مؤلف نهج البلاغة:
كل هؤلاء الأعلام لا يشكون في أن الكتاب من تآليف الشريف الرضي، و تصافقهم على ذلك معاجم الشيعة جمعاء، فلن تجد من ترجمة من أربابها إلا ناصا على صحة النسبة وجازما باستقامة النسب منذ عصر المؤلف وإلى اليوم الحاضر، انظر فهرست أبي العباس النجاشي المتوفى ٤٥٠، وفهرست الشيخ منتجب الدين المتوفى ٥٨٥ و و و.
وتنبئ القارئ عن صحة النسبة إجازات حملة العلم والحديث لأصحابهم منها:
١ - إجازة الشيخ محمد بن علي بن أحمد بن بندار للشيخ الفقيه أبي عبد الله الحسين برواية الكتاب [نهج البلاغة] في جمادى الأخرى سنة ٤٩٩.
٢ - إجازة الشيخ علي بن فضل الله الحسيني لعلي بن محمد بن الحسين المتطبب برواية الكتاب في رجب سنة ٥٨٩.
٣ - إجازة الشيخ نجيب الدين يحيى بن أحمد بن يحيى الحلي للسيد عز الدين الحسن بن علي المعروف بابن الأبرز برواية الكتاب في شعبان سنة ٦٥٥.
٤ - إجازة العلامة الحلي لبني زهرة في سنة ٧٢٣.
٥ - إجازة السيد محمد بن الحسن بن أبي الرضا العلوي لجمال الدين ابن أبي المعالي سنة ٧٣٠.
٦ - إجازة فخر الدين محمد بن العلامة الحلي لابن مظاهر في سنة ٧٤١.
٧ - إجازة شيخنا الشهيد الأول للشيخ ابن نجدة سنة ٧٧٠.
٨ - إجازة الشيخ علي بن محمد بن يونس البياضي صاحب [الصراط المستقيم] للشيخ ناصر بن إبراهيم البويهي الحساوي سنة ٨٥٢.
٩ - إجازة الشيخ علي المحقق الكركي للمولى حسين الاسترابادي في سنة ٩٠٧.
١٠ - إجازة الشيخ المحقق الكركي للشيخ إبراهيم سنة ٩٣٤.
١١ - إجازة المحقق الكركي للقاضي صفي الدين عيسى سنة ٩٣٧.
١٢ - إجازة الشهيد الثاني للشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي في سنة ٩٤١.
١٣ - إجازة الشيخ حسن بن الشهيد الثاني الكبيرة.
١٤ - إجازة الشيخ أحمد بن نعمة الله بن خاتون للمولى عبد الله التستري في سنة ٩٨٨.
١٥ - إجازة الشيخ محمد بن أحمد بن نعمة الله بن خاتون للسيد ظهير الدين الهمداني في سنة ١٠٠٨.
١٦ - إجازة العلامة المجلسي الأول لتلميذه آقا حسين الخونساري سنة ١٠٦٢
١٧ - إجازة العلامة المجلسي الأول الكبيرة لولده العلامة المجلسي المؤرخة بسنة ١٠٦٨.
١٨ - إجازة الشيخ صالح بن عبد الكريم للمولى محمد هادي بن محمد تقي الشولستاني سنة ١٠٨٠.
١٩ - إجازة المجلسي الثاني للسيد ميرزا إبراهيم النيسابوري سنة ١٠٨٨.
٢٠ - إجازة العلامة المجلسي للسيد نعمة الله الجزائري سنة ١٠٩٦. وغيرها من الإجازات.
وقبل هذه كلها نصوص الشريف الرضي نفسه في كتبه بذلك فقال في الجزء الخامس من تفسيره ص ١٦٧: ومن أراد أن يعلم زمان ما أشرنا إليه من ذلك فليمعن النظر في كتابنا الذي ألفناه ووسمناه [بنهج البلاغة] وجعلناه يشتمل على مختار جميع الواقع إلينا من كلام أمير المؤمنين عليه السلام في جميع الأنحاء والأغراض والأجناس والأنواع من خطب وكتب ومواعظ وحكم وبوبناه أبوابا ثلاثة. إلخ
وقال في كتابه [المجازات النبوية][١] ص ٢٢٣: وقد ذكرنا ذلك في كتابنا الموسوم، [نهج البلاغة] الذي أوردنا فيه مختار جميع كلامه.
وقال في ص ٤١ من المجازات: وقد ذكرنا ذلك في كتابنا الموسوم ب [نهج البلاغة]
وقال في ص ١٦١: قد ذكرنا الكلام في كتابنا الموسوم ب [نهج البلاغة].
وقال في ص ٢٥٢: قد ذكرناه في جملة كلامه عليه السلام لكميل بن زياد النخعي في كتاب (نهج البلاغة).
وقال في أواخر (نهج البلاغة) في شرح قوله عليه السلام: العين وكاء السنة: قال الرضي وقد تكلمنا في هذه الاستعارة في كتابنا الموسوم بمجازات الآثار النبوية.
وقال في ديباجة (نهج البلاغة): فإني كنت في عنفوان السن، وغضاضة الغصن ابتدأت بتأليف كتاب في خصائص أئمة عليهم السلام يشتمل على محاسن أخبارهم و جواهر كلامهم. إلخ. وكتاب الخصايص المذكور موجود بين أيدينا ولم يختلف فيه اثنان أنه للشريف الرضي.
فما تورط به بعض الكتبة من نسبة الكتاب إلى أخيه علم الهدى واتهامه بوضعه[٢] أو وضع بعض ما فيه على لسان أمير المؤمنين عليه السلام والدعوى المجردة ببطلان أكثر ما فيه وعزو ذلك إلى سيدنا الشريف الرضي[٣] الذي عرفت موقفه العظيم من الثقة و العلم والجلالة، أو الترديد فيمن وضعه وجمعه بينهما[٤] مما لا يقام له في سوق الحقايق وزن، وليس له مناخ إلا حيث تربض فيه العصبية العمياء، ويكشف عن جهل أولئك المؤلفين برجال الشيعة وتآليفهم، وأعجب ما رأيت كلمة الذهبي في طبقاته ج ٣ ص ٢٨٩ وفيها [يعني سنة ٤٣٦] توفي شيخ الحنفية العلامة المحدث أبو عبد الله الحسين بن موسى الحسيني الشريف الرضي واضع كتاب [نهج البلاغة].
قال ابن أبي الحديد ج ٢ ص ٥٤٦ بعد ذكر خطبة ابن أبي الشحماء العسقلاني الكاتب: هذه أحسن خطبة خطبها هذا الكاتب وهي كما تراها ظاهرة التكلف بينة التوليد، تخطب على نفسها، وإنما ذكرت هذا لأن كثيرا من أرباب الهوى يقولون: إن كثيرا من (نهج البلاغة) كلام محدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة، وربما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن وغيره، وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم فضلوا عن النهج الواضح، وركبوا بينات الطريق ضلالا، وقلة معرفة بأساليب الكلام، وأنا أوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط فأقول: لا يخلو إما أن يكون كل (نهج البلاغة) مصنوعا منحولا أو بعضه، والأول باطل بالضرورة لأنا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين عليه السلام وقد نقل المحدثون كلهم أو جلهم والمؤرخون كثيرا منه وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك، والثاني يدل علي ما قلناه لأن من قد أنس بالكلام والخطابة وشدا طرفا من علم البيان وصار له ذوق في هذا الباب لا بد أن يفرق بين الكلام الركيك والفصيح، وبين الأصيل والمولد، وإذا وقف علي كراس واحد يتضمن كلاما لجماعة من الخطباء أو لاثنين منهم فقط فلا بد أن يفرق بين الكلامين ويميز بين الطريقين، ألا ترى؟ إنا مع معرفتنا بالشعر ونقده لو تصفحنا ديوان أبي تمام فوجدناه قد كتب في أثنائه قصايد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام ونفسه وطريقته ومذهبه في القريض، ألا ترى؟ أن العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصايد كثيرة منحولة إليه لمباينتها لمذهبه في الشعر، وكذلك حذفوا من شعر أبي نواس شيئا كثيرا لما ظهر لهم أنه ليس من ألفاظه ولا من شعره، وكذلك غيرهما من الشعراء، ولم يعتمدوا في ذلك إلا على الذوق خاصة، وأنت إذا تأملت (نهج البلاغة) وجدته كله ماء واحدا ونفسا واحدا وأسلوبا واحدا كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفا لباقي الابعاض في الماهية، وكالقرآن العزيز أوله كأوسطه وأوسطه كآخره، وكل سورة منه و كل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفن والطريق والنظم لباقي الآيات والسور، ولو كان بعض (نهج البلاغة) منحولا وبعضه صحيحا لم يكن ذلك كذلك، فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أن الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير المؤمنين عليه السلام.
واعلم أن قائل هذا القول يطرق على نفسه ما لا قبل له به لأنا متى فتحنا هذا الباب وسلطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو لم نثق بصحة كلام منقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله أبدا وساغ لطاعن أن يطعن ويقول: هذا الخبر منحول، وهذا الكلام مصنوع، وكذلك ما نقل عن أبي بكر وعمر من الكلام والخطب والمواعظ والأدب وغير ذلك، وكل أمر جعله هذا الطاعن مستندا له فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة الراشدين والصحابة والتابعين والشعراء والمترسلين والخطباء، فلنا صري أمير المؤمنين عليه السلام أن يستعد إلى مثله فيما يروونه عنه من (نهج البلاغة) وغيره وهذا واضح. ا هـ.
وقال في ج ١ ص ٦٩ في آخر الخطبة الشقشقية: حدثني شيخي أبو الخير مصدق بن شبيب الواسطي في سنة ثلاث وستمائة قال: قرأت على الشيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشاب (المتوفى ٥٦٨) هذه الخطبة (يعني الشقشقية) فلما انتهيت إلى هذا الموضع (يعني قول ابن عباس: فوالله ما أسفت. إلخ) قال لي: لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له: وهل بقي في نفس ابن عمك أمر لم يبلغه في هذه الخطبة لتتأسف أن لا يكون بلغ من كلامه ما أراد؟! والله ما رجع عن الأولين ولا عن آخرين ولا بقي في نفسه أحد لم يذكره إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال مصدق: وكان ابن الخشاب صاحب دعابة وهزل قال: فقلت له: أتقول إنها منحولة؟! فقال: لا والله وإني لأعلم أنها كلامه كما أعلم أنك مصدق: قال: فقلت له: إن كثيرا من الناس يقولون: إنها من كلام الرضي رحمه الله تعالى، فقال: أنى للرضي ولغير الرضي هذا النفس وهذا الأسلوب؟! قد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور وما يقع من هذا الكلام في خل ولا خمر. قال: والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي، قلت: وقد وجدت أنا كثيرا من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديين من المعتزلة وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة، ووجدت أيضا كثيرا سها في كتاب أبي جعفر بن قبة أحد متكلمي الإمامية وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب " الانصاف " وكان أبو جعفر
هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي رحمه الله تعالى ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي رحمه الله تعالى موجودا. ا هـ.
وقد أفرد العلامة الشيخ هادي آل كاشف الغطاء كتابا في ٦٦ صحيفة حول الكتاب ودفع الشبهات عنه بعد نقلها، وقد جمع فأوعى وتبسط فأجاد[٥] وألقي الشيخ محمد عبدة حول الكتاب كلمات ضافية في شرحه، وأطال البحث عنه وعن اعتباره الأستاذ حسين بستانه أستاذ الأدب العربي في الثانوية المركزية [سابقا] تحت عنوان (أدب الإمام علي ونهج البلاغة) وتعرض الأوهام الحائمة حول النهج، نشر في العدد الرابع من أعداد السنة الخامسة من مجلة (الاعتدال) النجفية الغراء، وللعلامة السيد هبة الدين الشهرستاني تأليف حول اعتبار ما في النهج ومحله من الرفعة والبذخ عند العالمين تحت عنوان (ما هو نهج البلاغة) طبع في صيدا، وترجمه إلى الفارسية أحد فضلاء ايران في عاصمتها (طهران) وزاد عليه بعض الفوايد.
ومن تآليف سيدنا الرضي:
٢ - خصائص الأئمة ذكره مؤلفه في صدر (نهج البلاغة) وأطراه، وعندنا منه نسخة وقد شرح فيه بعض كلمات أمير المؤمنين عليه السلام وذكر اسمه في غير موضع واحد، والعجب عن العلامة الحلي وكلامه حوله قال: توجد في العراق نسخ باسمه تشبهه في المنهج لكن لم تصح نسبتها.
٣ - مجازات الآثار النبوية طبع ببغداد سنة ١٣٢٨.
٤ - تلخيص البيان عن مجاز القرآن، ذكره في مواضع من كتابه المجازات النبوية ص ٢، ٣، ٩، ١٤٥.
٥ - حقايق التأويل في متشابه التنزيل، وهو تفسيره ذكره في كتابه (المجازات النبوية) يعبر عنه تارة بحقايق التأويل. وأخرى بالكتاب الكبير في متشابه القرآن، وعبر عنه النجاشي بحقايق التنزيل، وصاحب عمدة الطالب بكتاب المتشابه في القرآن.
٦ - معاني القرآن، وهو كتابه الثالث في القرآن ذكره له ابن شهر آشوب في (المعالم) ص ٤٤ وقال يتعذر وجود مثله، وقال النسابة العمري في (المجدي) شاهدت له جزؤا مجلدا من تفسير منسوب إليه في القرآن مليح حسن، يكون بالقياس في كبر تفسير أبي جعفر الطبري أو أكبر، وقال ابن خلكان: يتعذر وجود مثله دل على توسعه في علم النحو واللغة. ولعل الممدوح هو تفسيره السابق.
٧ - تعليق خلاف الفقهاء.
٨ - تعليقه على إيضاح أبي علي الفارسي.
٩ - الحسن من شعر الحسين انتخب فيه شعر ابن الحجاج المترجم له في شعراء القرن الرابع.
١٠ - الزيادات في شعر ابن الحجاج المذكور.
١١ - الزيادات في شعر أبي تمام المترجم له في شعراء القرن الثالث.
١٢ - مختار شعر أبي إسحاق الصابي.
١٣ - ما دار بينه وبين أبي إسحاق من الرسائل شعرا[٦].
* (وذكر له في عمدة الطالب) *
١٤ - كتاب رسائله في ثلاث مجلدات، ولأبي إسحاق الصابي المتوفى قبل سنة ٣٨٠ كتاب مراسلات الشريف الرضي كما ذكره ابن النديم في الفهرست ص ١٩٤.
١٥ - أخبار قضاة بغداد.
١٦ - سيرة والده الطاهر ألفه سنة ٣٧٩ وذلك قبل وفاة والده بإحدى و عشرين سنة.
* (وذكر له في تاريخ آداب اللغة) *
١٧ - كتاب انشراح الصدر في مختارات من الشعر. أقول: هو لبعض الأدباء اختاره من ديوان المترجم له كما في (كشف الظنون) ج ١ ص ٥١٣.
١٨ - طيف الخيال: مجموعة تنسب إليه. أقول: هو من تآليف أخيه الشريف المرتضى لا له.
١٩ - وله ديوان شعره الساير المطبوع، قال ابن خلكان: وقد عني بجمع ديوان الرضي جماعة وآخر ما جمع الذي جمعه أبو حكيم الخبري[٧] ا هـ.
وأنفذ الصاحب ابن عباد (المترجم له في شعراء القرن الرابع من كتابنا) إلى بغداد من ينسخ له ديوانه وكتب إليه بذلك سنة ٣٨٥ (وهي سنة وفاته) وعندما سمع المترجم له به وأنفذه مدحه بقصيدة منها قوله:
بيني وبينك حرمتان تلاقتا | نثري الذي بك يقتدي وقصيدي | |
ووصائل الأدب التي تصل الفتى | لا باتصال قبائل وجدود | |
إن أهد أشعاري إليك فإنها | كالسرد أعرضه علي داود |
وأنفذت (تقيه) بنت سيف الدولة التي توفيت سنة ٣٩٩ من مصر من ينسخ ديوان الشريف الرضي لها وهي لا ترى هدية أنفس منه يوم حمل إليها، ويعرب ذلك عن عناية الشريف بشعره وجمعه في حياته ولعل جمعه كجمع أخيه الشريف المرتضى لديوان كان على ترتيب سني نظمه المتمادية.
شعره وشاعريته:
من الواضح أن الواقف على نفسيات سيدنا الشريف (المترجم) ومواقفه العظيمة من العلم والسودد والمكانة الرفيعة يرى الشعر دون قدر الشريف، ويجد نفسه أعلا من أنفس الشعراء وأرفع، ويرى الشعر لا يمهد لشريف كيانا على كيانه، و لا يأثر في ترفعه وشممه، ولا يولد له العظمة، ولا يأخذ بضبعه إلى التطول، وقد نظم وشعر في صباه وهو لم يبلغ عمره عشر سنين، ومن شعره في صباه وله عشر سنين قوله من قصيدة:
المجد يعلم أن المجد من أربي | ولو تماديت في غي وفي لعب | |
إني لمن معشر إن جمعوا لعلى | تفرقوا عن نبي أو وصي نبي | |
إذا هممت ففتش عن شبا هممي | تجده في مهجات الأنجم الشهب | |
وإن عزمت فعزمي يستحيل قذى | تدمي مسالكه في أعين النوب | |
ومعرك صافحت أيدي الحمام به | طلى الرجال على الخرصان من كثب | |
حلت حباها المنايا في كتائبه | بالضرب فاجتثت الأجساد بالقضب | |
تلاقت البيض في الأحشاء فاعتنقت | والسمهري من الماذي واليلب[٨] | |
بكت على الأرض دمعا من دمائهم | فاستعربت من ثغور النور والعشب |
ويحدثنا شعره أنه ما كان يعد الشعر لنفسه فضيلة ومأثرة بل كان يتخذه وسيلة إلى غرضه فيقول:
وما الشعر فخري ولكنما | أطول به همة الفاخر | |
أنزهه عن لقاء الرجال | واجعله تحفة الزائر | |
فما يتهدى إليه الملوك | إلا من المثل السائر | |
وإني وإن كنت من إهله | لتنكر في حرفة الشاعر |
ويقول:
وما قولي الأشعار إلا ذريعة | إلى أمل قد آن قود جنيبه | |
وإني إذا ما بلغ الله غاية | ضمنت له هجر القريض وحوبه |
ويقول:
ما لك ترضى أن يقال: شاعر؟ | بعدا لها من عدد الفضايل | |
كفاك ما أروق من أغصانه | وطال من أعلامه الأطاول | |
فكم تكون ناظما وقائلا | وأنت غب القول غير فاعل؟! |
وهو في شعره يرى نفسه أشعر الأمم تارة، ويرى شعره فوق شعر البحتري ومسلم بن الوليد أخرى، ويتواضع طورا ويجعل نفسه زميل الفرزدق أو جرير، ويرى نفسه ضريبا لزهير، ومرة يتفوه بالحق وينظر إلى شعره بعين الرضا ويرى كلامه فوق كلام الرجال، وقد أجمع الأكثرون إنه أشعر قريش قال الخطيب البغدادي في تاريخه ٢ ص ٢٤٦: سمعت أبا عبد الله محمد بن عبد الله الكاتب بحضرة أبي الحسين بن محفوظ وكان أحد الرؤساء يقول: سمعت جماعة من أهل العلم بالأدب يقولون: الرضي أشعر قريش. فقال ابن محفوظ: هذا صحيح وقد كان في قريش من يجيد القول إلا أن شعره قليل، فأما مجيد مكثر فليس إلا الرضي.
وحمل الثناة على أدبه وشعره كبقية مآثره وفضائله وملكاته الفاضلة متواترة في المعاجم يضيق عن جمعها المجال، فنضرب عنها صفحا روما للاختصار، ونقتصر بذكر نبذة يسيرة، منها:
١ - قال النسابة العمري في (المجدي): إنه نقيب نقباء الطالبيين ببغداد وكانت له هيبة وجلالة وفيه ورع وعفة وتقشف ومراعاة للأهل وغيرة عليهم وعسف بالجاني منهم، وكان أحد علماء الزمان قد قرأ على أجلاء الرجال وشاهدت له جزءا مجلدا من تفسير منسوب إليه في القرآن مليح حسن يكون بالقياس في كبر تفسير أبي جعفر الطبري أو أكبر، وشعره أشهر من أن يدل عليه، وهو أشعر قريش إلى وقتنا، وحسبك أن يكون قريش في أولها الحرث بن هشام والعبلي وعمر بن أبي ربيعة، وفي آخرها بالنسبة إلى زمانه محمد بن صالح الموسوي الحسني، وعلي بن محمد الحماني[٩] وابن طباطبا الاصبهاني[١٠].
٢ - قال الثعالبي في (اليتيمة): هو اليوم أبدع أبناء الزمان، وأنجب سادة العراق، يتحلى مع محتده الشريف، ومفخره المنيف، بأدب ظاهر، وفضل باهر وحظ من جميع المحاسن وافر، ثم هو أشعر الطالبيين من مضى منهم ومن غبر على كثرة شعرائهم المفلقين كالحماني وابن طباطبا وابن الناصر وغيرهم، ولو قلت: إنه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق، وسيشهد بما أجريه من ذكره شاهد عدل من شعره العالي القدح، الممنع عن القدح، الذي يجمع إلى السلاسة متانة، وإلي السهولة رصانة، ويشتمل على معان يقرب جناها، ويبعد مداها، وكان أبوه يتولى نقابة نقباء الطالبيين ويحكم فيهم أجمعين والنظر في المظالم والحج بالناس ثم ردت هذه الأعمال كلها إلى ولده الرضي سنة ٣٨٨ وأبوه حي.
٣ - قال ابن الجوزي في (المنتظم) ٧ ص ٢٧٩ كان الرضي نقيب الطالبيين ببغداد حفظ القرآن في مدة يسيرة بعد أن جاوز ثلاثين سنة وعرف من الفقه والفرائض طرفا قويا وكان عالما فاضلا وشاعرا مترسلا، عفيفا عالي الهمة متدينا، اشترى في بعض الأيام جزازا من امرأة بخمسة دراهم فوجد جزءا بخط أبي علي بن مقلة فقال: للدلال أحضر المرأة فأحضرها فقال: قد وجدت في الجزاز جزءا بخط ابن مقلة فإن أردت الجزء فخذيه وإن اخترت ثمنه فهذه خمسة دراهم. فأخذتها ودعت له وانصرفت، وكان سخيا جوادا.
٤ - قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: حفظ الرضي القرآن بعد أن جاوز ثلاثين سنة في مدة يسيرة وعرف من الفقه والفرائض طرفا قويا، وكان عالما أديبا، وشاعرا مفلقا، فصيح النظم ضخم الألفاظ قادرا على القريض، متصرفا في فنونه إن قصد الرقة في النسيب أتى بالعجب العجاب، وإن أراد الفخامة وجزالة الألفاظ في المدح وغيره أتى بما لا يشق فيه غباره، وإن قصد في المراثي جاء سابقا والشعراء منقطع أنفاسها على أثره، وكان مع هذا مترسلا ذا كتابة، وكان عفيفا شريف النفس عالي الهمة مستلزما بالدين وقوانينه، ولم يقبل من أحد صلة ولا جائزة حتى أنه رد صلات أبيه.
٥ - قال الباخرزي في (دمية القصر) ص ٦٩: له صدر الوسادة بين الأئمة و السادة وأنا إذا مدحته كنت كمن قال لذكاء: ما أنورك، ولحضارة: ما أغررك، وله شعر إذا افتخر به أدرك من المجد أقاصيه، وعقد بالنجم نواصيه، وإذا نسب انتسب رقة الهواء إلى نسيبه، وفاز بالقدح المعلى في نصيبه، حتى إذا انشد الراوي غزلياته بين يدي الفرهاة، لقال له من العز: هات، وإذا وصف فكأنه في الأوصاف أحسن من الوصائف والوصاف، وإن مدح تحيرت فيه الأوهام بين مادح وممدوح، له بين المتراهنين في الحلبتين سبق سابق مروح، وإن نثر حمدت منه الأثر، ورأيت هناك خرزات من العقد تنفض، وقطرات من المزن ترفض، ولعمري أن بغداد قد أنجبت به فبوأته ظلالها، وأرضعته زلالها، وأنشقته شمالها، وورد شعره دجلتها فشرب منها حتى شرق، وانغمس فيها حتى كاد يقال: غرق، فكلما أنشدت محاسنه تنزهت بغداد في نضرة نعيمها، واستنشقت من أنفاس الهجير بمراوح نسيمها.
٦ - قال الرفاعي في (صحاح الأخبار) ص ٦١: كان أشعر قريش وذلك لأن الشاعر المجيد من قريش ليس بمكثر والمكثر ليس بمجيد والرضي جمع بين فضلي الإكثار والإجادة، وكان صاحب ورع وعفة وعدل في الأقضية وهيبة في النفوس.