السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني
هل في النهج دخيل ؟
ذهب شطرمن الكتاب وفيهم الكاتب المعتزلي عبد الحميد بن أبي الحديد فيلسوف المؤرخين إلى القول بأن المجموع في نهج البلاغة من الدفة إلى الدفة معلوم الثبوت قطعي الصدور من أمير المؤمنين عليه السلام من فمه أومن قلمه. يظهر هذا من مقاله الآتي في شرحه على نهج البلاغة ج ١٠ ص ٥٤٦ بعد إيراده لخطبة أبن أبي الشحناء المشهورة ونصه:
(كثير من أرباب الهوى يقولون أن كثيراً من نهج البلاغة كلام محدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة وربما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن وغيره، وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم فضلوا عن النهج الواضح ونكبواعن بينات الطريق ضلالة وقلة معرفة باساليب الكلام وانا اوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط.
فأقول: لا يخلوا إما أن يكون كل نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً اوبعضه والأول باطل بالضرورة لأنا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين وقد نقل المحدثون كلهم أوجلهم والمؤرخون كثير منهم وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك، والثاني يدل على ما قلناه لأن من قد آنس بالكلام والخطابة وشَدَا طرفاً من علم البيانوصار له ذوق في هذا الباب لابد أن يفرق بين الكلام الركيك وبين الفصيح والأفصح وبين الأصيل والمولد، وإذا وقفت على كراس واحد يتضمن كلاما لجماعة من الخطباء أولاثنين منهم فقط فلابد أن تفرق بين الكلامين وتميز بين الطريقتين.
الأ ترى: أنا مع معرفتنا بالشعر ونقده لوتصفحنا ديوان أبي تمام فوجدناه قد كتب في اثنائه قصائد أوقصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مبانيّها لشعر أبي تمام ونفسه وطريقته ومذهبه في القريض ؟
ألا ترى أن العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه لمباينتها لمذهبه في الشعر ؟
وكذلك حذفوا من شعر أبي نُواس شيئاً كثيراً لما ظهرلهم أنه ليس من الفاظه ولامن شعره ولم يعتمدوا في ذلك إلا على الذوق خاصة ؟
وأنت إذا ما تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماءً واحداً وأسلوباً واحداً كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الابعاض في الماهية، وكالقرآن العزيز أوله كأوسطه وأوسطه كآخره وكل سورة منه وكل آية مماثلة في المآخذ والمذهب والفن والطريق والنظم لباقي الآيات والسور.
ولوكان بعض نهج البلاغة منحولاً وبعضه صحيحاً لم يكن ذلك كذلك فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أن هذا الكتاب أوبعضه محول إلى أمير المؤمنين عليه السلام.
وأعلم أن قائل هذا القول يطرق على نفسه مالا قبل له به لأنا متى فتحنا هذا الباب وسطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحولم نثق بصحة كلام منقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله أبداً وساع لطاعن أن يطعن ويقول هذا الخبر منحول وهذا الكلام مصنوع، وكذلك ما نقل عن أبي بكر وعمر من الكلام والخطب والمواعظ والأدب وغير ذلك، وكل شيء جعله هذا الطاعن - يعني في خطب النهج - مستنداً له فيما ترويه عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة الراشدين والصحابة والتابعين والشعراء والمترسلين فلناصري أمير المؤمنين عليه السلام أن يستندوا إلى مثله فيما يروونه عنه من نهج البلاغة وغيره وهذا واضح ) انتهى كلامه.
ونحن النمرقة الوسطى من أهل العلم نقول: أن أخواننا الشيعة يعتقدون بأن الخطب والكتب والكلم المرويات في نهج البلاغة حالها كحال الخطب المروية عن رسول الله صلي الله عليه وآله التي بعضها متواتر قطعي الصدور وبعضها غير متواتر فهوظني السند لا نحكم عليه بالانتحال والافتعال إلا بعد قيام الدليل العلمي على كذبه كما أننا لا نحكم بصحته جزماً إلا بعد قيام الدليل، ومن أسند غير هذا إلينا فقد افترى علينا، وكيف يسند منصف إلى الشيعة أعتقاداً بثبوت جميع ما بين الدفتين من هذا الكتاب وفيها ما يخالفهم أكثر مما يوافقهم كَتَأبيْنِ علي لعمر ؟!
ولوكان ذوي الأغراض من الشيعة أن يلعبوا في نهج البلاغة محواً أوإثباتاً لحذفوا هذا التأبين.
وعليه فالاعتدال والحق الذي أحق أن يُتّبّع يقضيان علينا بأن نجعل لهذا الكتاب من القيمة الدينية ما نجعله لغيره من الجوامع الصحاح والكتب الدينية المعتبرة ونعترف بقيمته الأدبية وتفوقها من هذه الجهة على كل كتاب بعد كتاب الله سبحانه.
دفع الشبهات عن نهج البلاغة
لقد نال موضوع تصحيح نهج البلاغة منزلة من الوضوح وتنورت أطرافه من حيث كثرة الأسانيد لحد لم يدع مجالاً للمتقوَّلين عليه فبما بحثنا عنه: الأ أن البعض ممن ركبوا العصبية ونكبوا عن النهج قد يضربون عن كل هذه الحجج والدلائل صفحاً ويتشبثون واهية:
الشبهة الأولى:
كثرة الخطب وطولها وتعذر الحفظ والضبط في أمثالها، فإن الخطب الطوال يصعب حفظها وتذكر الفاظها بعد الأجيال.
والجواب عنها:
أنها ليست بأعجب من رواية المعلقات السبع والقصائد الأخرى من الأوائل ومن الخطب والمأثورات الضافية التي رويت عن النبي المصطفى صلى الله عليه وآله ومن غيره ممن تقدم عليه زمانه أوتأخر، في حين أن العناية بالحفظ والكتابة كانت في زمن الراشدين أهم وأعظم مما قبله، ونعتوا ابن عباس بأنه كان يحفظ القصائد الطوال لأول مرة من سماعها وكان مثله في عامة العرب كثيراً ولا يزال حتى اليوم، والاعتناء بحفظ خطب الإمام كان أكثر حتى قال مدرس دار العلوم المصرية في كتاب علي عليه السلام ص ١٢٥: أن الأدباء والمؤرخين الذين تقدموا الشريف الرضي كانوا يعتقدون أن خطب الإمام عليه السلام كانت بضع مئات، وحكي عن المسعودي أربعمائة ونيفاً وثمانين خطبة.
الشبهة الثانية:
إسناد بعض الخطب المروية في النهج إلى القطر الخارجي[١] وغيره.
والجواب عنها:
أن الشريف الرضي أحق بالتصديق في روايته من غيره وأعرف بأساليب بلغاء العرب، ولا يبعد ان يكون الذين جاؤوا بعد الإمام اقتفوا أثره في خُطَبهِ وأفرغوها بألسنتهم، وربما نحلها هؤلاء أشياعهم كما نحلوا معاوية بن أبي سفيان بعض خطب الإمام.
قال مدرس دار العلوم أحمد زكي صفوة المؤرخين:
ومما يستوقف الباحث في هذا الباب ما أورده الجاحظ المتوفى سنة ٢٥٥ هـ في البيان والتبيين، قال: قالوا: لما حضرت معاوية الوفاة قال لمولى له: مَنْ بالباب ؟
قال: نفر من قريش يتباشرون بموتك.
فقال: ويحك ولم ؟
قال: لا أدري.
قال: فوالله ما لهم بعدي إلا الذي يسؤوهم، وأذن للناس فدخلوا فحمدلله وأثنى عليه وأوجز ثم خطبهم خطبة أوردها الجاحظ وعَقّبها بقوله: وفي هذه الخطبة – أبقاك الله – ضروب من العجب: منها أن هذا الكلام لا يُشْبُه السبب الذي من أجله دعاهم معاوية، ومنها أن هذا المذهب في تصنيف الناس وفي الإخبار عنهم وعما هم عليه من القهر والإذلال ومن التقية والخوف أشبه بكلام علي وبمعانيه بحاله منه حال معاوية، ومنها إنّا لم نجد معاوية في حال من الحالات يسلك في كلامه مسلك الزهاد ولا يذهب مذاهب العباد وإنما نكتب لكم ونخبر بما سمعناه، والله أعلم بأصحاب الأخبار وبكثير منهم.
وفي الحق أن الناقد المتأمل لا تُخالِجُهُ ريبة في أن هذه الخطبة أخرى بها أن تعزي إلى الإمام إذ ترى روحه واضحة جلية فيها أسلوباً ومعنى وغرضاً، وكأني بالجاحظ يبغي أن يقول: أن الرواة نحلوها معاوية وهويتشكك في صدق روايتهم هذه كما يلمح من قوله: ( والله أعلم بأصحاب الأخبار وبكثير منهم )، ولكنه يتحرج من المجاهرة بذلك لأنه ( إنما يكتب ويخبر بما سمعه ).
أقول: ويؤيد ما احتملناه إسناد الوزير الآبي بعض الخطب إلى زيد الشهيد في حين أنها مسندة في النهج إلى جده الإمام عليه السلام، ويعتز سند الشريف الرضي بالمصادر القديمة لخطب النهج التي تروي هاتيك الخطب عن أمير المؤمنين عليه السلام فلا يكون إلقاء زيد الشهيد لها ضرباً من الاقتفاء والاقتباس.
الشبهة الثالثة:
أن المجموع من خطبة عليه السلام يتضمن أنباء غيبة وأخبارالملاحم والفتن مما يختص علمه بالله وحده.
والجواب عنها:
أنّ الغيب يختص علمه بالله سبحانه ومن ارتضاهم من أنبيائه وأوليائه وكم حوت السنة النبوية أنباء غيبة وأخباراً عن الملاحم والفتن، وما ذلك عن النبي الكريم إلا بوحي من ربه العليم الخبير، كذلك لا يَنْطِقُ ابن عمه وربيب حجره وصاحب سره في الملاحم والخفايا إلا بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لقد أعطيت يا أميرالمؤمنين علم الغيب ؟
فأجاب عليه السلام: ليس هوبعلم غيب وإنما تعلم من ذي علم[٢] ولا غروا فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله فيه أنه قال: ( أنا مدينة العلم وعلي بابها )[٣] ، وقول علي عليه السلام: لقد علمني رسول الله صلى الله عليه وآله ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب[٤].
فمن أختص من مهبط الوحي ومدينة العلم بمثل هذا الاختصاص لا يستغرب منه أن يملأ الكتب من أسرار الكائنات وكامنات الحوادث ولنعتزل عن خطبه المروية في النهج ونسلك آثاره المتواترة في التاريخ، فقد روى عنه المؤرخون كالمسعودي في مروج المذهب وابن أبي الحديد في شرح النهج ص ٤٢٥، مجلد ١ وابن بطة في الإبانة وأبي داوود في السنن وغيرهم في غيرها أنه تنبأ بمصير الخوارج حينما أخبره الناس بأنهم عبروا النهر قال عليه السلام: (لا يفلت منهم عشرة ولا يقتل منا عشرة )[٥] ، فكان الأمر كذلك.
واستفاض عنه الخبر بمقتله وإنه سوف يخضب أشقاها هذه من هذه وأشار بيده إلى لحيته وجبهته - وكان إذا رأى ابن ملجم قال:
أريد حياته ويريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد
واستفاضت أنباؤه في توسع ملك بني أمية وبني العباس وخبره بمقتل الحسين في كربلاء[٦].
ومما يدلك على جواز مثله واستقاء هذه العلوم من رسول الله صلى الله عليه وآله خبر أم سلمة زوجة النبي بمقتل الحسين قبل وقوعه كما رواه الترمذي في صحيحه، فإذا جاز لمثلها النبأ عن الحوادث المستقبلية واستقائها العلم عن رسول الله صلى اله عليه وآله فلم لا يجوز مثل ذلك من علي عليه السلام وهوعيبة علمه وصاحب سره الذي كان يسكن في ظله ويتحرك في ضوئه ؟!
هذا من ناحية الدين وأما من سواها فقد بلغتنا عن ساسة الأمم وحكمائها تنبؤات صادقة عن مصيرها في مسيرها، ونحن لا نماري في ذلك مبدئيا فكيف نماري في المنقول عن ابن عم الرسول صلى الله عليه وآله وترجمان وحيه وخازن علمه ؟
الشبهة الرابعة:
اشتمال خطب النهج على علوم تولدت في المجتمع الإسلامي بعد عصر الصحابة والتابعين مما يستبعد التحدث عنها قبلاً كدقائق على التوحيد وأبحاث الرؤية والعدل والتوسع في كيفية كلام الخالق وابتعاده عن صفات الجسم وكيفياته وتنزهه عن مجانسة مخلوقاته.
وأجاب عنها أحمد زكي صفوة المؤرخين في ص ١٢٦ من كتابه علي بن أبي طالب عليه السلام قائلاً: هل في فكر الإمام وحكمه نظريات فلسفية يعتاص على الباحث فهمها ويفتقر في درسها إلى كَدَّ ذهنِ وكدحِ خاطرٍ،اللهم الإ أنها حكم سائغة مرسلة تمتزج بالروح من أقرب طريق وتدب إلى القلب دون تعمل أوعناء وليس أحد يماري في أن ايراد العرب للحكمة البالغة وضربهم الأمثال الرائعة فِطْرِيَّ فيهم معروف عنهم منذ جاهليتهم لما أوتوه من صفاء الذهن واتقاد الحرية وسرعة الخاطر.
وقد اشتهر منهم بذلك كثير قبل الإسلام أفتستكثر الحكمة السامية على علي عليه السلام ؟
وهومن علمت سليل قريش الذين كانوا أفصح العرب لساناً وأعذبها بياناً وأرقها لفظاً واصفاها مزاجاً وألطفها ذوقاً!
وقد قدمنا لك أنه عليه السلام ربى في بيت النبي صلى الله عليه وآله منذ حداثته فنشأ وشبَّ في بيت النبوة ومهد الحكمة وينبوعها ولازم الرسول حتى مماته.
وقد قال علي عليه السلام في بعض خطبه: (كنت اتبعه اتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به )[٧].
وكان من كبار كتاب وحيه وحفظ القرآن كله حفظاً جيداً وسمع الحديث الشريف ووعاه وتفقه في الدين حتى كان إماماً هادياً وعالماً عليماً، وفوق ذلك فأنت تعلم أن الشدائد ثِقافُ الأذهان وصِقال العقول تفتق عن مكنون الحكمة وتستخرج عصيها، وقد مرَّ بالإمام حين من عمره حافل بالشدائد مليء[٨] بالعظائم والأهوال.
وحسبه أن يحمل مع أبن عمَّهِ صلى الله عليه وآله أعباء أمره ويبيته في فراشه ليلة الحرب في كل غزواته - الإ واحدة – ثم هويقضي طول خلافته مذ بويع إلى أن قتل – أربع سنين وتسعة أشهر – في شجار ونضال وجلاد وكفاح تارة مع عائشة ومناصريها وأخرى مع معاوية وأشياعه ثم يبتلي بخلاف أصحابه عليه ويعاني من اختلاف مشاربهم وتباين أهوائهم وغريب شذوذهم وتحكمهم واعتسافهم ما يضيق عنه صدر الحليم ويندّ معه صبر الصبور.
كل اولئك التجاريب والظروف قد حنكته وصفت من جوهر عقله وثقفت من حديد ذهنه وأمدته بفيض زاخر من الحكم الثاقبة والآراء الناضجة، وما العقل إلاّ التجربة والاختبار ؟!
وَاخِالُك تذكر ما قدمناه لك اًنفاً من أنه كان معروفاً بين الصحابة بأصالة الرأي وسداد الفكر، فكان بعض الخلفاء يفزع إلى مشورته إذا حَزَّبه أمر فيجيد الحز ويطبق المفصل، ولم يكن رضي الله عنه بالرجل الخامل الغمر بل كان من سادة القوم وعليتهم، وكان ما يجري من الشؤون السياسية في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وعهد الخلفاء السابقين له بمرأي منه ومسمع بل كان له في بعضها ضلع قوية وشأن خطير، هذا المران السياسي الطويل العهد - وهوخمس وثلاثون سنة من بدء الهجرة عدا ما تقدمها أفادة شحذا الذهن وثقوباً في الفكر فليس بمستنكر على مثل علي أن يكون حكيماً – انتهى كلامه.
وأما جوابنا عنها: فهوأن المتأخر أخذ عن المتقدم لأن المتأخر نسب إلى المتقدم، وبيان ذلك: إن علماء الإسلام المتأخرين إنما توسعوا في علومهم بعد ما تعمقوا في آيات التوحيد والمعارف القرآنية وما وصل إليهم من خطب علي عليه السلام وكلمه في أبواب التوحيد وشؤون العالم الربوبي، حتى أن الحجاج ألقى على علماء التابعين يوماً شبهة الجبر فرده كل منهم أنه أخذ ذلك عن علي بن أبي طالب عليه السلام فقال الحجاج: لقد جئتموها من عين صافية[٩].
ولقد كان ابن عم رسول الله يفيض على أبناء عصره ومصره بعلوم النبوة ومعارف الدين العالية، إلا أن أكثرهم لم يكونوا ليفهموها بل كانوا يحملون هاتيك الكلم الجامعة إلى من ولدوا بعدهم كما قيل: (رب حامل فقه إلى من هوأفقه )[١٠].
ونظير هذا آيات التوحيد والرؤية والكلام والعدل تلك آيات التي تدبر فيها حكماء الإسلام في القرون المتأخرة وأظهروا معارفها العالية التي لم تخطر ببال أحد في عصر الصحابة.
وأوضح برهان لنا في المقام وجود جمل في خطب نهج البلاغة تنطق بحركة الأرض وتنطبق على أصول الهيئة الجديدة ومسائلها التي حدثت بعد الألف الهجري، كقوله عليه السلام في صفة الأرض: فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها أوتسبح بحملها )[١١] ، وقوله عليه السلام: (وعدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها )[١٢] ، وكنا نعلم أن الرأي القائل بتحرك الأرض مع سكونها الظاهر مستحدث من بعد (غاليو) الايطالي، و(كوبرينك) الألماني و(نيوتن) الأنكليزي، ورأي ثبوت الحركات العشر للأرض متأخر عنهم جداً.
وكل هذه الآراء حادثة بعد انتشار شروح نهج البلاغة فضلاً عن النهج الذي أشتهر أمره من قبلها فهل يسوغ لامرئ أن يشك في تأليف نهج البلاغة وشروحه بحجة أنها مشتملة على مسائل الهيئة المتأخرة عن الألف الهجري ؟
الشبهة الخامسة:
اشتمال الخطب على اصطلاحات وجدت في القرون المتأخرة وعلى سبك حديث الطراز كقوله عليه السلام: وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له، نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصَفَ الله سبحانه وتعالى فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنَّاه ومَنْ ثناهُ فقد جَزَّاه ومن جزاء...الخ[١٣].
والجواب عنها:
يعرف مما سبق فإنَّ المتاخرين إنما توسعوا في معارفهم بعد العثور على هذه الحكم الجلائل وأختاروا الاصطلاحات من قبيل (الكيف والآين) بعد ما استأنسوا بمبادئها في كلام الإمام عليه السلام لأن الكلام نسب إلى الإمام بعد ظهور هذه المصطلحات، بدليل أن أمثال هذه المبادئ مستفيضة في أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وفي كلام فصحاء العرب الأوائل ولا يعز المتتبع وافره، وأي عاقل يستطيع أن يصوغ هذه الجمل العسجدية ثم ينسبها إلى غيره ؟ ولوكان أحد ينسب إلى الإمام شيئاً من المصطلحات بعد تاريخ حدوثها لجاءت في خطبة كلمة الماهية المنحوتة من (ما هي )، واللمية المنحوتة من (لم)، والإنية المنحوتة من (أنه)، والهيولي المنحوتة من (هي الأولى)، وأمثال ذلك من مصطلحات حكماء الإسلام في حين أن النهج كله خلوعن كل هذا.
ونظيرهذا قول ابي نؤاس (كان صغرى وكبرى من فَواقِعها )، الذي يظن فيه سامعه لأول وهلة أنه أخذ عن المنطقيين مصطلحهم في صغرى وكبرى القياس في حين الاصطلاح متأخر جداً ولا يستلزم تأخرة نفي ذلك الشعر المتقدم، ومثل هذا غير عزيز على من طلبه.
ومن الغريب استغراب بعضهم في كلام الإمام استنتاجه الجمل متفرعة بعضها من بعض كقوله عليه السلام: فمن وصف الله سبحانه وتعالى فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه... الخ. بحسب أن ترتيب الكلام على شالكة القياس لمؤلف من صغراه وكبراه غيرمألوف من العرب في حين أن هذا الحسبان قدح في الأدب العربي من حيث لا يقصد، ومعناه أن نظم القياس المعقول قصّي عن الذوق العربي، وهذا شيء لا نقبله والعرب هم الأقربون إلى القياس المنقول لفطرتهم وكم له نظير في الكتاب والسنة ؟ قال تعالى: (وَلَوْعَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّاسْمَعَهُمْ وَلَوأَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ )[١٤] ، وروى البخاري في صحيحة عنه صلى الله عليه وآله سلم: (فاطمة بضعة مني من أغضبها فقد أغضبني ومن أغضبني فقد أغضب الله )[١٥].
فإذا ورد في أفضح الكلم نظم القياس وتفريع الجمل فهل يستغرب من حفظة القرآن أن يتوسعوا في نظم الأقيسة الاقترانية والاستثنائية في أساليب حديثهم ؟
ولقد قطعناه جهيزة كل خطيب[١٦] بأن المسانيد المشتهرة إذا حوت خطبة للإمام بأسانيد معتبرة فغير جدير الإصغاء إلى أمثال هذه الشبهات الضعيفة ومضى دفع شبهات أخرى في خلال أبحاثنا الماضية...
والله يحق الحق وهوأحكم الحاكمين...
والحمدلله رب العالمين
المصادر
(١)الأعلام، خير الدين الزركلي / دارالعلم للملايين بيروت – لبنان / مايو١٩٨٠ م.
(٢) أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين / دار التعارف للمطبوعات بيروت – لبنان / مايو١٩٨. م.
(٣) بحار الأنوار: العلامة المجلسي/ دارإحياء التراث العربي بيروت – لبنان / ١٤٣٠ ه ـ ١٩٨٣ م.
(٤) تاج العروس من جواهر القاموس: محمد مرتضى الحسيني الواسطي الزَّبيدْي / دار الفكر بيروت – لبنان.
(٥) تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي / دار الكتب العلمية / بيروت – لبنان ١٤١٧ – ١٩٩٧ م.
(٦) تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي / تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا / دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان ١٤١٧ هـ.
(٧) تذكرة الخواص: سبط ابن الجوزي / علق عليه: خالد عبد الغني محفوظ / دار الكتب العلمية / بيروت – لبنان – لبنان ١٤٢٦ هـ.
(٨) دستور معالم الحكم: محمد بن سلامة القاضي القضاعي / دار الكتاب العربي / بيروت – لبنان ١٤٠١ هـ.
(٩) الذريعة إلى تصانيف الشيعة: آقا بزرك الطّهْراني / المكتبة الإسلامية طهران – ١٣٨٩ هـ.
(١٠) رجال النجاشي الشيخ أبوالعباس أحمد بن علي النجاشي / مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة / ١٤١٦ هـ.
(١١) سير أعلام النبلاء الذهبي / مؤسسة الرسالة بيروت – لبنان / ١٤١٣ – ١٩٩٣ م.
(١٢) شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد / دار الأحياء الكتب العربية – عيسى البابي الحلبي وشركاه / ١٣٧٨ هـ ١٩٥٩ م.
(١٣) عبقرية الإمام علي: عباس العقاد / المكتبة العصرية صيدا – لبنان.
(١٤) عبقرية الشريف الرضي: الأستاذ زكي مبارك / مطبعة حجازي القاهية – مصر.
(١٥) العِقْدُ الفريد: أبوعمر بن محمد بن عبد ربه الأندلسي / القاهرة – مصر / ١٣٦٣ هـ.
(١٦)الفرقة الناجية: الشيخ إبراهيم بن سليمان القطيفي / تحقيق ونشر دار المصطفى لإحياء التراث / بيروت – لبنان / ١٤٢٢ هـ.
(١٧)قاموس الرجال: الشيخ محمد تقي التستري / مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة / شوال المكرم ١٤٢٥ هـ.
(١٨) كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام / محمد بن يوسف الكنجي الشافعي / تحقيق: محمد هادي الأميني / دار إحياء تراث أهل البيت عليه السلام / ايران – طهران ١٤٠٤ هـ.
(١٩) كنز العمال: المتقي الهندي / ضبط وتفسير: الشيخ بكري حياني / مؤسسة الرسالة / بيروت – لبنان ١٤٠٩ هـ.
(٢٠) كنز الفوائد: ابوالفتح الكراجكي / طبعة حجرية / مكتبة المصطفوي – قم.
(٢١) الكنى والألقاب: الشيخ عباس القمي / المطبعة الحيدرية النجف / ١٣٨٩ هـ.
(٢٢) لسان العرب: محمد بن مكرم ابن منظور / دار صادر بيروت – لبنان /١٩٥٥ هـ.
(٢٣) مجمع الأمثال: لأبي الفضل أحمد النيسابوري الميداني / مطبعة السعادة مصر / ١٣٧٩ هـ.
(٢٤) مسند أحمد: الإمام احمد بن حنبل / دار صادر – بيروت – لبنان.
(٢٥)مصادر نهج البلاغة وأسانيده: السيد عبد الزهراء الخطيب / مؤسسة الأعلمي بيروت – لبنان. شرح نهج البلاغة: الشيخ محمد عبده / دار المعرفة بيروت – لبنان.
(٢٦) مطالب السؤول في مناقب آل الرسول صلى الله عليه وآله: محمد بن طلحة القرشي الشافعي / تحقيق: ماجد أحمد العطية.
(٢٧) معاني الأخبار: ابن بابويه القمي الصدوق / المطبعة الحيدرية النجف / ١٣٩١ هـ.
(٢٨) معجم الأدباء: ياقوت الحموي /مطبوعات دار المأمن القاهرة – مصر.
(٢٩) معجم المؤلفين تراجم مصنفي الكتب العربية: عمررضا كحالة / مكتبة المثنى ودار أحياء التراث العربي / بيروت – لبنان.
(٣٠) معجم المطبوعات العربية: اليان سركيس / مكتبة آية الله المرعشي النجفي – قم المقدسة / ١٤١٠ هـ.
(٣١) معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت عليهم السلام: عبد الجبار الرفاعي / وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي / طهران – إيران.
(٣٢) المناقب: الموفق أحمد الخوارزمي / تحقيق: الشيخ مالك المحمودي ومؤسسة سيد الشهداء عليه السلام / مؤسسة النشر الإسلامي / إيران – قم.
(٣٣) النهاية في غريب الحديث: ابن الأثير / تحقيق طاهر أحمد الزاوي، محمود محمد الطناحي / مؤسسة إسماعيليان / قم – إيران.
(٣٤) نهج البلاغة: دار الذخائر / قم – إيران.
(٣٥) الوافي بالوفيات: الصفدي / بيروت – دار إحياء التراث / ١٤٢٠ هـ - ٢٠٠٠ م.
(٣٦) وجه لبنان الأبيض معجم القرن العشرين: الدكتور طوني يوسف ضو/ شركة M.C.A.S.A.N.L بيروت – لبنان.
(٣٧) وفيات الأعيان وأَبناء الزمان:لأبي العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان / دار صادر بيروت.