الفصل الثالث
في مآخذ الشريف الرضي من الشعراء
قال الشريف الرضي :
ونحن النازلون بكلِّ ثغر *** نريق على جوانبه الدماءا
نظر فيه إلى قول المتنبّي :
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى *** حتّى يراق على جوانبه الدم
قال الشريف في مدح والده النقيب الحسين بن موسى :
وإذا بلغن بي الحسين فإنّه *** حقٌّ لهنّ على المطالب واجب
كأنّه يقول : إذا بلغت النياق بي الحسين فإنّ لهن حقّاً واجباً وهو أن يحرِّم ركوبها على نفسه وعلى غيره ، وهو مأخوذ من قول أبي نؤاس في الأمين :
وإذا المطىُّ بنا بلغن محمّداً *** فظهورهنّ على الرجال حرام
وبيت أبي نؤاس أجود سبكاً وأظهر معنىً .
قال الشريف :
يسير وأرضه جرد المذاكي *** وجوُّ سمائه ظلّ العُقاب
أخذه من قول النابغة الذبياني :
إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم *** عصائب طير تهتدي بعصائب
قال الشريف :
نفرُّ إلى الشراب إذا غصصنا *** فكيف إذا غصصنا بالشراب
وهو نظير قول الشاعر :
إلى الماء يسعى من يغصّ بريقه *** فقل أين يسعى من يغصُّ بماء
قال الشريف معرِّضاً :
حمته مذلّته سطوتي *** وكيف ينال ذباباً ذبابي
والذباب الأوّل الحشرة المعروفة والثاني ذباب السيف وهو طرفه الذي يضرب فيه ، وقد أخذ المعنى من قول إبراهيم بن العبّاس الصولي :
نجابك عرضك منجى الذبا *** ب حمته مقاذره أن ينالا
قال الشريف راثياً :
مضى التليع الأعلى لطيّته *** واستأخر المنسمان والذنب
وفي الديوان (التليد) وليس لها معنى والصواب ما ذكرناه وهو من قولهم أتلع الرجل عنقه فهو أتلع وتليع من التلع (محرّكة) وهو طول العنق ، والطيّة بالكسر والتشديد : النيَّة والوجه ، والمنسم كمجلس : خفّ البعير ، والذنب : الذيل ، كأنّه يقول : ذهب كرام الناس الذين يشبَّهون بالسنام وبقي أراذلهم الذين يشبَّهون بالمناسم والأذناب ، وهو نظير قول الخنساء :
إنّ الزمان وما تفنى عجائبه *** أبقى لنا ذنباً واستُؤصل الرأس
قال الشريف في مدح خاله أبي الحسين بن الناصر :
هابوا ابتسامك في دهياء مظلمة *** وليس يوصف ثغر الليث بالشنب
نظر فيه إلى قول أبي الطيّب المتنبي :
إذا رأيت نيوب الليث بارزة *** فلا تظنّنَّ أنَّ الليث يبتسم
قال الشريف :
تعلَّم فإنَّ الجود في الناس فطنة *** تناقلها الأحرار والطبع أغلب
نظر فيه إلى قول المتنبّي :
وللنفس أخلاق تدلّ على الفتى *** أكان سخاءً ما أتى أم تساخيا
قال الشريف :
وأعظم ما ألاقي أنَّ دهري *** يعدُّ محاسني لي من ذنوبي
وقد لمح فيه إلى قول البحتري :
إذا محاسني اللائي أدلّ بها *** كانت ذنوباً فقل لي كيف أعتذر
قال الشريف :
وهل نافعي أن يكثر الماء في الدنى *** ولمّا يجرني ـ إن ظمئت ـ شراب
نظر فيه إلى قول أبي فراس الحمداني :
معلِّلتي بالوصل والموت دونه *** إذا متُّ ظمآناً فلا نزل القطر
وفي ضدِّه يقول أبو العلاء المعرّي معاصر الرضي :
فلا هطلت علىَّ ولا بأرضي *** سحائب ليس تنتظم البلادا
قال الشريف :
خلا منك طرفي وامتلا بك خاطري *** كأنّك من عيني نُقلت إلى قلبي
وكرَّر المعنى في قصيدة رثى أخته بها :
لئن خلا منك طرف *** لقد ملي منك قلب
وقد نظر فيه إلى قول ابن المعتز :
يقولون لي والبعد بيني وبينها *** نأت عنك شروى وأنطوى سبب القرب
فقلت لهم والسرُّ يظهره البكا *** لئن فارقت عيني لقد سكنت قلبي
قال الشريف :
وأحلم خلق الله حتّى إذا دنا *** إليها الأذى طارت بها جهلاتها
نظر فيه إلى قول النابغة الذبياني :
ولا خير في حلم إذا لم تكن له *** بوادر تحمي صفوه أن يكدَّرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له *** حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
قال الشريف في رثاء الصابي :
ليس الفجائع في الذخائر مثلها *** بأماجد الأعيان والأفراد
وقد تناول الشعراء هذا المعنى كثيراً ومنهم أبو دؤاد الأيادي حيث قال :
لا أعدُّ الإقتار عُدماً ولكن *** فقد من قد رُزيته الإعدام
والفرزدق بقوله :
يمضي أخوك فلا تلقى له خلفاً *** والمال بعد ذهاب المال يكتسب
قال الشريف :
لا فرق لي بعدهمُ *** بين الفراق والردى
نظر فيه إلى قول منصور النميري :
إنَّ المنيَّة والفراق لواحدٌ *** أو توأمان تراضعا بلبان
قال الشريف في بهاء الدولة بن عضد الدولة :
ما رأينا كأبيه ناجلا *** ولد الناس جميعاً في ولد
أخذه من قول أبي نؤاس في الفضل بن الربيع :
ليس على الله بمستنكر *** أن يجمع العالم في واحد
قال الشريف :
تنادوا بأنَّ التنائي غداً *** لك السوء من طالع يا غدُ
نظر فيه إلى قول النابغة :
لا مرحباً بغد ولا أهلاً به *** إن كان تفريق الأحبّة في غدِ
قال الشريف في رثاء الصابي :
الفضل ناسب بيننا إن لم يكن *** شرفي يناسبه ولا ميلادي
وقد أخذه من أبي تمّام في عليّ بن الجهم :
إن يفترق نسب يؤلّف بيننا *** أدب أقمناه مقام الوالد
وقال أبو تمّام أيضاً في نفس المعنى في رثاء غالب الصفدي :
نسيبي في عزم ورأي ومذهب *** وإن باعدتنا في الأصول المناسب
وقال الشريف في نفس القصيدة :
أعزز علىَّ بأن تبيت بمنزل *** متشابه الأمجاد والأوغاد
وقال أيضاً في قصيدته التي فسّرها ابن جنّي في حياة الشريف في رثاء ناصر الدولة بن حمدان يصف الموتى :
نزلوا بقارعة تشابه عندها *** ذلُّ العبيد وعزَّة الأحرار
وقد نظر فيهما بطرف خفيٍّ إلى قول المتنبّي :
من لا تشابهه الأحياء في شيم *** أمسى يشابهه الأموات في الرمم
قال الشريف :
ولا مال إلاّ ما كسبت بنيله *** ثناءً ولا مال لمن لا له مجد
وقد ألمَّ فيه بقول المتنبّي من قصيدة في مدح كافور :
فلا مجد في الدنيا لمن قلَّ ماله *** ولا مال في الدنيا لمن قلَّ مجدُه
قال الشريف :
وهل نافعي يوم أقضي صدىً *** إذا صاب وادىَ قومي المطر
نظر فيه إلى قول أبي فراس الحمداني :
معلِّلتي بالوصل والموت دونه *** إذا متُّ ظمآناً فلا نزل القطر
وقال الشريف في رثاء جدّه الحسين(عليه السلام) :
كأنَّ بيض المواضي وهي تنهبه *** نار تحكَّم في جسم من النّور
وقد نظر فيه إلى قول أبي علي المنطقي من خمرية له [١] :
كأنّها إذ بدت والكأس تحجبها *** روح من النّار في جسم من النّور
ولا أدري أيّهما أسبق إلى هذا التشبيه فإنّهما متعاصران .
وقال الشريف :
ما مقامي على الجداول أرجو *** هالنيل وقد رأيت البحارا
نظر فيه إلى قول المتنبّي :
قواصد كافور توارك غيره *** ومن قصد البحر استقلّ السواقيا
وقد أخذه المتنبّي من قول أبي نؤاس في آل الربيع :
من قاس غيركم بكم *** قاس الثماد إلى البحور
قال الشريف :
رموا لا يبالون الحشا وتروَّحوا *** خليَّين والرامي يصيب ولا يدري
وقد سبقه الأخطل بقوله :
وقد كنت قد أقصدتني إذ رميتني *** بسهمك والرامي يصيب ولايدري
قال الشريف :
كلّما غاب من بني خلف بدرٌ *** يضي الظلام أخلف بدرا
نظر فيه إلى قول أبي الطمحان من أبياته الشهيرة :
نجوم سماء كلّما انقضّ كوكب *** بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
وقال الشريف في رثاء ناصر الدولة :
وترجَّلي عن كلِّ أجرد سابح *** ميل الرقاب نواكس الأبصار
أخذ شطره الثاني من قول الفرزدق في يزيد بن المهلّب :
وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم *** خضع الرقاب نواكس الأبصار
وقال الشريف مادحاً :
يوقد النّار للقرى وعليها *** حسب لو خبا الوقود أنارا
وقد سبقه في المعنى شاعر عربي مدح عليَّ بن الحسين الشهيد(عليه السلام)بأبيات أوردها ابن إدريس الحلّي في السرائر منها :
كان إذا شبَّت له ناره *** يوقدها بالحسب الكامل
وبيت الشريف أعمق معنىً وأقوى مبنىً .
وقال الشريف :
يحنّ إلى ماتضمر الخمر والحلى *** ويصدف عمّا في ضمان المآزر
وهو وإن سبقه المتنبّي بقوله :
إنّي على شغفي بما في خمرها *** لأعفُّ عما في سراويلاتها
ولكن قول الشريف أشرف وألطف في الكناية والعفّة وأظرف ، ويحكى عن الصاحب أنّه قال : كانت الشعراء تصف المآزر تنزيهاً لألفاظها عمّا يستشنع ذكره حتّى تخطّى هذا الشاعر (أي المتنبّي) إلى التصريح الذي لم يهتد له غيره بقوله هذا ، وكثير من العهر أحسن من هذا العفاف .
قال الشريف من قصيدة :
تلذّ عيني وقلبي منك في ألم *** فالقلب في مأتم والعين في عرُسِ
أخذه لفظاً ومعنى من أبي تمّام :
أسكِّن قلباً هائماً فيه مأتم *** من الشوق إلاّ أنّ عينيّ في عرسِ
وقال الشريف في القادر أبي العبّاس حين ولِّي الخلافة :
شرف الخلافة يا بني العبّاس *** اليوم جدَّده أبو العبّاس
هذا الذي رفعت يداه بناءها الـ *** ـعالي وذاك موطّد الآساس
وقد ألمَّ فيه بقول ابن الرومي في المعتضد بالله :
كما بأبي العبّاس أنشي ملككم *** كذا بأبي العبّاس منكم يجدَّد
قال الشريف مادحاً :
كأنّ ملوك الأرض حول سريره *** بغاث وقوف والقطاميّ جالس
وهو مأخوذ من قول ذي الرمّة في مدح بلال بن أبي موسى
من آل أبي موسى :
ترى القوم حوله كأنّهم *** الكروان أبصرن بازيا
من أبيات ذكرها المبرّد في الكامل ، قال : والكروان طائر معروف . وقلت : ومثله أيضاً قول عبد الله بن محمّد بن أبي عيينه :
إذا كرَّ فيهم كرَّة أفرجوا له *** فرار بغاث الطير صادفن أجدلا
قال الشريف :
لا تنكري هذا النحول فإنّما *** نفسي تذوب عليك من نفسي
نظر في الشطر الثاني إلى قول ديك الجنّ :
ليس ذا الدمع دمع عيني ولكن *** هي نفسي تذيبها أنفاسي
وأخذه لفظاً ومعنى الحسن بن القيِّم الحلّي في رثاء السيّد حيدر الحلّي :
ما جرت أدمعي عليك ولكن *** هي نفس أسلتها فوق نفسي
قال الشريف في إحدى غراميّاته :
قلبي وطرفي منك هذا في حمى *** قيظ وهذا في رياض ربيع
أخذه من أبي الطيّب المتنبّي حيث يقول :
حشاي على جمر ذكيٍّ من الهوى *** وعيناي في روض من الحسن ترتع
ويقول السيّد الشريف منها :
أبغي هواه بشافع من غيره *** شرُّ الهوى ما نلته بشفيع
وقد أخذه من العبّاس بن الأحنف :
إذا أنت لم يعطفك إلاّ شفاعة *** فلا خير في ودّ يكون بشافع
ومن مقطوعة الشريف أيضاً قوله :
قد كنت أجزيك الصدود بمثله *** لو أنَّ قلبك كان بين ضلوعي
وسبقه إليه ابن الأحنف بقوله :
يهوى بعادي وهجري *** ومنيتي الدهر قربه
فليت قلبي له كان *** مثلما لي كان قلبه
وقال الشريف :
ما كان إلاّ قبلة التسليم أر *** دفها الفراق بضمّة التوديع
وقد أخذه من عليّ بن جبلّة المعروف بـ : (العكوك) المتوفّى عام (٢١٣هـ) ، ومعنى الشريف هو معنى البيت الرابع من أبياته الشهيرة :
بأبي من زارني مكتتماً *** خائفاً من كلِّ شيء جزعا
زائراً نمَّ عليه حسنه *** كيف يخفي الليل بدراً طلعا
رصد الغفلة حتّى أمكنت *** ورعى السامر حتّى هجعا
ركب الأهوال في زورته *** ثمَّ ما سلَّم حتّى ودَّعا
قال الشريف :
الله يعلم ميلي عن جنابكم *** ولو تناهيت لي بالبرِّ واللُطفِ
فكيف بي وعلى عينيك ترجمة *** من الحقود وعنوان من الشنف([٢])
أخذه من قول البحتري :
وفي عينيك ترجمة أراها *** تدلُّ على الضغائن والحقود
-------------------------------------------------
[١] . والمنطقي هذا توفّي عام (٣٩٠هـ) وقد ترجم له ياقوت الحموي في معجمه (ج١٥ ص ٢٠٤) وهو من مدَّاح عضد الدولة والصاحب بن عبّاد ويعدّ من نظراء المتنبّي وهو الذي يقول :
فجعنا بأبكار المنى يوم خاطبت ربوعك أبكار الخطوب الفواجع
وقد أخذه من قول أبي تمّام في قصيدته التي يمدح بها أبا دلف :
أصابتك أبكار الخطوب فشتّت هواي بأبكار الحسان الكواعب
[٢] . الشنف : البغض والتنكر .
يتبع .......