كان علي (عليه السلام) هو الشخص الوحيد الذي اهتم الناس بحفظ كلماته (عليه السلام) وضبطها في بطون الصحائف والقلوب.
فهذا ابن أبي الحديد ينقل لنا عن الكاتب عبد الحميد بن يحيى [١] الذي كان يضرب به المثل في الكتابة والخطابة في أوائل القرن الثاني الهجري، أنه كان يقول: (حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع، ففاضت ثم فاضت)!
وينقل الدكتور علي الجندي: أن عبد الحميد سئل: أنى لك هذه البلاغة فقال: (حفظ كلام الأصلع) [٢] .
وكان عبد الرحيم بن نباتة وهو الذي كان يضرب به المثل في خطباء العرب في العهد الإسلامي، يعترف بأنه إنما أخذ ماله من ذوق وفكر وأدب عن الإمام (عليه السلام) ويقول - على ما نقله ابن أبي الحديد في مقدمته لشرح النهج -: (حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده الإنفاق إلا سعة وكثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب (عليه السلام)).
وكان الجاحظ - وهو الأديب العارف بالكلام وفنونه، والذي يعد نابغة في الأدب في أوائل القرن الثالث الهجري، ويعدّ كتابه (البيان والتبيين) أحد أركان الأدب الأربعة [٣]- يكرر في كتابه الإعجاب والثناء على كلام الإمام (عليه السلام).
ويبدو من كلامه انتشار كلمات كثيرة عن الإمام (عليه السلام) بين الناس على عهده.
ينقل الجاحظ في الجز الأول من (البيان والتبيين) [٤] آراء الناس في الثناء على السكوت وذم كثرة الكلام، فيعلق عليها يقول: (الإسهاب المستقبح هو التكلف والخطل المتزايد، ولو كان هذا كما يقولون لكان علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس أكثر الناس فيما ذكروا).
وفي نفس الجزء الأول ينقل هذه الكلمة المعروفة عن الإمام (عليه السلام): (قيمة كل امرئ ما يحسنه) ثم يثني على هذه الجملة ما يبلغ نصف صفحة الكتاب ويقول:
(فلو لم نقف من كتابنا هذا إلا على هذه الكلمة لوجدناها كافية شافية، ومجزية مغنية، بل لوجدناها فاضلة على الكفاية وغير مقصرة عن الغاية. وكأن الله عزّ وجلّ قد ألبسه من الجلالة وغشاه من نور الحكمة على حسب نية صاحبه وتقوى قائله).
وللسيد الشريف الرضي (رحمه الله) جملة معروفة في وصف كلام الإمام (عليه السلام) والثناء عليه، يقول:
(كان أمير المؤمنين (عليه السلام) مَشْرَعَ الفصاحة وموردها ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصروا وقد تقدم وتأخروا، لأن كلامه (عليه السلام) الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي) [٥] .
وكان ابن أبي الحديد من علماء المعتزلة في القرن السابع الهجري، أديباً ماهراً وشاعراً بليغاً. وهو كما نعلم مغرم بكلام الإمام (عليه السلام) مكرراً إعجابه به في كتابه ومقدمته:
(وأما الفصاحة: فهو (عليه السلام) إمام الفصحاء وسيد البلغاء، وفي كلامه قيل: دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق، ومنه تعلّم الناس الخطابة والكتابة... وحسبك أنه لم يدوّن لأحد من فصحاء الصحابة العشر ولا نصف العشر ممّا دون له، وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في كتاب (البيان والتبيين) وفي غيره من كتبه) [٦] .
وفي الجزء السادس عشر من شرحه عند شرحه رسالة الإمام (عليه السلام) إلى ابن عباس بعد مقتل محمد بن أبي بكر واغتصاب مصر بيد أصحاب معاوية، إذ يكتب إليه إلى البصرة يخبره بالخبر، يقول:
(انظر إلى الفصاحة كيف تعطي هذا الرجل قيادها وتملكه زمامها، وعجب لهذه الألفاظ المنصوبة يتلو بعضها بعضاً كيف تؤاتيه وتطاوعه سلسة سهلة، تتدفق من غير تعسف ولا تكلف... فسبحان الله من منح هذا الرجل هذه المزايا النفيسة والخصائص الشريفة! أن يكون غلام من أبناء عرب مكة ينشأ بين أهله لم يخالط الحكماء وخرج أعرف بالحكمة ودقائق العلوم الإلهية من أفلاطون وأرسطو، ولم يعاشر أرباب الحكم الخلقية والآداب النفسانية - لأن قريشاً لم يكن أحد منهم مشهوراً بمثل ذلك - وخرج أعرف بهذا الباب من سقراط، ولم يُرب بين الشجعان - لأن أهل مكة كانوا ذوي تجارة ولم يكونوا ذوي حرب - وخرج أشجع من كل بشر مشى على الأرض، قيل لخلف الأحمر: أيما أشجع: عنبسة وبسطام أم علي بن أبي طالب؟ فقال: إنما يذكر عنبسة وبسطام مع البشر والناس، لا مع من يرتفع عن هذه الطبقة! فقيل له: فعلى كل حال؟ قال: والله لو صاح في وجهيهما لماتا قبل أن يحمل عليهما. وخرج أفصح من سحبان وقُس، ولم تكن قريش بأفصح العرب، كان غيرها أفصح منها، قالوا: أفصح العرب جُرهُمْ وإن لم تكن لهم نباهة. وخرج أزهد الناس في الدنيا وأعفهم، مع أن قريشاً ذوو حرص ومحبة للدنيا. ولا غرو فيمن كان محمد (صلّى الله عليه وآله) مربيه ومخرجه، والعناية الإلهية تمده وترفده: أن يكون منه ما كان) [٧] .
[١] . كان كاتباً لمروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين، وهو شيخ ابن المقفع لعالم والكاتب الشهير في الدولة العباسية. وقد قيل فيه: بدأت الكتابة بعبد الحميد واختتمت بابن لعميد، وزير البويهيين.
[٢] . الأصلع: من انحسر شعر مقدم رأسه - فعبد الحميد مع اعترافه بكلامه هذا بفضل الإمام (عليه السلام) وكماله، يذكر الإمام بنبز اللقب وذلك بحكم انتمائه إلى بني أمية!
[٣] . والأركان الثلاثة الأخرى هي: أدب الكاتب لابن قتيبة، والكامل للمبرد، والنوادر لابن علي الفالي، ابن خلدون.
[٤] . البيان والتبيين، ص٢٠٢.
[٥] . ص٤٥، ج١، من شرح النهج لابن أبي الحديد، ط أبو الفضل.
[٦] . مقدمته، ج١، ص٢٤، ط أبو الفضل.
[٧] . شرح النهج لابن أبي الحديد، ج١٦، ص١٤٧، ط الحلبي.