قبل أكثر من ثلاثين سنة، كان أحد أساتذتنا في الكلية يشرح نظرية كروية الأرض ودورانها، وتعرّض للأطوار التي مرّت على علماء الطبيعة، والاضطهاد الذي لاقوه من محاكم التفتيش من القتل والتشريد والتحريق الذي أصابهم ثمنًا لعلمهم واكتشافاتهم.
وسادت لدينا - كطلاب - عقيدةُ تخلّف الدين وعدم صلاحيته لمسايرة العصر، وهكذا كانت عقيدة كثير من طلاب المدارس والجامعات نتيجة تلقيهم المعلومات الناقصة.
وكان من نعم الله الخفية عليَّ أنني ذهبت في السنة الثانية بعد تلقّي هذه المعلومات لدراسة العلوم الدينية في النجف الأشرف، وكانت مفاجأة نادرة جدًا بالنسبة لرفاقي سوى أحدهم إذ قال: (ستفوقنا جميعًا ببلاغتك لأنك ستقرأ القرآن ونهج البلاغة).
ارتسمت كلماته في نفسي، وأكببت على نهج البلاغة لكونه أسهل من القرآن، وبدَّلَت معلوماتي هذه القطعةُ من الخطبة ١٨٦:
(وأنشأ الأرض فامسكها من غير اشتغال، وأرساها على غير قرار، وأقامها بغير قوائم، ورفعها بغير دعائم، وحصّنها من الأود والاعوجاج ومنعها من التهافت والانفراج)
فعجبت لهذه الكلمات القِصار كيف تُلخّص قانون الجاذبية وعمل الإلكترون والبروتون وأحدث النظريات العلمية التي ذهب ضحية القول بها عشرات العلماء والمفكرين.
فالدين إذن ليس متخلّفًا كما أُوحي إلينا، ولكن المستغلّين له هم المتخلفون، فلو أن صاحب نهج البلاغة جاهَرَ بنظرياته وشرَحها شرحًا علميًا مفصلاً لأولئك المتخلّفين بعده بعشرة قرون، لأعدموه مرارًا وأحرقوه تكرارًا، وذرّوه رمادًا في كل بقاع الدنيا حتى لا يُعْثَر منه على أثر.
ووجدت من العلوم في نهج البلاغة أمورًا علمية لم أفهمها حتى اليوم، وإني أنتظر الوجه الذي يكشف عنها الأستار.
كان صاحب النهج (عليه السلام) يعلم بأنه لو كاشف بنظرياته مكاشفةً واضحة لاختلّ وجه زمانه ولاستحل رجالٌ مسلمون دَمَه، يَرَون أبسط ما يأتيه بُهتانًا.
وفي ذلك يقول: (بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة)[١].
ويوضّح مُلغزًا: (لكنها لهجة غبتم عنها ولم تكونوا من أهلها، ويلُمّه كيلا بغير ثمن لو كان له وعاء، ولتعلمن نبأه بعد حين)[٢].
وهكذا نراه يتخفى بعلمه، فلا يظهر منه إلا ما تقبله مفاهيم زمانه فيحفظ بذلك العلم وأهله، ولولا ذلك لكان كل ما أصاب العلماء من محاكم التفتيش لا يعدو أن يكون جزءًا يسيرًا مما يستحق بنظرهم.
انظر إليه كيف يلغز بعلمه فلا يخون العلم ولا يعرّض نفسه:
(والله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت، ولكن أخاف أن تكفروا فـيَّ برسول الله صلى الله عليه وآله. ألا وإني مُفضيه إلى الخاصة ممن يُؤمن ذلك منه، والذي بعثه بالحق واصطفاه على الخلق ما أنطِق إلا صادقًا. وقد عَهِدَ إليّ بذلك كله، وبِمَهْلِك من يَهلك ومَنجى من ينجو، ومآل هذا الأمر. وما أبقى شيئًا يمرّ على رأسي إلا أفرغه في أذني وأفضى به إليّ)[٣].
وعندما يتسرّب منه بعض التفاصيل ويستعظمها السامعون، يبادر ليصحّح لهم معلوماتهم حتى لا ينقلب العلم إلى خلاف غَرَضَه، ويضلّ أُناس بدل أن يهتدوا، فلذلك أجاب من قال له: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب، بقوله:
(ليس هو بعلم غيب، وإنما هو تعلّم من ذي علم)[٤].
وانتصب نهج البلاغة أمام ناظري، قرآن البشرية الناطق، ومترجم كتاب الله المجيد، وموضّح مبهماته ومفسّر مُشكلاته، كاشف أسراره وكاتم ما لم تستطع البشرية احتماله من أخباره، وهكذا هو في نظر جميع الناس.
وأصبحت كلما أريد أن أكتب أو أخطب أو أفكّر، أجدني إما مقتبسًا نصًا أو معالجًا فكرة، أو كاتبًا قطعًا من أفكارِ ونصوصِ ووحي نهج البلاغة.
حتى دفاعي عنه في نسبته لا أجد نفسي إلا تعالج وحيًا كامنًا فيها من نهج البلاغة، وعند استقصائي وجدت أكثر الكُتّاب والأدباء والشعراء على هذا المنوال.
يقول ابن أبي الحديد في مقدمة شرحه:
(وما أقول في رجل تُعزى إليه كل فضيلة، وتنتهي إليه كل فرقة، وتتجاذبه كل طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها، وأبو عذرها، وسابق مضمارها، ومجلي حلبتها، كل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى)[٥].
وقال الشيخ ناصيف اليازجي في وصيته لولده إبراهيم:
(إذا شئت أن تفوق أقرانك في العلم والأدب، وصناعة الإنشاء، فعليك بحفظ القرآن ونهج البلاغة)[٦].
وقال ابن واضح في كتابه مشاكلة الناس لزمانهم:
(وحفظ الناس عنه الخطب، فإنه خطب بأربعمائة خطبة حفظت عنه وهي التي تدور بين الناس، وبستعملونها في خطبهم)[٧].
وقال المسعودي:
(والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة ونيف وثمانون خطبة [كان عليه السلام] يوردها على البديهة، وتداول الناس ذلك عنه قولاً وعملاً)[٨].
وقال الجاحظ: (إن خطب نهج البلاغة كانت مدوّنة محفوظة مشهورة)[٩].
ويقول ابن أبي الحديد: قال أبو عثمان - الجاحظ -:
[وكان جعفر[١٠] يعجب أيضًا بقول علي عليه السلام "أين من جدّ واجتهد، وجمع واحتشد، وبنى فشيّد، وفرش فمهد، وزخرف فنجد. قال: ألا ترى أن كل لفظة منها آخذة بعنق قرينتها، جاذبة إياها إلى نفسها، دالّة عليها بذاتها]!
قال أبو عثمان: فكان جعفر يسمّيه "فصيح قريش". واعلم أننا لا يتخالجنا شك في أنه عليه السلام أفصح من كل ناطق بلغة العرب من الأولين والآخرين إلا من كلام الله سبحانه وكلام رسول الله صلى الله عليه وآله.
وذلك لأن فضيلة الخطيب والكاتب في خطابته وكتابته تعتمد على أمرين:
هما: مفردات الألفاظ ومركباتها.
أما المفردات: فأن تكون سهلة سلسلة غير وحشية ولا معقّدة، وألفاظه عليه السلام كلها كذلك.
فأما المركبات فحُسن المعنى وسرعة وصوله إلى الأفهام واشتماله على الصفات التي باعتبارها فضل بعض الكلام على بعض... إلخ.
ولا شبهة أن هذه الصفات كلها موجودة في خطبه وكتبه، مبثوثة متفرقة في فرش كلامه (عليه السلام) وليس يوجد هذان الأمران في كلام أحد غيره.
فإن كان قد تعملهّا وأفكر فيها وأعمل رويته في رصفها ونثرها فلقد أتى بالعجب العجاب، ووجب أن يكون إمام الناس كلهم في ذلك لأنه ابتكره ولم يعرف من قبله.
وإن كان اقتضبها ابتداءً وفاضت على لسانه مرتجلة وجاش بها طبعه بديهة من غير روية ولا اعتمال فأعجب وأعجب، وعلى كلا الأمرين فلقد جاء مجليًا والفصحاء تنقطع أنفاسهم على أثره)[١١].
وقال الشيخ شهاب الدين محمود الآلوسي:
(وسمّيَ (نهج البلاغة) لما انّه قد اشتمل على كلام يخيل أنه فوق كلام المخلوقين دون كلام الخالق عز وجل، قد اعتنق مرتبة الاعجاز وابتدع أبكار الحقيقة والمجاز)[١٢].
وقال الدكتور زكي مبارك:
(إني أعتقد أن النظر في كتاب نهج البلاغة، يورث الرجولة والشّهامة وعظمة النفس إنه فيض من روحِ قهّار واجه المصاعب بعزائم الأسود).
ويقول الإمام الشيخ محمد عبده في مقدمته لشرح نهج البلاغة:
(فقد أوفى لي حكم القدر بالاطلاع على كتاب (نهج البلاغة) مصادفة بلا تعمّل)... إلى أن يقول: (فكان يُخيّل إليّ في كل مقام أن حُروبًا شنّت وغارات شنّت وأن للبلاغة دولة، وللفصاحة صولة)... إلى أن يقول: (وأن مدبر تلك الدولة، وباسل تلك الصولة، هو حامل لوائها الغالب، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. بل كنت كلما انتقلت من موضع إلى موضع أحسّ بتغيّر المشاهد، وتحوّل المعاهد، فتارةً كنت أجدني في عالم يغمُره من المعاني أرواح عالية. في حُلل من العبارات الزاهية)... إلى أن يقول: (وطورًا كانت تتكشّف لي الجمل عن وجوه باسرة، وأنياب كاشره. وأرواح في أشباح النمور، ومخالب النسور. قد تحفزت للوثاب …
وأحيانا كنت أشهد أن عقلاً نورانيًا، لا يشبه خلقًا جسدانيًا، فُصل عن الموكب الإلهي، واتّصل بالروح الانساني. فخلعه عن غاشيات الطبيعة وسما به إلى الملكوت الاعلى... وآناتٍ كأني أسمع خطيب الحكمة ينادى بأعلياء الكلمة، وأولياء أمر الأمة، يعرفهم مواقع الصواب... ذلك الكتاب الجليل هو جملة ما اختاره السيد الشريف الرضي رحمه الله من كلام سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. جمع متفرقه وسماه بهذا الاسم (نهج البلاغة)، ولا أعلم اسمًا أليق بالدلالة على معناه منه. وليس في وسعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد مما دلّ عليه اسمه، ولا أن آتي بشيء في بيان مزيته فوق ما أتى به صاحب الاختيار)[١٣].
وأعتقد أن في هذا القليل القليل مما قاله أكابر الفصحاء والبلغاء والمفكرين كفاية لإعطاء صورة عن مقام نهج البلاغة في العالم بأسره، وسيأتي الكلام في انتشاره عند التعرض لجمعه وعدد خطبه.