تحدّث الدكتور صبحي الصالح في كتابه (ضبط نصّ نهج البلاغة) ص ١٢ ط بيروت ١٩٦٧ م فقال:
(وإنّ نهج البلاغة ليضمّ ـ إلى جانب الموضوعات السابقة ـ طائفة من خطب الوصف تُبوّئ علياً ذروة لا تُسامى بين عباقرة الوصّافين في القديم والحديث، ذلك أنّ علياً ـ كما تنطق نصوص النهج ـ قد استخدم الوصف في مواطن كثيرة، ولم تكد خطبة من خطبه تخلو من وصف دقيق وتحليل نفّاذ إلى بواطن الامور، صوّر الحياة فأبدع، وشخّص الموت فأجزع، ورسم لمشاهد الآخرة لوحات كاملات فأراع وأرهب، ووازن بين طباع الرجال وأخلاق النساء، وقدّم للمنافقين نماذج شاخصة، وللأبرار أنماطاً حيّة، ولم يفلت من ريشته المصوّرة شيطان رجيم يوسوس في صدور الناس، ولا مَلَك رحيم يوحي الخير ويُلهم الرشاد).
وتحدّث في ص ١٥ بقوله:
(وأغراض علي في كتبه ورسائله وعهوده ووصاياه تشبه أغراضه في خطبه شبهاً شديداً، كثرت فيها رسائل التعليم والارشاد، وكتب النقد والتعريض، والعتاب والتقريع، وانضمّت إليها بعض الوثائق السياسيّة والإداريّة والقضائيّة والحربيّة، ورسائله جميعاً مطبوعة بالطابع الخطابي، حتّى ليكاد الباحث يعدّها خطباً تُلقى لا كتباً تدبج، إذ تؤلّف فيها الألفاظ المنتقاة، وتنسّق فيها الجمل المحكمات، فينبعث من أجزائها كلّها نغم حلو الإيقاع يسمو بنثرها الرشيق فوق مجالات الشعر الرفيع.
وإذا تجاوزنا خطب علي ورسائله إلى المختار من حِكَمه، ألفيناه يرسل من المعاني المعجزة والأجوبة المسكتة ما ينبئ عن غزارة علمه، وصحّة تجربته، وعمق إدراكه لحقائق الأشياء، وحكم علي هذه منها ما جمعه الشريف الرضي تحت عنوان مستقل، نجد فيه مثل قوله: «النَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا» «قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُهُ» «احْذَرُوا صَوْلَةَ الْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَاللَّئِيمِ إذا شَبع) .
ووصايا علي الاجتماعيّة تتجسّد هاهنا بوضوح من خلال كلماته النوابغ وحِكَمهِ الحسان، فهو يجلو أبصار صحبه وبصائرهم، ويودّ لو يتبعهم كأس الحكمة بعد الصبوح، يحذّرهم من العلم الذي لا ينفع «رُبَّ عَالِمٍ قَدْ قَتَلَهُ جَهْلُهُ وَعِلْمُهُ مَعَهُ لا يَنْفَعُهُ» و(الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بِقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ).
والفكرة في خطب علي ورسائله وحكمه عميقة من غير تعقيد، بسيطة من غير إسفاف، مستوفاة من غير إطناب، يلوّنها ترادف الجمل، ويزيّنها تقابل الألفاظ، وينسّقها ضرب من التقسيم المنطقي يجعلها أنفذ في الحسن وألصق بالنفس.
وكان ينبغي لعلي أن تقذف بديهته بتلكم الحكم الخالدة والآراء الثاقبة، بعد أن نهل المعرفة من بيت النبوّة، وتوافرت له ثقافة واسعة وتجربة كاملة وعبقريّة نفّاذة إلى بواطن الأمور.
وتتّسم أفكار علي غالباً بالواقعيّة، إذ كان يستمدّ عناصرها من بيئته الاجتماعية والجغرافية، فأدبه ـ من هذه الناحية ـ مرآة للعصر الذي عاش فيه، صوّر منه ما قد كان أو ما هو كائن، ولقد يطيب له أحياناً أن يصوّر ما ينبغي أن يكون، فتغدو أفكاره مثاليّة عصيّة على التحقيق.
وما من ريب في أنّ الكتاب والسنّة قد رفداه بينبوع ثرّ لا يفيض، فتأثّر بأسلوب القرآن التصويريّ لدى صياغة خطبه ورسائله، واقتطف من القرآن والحديث كثيراً من الألفاظ والتراكيب والمعاني.
وأمّا عاطفة علي فثائرة جيّاشة تستمدّ دوافعها من نفسه الغنيّة بالانفعالات، وعقيدته الثابتة على الحقّ، فما تكلّم إلاّ وبه حاجة إلى الكلام، وما خطب إلاّ ولديه باعث على الخطابة، وإنّما تتجلّى رهافة حسّه في استعماله الألفاظ الحادّة، وإكثاره من العبارات الإنشائيّة كالقسم والتمنّي والترجّي والأمر والنهي والعجب والاستفهام والإنكار والتوبيخ والتقريع، مصحوبة كلّها بترادف بين الفقرات، وتجانس بين الأسجاع، وحرص واضح على النغم والإيقاع.
وخيال علي ـ فيما يخلعه على موصوفاته من صور زاهيات ـ ينتزع أكثر ما ينتزع من صميم البيئة العربية إقليميّة وفكريّة واجتماعيّة، وتمتاز صور علي بالتشخيص والحركة، ولا سيّما حين يتّسع خياله ويمتدّ مجسّماً الأفكار، ملوّناً التعابير، باثّاً الحياة في المفردات والتراكيب) .