الدكتور السيد محمد بحر العلوم
حين نستعرض ـ في مدخل البحث ـ معالم من حياة الشريف الرضي، فإننا نستطيع أن نضع ـ من خلالها ـ أيدينا على مفاتيح شخصيته العامة، ونحدد الزاوية التي نهدف اليها من وراء بحثنا هذا، وهي باختصار:
أولا ـ الرضي واسرته:
وإذا أردنا أن نجمع شتات هذا العنوان، ونضيق دائرته على أساس شهرة مترجمنا الكبير، واسرته العريقة، فمن الضروري أن نمر عليها جدولة دون توسع، ونحصرها بالاتي:
١ ـ إسمه ونسبه:
هو: أبوالحسن، محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى الكاظم سابع ائمة أهل البيت عليهم السلام الذي يرتفع نسبه الطاهر إلى الامام الحسين بن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليهما السلام[١].
من المحتد الاصيل انحدر الشريف الرضي من أب ينتهي نسبه إلى الامام موسى الكاظم ومن أم ينتهي نسبها إلى الامام الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.
فهي: فاطمة بنت الناصر الصغير، أبي محمد، الحسين بن أحمد بن الحسن الناصر الكبير ـ صاحب الديلم ـ بن علي العسكري بن الحسن بن علي الاصغر بن عمر الاشرف ابن علي زين العابدين بن الامام الحسين (ع)[٢].
ولهذا كان الرضي يلقب بـ « ذي الحسبين »، لقبه بذلك بهاء الدولة لانه علوي الطرفين وكان جد امه الناصر الكبير « شيخ الطالبيين، وعالمهم، وزاهدهم، وأديبهم، وشاعرهم، ملك بلاد الديلم والجبل، لقب بالناصر للحق، جرت له حروب عظيمة مع السامانية، وتوفي بطبرستان سنة ٣٠٤ هـ وله من العمر تسع وسبعون سنة »[٣].
٢ ـ ولادته ووفاته:
لم يختلف المؤرخون في سنة ولادته، فقد أجمعوا على أنها في عام ٣٥٩ هـ وأنها كانت في بغداد[٤]، وعاش فيها طيلة عمره الذي لم يتجاوز نصف قرن.
ولم يشذ عما ذهب اليه المؤرخون في سنة وفاته التي كانت عام ٤٠٦ هـ[٥]، إلا مصدر واحد، ذهب إلى أنها في عام ٤٠٤ هـ[٦]، وقد يكون ذلك خطأ من الناسخ أو المطبعة.
ومما يؤكد هذا القول ان الرضي رثا صديقا له توفي عام ٤٠٥ هـ وهو أحمد بن علي البتي أبوالحسن[٧]، جاء فيها:
مـا للهمـوم كأنها نـار علـى قلبـي تشـب لوداع إخوان الشباب مضت مطاياهم تخب[٨] وودع الشريف الرضي دنياه، وهو ابن سبع وأربعين سنة، في حين عرف بيته ـ خاصة ـ بطول العمر، فقد توفي والده الحسين وقد بلغ من العمر السابعة والتسعين، وانتقل أخوه علي المرتضى إلى جوار ربه وله من العمر إحدى وثمانين سنة، ولبت إحدى شقيقتيه نداء ربها عن نيف وتسعين سنة[٩].
٣ ـ اسرته:
اسرة الشريف الرضي عريقة المجد في العراق، تمتد اصولها الشامخة إلى الامام موسى الكاظم عليه السلام ـ كما أشرنا ـ، وكان والده أبوأحمد الحسين من أعلام البصرة وشخصياتها اللامعة، فقد وصفته بعض المصادر بأنه « أجل من وضع على رأسه الطيلسان وجر خلفه رمحا أريد، وأجل من جمع بينهما. وكان قوي المنة، شديد العصبية، يتلاعب بالدول، ويتجرأ على الامور، وفيه مواساة لاهله »[١٠].
كما ذكرت المصادر أن الحسين والد الرضي انتقل مع أخيه أحمد إلى بغداد[١١]، غير أنها لم تذكر تاريخ انتقاله، ولكن بعض المصادر قالت: إن أباأحمد الحسين ولي المظالم ببغداد في أيام المطيع العباسي (٣٣٤ ـ ٣٦٣ هـ)[١٢]، وآخر يقول: إن معز الدولة أحمد بن بويه[١٣] على صلة به أيام حكم المستكفي العباسي (٣٣٣ هـ)[١٤] ، وكان يترصد له أخبار الخلافة، والجند والقواد، وتجري المراسلات بينهما سرا في ذلك[١٥].
وعلى هذا التقدير فإن والد الرضي كانت له المكانة عند العباسيين من قبل عام ٣٣٣ هـ، خاصة إذا أخذنا رواية ولايته المظالم في عهد المطيع العباسي بنظر الاعتبار، فمعناه أنه كان ذا جاه ومنزلة لدى الحكام العباسيين، وهو في فتوة العمر ولم يبلغ الثلاثين من حياته، فقد ذكر أن ولادته كانت في سنة ٣٠٤ هـ[١٦].
ولقد عاصر والد الرضي عددا كبيرا من حكام بني العباس ابتداء من المقتدر بالله جعفر بن أحمد، الذي كانت أيام حكمه من (٢٩٦ ـ ٣٢٠ هـ) إلى نهاية القادر بالله العباسي (٣٨١ ـ ٤٢٢ هـ).
كما عاصر من أمراء دولة البويهيين من معز الدولة أحمد بن بويه (٣٣٤ هـ) إلى عهد بهاءالدولة بن عضد الدولة (٣٧٩ ـ ٤٠٣ هـ)، وتقلد نقابة الطالبيين خمس مرات، ومات وهو متقلدها[١٧] إضافة إلى كثير من المراتب العالية، كإمارة الحج وولاية المظالم.
تقول الرواية: كان « أبو أحمد جليل القدر عظيم المنزلة في دولة بني العباس ودولة بني بويه، ولقب بالطاهر ذي المناقب، وخاطبه بهاء الدولة أبونصر بن بويه بالطاهر الاوحد، وكان السفير بين الخلفاء وبين الملوك من بني بويه والامراء من بني حمدان وغيرهم »[١٨].
ولكن هذه المكانة المرموقة لم تمنع من أن يغضب عليه عضد الدولة، ويحمل عليه موجدة تؤدي به إلى إبعاده عن بغداد، واعتقاله في قلعة بفارس ومصادرة أملاكه، وذلك عام ٣٦٩ هـ، وبقي معتقلا سبع سنين رغم أن عضدالدولة توفي عام ٣٧٢ هـ[١٩]، لكنه بقي قيد الاقامة في شيراز حتى عام ٣٧٦ هـ، حيث أطلقه شرف الدولة، أبوالفوارس شيرذيل ابن عضدالدولة، واصطحبه إلى بغداد[٢٠]، وعادت اليه نقابة الطالبيين والمظالم، وإمارة الحج عام ٣٨٠ هـ [٢١]، وبقي ببيته شامخا حتى وفاته عام ٤٠٠ هـ[٢٢].
أما أخوه علي المرتضى، فقد ولد عام ٣٥٥ هـ، وبهذا يكون أكبر من أخيه الرضي بأربع سنوات، وقد وصفته المصادر بأن « مرتبته في العلم عالية فقها وكلاما وحديثا، ولغة وأدبا، وغير ذلك، وكان متقدما في فقه الامامية وكلامهم، ناصرا لاقوالهم »[٢٣].
وتضيف الروايات إلى ما سبق بأنه « كان المرتضى يشارك الرضي في النيابة عن أبيه في المناصب التي تناط به من نقابة، وإمارة حج ونظر في المظالم، ولقب بذي المجدين، يوم لقب الرضي بذي الحسبين سنة ٣٩٧ هـ [٢٤]، وبعد وفاة أخيه الرضي عام ٤٠٦ هـ تقلد ماكان يتقلده أخوه من النقابة وإمارة الحج والمظالم[٢٥].
ومما تقدم نستفيد بأن المرتضى والرضي لم يكونا على خط واحد من الاتجاه الاجتماعي، فالرضي ـ كما يترجم ـ خاض عمار السياسة واهتم بالحياة الاجتماعية، واشتهر بالشعر، وإن كان من فطاحل العلم، والمرتضى بعكسه تماما فقد اشتهر بالعلم والفضل رغم آفاقه الواسعة في عالم الادب والشعر، وكان أمر السياسة عنده ثانويا، رغم اهتمامه به.
ثانيا ـ آفاقه العلمية: عرف الشريف الرضي بالذكاء الوقاد، والاستعداد الكامل للمعرفة، وهو في سن مبكرة فقد ذكر أنه ابتدأ بنظم الشعر وله تسع سنين[٢٦]، أو بعد أن جاوز العشر سنين بقليل[٢٧].
وذكر أنه حفظ القرآن في مدة يسيرة، وهو حدث السن[٢٨]، وقد قرأه على ابراهيم ابن أحمد بن محمد الطبري المقرئ الفقيه المالكي المتوفى عام ٣٩٣ هـ[٢٩].
كما ذكر أن والدة الرضي ذهبت بولديها: الرضي والمرتضى، إلى أبي عبدالله محمد ابن النعمان المعروف بالشيخ المفيد [٣٠]، وكانا صغيرين وطلبت منه أن يعلمهما الفقه[٣١]، ومن الطبيعي أن يكون الرضي ـ وهو ينخرط في مدرسة شيخ الامامية وعالمها الشهير بالشيخ المفيد ـ قد جمع شيئا من المقدمات العلمية، التي تؤهله لولوج هذه المدرسة العلمية وهو في سن مبكرة[٣٢].
ونقل أبوالفتح عثمان بن جني[٣٣] أن الشريف احضر إلى ابن السيرافي النحوي[٣٤] وهو طفل جدا لم يبلغ عشر سنين، فلقنه النحو[٣٥].
نشأ الشريف الرضي في بغداد في بيت علم وفضل وتقى، فالسيد والده الحسين بن موسى من شخصيات الطالبيين، وقد تولى نقابتهم وإدارة الحج، وطبيعي أن لاتكون له هذا الوجاهة والمكانة إلا إذا كان مبرزا في اسرته وطائفته ومجتمعه، وقد وصفته بعض المصادر بأنه « جليل القدر، عظيم المنزلة في دولة بني العباس، ودولة بني بويه، ولقب بالطاهر ذي المناقب، وخاطبه بهاء الدولة، أبونصر بن بويه بـ ـ الطاهر الاوحد ـ، وولي نقابة الطالبيين خمس دفعات، ومات وهومتقلدها ».
وكان السفير بين الخلفاء، وبين الملوك من بني بويه، والامراء من بني حمدان وغيرهم، وكان مبارك الغرة، ميمون النقيبة، مهيبا نبيلا، ماشرع في إصلاح أمر فاسد إلا وصلح على يديه وانتظم بحسن سفارته، وبركة همته، وحسن تدبيره ووساطته[٣٦].
وحين شب الرضي تعهدته والدته فاطمة بنت الناصر الصغير ووجهته إلى أساتذة فطاحل في العلم والمعرفة لينتهل من نميرهم وفضلهم.
وقد وصفته بعض المصادر بأنه « كان مفرط الذكاء »[٣٧]، وللتأكيد على هذه الصفة نقل ان استاذه أبي سعيد السيرافي ذاكره يوما ـ على عادة التعليم ـ وهو صبي، فقال: إذا قلنا: رأيت عمراً، ما علامة النصب في عمرو ؟ فقال الرضي: بغض علي.
أراد السيرافي النصب الذي هو الاعراب، وأراد الرضي: الذي هو بغض علي، فأشار إلى عمرو بن العاص وبغضه لعلي، فتعجب الحاضرون من حدة ذهنه[٣٨].
وعلق البعض على هذا الحوار: « أنه يدل على حدة خاطره ـ كما قال ابن جني ـ فكثير من نشء الشيعة يحفظ كل هذه المعارف، ولكنك لاتجد من يستطيع في هذه السن أن يستفيد منها في موقف كهذا، وتدفعه حدة خاطره إلى أن يظن ان شيخه يعني أمرا من امور الخلاف بين السنة والشيعة فيجيب بهذا الجواب المسكت »[٣٩].
ويعود اهتمام والدته بتربيته العلمية والفكرية، وانفرادها بذلك ـ كما تقدمت الاشارة ـ إلى أنها تحملت مسؤولية ولديها الرضي والمرتضى حين اعتقل والداهما الحسين ابن موسى من قبل عضد الدولة البويهي عام ٣٦٩ هـ، وابعد إلى فارس، وسجن بقلعة هناك حتى عام ٣٧٦ هـ، حيث اطلق سراحه، وعاد إلى بغداد[٤٠]، والرضي كان في سن الفتوة، وزهوة الشباب، وقد قطع شوطا جيدا في حياته العلمية، وجمع من المعرفة ماميزه على أقرانه في تأهيله العلمي وحين امتد به العمر أصبح شخصية مرموقة لها شأنها في الاوساط العلمية والاجتماعية.
وحين نحاول أن نقيم هذه المنزلة الثقافية، فإن مفاتيح هذه المعرفة لاتتعدى ـ في مجال الحصر ـ ثلاث قنوات رئيسة تؤكد على حقيقة ثابتة في منزلته العلمية، ومكانته في ميدان المعرفة وهي:
الاولى: أساتذته وشيوخه: في أكثر من إشارة ذكر أن الشريف الرضي بدأ شوطه العلمي وهو ابن عشر سنين، فقد ذكرت الرواية السابقة بأنه التحق وأخوه المرتضى بدرس الفقه عند الشيخ المفيد وهما صغيران [٤١]، واحضر إلى السيرافي النحوي وهو لم يبلغ من العمر عشر سنين، فلقنه النحو[٤٢] وقرأ على أبي إسحاق الطبري الفقيه المالكي القرآن، وهو شاب حدث[٤٣]، وهكذا مشى في طريق المجد العلمي وهو بعد في برعم الحياة.
وحين نستعرض أسماء شيوخ الرضي وأساتذته نجد أن طموحه العلمي كان متعدد الافاق، موسوعيا، لم يقتصر على الفقه والاصول كما هي عادة الاختصاصيين في المدرسة الفكرية لآل البيت عليهم السلام، إنما حاول أن يستفيد من كل أبعاد المعرفة وفنونها، فلقد انتهل من علوم الشريعة الاسلامية من أعلام قراء القرآن، ومفسريه، والفقهاء والاصوليين والحديث، والكلام والفلسفة، سنة وشيعة، وفي مختلف المذاهب[٤٤].
وكذلك ألم بعلوم التاريخ والنسب[٤٥]، ما وسع به معرفته، ثم مال إلى الادب واللغة[٤٦]، فغاص فيهما غوص البحار الحاذق، وتعمق فيهما تعمق أصالة وتحقيق، وعاد من بعد ذلك موفور الاهاب، رائع الافاضة، وأصبح له من كل ما ملك من ثروة فكرية مكانة كبيرة في ميدان المعرفة، قال عنها أبومنصور الثعالبي[٤٧].
« وهو اليوم أبدع أبناء الزمان، وأنجب سادات العراق، يتحلى مع محتده الشريف ومفخره المنيف بأدب ظاهر وفضل باهر، وحظ من جميع المحاسن وافر »[٤٨].
الثانية: تلامذته:
اما القناة الثانية لمعرفة شخصية مترجمنا العلمية، فهي مدرسته ومن تخرج عليه أو روى عنه. وكما يقولون: « المورد العذب كثير الزحام »، فالشريف الرضي الذي عرف بمكانة علمية وأدبية رائعة في عصره ينقاد عشاق المعرفة إلى حلقات درسه وندوات مجلسه للاستفادة والانتهال من معرفته، تؤكد ذلك بعض المصادر بأن الشريف الرضي اتخذ دارا لطلبة العلم الملازمين له سماها « دار العلم »، وعين لهم فيها جميع ما يحتاجون اليها من تأمين اوضاعهم السكنية والمالية[٤٩]، حيث كانت بغداد ـ في القرن الرابع الهجري ـ قد سادتها الحياة العقلية، وأخذت المدارس الفكرية تمارس فاعليتها بكل صراحة ووضوح. « ذلك العهد الذي رأى كيف تتصاول العقول، وكيف تصطرع الاقلام، وكيف يكون الحول والطول مقرونين بسلاح المنطق، وبراعة البيان »[٥٠].
ورغم هذا فالمصادر التي ترجمت الشريف الرضي، لم تشر إلى تلامذته كما أشارت إلى أساتذته وشيوخه، ولكن المرحوم الاميني أورد قائمة ذكر فيها تلامذته والرواة عنه فقال:
ويروي عنه جمع من أعيان الطائفة، وأعلام العامة، منهم:
١ ـ أبوجعفر محمد بن الحسن الطوسي المتوفى عام ٤٦٠ هـ، شيخ الطائفة ومن أعلامها المبرزين[٥١].
٢ ـ الشيخ جعفر بن محمد الدوريستي، من أكابر علماء الامامية[٥٢].
٣ ـ الشيخ أبوعبدالله محمد بن علي الحلواني ـ كما في الاجازات ـ.
٤ ـ ابوالمعالي أحمد بن علي بن قدامه المتوفى عام ٤٨٦ هـ، كما في كثير من اجازات أعلام الدين.
٥ ـ أبوزيد السيد عبدالله بن علي كيابكي بن عبدالله الحسيني الجرجاني، كما في إجازة الشهيد الثاني لوالد شيخنا البهائي العاملي، وإجازة مولانا المجلسي لولده العلامة المجلسي.
٦ ـ أبوبكر أحمد بن الحسين بن أحمد النيشابوري الخزاعي، وهو من أجلاء تلامذة الشريف الرضي وأخيه المرتضى[٥٣].
٧ ـ أبومنصور محمد بن أبي نصر محمد بن أحمد بن عبدالعزيز العكبري، المعدل، كما في قصص الانبياء للراوندي.
٨ ـ القاضي السيد أبوالحسن علي بن بندر بن محمد الهاشمي.
٩ ـ عبدالرحمن بن أحمد بن يحيى النيسابوري، المعروف « بالشيخ المفيد »[٥٤].
١٠ ـ مهيار بن مرزويه الديلمي، أبوالحسين المتوفى عام ٤٢٨ هـ[٥٥].
ولقد ذكرت المصادر أن مهيار بقي مع استاذه الشريف حتى وفاته[٥٦].
هذا الثبت لتلامذة الشريف الرضي لم أقطع بأنه الاحصاء النهائي لهم، خاصة وأن مجلسه كان عامرا بالمستفيدين من فضله وعلمه وأدبه، فقد ساق بعض المؤرخين حوارا بين أبوحامد أحمد بن محمد الاسفراييني [٥٧] الفقيه الشافعي، وبين فخر الملك أبي غالب محمد بن علي بن خلف[٥٨]، وزير بهاء الدولة يستفاد منه أن الشريف الرضي كان قد أعد لطلابه دارا لسكنهم، ويصل القول إلى أن الوزير المذكور دفع للرضي مبلغ ألف دينار فردها، فطلب منه أن يفرقها على طلابه، فلما عرض المبلغ عليهم قام أحد الطلاب « وأخذ دينارا فقرض من جانبه قطعة وأمسكها ورد الدينار، فسأله الشريف عن ذلك، فقال: إني احتجت إلى دهن السراج ليلة ولم يكن الخازن حاضرا فأقرضت من فلان البقال دهنا للسراج، فأخذت هذه القطعة لادفعها اليه عوض دهنه ـ وكان طلبة العلم الملازمون للشريف الرضي في عمارة قد اتخذها لهم سماها دار العلم، وعين لهم جميع ما يحتاجون اليه ـ فلما سمع الرضي بذلك أمر في الحال بأن يتخذ للخزانة مفاتيح بعدد الطلبة، ويدفع إلى كل منهم مفتاح ليأخذ منها ما يحتاج اليه ولاينتظر خازنا يعطيه... »[٥٩].
وهذه الرواية توضح جيدا أن عددا من رواد المعرفة كانوا يتتلمذون على الشريف الرضي، واختصوا به، ولعلنا نوفق في المستقبل إلى مزيد من كشف هذا الجانب الهام من حياة مترجمنا الرضي الثقافية.
الثالثة: مؤلفاته:
ولم تكن هذه القناة بأقل أهمية من القناتين السابقتين التي نلج منها إلى شخصية الرضي الثقافية، إن لم تكن هذه أهم، فإن نتاج الانسان يدلك على مقدار ما يملك من معرفة عامة.
ولقد يسر لنا بعض الاعلام معرفة ما تؤكد لنا من آثار فكرية متنوعة، وصلت بها بعض المصادر إلى قرابة عشرين كتابا[٦٠] وتتصدرها ما وضعه في علوم القرآن، والادب والشعر قائمة مؤلفاته، وإن كان جهده في جمع خطب الامام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع) يعتبر من أهم انجازاته الثقافية، وأسماه « نهج البلاغة ».
وحين نرجع إلى ثبت مؤلفاته في سطور مترجميه يجلب نظرنا اختصاصه بعلوم القرآن، فقد نقل عن أبي الحسن العمري قوله: « شاهدت مجلدا من تفسير القرآن منسوبا اليه، مليحا حسنا، يكون بالقياس في كبر تفسير أبي جعفر الطبري[٦١]، أو أكثر »[٦٢].
ثم كتاب له « حقائق التأويل في متشابه التنزيل »[٦٣]، وكتاب « تلخيص البيان عن مجازات القرآن »[٦٤]. وذكرت له كتب اخرى في علوم القرآن، وان كان بعض الكتاب يشك في وجودها[٦٥].
ومن مؤلفاته ما تؤكد على اهتمامه في الجانب الادبي نثرا وشعرا، كتابه « الجيد من شعر ابي تمام » [٦٦]، والاخر كتابه « الحسن من شعر الحسين »[٦٧].
ثم « المختار من شعر أبي إسحاق الصابي »[٦٨]، بالاضافة إلى ديوان شعره، والذي يقع في عدة مجلدات[٦٩].
أما في النثر فقد ذكر مترجموه أن له كتاباً يضم « رسائله »، ويقع في ثلاثة مجلدات[٧٠]، واعتقد البعض أن هذا الكتاب هو نفس الكتاب الذي ورد باسم « رسائل الصابي والشريف الرضي » وقد نشرت منه فصول في بعض الكتب تعليق د. شوقي ضيف ود. الحلو ـ المصدر المتقدم: ٩٣ ـ ١٠٨.
والمجلات[٧١].
وحين نتصفح قائمة مؤلفات الشريف الرضي نجد أنه جمع إلى جانب هذين الموضوعين مواضيع اخرى لها أهميتها أيضاً منها:
١ ـ خصائص الائمة:
وهذا الكتاب يشتمل على خصائص ائمة أهل البيت عليهم السلام، قال الرضي: « إبتدأت بتأليف كتاب في خصائص الائمة عليهم السلام، يشتمل على محاسن أخبارهم، وجواهر كلامهم، حداني عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب (نهج البلاغة)، وجعلته إمام الكلام، وفرغت من الخصائص التي تخص أمير المؤمنين عليا عليه السلام، وعاقت عن اتمام بقية الكتاب محاجزات الزمان، ومماطلات الايام »[٧٢].
٢ ـ مجازات الاثار النبوية:
وقد طبع هذا الكتاب ثلاث مرات، آخرها في مصر عام ١٩٦٧ م بتحقيق الدكتور طه الزيني[٧٣].
٣ ـ وهناك عدة كتب لم تذكر المصادر التي بين أيدينا شيئا عنها سوى اسمها، وهي: « أخبار قضاة بغداد » و « تعليق خلاف الفقهاء » و « تعليقة على ايضاح ابي علي الفارسي » و « سيرة والده الطاهر »[٧٤].
٤ ـ وقد نسبت بعض المصادر كتباً إلى الرضي، وهي في الحقيقة لم تكن له، وهي:
أ ـ مختصر أمثال الشريف الرضي: ذكره مجد الدين محمد بن أحمد الاربلي المتوفى عام ٦٧٧ هـ منسوباً للشريف[٧٥]، لم يقطع به، كما لم يذكره أحد ممن ترجم الشريف.
ب ـ إنشراح الصدر في مختارات من الشعر[٧٦]: نسبه إلى الرضي جرجي زيدان[٧٧] مدعيا أن نسخة خطية توجد منه في المكتبة الخديوية بمصر[٧٨].
وقد نفى المرحوم الشيخ عبدالحسين الاميني نسبته إلى الشريف الرضي وقال: هو لبعض الادباء، اختاره من ديوان المترجم له، كما في: كشف الظنون: ١ | ٥١٣[٧٩]. وأيده بذلك الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو[٨٠].
جـ ـ أوصاف ألف غلام وغلام[٨١]: وقد نسب هذا الكتاب إلى الشريف الرضي، ولكن الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو[٨٢] حقق في ذلك، وانتهى إلى أنه لابي الحسن بن دفتر خوان المتوفى عام ٦٥٥ هـ[٨٣].
د ـ طيف الخيال: مجموعة شعرية نسبت إلى الرضي، والواقع كما حققت أنها لاخيه علي ابن الحسين المعروف بالشريف المرتضى[٨٤].