) في وصف المتقين، فإذا أنا موصول الشعور بذلك العالم الذي استعدت له هذه الصفوة فجعلوا زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم، ولولا الأجل الذي كتب لهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب، فهم والجنة كمن رآها فهم فيها منعّمون وهم النار كمن رآها فهم فيها معذّبون.
ولم أتنبّه لشأني إلا حين قرأ صاحبي: فصعق همام صعقة كانت فيها نفسه فنفضت هناك رأسي لأرى أنني لم أرباح الأريكة في بيت الرفيق، وأنني مازلت في دنياي هذه أضطرب فيها يضطرب فيه ناسها من الشر الخير، وما أذكر أنني استطعت ساعتئذ كلاماً، بل كل ما أعيه أنني انسربت من المنزل كالخيال السادر ومضيت أقطع الطريق إلى داري وكأنني أقطعه بهدي المراس لا أملك الرشد الذي يبصرني ما بين يدي وما خلفي، وكانت الساعة العاشرة عندما أويت إلى فراشي وأنا أحسب أن النوم سيذهب بكل أثر من ذلك فينقلني إلى عالمه في خفقة واحدة، وما كنت لأدرك أنني قبل النوم في حالة أخرى من نوم لا يجدي به الفراش فما هي إلا لحظة حتى رجعت إلى دنيا همام وإذا أنا مدعو إلى موقف الحساب لم يبق بيني وبين العرض على الله إلا دقائق معدودة..
واندفعت ـ كما خيّل إلي ـ في المدينة أفتش عن الذين أسأت إليهم أو أسلفت خطيئة نحوهم لأسترضيهم بما استحق فيه التبرئة إذا ما صرت إلى موقف الحكم.. ولكن واسفاه لقد أقفرت الأسواق ودخلت الأزقة وأقوت المساكن فلم تقع عيني على بشر، ولم أجد أمامي سوى مخرج واحد ألوذ به، فرجعت إلى زوجتي وأولادي أشرح لهم أمري بحديث يختلط فيه النشيج بالكلام آخذاً منهم عهد الله على استرضاء غرمائي..
وجعلت الدقائق تنحدر في بالوعة الزمن بسرعة لم يكن لي عهد بمثلها، وجعل النشيج يتعالى صعداً من حلقي المكظوظ بالدمع واللهفة حتى لم أعد أستطيع نطقاً وإنما هو نحيب أرسله فتدوي به القاعة وينساب في ظلمات الليل يوقظ الناس من مضاجعهم.
ولم أع شيئاً بعد.. غير أنني استطعت إثر وقت ما أن أسمع رنين النصف بعد الواحدة ترسله ساعة الجدران وأن أفتح عيني أخيراً فالمح حشداً من الناس يملأون قاعتي دون أن أتبين شخوصهم، ثم جعلت أثوب إلى الرشد رويداً فتتكشف لي صور الحضور حتى عرفت فيهم ذوي قرابتي قد أقبلوا علي من مختلف أنحاء المدينة يتبيّنون هذا العارض الذي ألمّ بي.. وليس لديهم ريب في أنه مسّ من الجنون. ونعم لعمر الله لقد كان ذلك مساً من جنون لاريب فيه ولكنه جنون ينطلق به العقل من قيود ماضيه وتتحرر به النفس من أغلال شهواتها.
رحمك الله يا همام، فلقد صفوت حتى اتصلت روحك بروح علي، وسموت ثم سموت حتى تجاوزت نطاق الدنيا فاختطفك الموت إلى عالم الحق. ولو أتيح لي مثل صفائك وسموّك لكان لي مثل ذلك الشأن الذي صرت إليه.. ولكنها أصفاد من دنيا التراب لا تزال تعلق بنفسي فتمسكها إلى التراب [٨] .

السيد محمد بن مهدي الحسيني الشيرازي [٩] (ت١٤٢٢هـ)
إذا دقّقنا في كتاب (نهج البلاغة) للإمام المرتضى، أمير المؤمنين عليه آلاف التحية والثناء، الذي جمعه الشريف الأجل السيد الرضي قدس الله تربته، رأينا أنّ الأمور الستة مجتمعة فيه إجمالاً أو تفصيلاً، بسطاً أو تحريضاً، فإنّه يشرح أصول العقائد من توحيد ورسالة ومعاد وإمامة شرحاً، ويحرّض على القرآن حثاً، ويلح إلى الأخلاق الفاضلة تلميحاً، ويشير إلى تاريخ الإسلام الماعاً... وكلّه حديث، بالإضافة إلى أنّه سنام اللغة ومنتجعها، ومنبثقها ومرعاها  [١٠].

الدكتور محمد بن الناصر التيجاني [١١]
وإنّي ألفت نظر الباحثين من الشباب المثقّفين إلى الكنوز التي تركها الإمام علي(عليه السلام) والتي جمعت في نهج البلاغة، ذلك السفر القيم الذي لايتقدّمه إلاّ القرآن، والذي بقي مع الأسف مجهولاً لدى أغلبية الناس نتيجة الإعلام والإرهاب والحصار المضروب من قبل الأمويين والعباسيين على كل ما يتصل بعلي بن أبي طالب.
ولست مبالغاً إذا قلت بأنّ في نهج البلاغة كثيراً من العلوم والنصائح التي يحتاجها الناس على مرّ العصور، وفي نهج البلاغة علم الأخلاق وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد وإشارات قيّمة في علم الفضاء والتكنولوجيا، إضافة إلى الفلسفة والسلوك والسياسة والحكمة.
وقد أثبت ذلك شخصياً في الأطروحة التي قدّمتها إلى جامعة السوربون، والتي نوقشت على مواضيع أربعة اخترتها من نهج البلاغة وحصلت من خلالها على شهادة الدكتوراه. فياليت المسلمين يولون نهج البلاغة عناية خاصة فيبحثون فيه كل الأطروحات وكل النظريات، فهو بحر عميق كلّما غاص فيه الباحث استخرج منه اللؤلؤ والمرجان [١٢].

محمد أبو الفضل ابراهيم (ت١٤٠١هـ)  [١٣]
اجتمع للإمام علي بن أبي طالب من صفات الكمال، ومحمود الشمائل والخلال، وسناء الحسب وباذخ الشرف، مع الفطرة النقيّة، والنفس المرضية ، ما لم يتهيأ لغيره من أفذاذ الرجال.. فكان العالم المجرّب الحكيم، والناقد الصيرفي الخبير، وكان لطيف الحس، نقي الجوهر، وضّاء النفس، سليم الذوق، مستقيم الرأي، حسن الطريقة، سريع البديهة، حاضر الخاطر، حوّلاً قلباً، عارفاً بمهمّات الأمور إصداراً وإيراداً.. ، بل كان كما وصفه الحسن البصري: سهماً صائباً من مرامي الله على عدوه، ورباني هذه الأمة وذا فضلها وسابقتها وذا قرابتها من رسول الله(صلى الله عليه وآله)، لم يكن بالنؤمة [١٤] عن أمر الله، ولا بالملومة في دين الله، ولا بالسروقة لمال الله، أعطى القرآن عزائمه، ففاز منه برياض مونقة، وأعلام مشرقة، ذاك علي بن أبي طالبّ .
كل هذه المزايا مجتمعة، وتلك الصفات متآزرة متناصرة، وما صاحبها من نفح إلهيّ ، وإلهام قدسيّ، مكّنت للإمام علي من وجوه البيان، وملكته أعنّة الكلام. وألهمته أسمى المعاني وأكرمها، وهيّأت له أشرف المواقف وأعزّها، فجرّت على لسانه الخطب الرائعة، والرسائل الجامعة، والوصايا النافعة، والكلمة يرسلها عفو الخاطر فتغدو حكمة، والحديث يلقيه بلا تعمّل ولا إعنات فيصبح مثلاً ، في أداء محكم، ومعنى واضح، ولفظ عذب سائغ.. وإذا هذا الكلام يملأ السهل والجبل ، ويتنقل في البدو والحضر، يرويه على كثرته الرواة، ويحفظه العلماء والدارسون.
قال المسعودي: والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة، ونيف وثمانون خطبة، يوردها على البديهة، تداول عنه الناس ذلك قولاً وعملاً. ثم ظل هكذا محفوظاً في الصدور مروياً على الألسنة، حتى كان عصر التدوين والتأليف، فانتشرت خطبه ورسائله في كتب التاريخ والسير والمغازي والمحاضرات والأدب على الخصوص، كما انتخبت كلماته ومأثور حكمه فيما وضعوه من أبواب المواعظ والدعاء ، وفي كتابي الغريب لأبي عبيد القاسم بن سلام وابن قتيبة منه الشيء الكثير.
وإذ كان لكلام الإمام علي طابع خاص يميّزه عن غيره من الخطباء، ونهج واضح يخالف غيره من البلغاء والمترسلين، فقد حاول كثير من العلماء والأدباء على مر العصور أن يفردوا لكلامه كتباً خاصة ودواوين مستقلة، بقي بعضها وذهب الكثير منها على الأيام ، منهم نصر بن مزاحم صاحب صفين، وأبو المنذر هشام بن محمد ابن السائب الكلبي، وأبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي، ومحمد ابن عمر الواقدي، وأبو الحسن علي بن محمد المدائني، وأبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، وأبو الحسن علي بن الحسين المسعودي، وأبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي، وعبد الواحد بن محمد بن عبد الواحد التميمي، ورشيد الدين محمد ابن محمد المعروف بالوطواط، وعز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد، وغيرهم كثيرون.
إلا أنّ أعظم هذه المحاولات خطراً، وأعلاها شأناً، وأحسنها أبوابها، وأبعدها صيتاً وشأواً، هو مجموع ما اختار الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن الحسين الموسوي، في كتابه (نهج البلاغة).
بناه على ما أفرده في كتاب (خصائص الأئمة) من فصل يتضمّن محاسن ما نقل عنه(عليه السلام) من الكلام القصير في الحكم والأمثال والآداب ، دون الخطب الطويلة والكتب المبسوطة، ثم جعله كتاباً، يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) في جميع فنونه ومتشعّبات غصونه، من خطب وكتب ومواعظ وآداب، علماً أنّ ذلك يتضمّن من عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة وجواهر العربية وثواقب الكلم الدينيّة والدنيويّة ما لايوجد مجتمعاً في كلام، ولا مجموع الأطراف في كتاب، وأدار اختياره على ثلاثة أقطاب: أولها الخطب والأوامر، وثانيها الكتب والرسائل، وثالثها الحكم والمواعظ وأسماه كتاب "نهج البلاغة" إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها، ويقرب عليه طلاّبها ، فيه حاجة العالم والمتعلّم ، وبغية البليغ والزاهد. ومنذ أن صدر هذا الكتاب عن جامعه سار في الناس ذكره ، وتألّق نجمه، أشأم وأعرق، وأنجد وأتهم، وأعجب به الناس حيث كان، وتدارسوه في كل مكان. لما أشتمل عليه من اللفظ المنتقى، والمعنى المشرق، وما احتواه من جوامع الكلم، ونوابغ الحكم، في أسلوب متساوق الأغراض، محكم السبك، يعدّ في الذروة العليا من النثر العربي الرائع [١٥] .

-------------------------------------------------------

[١] . العلامة الحجة المرحوم الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي كان فاضلاً، جليلاً، صالحاً، تقياً، ورعاً، زاهداً، ولد في جبل عامل سنة ١٣٣٣هـ ـ ١٩١٢م ، ونشأ في أسرة علمية عريقة في تاريخها العلمي، درس مقدمات العلوم في جبل عامل، ثم رحل إلى مركز العلم والعلماء النجف الأشرف، ارتحل عن هذه الدنيا عن عمر يناهز ٨١ عاماً سنة ١٤١٤هـ ، وشيع في العاصمة بيروت ثم نقل إلى مثواه الأخير في النجف الأشرف فشيّع فيها ودفن قرب أمير المؤمنين علي(عليه السلام) . (المناظرات في الإمامة: ٥٤٥).

[٢] . بيان القناعة في شرح نهج البلاغة: ١/٣ .

[٣] . ماذا في التأريخ: ٢/٣٨٠ .

[٤] . الشيخ محمد بن فاضل الموحد اللنكراني. عالم جليل مدرس، ولد في قم سنة (١٣٥٠هـ) ونشأ بها، أنهى المدرسة الإبتدائية ثم قرأ مقدماته الأولية وسطوحه الفقهية والأصولية على اساتذة أفاضل ، أقام الصلاة جماعة في حرم السيدة (المعصومين) وهو من أجلّه العلماء المدرّسين الأفاضل يحضر بحثه العشرات من النابهين وطبع رسالته العملية. (المنتخب من أعلام الفكر والأدب: ٥٨٩) .

[٥] . الدولة الإسلامية: شرح لعهد الإمام علي إلى مالك الأشتر : ٧ .

[٦] . محمد المجذوب داعية وأديب سوري ولد في ولد في ١٩٠٧ في طرطوس، سوريا في بيت متدين لاسرة تعمل في التجارة، ولها صلة بعلوم الدين واللغة العربية. تلقى دراسته الأولية في الكتاب، ثم في مدارس الدولة العثمانية، بدأ نشاطه العلمي والأدبي وهو دون العشرين من عمره، حيث نظم قصيدة وطنية نشرتها له إحدى الصحف المحلية، ثم أتبع ذلك بإصدار رسالة يرد فيها على دعاة النصرانية بعنوان: (فضائح المبشرين)، ثم توالى إنتاجه العلمي والأدبي والدعوي حتى بلغت مؤلفاته قرابة الخمسين مؤلفاً، تنطلق معظمها من الرؤية الإسلامية، وتعكس أحداث عصره في سورية وعلى مستوى العالم الإسلامي، وكان من أول الداعين إلى الأدب الإسلامي من خلال مقالاته وبحوثه في مجلة "حضارة الإسلام" التي جُمعت فيما بعد في كتابه "مشكلات الجيل في ضوء الإسلام". والأستاذ المجذوب رجل عصامي مكافح، قضى شبابه كله في الكدح بمختلف الأعمال، وقد نال الجائزة الأولى لجامعة الدول العربية سنة ١٩٤٨م على نشيده الوطني الذي نظمه، حيث ثم اختياره من بين مائة نشيد. وقد مضى في طلب المزيد من العلوم والثقافة، معتمداً، بعد الله، على جهده الشخصي ومثابرته، ومن بين مؤلفاته التي قاربت الخمسين (كلمات مضيئة، مشكلات الجيل في ضوء الإسلام، السبيل القريب إلى صناعة الأديب)، توفي في يونيو ١٩٩٩م (موسوعة ويكبيديا الالكترونية. الرابط http://ar.wikpedia. ).

[٧] . سورة يوسف، آية : ١٠٨ .

[٨] . مجلة الموسم: ٩٩/٣٩ مقالة بعنوان (نفحة من روح علي) .

[٩] . السيد محمد بن مهدي بن حبيب الحسيني. عالم مؤلّف مكثر، ولد في النجف سنة ١٣٤٧هـ ونشأ به على والده العالم، انتقل معه إلى كربلاء سنة ١٣٥٥هـ وأقام بها مجلداً في تحصيله، هاجر إلى الكويت سنة ١٣٩١ وأقام بها تسع سنين ثم رحل إلى إيران وسكن مدينة قم فأقام بها مدرساً للأبحاث العالية يحضر بحثه جمهرة من الأفاضل وطبعت رسالته العملية وله مؤلفات كثيرة. (المنتخب من أعلام الفكر والأدب: ٦٠٥).

[١٠] . توضيح نهج البلاغة : ١/٦ .

[١١] . عالم محقّق متكلّم، ولد في قفصة ـ تونس ـ سنة ١٣٦٢هـ ، ونال شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون وذلك بعد قبول أطروحته التي قدّمها لهذه الجامعة تحت عنوان: (النظريات الفلسفية والاجتماعية في نهج البلاغة) والمترجم له من الذين تحولوا إلى اعتناق مذهب أهل البيت(عليه مالسلام) كما ذكر ذلك مفصلاً في كتبه (ثم اهتديت) وله محاضرات وبحوث قيّمة نشرت بالصحف العربية. (المنتخب من أعلام الفكر والآديب: ٤٢٦).

[١٢] . فاسألوا أهل الذكر: ٢٦ ـ ٢٧ .

[١٣] . هو محمد أبو الفضل إبراهيم المصري، علاّمة، أديب، من شيوخ فنّ التحقيق والبحث العلمي الكبار بمصر في العصر الحديث. ولد بصعيد مصر سنة (١٣٢٢هـ /١٩٠٥م)، وتدرج في الوظائف إلى أن صار مديراً للقسم الآدبي بدار الكتب المصرية، ثم مديراً للشؤون المكتبية فيها، ثم رئيساً للجنة إحياء التراث بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وعضواً في لجنة إحياء التراث في المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية بالقاهرة. فقد كان نادرة من نوادر الدهر علماً وخبرة وفضلاً، وله أياد بيضاء على المكتبة العربية الإسلامية وعلى المشتغلين فيها. مات بالقاهرة سنة (١٤٠١هـ ـ ١٩٨١م). (أنظر جريدة الأسبوع الأدبي الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب في سورية / مقال لمحمود الارناؤوط العدد ٧٠٥ تاريخ ٢٢/٤/٢٠٠٠).

[١٤] . النؤمة: الخامل الذكر الغامض في الناس الذي لا يعرف الشر ولا أهله ولا يؤبه له ابن منظور، لسان العرب: ١٢/٥٩٦، مادة: نؤم.

[١٥] . مقدمة على شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.

يتبع ......

****************************