وقال (عليه السلام): مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا.                
وقال (عليه السلام): مَا أَخَذَ اللهُ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا.                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                
وقال (عليه السلام): زُهْدُكَ فِي رَاغِب فِيكَ نُقْصَانُ حَظّ، وَرَغْبَتُكَ فِي زَاهِد فِيكَ ذُلُّ نَفْس.                
وقال (عليه السلام): مَا لاِبْنِ آدَمَ وَالْفَخْرِ: أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ، وَآخِرُهُ جِيفَةٌ، و َلاَ يَرْزُقُ نَفْسَهُ، وَلاَ يَدفَعُ حَتْفَهُ.                
وقال (عليه السلام): ما أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْيَوْمِ.                
وقال (عليه السلام): يَهْلِكُ فِيَّ رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ، وَبَاهِتٌ مُفْتَر.                

Search form

نـهج البـــــــــلاغـة
إرسال الی صدیق
مقدمة التحقیق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

و الصلاة و السلام على سيدنا محمّد خاتم النبيين، و على آله الطيبين الطاهرين، و صحبه المصطفين الأخيار.

لمحطة خاطفة عن سيرة الإمام (عليه السلام)‏

ما من مسلم يجهل موضع عليّ كرّم اللّه وجهه من ابن عمه الرسول الكريم بالقرابة القريبة، و المنزلة الخصيصة: وضعه في حجره و هو ولد يضمه إلى صدره، و يكنفه في فراشه، و يمسّه جسده، و يشمّه عرفه. و لقد كان رسول اللّه (ص) يجاور في كل سنة بحراء فيراه عليّ و لا يراه سواه. و لم يجمع بيت واحد في الإسلام غير الرسول عليه الصلاة و السلام و خديجة أم المؤمنين، و كان عليّ ثالثهما، يرى نور الوحي و الرسالة، و يشمّ ريح النبوّة.

و عليّ كرّم اللّه وجهه واسى نبيّه الكريم بنفسه في المواطن التي تنكص فيها الأبطال، و تزلّ فيها الأقدام، نجدة أكرمه اللّه بها! و حسبك أنّه ليلة الهجرة بات في فراش الرسول غير جازع أن يموت فداه، و شهد معه جميع مغازيه إلّا ما كان من غزوة تبوك التي خلّفه فيها الرسول في أهل بيته قائلا له: «أ ما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبوّة بعدي».

سجّل له التاريخ أجلّ المواقف و أسماها، فهو أحد المبارزين يوم بدر، و قاتل عمرو بن ودّ في غزوة الخندق، و أحد النفر الذين ثبتوا مع الرسول الكريم في غزوتي أحد و حنين، و صاحب راية المسلمين يوم خيبر، و فيها أبلى أحسن البلاء.

أراد الرسول (ص) أن يكرّمه، فزوّجه ابنته فاطمة الزهراء في السنة الثانية من الهجرة، فأولدها الحسن و الحسين و زينب و أم كلثوم، و عهد إليه أن يتلو على الناس في موسم الحجّ أول سورة التوبة إيذانا ببراءة اللّه و رسوله من المشركين.

 

و لما غربت شمس النبوّة، و لحق رسول اللّه (ص) بالرفيق الأعلى، طمع في خلافته كثيرون من المهاجرين و الأنصار، و بدا للناس يومذاك أن بني هاشم كانوا يريدون الخلافة فيهم، و يرون عليا أحق الصحابة بها، لمكانته العظمى من الرسول الكريم، و سعة علمه، و مواقفه الخالدة في نصرة الإسلام، فلا غرو إذا أقبل العباس عم النبيّ على ابن أخيه عليّ يقول له: «ابسط يدك و لنبايعك»، لكن عليا كرّم اللّه وجهه تباطأ في قبول هذه البيعة، و ظل متشاغلا بدفن الرسول العظيم. و انطفأت الفتنة، و بويع أبو بكر رضي اللّه عنه بما يشبه الإجماع، و إذا بعليّ كرّم اللّه وجهه يبايعه أيضا بعد فترة يسيرة كان عاتبا فيها عليه، إذ كان يرى لنفسه من الحق بالخلافة أكثر ممّا كان لأبي بكر.

و لم يكن شي‏ء أبغض إلى قلب عليّ من الخلاف يدبّ بين المسلمين، فها هو ذا- رغم ما كان يرى من حقه بالخلافة- يبايع أيضا عمر رضي اللّه عنه، و يزوّجه ابنته أم كلثوم؛ و يبادله عمر من معاني التكريم و الإجلال أسماها، فيستخلفه على المدينة إذا غاب عنها، و يستشيره في الخطوب، و يستفتيه في قضايا التشريع قائلا فيه: «لو لا عليّ لهلك عمر»!

و لقد رفض عمر أن يعهد بالخلافة إلى ابنه عبد اللّه من بعده، و ظلّ في مشكلة الخلافة غير مستقر على رأي، حتى إذا طعنه أبو لؤلؤة المجوسي في أواخر سنة ٢٣ ه آثر أن يحصر الأمر في ستة من كبار أصحاب النبيّ ليتشاوروا و يختاروا واحدا منهم فيبايعه المسلمون. و أولئك الستة هم: عليّ بن أبي طالب سيد بني هاشم، و عثمان بن عفان شيخ بني أميّة، و طلحة بن عبيد اللّه كبير بني تميم، و الزبير بن العوّام زعيم بني أسد، و سعد بن أبي وقّاص و عبد الرحمن ابن عوف رأسا بني زهرة.

و ربما مال أكثرهم- منذ بدء الشورى- إلى تولية عثمان، لأن عبد الرحمن بن عوف كان صهره، و سعدا من أقربائه، فضلا عن سابقته في الإسلام، و إصهاره للنبي (ص) مرتين في ابنتيه رقية و أم كلثوم. و بدا على رجال الشورى أنّ كلا منهم ودّ لو يتخفف من تلك المسئولية الضخمة، إذ خلع كلّ نفسه و عهد إلى الآخر باختيار الخليفة، حتى إذا انتهى الأمر إلى عبد الرحمن أعلن في المحرّم سنة ٢٤ ه تولية عثمان. و امتعض بنو هاشم لتحامل القوم عليهم و رغبتهم في إقصائهم، و لكن عليا الذي يكره الخلاف بين المسلمين آثر هذه المرة أيضا أن يطفئ الفتنة، و يحقن الدماء، فبايع عثمان كما بايع من قبل أبا بكر و عمر، و إن في العين قذى، و في الحلق شجا.

و قام عليّ كرّم اللّه وجهه من بين الصحابة يلوم عثمان على تولية أقاربه، و لما ثار عليه المعارضون من عرب الأمصار أرسل عليّ لحراسته و الدفاع عنه ولديه الحسن و الحسين، و لكن المتمردين حاصروا دار عثمان، و ألزموه أن يخلع نفسه من الخلافة، فحمّ القضاء، و لقي مصرعه و هو جالس في المحراب يقرأ القرآن.

و انثال على عليّ عرب الأمصار و أهل بدر و المهاجرون و الأنصار، و هرعوا إليه يقولون:

أمير المؤمنين، فلم يجد بدا من قبول الخلافة في ٢٥ من ذي الحجة سنة ٣٥ ه. و لقد كانت مهمته خطيرة، اضطلع بها قرابة خمس سنين، و لم يصف له الحال فيها يوما واحدا.

و حرّض الثوار عليّا على عزل العمّال الذين عينهم عثمان، فأذعنوا جميعا إلّا معاوية في الشام، فإنه علّق قميص عثمان على المنبر، و غدا يحض الناس على الثأر للخليفة الشهيد.

و فوجئ عليّ بالسيّدة عائشة أم المؤمنين و طلحة بن عبيد اللّه و الزبير بن العوام- و هما من رجال الشورى الستة- يخرجون إلى البصرة مطالبين بدم عثمان، و ازدادت الفتنة اشتعالا حين أخذت أم المؤمنين تحمّس الجند و هي في هودجها على الجمل، ثمّ عقر جملها و قتل دونه سبعون رجلا، و عرف هذا اليوم بموقعة الجمل، و أعاد الإمام السيّدة عائشة إلى مكّة محاطة بالتكريم، و تابت هي إلى اللّه أسفا على ما أريق من دماء المسلمين.

ثمّ كان يوم صفّين، و تحكيم الحكمين، ثمّ بداية الوهن، و تصدّع الصفوف بين أتباع عليّ، و عرف معاوية كيف ينتهز الفرصة بإثارة الاضطرابات في أرجاء البلاد، فازدادت نقمة الخوارج، و قرروا قتل معاوية و عليّ، فلم ينجحوا في قتل أولهما، أما عليّ فقتله ابن ملجم لعنه اللّه في المسجد في شهر رمضان سنة ٤٠ ه و هو يردّد: «الحكم للّه لا لك يا عليّ».

و بمصرعه انتهت خلافة الراشدين، و خلا الجو لمعاوية ليعلن خلافته بالشام، و يدخل على نظام الحكم مبدأ الوراثة الذي ينافي روح الإسلام.

موضوعات نهج البلاغة

لا بدّ لدارس «نهج البلاغة» أن يلمّ بهذه الوقائع التاريخية- و لو من خلال لمحة خاطفة عجلى- ليعرف السرّ في غروب شمس الخلافة الراشدة بين المسلمين الأولين الذين استروحوا شذا النبوّة، و نعموا بظلالها الوارفة، و استناروا بما يلوح من أضوائها الباقية و قد بدأت تنحسر بعيد الغروب!

و لا بدّ لدارس «النهج» أن يلمّ بهذه الحقائق ليرى رأي العين كيف تحوّلت هذه الخلافة الراشدة إلى ملك عضوض، و كيف أشعلت من أجلها الحروب الطاحنة، و أثخنت الأمة في سبيلها بالجراح الدامية، و أصيب مقتلها بمصرع إمام الهدى عليّ كرّم اللّه وجهه، ثمّ ارتكبت باسمها فيما بعد أسوأ الجرائم في عهود بعض السفهاء و الخلعاء و الجائرين الذين أمسوا نقمة على أتباع هذا الدين.

ثمّ لا بدّ لدارس «النهج» أن يكوّن لنفسه صورة حقيقية عن تلك الحقبة من تاريخ المسلمين، ليستنبط البواعث النفسية التي حملت عليا على الإكثار في خطبه من النقد و التعريض، و العتاب و التقريع، و التذمّر و الشكوى، فقد عاندته الأيّام، و عجّت خلافته عجيجا بالأحداث المريرة، و خابت آماله في تحقيق الإصلاح. فهل من عجب إذا استغرقت معاني النقد اللاذع و التأنيب الجارح معظم خطبه و مناظراته، و حتّى رسائله إلى منافسيه و المتمردين عليه؟!

و إن خير مثال يصوّر لنا نفس عليّ الشاكية، خطبته «الشّقشقيّة» التي فاضت على لسانه هادرة، فكانت- كما قال- «شقشقة هدرت ثمّ قرّت»، و امتلأت بألفاظ التأوه و التوجّع و الأنين.

و لكم تذمّر الإمام من تفرّق أصحابه عنه على حقهم و اجتماع أصحاب معاوية معه على باطلهم! و كم سمّاهم «الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم» واصفا كلامهم بأنّه «يوهي الصمّ الصلاب» و فعلهم بأنّه «يطمع فيهم الأعداء».

و كان طبيعيا أن تكثر خطب الإمام في الحثّ على القتال، فإنّ ما تخلّل حياته السياسية من الأحداث المريرة ألهب مشاعره و أثار عواطفه، و حمله على الإهابة بقومه إلى القتال الدائب، و الجهاد المتواصل. و لعلّ أفضل نمط لخطبه في الجهاد تلك التي أنّب فيها أصحابه على قعودهم عن نصرة الحق، يوم أغار جنود معاوية على الأنبار، فقتلوا و نهبوا، ثمّ آبوا سالمين ظافرين.

لقد كان- كما قال- لا يهدّد بالحرب، و لا يرهب بالضرب، و كان على يقين من ربّه و غير شبهة في دينه، فليفرطنّ لحزب الشيطان حوضا هو ماتحه لا يصدرون عنه و لا يعودون إليه. و ليوصينّ ابنه محمّد بن الحنفية يوم الجمل بما يجعله بطلا مرهوبا في ساحات القتال: «تزول الجبال و لا تزول، عضّ على ناجذك، أعر اللّه جمجمتك، تد في الأرض قدمك. ارم ببصرك أقصى القوم، و غضّ بصرك، و اعلم أن النصر من عند اللّه سبحانه».

و بأمر الحرب تتصل السياسة، فإن بينهما لعلاقة وثقى، و من الظلم لشخصيّة عليّ أن نتصوّره غير متتبّع تيارات السياسة في عصره، فقد كان ثاقب الفكر، راجح العقل، بصيرا بمرامي الأمور، و قد أثرت عنه مواقف و أقوال و تصرفات تقوم دليلا على سياسته الحكيمة، و قيادته الرشيدة، لكنّ مثله العليا تحكّمت في حياته، فحالت دون تقبّله للواقع و رضاه بأنصاف الحلول، بينما تجسّدت تلك الواقعية في خلفه معاوية، و كانت قبل متجسّدة على سموّ و نبل في الخليفة العظيم عمر بن الخطّاب.

و من يرجع إلى «نهج البلاغة» يجد فيه عشرات الخطب- مثلما تصلح «نماذج» للشكوى و التقريع و النقد- تعطي صورة واضحة عن نظراته الثاقبة و آرائه البعيدة في مبادئ السياسة، و أساليب حكم الرعية، و إدارة شئونها، و الحرص على دفع الفتن عنها، حتى تعيش في بحبوحة العز و الرخاء.

و لكي تتدبّر هذا الأمر، ما عليك إلّا أن تقرأ خطبة لدى بيعته و إعلانه منهاجه في الحكم، أو تستعيد مواقفه من السيّدة عائشة أم المؤمنين، و وساطاته بين عثمان و الثائرين عليه، و صبره الجميل في معالجة أمر معاوية و أهل الشام، و طول أناته في تفهم آراء شيعته، و مناظرته الخوارج قبل أن يخوض معهم ساحة القتال.

استمع إليه (عليه السلام) يضبط نفسه عن الانفعال، و يدحض الباطل بحجاج منطقي، و أسلوب يفحم المكابر، حين يقول للخوارج: «فلما أبيتم إلّا الكتاب اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن، و أن يميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكما يحكم بما في القرآن، و إن أبيا فنحن من حكمهما براء»، أو يقول لرجل وفد عليه من قبل أهل البصرة: «أ رأيت لو أن الذين وراءك بعثوك رائدا تبتغي لهم مساقط الغيث، فرجعت إليهم و أخبرتهم عن الكلإ و الماء. فخالفوا إلى المعاطش و المجادب ما كنت صانعا؟

قال: كنت تاركهم و مخالفهم إلى الكلإ و الماء. فقال له الإمام: «فامدد إذا يدك»، و إذا، الرجل يقول: «فو اللّه ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجّة عليّ، فبايعته».

و إن «نهج البلاغة» ليضمّ- إلى جانب الموضوعات السابقة- طائفة من خطب الوصف تبوّئ عليّا ذروة لا تسامى بين عباقرة الوصّافين في القديم و الحديث. ذلك بأنّ عليّا- كما تنطق نصوص «النهج»- قد استخدم الوصف في مواطن كثيرة، و لم تكد خطبة من خطبه تخلو من وصف دقيق، و تحليل نفّاذ إلى بواطن الأمور: صوّر الحياة فأبدع، و شخّص الموت فأجزع، و رسم لمشاهد الآخرة لوحات كاملات فأراع و أرهب، و وازن بين طبائع الرجال و أخلاق النساء، و قدّم للمنافقين «نماذج» شاخصة، و للأبرار أنماطا حيّة، و لم يفلت من ريشته المصوّرة شيطان رجيم يوسوس في صدور الناس، و لا ملك رحيم يوحي الخير و يلهم الرشاد.

على أن المهم في أدب الإمام (عليه السلام) تصويره الحسيّات، و تدقيقه في تناول الجزئيات، و قد اشتمل كلامه على أوصاف عجيبة لبعض المخلوقات حملت روعتها و دقة تصويرها بعض النقّاد على الارتياب في عزوها إلى أمير المؤمنين، كما في تصويره البارع للنملة و الجرادة و لا سيما للطاوس. و لا بدّ من تحقيق هذا الأمر في غير هذه المقدّمة العجليّ، و هو ما نسأل اللّه التوفيق لبيانه في كتاب مستقل اكتملت بين أيدينا معالمه، و سنصدره قريبا بعون اللّه.

أما النملة فقد وصف منها صغرها و حقارة أمرها، مشيدا بدقتها و حسن تصرفها، مسترسلا مع وصفه بأنفاسه الطوال، و أنغامه العذاب، و أخيلته الخصاب: إن النملة في صغر جسّتها و لطافة هيئتها، لا تكاد تنال بلحظ البصر، و لا بمستدرك الفكر، و إنها تدبّ على الأرض دبيبا، و تنصبّ على الرزق انصبابا، و تنقل الحبّ إلى جحرها، جامعة في حرّها لبردها، و في وردها لصدرها؛ و لا يفوت عليّا أن يصف لنا من النملة شراسيفها و غضاريفها و أطراف أضلاعها المشرفة على بطنها، و ما في رأسها من عينها و أذنها، ثم يسوقنا إلى التفكير بعظمة الخالق الذي خلقها، و لم يعنه على خلقها قادر، و فطرها و لم يشركه في فطرتها فاطر!

و أمّا الجرادة فيصوّر الإمام دقيق أجزائها، و رهيف حواسّها، و جامح نزواتها، و يتمهّل و هو يصف حمرة عينيها، و ضياء حدقتيها، و خفاء سمعها، و استواء فمها، و قوّة حسّها.

و يتوقف قليلا عند نابيها اللذين بهما تقرض، و منجليها اللذين بهما تقبض؛ و يعجب‏ لسلطتها الرهيبة على الزرّاع في زرعهم، فلو أجلبوا بجمعهم لما استطاعوا لها ذبّا و لا دفعا مع أن حجمها لا يزيد على إصبع مستدقّة!

و يختم الإمام كلامه هذا بالتذكير بعظمة الخالق الذي يسجد له من في السماوات و الأرض طوعا و كرها، و يعنو له خدّا و وجها، و يلقي إليه بالطاعة سلما و ضعفا.

و كل هذا ليس بشي‏ء إذا ما قيس بوصف الإمام للطاوس، فما ترك شيئا من شياته إلا وصفه وصفا دقيقا جميلا: فهو يمشي مختالا كأنّه يزهو بما منحته الطبيعة من جمال، و قوائمه حمش كقوائم الديكة الخلاسيّة، و ألوانه الزاهية المتنوعة تشبه ألوان الربيع أو موشيّ الحلل «فإن شبهته بما أنبتت الأرض قلت: جنى جني من زهرة كل ربيع، و إن ضاهيته بالملابس فهو كموشيّ الحلل أو مونق عصب اليمن، و إن شاكلته بالحليّ فهو كفصوص ذات ألوان قد نطّقت باللّجين المكلّل»!

و إن الإمام ليعجب لشي‏ء في هذا الحيوان لا بدّ أن يثير العجب حقا: فكلما سقطت منه ريشة نبتت مكانها ريشة جديدة تحمل الألوان نفسها و التقاسيم ذاتها.

و يتطرّق الإمام إلى علاقة الطاوس مع أنثاه، و يوضح كيف يدرج إليها مختالا، و ينفي زعم من قال: إن الطاوس يلقح أنثاه بدمعة تسفحها مدامعه، و يثبت أن الملاقحة عند هذا الطائر لا تختلف عن الملاقحة لدى الفحول المغتلمة للضراب.

و ينتهي وصف الطاوس أيضا بالتذكير بعظمة الخالق و حكمته في خلقه، كأن الوصف- مهما يبد مستقلا قائما بنفسه- إنّما يخضع للغرض الديني، و للعبرة التي لا بدّ أن ينبّه عليّ إليها الأسماع و القلوب.

و من المتوقع- بعد هذا كله، بل قبل هذا كله- أن يدور معظم خطب الإمام حول التعليم و الإرشاد، إذ كان ربيب الرسول، فنهل العلم من بيت النبوّة العظيم.

و كان لزاما عليه فوق هذا- بحكم مكانة الخلافة، و ما يفترض في الخليفة من توجيه و وعظ و إرشاد- أن يخطب الناس كلّ جمعة، و يعرّفهم رأي الإسلام الصحيح في الفتن و الملمّات و الأحداث. و من هنا كثرت خطبه في التحذير من الفتن، و الدعوة إلى الزهد في‏ الحياة الدنيا، و التذكير بالموت هادم اللذات و مفرّق الجماعات، و وصف أهوال القيامة و البعث و النشور، و الترغيب في الجنة و الترهيب من النار.

إن الإمام ليحذّر من الفتن التي تدوس بأخفافها، و تطأ بأظلافها، و تقوم على سنابكها، و إنّه ليدعو الناس إلى شقّ أمواج هذه الفتن بسفن النجاة، و التعريج عن طريق المنافرة، و وضع تيجان المفاخرة.

أما الدنيا فغرّارة ضرارة، حائلة زائلة، نافدة بائدة، أكالة غوّالة، لا ينال امرؤ من غضارتها رغبا إلّا أرهقته من نوائبها تعبا، و لا يمسي منها في جناح أمن إلّا أصبح على قوادم خوف. إنها غرور حائل، وضوء آفل، و ظل زائل، و سناء مائل. فما يصنع بالدنيا من خلق للآخرة؟ و ما يصنع بالمال من عمّا قليل يسلبه، و يبقى عليه تبعته و حسابه؟

فلينظر الناس إلى الدنيا نظر الزاهدين فيها، الصادفين عنها، و لا يغرّنهم كثرة ما يعجبهم فيها لقلة ما يصحبهم منها. و ليذكروا دائما أن الدهر موتر قوسه، لا تخطئ سهامه، و لا تؤسى جراحه، يرمي الحيّ بالموت، و الصحيح بالسقم، و الناجي بالعطب.

و ليمنع الناس من اللعب ذكر الموت، فهذا عائد يعود، و آخر بنفسه يجود، و لتصيرنّ الأجساد شحبة بعد بضّتها، و العظام نخرة بعد قوّتها، و الأرواح مرتهنة بثقل أعبائها، موقنة بغيب أنبائها.

و لقد كان للناس في رسول اللّه أسوة حسنة: عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، و علم أن اللّه سبحانه أبغض شيئا فأبغضه، و حقّر شيئا فحقّره. و للناس في عليّ أسوة حسنة أيضا:

رقّع مدرعته حتّى استحيا من راقعها. و لما سأله سائل: ألا تنبذها عنك؟ أجابه: «اعزب عني، فعند الصباح يحمد القوم السّرى»!

و إنّ عليّا كرّم اللّه وجهه لا يرى كالنار نام هاربها، و لا كالجنة نام طالبها، «حتى إذا انصرف المشيّع، و رجع المتفجّع، أقعد في حفرته نجيّا لبهتة السؤال و عثرة الامتحان. و أعظم ما هنالك نزول الحميم، و تصلية الجحيم، و فورات السعير، و سورات الزفير»!

و من أطرف ما جادت به قريحة الإمام خطبه في بدء الخلق، و أوضحها في هذا الباب‏ خطبته الطويلة التي استهلّ بها الشريف الرضي «نهج البلاغة»، و فيها يصف خلق السماوات و الأرض و خلق آدم؛ و خطبته «ذات الأشباح» التي عرض فيها لتصريف الكون و تدبير الخلق، و تناول فيها بالوصف أبراج السماء، و فجاج الأرض، و ما حولها من البحار و ما تحتها من الماء؛ ثم خطبته «القاصعة» التي تضمنت تكوين الخليقة، و سجود الملائكة لآدم، و استكبار إبليس عن السجود له، و تحذير الناس «من مصيدة إبليس العظمى، و مكيدته الكبرى».

و أغراض عليّ في كتبه و رسائله و عهوده و وصاياه تشبه أغراضه في خطبه شبها شديدا:

كثرت فيها رسائل التعليم و الإرشاد، و كتب النقد و التعريض، و العتاب و التقريع، و انضمت إليها بعض الوثائق السياسية و الإدارية و القضائية و الحربية. و رسائله جميعا مطبوعة بالطابع الخطابي، حتى ليكاد الباحث يعدّها خطبا تلقى لا كتبا تدبّج، إذ تؤلّف فيها الألفاظ المنتقاة، و تنسّق فيها الجمل المحكمات، فينبعث من أجزائها كلها نغم حلو الإيقاع يسمو بنثرها الرشيق فوق مجالات الشعر الرفيع.

و إذا تجاوزنا خطب عليّ و رسائله إلى المختار من حكمه ألفيناه يرسل من المعاني المعجزة، و الأجوبة المسكتة، ما ينبئ عن غزارة علمه، و صحة تجربته، و عمق إدراكه لحقائق الأشياء.

و حكم عليّ هذه منها ما جمعه الشريف الرضيّ تحت عنوان مستقل، نجد فيه مثل قوله «الناس أعداء ما جهلوا»، «لم يذهب من مالك ما وعظك»، «قيمة كل امرئ ما يحسنه»، «احذروا صولة الكريم إذا جاع، و اللئيم إذا شبع»، و منها ما انبثّ و تناثر ضمن فقرات خطبه.

و وصايا عليّ الاجتماعية تتجسد هاهنا بوضوح من خلال كلماته النوابغ و حكمه الحسان.

فهو يجلو أبصار صحبه و بصائرهم، و يودّ لو يغبقهم كأس الحكمة بعد الصّبوح.

يحذرهم من العلم الذي لا ينفع «فربّ عالم قد قتله جهله، و علمه معه لا ينفعه»، «و الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل»، «و العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه و إلا ارتحل».

و يخوّفهم عاقبة الظلم و الجور «فليس في الجور عوض من العدل».

و يكرّه إليهم الشرّ «فالغالب بالشر مغلوب».

و يبغّض إليهم النفاق، فإنما يخاف عليهم كل منافق الجنان، عالم اللسان، يقول ما يعرفون، و يفعل ما ينكرون.

و يستعظم أمر الخيانة، فإن أعظم الخيانة خيانة الأمة، و أفظع الغش غش الأئمة.

و ينهى عن الإسراف و التبذير، فإنما المال مال اللّه! ألا و إن إعطاء المال في غير حقه تبذير و إسراف، و هو يرفع صاحبه في الدنيا و يضعه في الآخرة، و يكرمه في الناس و يهينه عند اللّه.

و يستعيذ باللّه من الفقر، فإنه منقصة للدين، مدهشة للعقل، داعية للمقت!

و الفكرة في خطب عليّ و رسائله و حكمه عميقة من غير تعقيد، بسيطة من غير إسفاف، مستوفاة من غير إطناب، يلوّنها ترادف الجمل، و يزيّنها تقابل الألفاظ، و ينسّقها ضرب من التقسيم المنطقي يجعلها أنفذ في الحس، و ألصق بالنفس.

و كان ينبغي لعليّ أن تقذف بديهته بتلك الحكم الخالدة، و الآراء الثاقبة، بعد أن نهل المعرفة من بيت النبوّة، و توافرت له ثقافة واسعة، و تجربة كاملة، و عبقرية نفّاذة إلى بواطن الأمور.

و تتّسم أفكار عليّ غالبا بالواقعية، إذ كان يستمد عناصرها من بيئته الاجتماعية و الجغرافية، فأدبه- من هذه الناحية- مرآة للعصر الذي عاش فيه، صوّر منه ما قد كان أو ما هو كائن.

و لقد يطيب له أحيانا أن يصوّر ما ينبغي أن يكون، فتغدو أفكاره مثالية عصيّة على التحقيق.

و ما من ريب في أن الكتاب و السنة قد رفداه بينبوع ثرّ لا يغيض، فتأثّر بأسلوب القرآن التصويري لدى صياغة خطبه و رسائله، و اقتطف من القرآن و الحديث كثيرا من الألفاظ و التراكيب و المعاني، و قد حرصنا على إبرازها في فهارس «النهج» من طبعتنا هذه.

و أمّا عاطفة عليّ فثائرة جياشة تستمد دوافعها من نفسه الغنيّة بالانفعالات، و عقيدته الثابتة على الحق، فما تكلم إلّا و به حاجة إلى الكلام، و ما خطب إلّا و لديه باعث على الخطابة، و إنّما تتجلى رهافة حسه في استعماله الألفاظ الحادّة، و إكثاره من العبارات الإنشائية كالقسم و التمني و الترجي و الأمر و النهي و التعجب و الاستفهام و الإنكار و التوبيخ و التقريع، مصحوبة كلها بترادف بين الفقرات، و تجانس بين الأسجاع، و حرص واضح على النغم و الإيقاع.

و خيال عليّ- فيما يخلعه على موصوفاته من صور زاهيات- ينتزع أكثر ما ينتزع من صميم البيئة العربية إقليمية و فكرية و اجتماعية. و تمتاز صور عليّ بالتشخيص و الحركة، و لا سيّما حين يتسع خياله و يمتدّ مجسّما الأفكار، ملوّنا التعابير، باثّا الحياة في المفردات و التراكيب.

مزايا هذه الطبعة

منذ تصدّى الشريف الرضيّ [١] لجمع ما تفرّق من كلام أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام)، و وسمه «بنهج البلاغة»، أقبل العلماء و الأدباء على ذلك الكتاب النفيس بين ناسخ له يحفظ نصه في لوح صدره، و شارح له ينسخ الناس عنه تفسيراته و تعليقاته؛ و لا يحصي إلّا اللّه عدد حفّاظ «النهج» و نسّاخه؛ أما شراحه في القديم و الحديث فقد أربوا على الخمسين[٢].

و كان طبيعيا- بعد أن استفاضت شهرة الكتاب، و طبّقت الآفاق، و تواتر متنه على ألسنة الأدباء و الفضلاء- أن يقلّ الاختلاف في نصّه، و أن ينتقل من جيل إلى جيل برواية تكاد تكون واحدة. و إذا أضفنا إلى شهرته الأدبية ما أحيط به من معاني التعظيم- بل التقديس- و لا سيما لدى إخواننا علماء الشيعة الكرام، لم نعجب لسلامته من الزيادة و النقصان، و ندرة ما وقع فيه من التحريف و التصحيف، سواء أ كان ذلك في نصه المتداول على حدة، أم في متنه المصحوب ببعض الشروح مسهبة و موجزة.

و لعلّ شهرة «النهج»- على الصورة التي وصفنا- هي التي حملت المتأخرين من الشراح، كالإمام محمّد عبده و محمّد نائل المرصفي، على الاكتفاء بنسخة واحدة خطيّة عوّلوا عليها ابتدأ ينظم الشعر و له من العمر عشر سنين أو تزيد قليلا، و حكم بعض النقاد بأنّه أشعر الطالبيين، و كان فوق هذا كاتبا بليغا مترسلا. و قد توفي الرضي سنة أربع و أربع مائة، رحمه اللّه و أجزل مثوبته.

فيما حاولوه من التحقيق أولا و الشرح ثانيا. و إنا لندرك أنّه لم يكن يسع أحدا من هؤلاء أن يصنع «للنهج» خيرا ممّا صنع، لأن جمهرة المحققين في أيامهم كانوا إذا وجدوا مخطوطة نشروها على حالها، و أضافوا إليها ما وقع إليهم من الحواشي و الشروح، لا يجشّمون أنفسهم عناء البحث عن النسخ المختلفة، و مقابلة بعضها ببعض، ضبطا للنصّ، و تصحيحا للأصل، و اختيارا للأدق الأكمل، و انسجاما مع أمانة العلم و منهجيّة التحقيق.

و إنّ علينا- مع ذلك- أن نكبر ما قدّمه الإمام محمّد عبده من خدمة جلىّ للفكر العربيّ الإسلامي يوم نشر «نهج البلاغة» و شرحه بإيجاز، مهما تكن الهنات التي أخذها عليه غيرنا أو نأخذها نحن اليوم عليه، فله يرتدّ الفضل في انتشار هذا الكتاب العظيم الذي بات لا يجهله أحد من الأدباء و المتأدبين. و حسب الشيخ محمّد عبده فخرا أن عشرات الطبعات التي نشرت شرقا و غربا ظلّت إلى عهد قريب تستند إلى النصّ الذي أثبته، و تكتفي بالشرح الذي اقتبسه و انتقاه[٣].

على أن «نهج البلاغة»- لنفاسته- جدير بأكثر ممّا أتيح له حتّى اليوم من التحقيق و التدقيق.

و لقد طلع علينا منذ سنوات قلائل الأستاذ البحاثة المفضال محمّد أبو الفضل إبراهيم بطبعة علمية ممتازة لشرح ابن أبي الحديد في عشرين جزءا، رجع فيها إلى نسخ مخطوطة مصوّرة عن أصولها المحفوظة في مكتبة المتحف البريطاني، و مكتبة الفاتيكان، و المكتبة الظاهرية، و بعض المكتبات الأخرى العامّة و الخاصّة[٤]، و لم تكن تلك المخطوطات المختلفة كلها كاملة، و لكنها بمجموعها كانت كافية لتقديم أفضل صورة ممكنة «للنهج» متنا و شرحا.

و إفاضتنا في الثناء على هذه الطبعة الأخيرة لا ينبغي أن تحول دون تقريرنا للحقيقة التالية:

و هي أن الغرض الذي رمى إليه الأستاذ محمّد أبو الفضل إبراهيم هو تحقيق شرح «النهج» و ليس تحقيق «النهج» ذاته. أما الغاية التي نتصدى لها، و التي يؤنس جميع الأدباء حاجة إليها، فهي ضبط مجموعة النصوص التي اختارها الشريف الرضي من كلام الإمام ضبطا كاملا مستقلا على حدة، ليتلوها القارئ- باحثا فيها أم متبرّكا بها- و هو آمن مطمئن إلى صحتها في ذاتها، و ليجد فيما ألحق بها من الفهارس العلمية ما يلبي طلبه، و يشفي غلّته، و يغنيه عن الشروح الطوال.

و الأمانة العلمية تفرض علينا أن نعترف بأن ضبطنا لنص «النهج» لا يرتدّ إلى امتلاكنا النسخ المخطوطة أو المصوّرة، و مقابلتنا بعضها ببعض، و معارضتها بأصل أو أصول اعتمدناها، بقدر ما يرتدّ إلى إثبات ما نطقت الشروح بحسنه و صوابه. و يظلّ من حقّ الأستاذ محمّد إبراهيم- و إن حقّق الشرح لا النهج- أن يفخر على الجميع بأنّه استجمع من المخطوطات في هذا الصدد ما لم يستجمعه باحث سواه.

ألا و إنّي بهذا لا أغمط نفسي بنفسي، فمن يقرأ طبعتي هذه بإمعان و تدبّر يدرك لا محالة أني رجعت إلى أصول مخطوطة كثيرة تمكنت- بالاستناد إليها- أن أثبت أفضل القراءات و أفصح الوجوه، و إن كنت قد جرّدت نص «النهج» من كل حاشية أو تعقيب أو تفسير أو رمز أو اصطلاح، اكتفاء بالفهارس العشرين التي أبرزت للناس قيمة الكتاب.

و إنّما حملني على إيثار هذا الأسلوب في تحقيق «نهج البلاغة» ما لمسته لدى كثير من القرّاء من ضيق صدورهم برموز التحقيق أو هوامش التفسير تستغرق في أسفل كل صفحة أكثر مما يستغرقه أعلاها من الأصول أو المتون. و من هنا رأيت أن أقسم عملي قسمين، ألبي بهما رغبتين: أما القسم الأوّل فتحقيق نص «النهج» أدقّ تحقيق و أوفاه، ألبي به رغبة الذي يريد أن يقرأ كلام الإمام غير شاغل نفسه بتعليقات الشراح. و على هذا، جرّدت النصّ من كل زيادة طرأت عليه، و أرحت القارئ حتّى من رموز النسخ التي استصوبت ما ذهبت إليه. و أمّا القسم الثاني ففهرسة مفصّلة كلّ التفصيل، ألبي بها رغبات الباحثين فيما اشتمل عليه «نهج البلاغة» من كنوز فكرية و أدبية ثمينة.

و لسوف يلاحظ الأديب الباحث أنّ من النادر إلحاق فهارس على هذه الصورة المفصّلة بأي كتاب مهما يعظم قدره و تجلّ مكانته، حتى لكأنّي أردت أن أوفّر على كل باحث كلّ عناء: أتعبت نفسي ليستريح، راجيا من اللّه وحده حسن المثوبة و كرم الجزاء. و سوف يجد القارئ طلبته من هذه الفهارس بأقصى سرعة ممكنة، إذ آثرنا طبعها على ورق يختلف لونه عن لون الأصل تسهيلا و تيسيرا.

و لقد رأيت من المناسب أن أبدأ تلك الفهارس العشرين بفهرس الألفاظ الغريبة المشروحة متّبعا تعاقب أرقامها في هذه المطبوعة، و لقد نافت هذه الألفاظ على خمسة آلاف، و ها هو ذا آخر لفظ فيها يحمل الرقم ٥٠٣١، و ها هي ذي بمجموعتها تشبه معجما صغيرا يفي بشرح طائفة غير يسيرة من الكلمات الحيّة الجارية على ألسنة الفصحاء.

و اقتصرت في هذا الفهرس الأول على الحدّ الضروريّ من الإيضاح و التبيان، و بتأخيري إياه حتّى انتهى تحقيق النصّ أعنت كلا من الطالب و الدارس على أن يحاول من تلقاء نفسه أن يفهم معنى كل عبارة من السياق الذي وردت فيه. و إنّما يرجع إلى هذا الفهرس حين يضل الطريق أو يخطئ الاستنتاج، و إذا بشرحنا الموجز ينقذه من حيرته، و يصحح له ما عسى أن يقع فيه من الأغاليط.

و من يقارن بين شرحنا لمعاني الألفاظ الغريبة و شرح الشيخ محمّد عبده يخيل إليه أن قدرا كبيرا منها متماثل أو متشابه إلى حدّ بعيد. و السرّ في هذا أن كلامنا عوّل على شرح ابن أبي الحديد في مواضع كثيرة، و كان لزاما علينا أن نعوّل عليه لأنّه أفضل الشروح. فحيثما تجد تشابها في عبارتينا فإنما مردّه إلى اقتباسنا كلينا ما لم يكن بدّ من استحسانه من أقوال ابن أبي الحديد، و حيثما تقع على تباين في الشرح، أو إسهاب هنا و إيجاز هناك، فمردّه ما استقلّ كل منا بفهمه و تحديده، أو إطلاقه و تقييده، مما عاد إليه أحدنا بنفسه ينقّب عنه في بطون المعجمات، و يلتمس الشواهد عليه من لسان العرب.

و لا يسعني هنا أن أكتم حقيقة بتّ منها على يقين، سبقني إلى التنبيه عليها منذ أكثر من خمسين عاما محيي الدين الخيّاط يوم طبع في بيروت «نهج البلاغة» و معه شرح الأستاذ الإمام، و زيادات اقتبسها الخياط من شرح ابن أبي الحديد. لقد لاحظ هذا الناشر الفاضل أن بعض تفسير الشيخ عبده «يكاد يكون منقولا بحرفيّته عن شرح ابن أبي الحديد مع أن الشارح قال في مقدّمته- و هو صادق فيما يقول- إنّه لم يتيسر له رؤية شرح من شروح نهج البلاغة، على أن من يتصفح بقية الشرح و يتصفح شرح ابن أبي الحديد يتراءى له أن أحدهما منقول عن الآخر».

و ما عزاه الخياط إلى محمّد عبده من حرفيّة في نقل عبارات ابن أبي الحديد أمر صحيح لا ترقى إليه الريبة، و ذلك في الوقت نفسه لا ينفي أن الأستاذ الإمام لم ير أي شرح من شروح «النهج» يوم طبع الكتاب أول مرة في المطبعة الأدبية في بيروت. و لو أن محيي الدين الخياط رأى تلك الطبعة البيروتية الأولى لما لاحظ من التشابه بين الشرحين إلّا ما وقع مصادفة و اتفاقا، فمن المؤكد إذا أن الخياط إنّما اطلع على الطبعة المصرية التي اشتملت على زيادات مقتطفة من شرح ابن أبي الحديد، و كان قد تيسّر حينذاك للإمام محمّد عبده أن يرى هذا الشرح بعد عودته إلى مصر. و ليت الإمام في مقدّمته للطبعة المصرية أشار إلى هذا، و لو فعل لأزال من صدور الباحثين كلّ ريبة، و لكنه رحمه اللّه بصمته التام في هذا الصدد تركنا نتساءل و نحاول التوضيح و التعليل.

على أني واثق بأن الشيخ عبده لم يقرأ شرح ابن أبي الحديد من أوله إلى آخره قراءة دقيقة واعية، و إنّما رجع منه إلى ما لم يكن مطمئنا إلى تفسيره في الطبعة البيروتية اطمئنانا كاملا، و بهذا نعلل مغايرة شرحه لشرح ابن أبي الحديد في طائفة من الكلمات. و لقد يستطرد ابن أبي الحديد لدى تفسير كلمة أو عبارة، فيستغرق باستطراده صفحات يؤيد بها وجهة نظره بالشواهد و النصوص، و إذا هي عند محمّد عبده تناقض ما يقول من غير إيماء إلى مواطن الاختلاف، مع أن الأستاذ الإمام يعنّي نفسه في مواضع أخر بذكر عدد من الوجوه، و يحاول- و لو بإيجاز شديد- أن يقارن بين صور الاختلاف في قراءة اللفظ أو تبيان المدلول.

و ذلك يعني في نظرنا أن محمّد عبده اطلع على الشرح اطلاعا غير كاف، و ربما قرأ بعضه بإمعان حيثما آنس الحاجة، فأما سائر الشرح فقد تصفّحه تصفحا، بل لا أستبعد أن يكون مرّ ببعضه مرورا عابرا غير مجشّم نفسه حتّى عناء تصفّحه.

و من الغريب أن علامة كالشيخ محمّد محيي الدين عبد الحميد لما طبع «نهج البلاغة» في مطبعة الاستقامة، و معه شرح الأستاذ الإمام، لم يجرأ على تصحيح شي‏ء من تصحيفاته و بعض ما وقع فيه من الأوهام، رغم ما ذكره في مقدّمته من زيادته أشياء ذات بال، فبدا لنا هذا اللغوي المعروف معوّلا كلّ التعويل على شرح الإمام، غير مكلّف نفسه أن يستوثق من أفصح القراءات، و أفضل التأويلات. و على ذلك مضى الأستاذ عبد العزيز سيد الأهل في طبعة دار الأندلس ببيروت، حتى لكأنّه صوّر شرح الأستاذ الإمام تصويرا.

و اقتصارنا في فهرس الألفاظ المشروحة على الحدّ الضروري من الإيضاح لم يأذن لنا بالتعقيب‏ على تلك الهنات و الأغاليط فيما أسّس على شرح الإمام من طبعات، و إنّما اكتفينا بذكر ما بدا لنا أصحّ الوجوه بعد مراجعتنا أوثق المصادر، و لا مناص لنا هنا من سرد بعض هاتيك الأوهام على سبيل المثال.

يقول عليّ (عليه السلام): «و أنا من رسول اللّه كالضوء من الضوء» مشبّها نفسه- كما يوضح ابن أبي الحديد- بالضوء الثاني، و مشبّها رسول اللّه (ص) بالضوء الأول و منبع الأضواء عزّ و جل بالشمس التي توجب الضوء الأول، فتصبح العبارة بعد التصحيف «كالصنو من الصنو» و يمسي معناها: «الصنوان النخلتان يجمعهما أصل واحد، فإنما علي من جرثومة الرسول»[٥]. و لو أن محمّد عبده قرأ شرح ابن أبي الحديد لهذه العبارة لأخذ به إن اقتنع، أو لأشار إليه إن لم يقتنع، لكنه لم يشر إليه قط، و لعلّ بصره لم يقع عليه.

و يقول عليّ كرّم اللّه وجهه في صفة قوم: «فتألّوا على اللّه» و المراد أنهم حلفوا، من الألية و هي اليمين، و إذا العبارة عند الأستاذ الإمام «فتأوّلوا على اللّه» غير واضحة المعنى و لا بيّنة المدلول[٦]. و المرأة عقرب حلوة اللّسبة (أي اللسعة) باتت حلوة اللّبسة (أي حالة من حالات اللبس)[٧]، و الرجل لم تظهر منه حوبة (و هي الإثم) صار «لم تظهر منه خزية» تصحيفا[٨]، و الرجل لا يؤمن على جباية (أي تحصيل أموال الخراج و غيرها) بات بعد التصحيف «لا يؤمن على خيانة»[٩] مع أنّه في الحاشية يقرّر أن رواية «الجباية» أظهر معنى!

و بهذه الملاحظة الأخيرة نشير إلى إثبات الشيخ عبده في المتن ما يستحسن في الحاشية سواه نصا و شرحا: و من ذلك أنّه يثبت في المتن: «و بنا انفجرتم عن السرار» و يشرحها في الحاشية ثمّ يقول: «و يروى أفجرتم، بدل انفجرتم» و هو أفصح و أوضح، لأن «انفعل» لا يأتي لغير المطاوعة إلّا نادرا، أما أفعل فيأتي لصيرورة الشي‏ء إلى حال لم يكن عليها ... الخ» و ما أدري لما ذا أهمل الأفصح و الأوضح، و أثبت في المتن ما كان في نظره غير فصيح![١٠]

و من ذلك أيضا أنّه ذكر في المتن «يذري الروايات إذراء الريح الهشيم»، و يشرحها في الحاشية ثمّ يقول: «و يروى: يذرو الروايات كما تذرو الريح الهشيم، و هي أفصح،» قال اللّه تعالى: «فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ»[١١] و نحن نتساءل مرة أخرى: ما الحكمة في إغفاله ما يعرفه فصيحا بل أفصح الفصيح؟

و أدهى من ذلك و أمرّ أن الأستاذ عبد العزيز سيد الأهل- في طبعته المبنيّة على شرح الأستاذ الإمام- يبلغ به التساهل مبلغا لا يحسد عليه، فهو يختار في المتن عبارة و يشرح غيرها في الحاشية، فما يدري أحد بأي مقياس تمّ له الاختيار: ها هو ذا يثبت في المتن «و ضرب على قلبه بالإسهاب» و يعلّق في الحاشية بقوله[١٢]: «الأسداد جمع سد، يريد الحجب التي تحول دون بصيرته و الرشاد، قال اللّه تعالى «وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» ثم يقول: و يروى «الإسهاب» و هو ذهاب العقل أو كثرة الكلام!!!

و يطول بنا الحديث لو ذهبنا نتقصى ما وهم فيه سيد الأهل في طبعته، سواء أ كان سببه محاكاته غالبا ما وجده في شرح الإمام محمّد عبده، أم تصحيفا لم ينتبه إليه، أم غلطا وقع فيه.

إنّه ليثبت و يشرح «النباتات البدوية»[١٣]، و إنّما هي (النابتات العذية) أي التي تنبت عذيا، و العذي- بسكون الذال- الزرع لا يسقيه إلّا ماء المطر. و يجعل «منافثة» الحكماء- بالثاء- «مناقشة» بينهم، بالشين[١٤]، و يصيّر «الخنوع» بالنون «الخشوع»[١٥] بالشين، و ينسى التعبير القرآني «يلبسون الحق بالباطل» أي يخلطون أحدهما بالآخر، ليضع مكانه «يلتمسون»[١٦]، و يبني للمجهول «نسلت القرون»[١٧] و الفصيح فيه «نسلت» بالبناء للمعلوم، و يشدّد اللام في «يئلّ» من قول الإمام «و لا يئل من عاداه»[١٨] و صوابها من غير تشديد من «وأل يئل»: أي نجا ينجو.

و أغرب من هذا كله تشديده الياء مرتين، بصورة تلفت النظر، إذ أثبت قول الإمام هكذا: «أ من سنيّ الدنيا أم من سنيّ الآخرة»[١٩] و حاشا للإمام أن يجمع السنّة في حال الجرّ بياء مشدّدة، و ليس هذا من التطبيع[٢٠] في شي‏ء، لأنه- كما قلت- تكرر مرتين!

و ما أردت بتعليقاتي هذه نقدا و لا تجريحا، و لكني وددت- من خلالها- أن يميط القراء اللثام عن سرّ اهتمامي الشديد بالفهرس الأول الذي شرحت فيه ألفاظ «النهج» الغريبة، مستوثقا من أدق المتون و الشروح.

أما الفهرس الثاني فعقدته للموضوعات العامّة مرتبة على حروف المعجم، و هو من أهم الفهارس التي وضعتها لخدمة أغراض «النهج»، و قد كان وحده كافيا لإبراز الفكر العميقة التي بثّها الإمام كرّم اللّه وجهه في خطبه و رسائله و وصاياه، لكني أردت مزيد التفصيل و التجزئة و التحليل حين أتبعته بالفهارس التي سأتحدث عنها بعد قليل.

و ممّا يجدر ذكره أنّ مثل هذا الفهرس العام لم يطبع- فيما نعلم- مع «النهج» و لا مع شرحه، لا في مصر و لا الشام و لا إيران و لا سواها من البلدان، مع أن أحدا من الباحثين لا يجهل أهميته للأدباء و المتأدبين. و نودّ منذ الآن أن نفرّق بينه و بين الكتاب الذي وضعه السيّد جواد المصطفويّ الخراسانيّ و طبعه في إيران، و سمّاه «الكاشف عن ألفاظ نهج البلاغة في شروحه».

ذلك بأن هذا «الكاشف»- كما تنبئ تسميته، و كما أراده مؤلّفه- إنّما يرشد القارئ إلى أي لفظ أراد من «النهج» في أيّ متن أو شرح، و ذاك عمل لفظيّ شكليّ كما ترى، و إنّما كان الذي توخّيناه في فهرسنا الثاني هذا عملا علميا يتعلق بجوهر «النهج» في طائفة لا يستهان بها من الألفاظ الدوالّ على معان مهمّة مشفوعة بأبرز استعمالاتها في تعبير الإمام (عليه السلام)، كأقواله في المرأة، أو نظراته في الحرب و السلم، أو آرائه في العقيدة، أو وصاياه في الزهد، أو تعاليمه في الأخلاق، فما يطوف ببالك شي‏ء من هذا كله إلّا وجدته مرتبا على حروف المعجم من خلال الكلمات التي تبحث عنها و تريد أن تستجمع فيها أغراض عليّ الأدبية.

و لئن أشبه «الكاشف» الذي وضعه الخراسانيّ «المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي» الذي أشرف عليه المستشرق فنسنك- إذ كل منهما عمل لفظيّ بحت- فإن فهرسنا هذا للموضوعات يشبه- و القياس مع الفارق طبعا- «تفصيل آيات القرآن» الذي وضعه المستشرق جول لا بوم و نقله من الفرنسية محمّد فؤاد عبد الباقي. و عملنا هذا- و إن تعلّق بنهج البلاغة لا بكتاب اللّه- سوف يبدو للباحثين أكثر موضوعية، و أيسر استعمالا، و سوف يتيح للباحثين أن يجدوا في «النهج» ما يصبون إليه براحة و اطمئنان، و لا سيما إذا ضمّت إليه الفهارس الباقية التي تفصّل ما أطلق، و تخصّص ما عمّم، و تجعل الانتفاع بالكتاب أمرا شائعا على جميع المستويات.

و في الفهرسين التاليين بعد ذلك سوف يزداد القارئ أو الناقد أو الباحث شعورا بالراحة و الاطمئنان، فأحدهما- و هو الفهرس الثالث- يتعلق بخطب الإمام، و الآخر- الرابع- يتعلق برسائله و كتبه، و بدلا من أن نكتفي بذكر الصفحات التي استهلت بها كل خطبة أو رسالة، رتّبناها جميعا بحسب الموضوعات و الأغراض. فمن خطب في التعليم و الإرشاد، إلى أخرى في النقد و التعريض، أو في العتاب و التقريع، أو في الشكوى، أو في الحثّ على القتال، أو الوصف، أو بدء الخلق، أو التزهيد في الدنيا. و قد اصطلحنا حينئذ على أن نذكر رقم الخطبة و رقم الصفحة التي استهلّت و ختمت بها مع بيان أول عبارة و آخر عبارة فيها. و كذلك فعلنا في الرسائل، فمن رسائل في التعليم و الإرشاد، إلى أخرى في النقد، أو في الحرب، أو السياسة، أو القضاء، و سواها من الموضوعات. و إذا ذكرنا أن معظم «النهج» خطب و رسائل. و معها الأجوبة المسكتة بعد ذاك، و هي قليلة، أدركنا أهمية الفهرس المعقود للخطب و أنواعها، ثمّ للرسائل و أنواعها، و أحلنا دارس الخطابة أو نثر الرسائل في صدر الإسلام على نهج واضح مستقيم.

و في خطب عليّ خاصّة فريدة لا تكاد تفارقها، و هي كثرة اقتباسه من القرآن المجيد و الحديث الشريف. لذلك خصصنا الفهرس الخامس للآيات القرآنية، و السادس للأحاديث النبويّة، لإبراز الثقافة الإسلامية التي كان الإمام (عليه السلام) يمثّلها خير التمثيل، فقد رأى نور الوحي، و ربّي في بيت النبوّة، و وعت ذاكرته القوية كثيرا من ألفاظ القرآن و السنّة، حتى انطبع أسلوبه بطابع عجيب يعلو على أساليب البلغاء من البشر في القديم و الحديث.

و من المعروف أن الاقتباس من كتاب اللّه و حديث نبيّه جائز، حتى و لو اقتطع المقتبس موضع الشاهد المناسب من أواخر الآية أو أواسطها، أو اختار عبارات من الحديث أو ألفاظا.

و قد كان من دلائل جواز الاقتباس عند بعض البلاغيين أن الإمام (عليه السلام) أكثر منه في كلامه، و هو حجّة، فلا مسوّغ للتساؤل عن اقتطافه كرّم اللّه وجهه ألفاظا و تركه ألفاظا أخر، ما دام غير قاصد إلى النقل الحرفيّ، و إنّما كان قاصدا إلى طبع أسلوبه بطابع إسلامي صريح. و لذلك جعلنا هذه المقتطفات القرآنية و النبويّة بين مزدوجين هكذا «...»، و رددنا الآيات إلى وجهها في التلاوة في فهرسها الخاص. و لاحظنا- بصورة مؤكدة- أنّ بعض أحاديث الرسول عزيت إلى عليّ، و لا بدّ من التحقيق قبل الحكم في هذه القضية بسلب أو إيجاب.

و لما صنعنا الفهرس السابع للعقائد الدينية، و الفهرس الثامن للأحكام الشرعية، لم نعجب لقلة الأحكام إذا ما قيست بالعقائد، لأن كتابا كالنهج يجمعه الشريف الرضيّ من أقوال الإمام (عليه السلام) يفترض فيه أن يكثر مضمونه في مسائل العقيدة، و ألا يتطرق من مسائل الفقه و التشريع إلّا لما جاء عرضا أو كانت صلته بالعقيدة أوثق منها بالأحكام.

و لعلنا- في ضوء هذه الفكرة- نقف على السرّ فيما انبثّ أثناء خطب الإمام في «الإلهيات» من عبارات شبيهة بالفلسفية و الكلامية، كالأين و الكيف، و الحدّ المحدود، و صفات اللّه النفسية بوجه خاصّ، و هي التي عقدنا لها الفهرس التاسع نجمع فيه بين يدي الدارس ما يحلّل به العوامل و الأسباب التي أتاحت لمثل عليّ في صدر الإسلام أن يطلق بعض هذه الألفاظ الاصطلاحية، سابقا بها نظرات المتكلّمين.

و لسنا نريد بهذا أن نومئ إلى «وضع» الخطب المشتملة على هذه الألفاظ برمّتها، و لا إلى الحكم العاجل «بصحتها» من غير تحقيق، فمثل هذه الدراسة تحوج إلى كتاب خاصّ يتناول جميع ما أورده النقّاد من شبهات تشكّك في نسبة هذه الخطب- كلا أو بعضا- إلى الإمام (عليه السلام). و هو عمل كنت تجشمت القيام بكثير منه منذ اخترت لطلابي في كلية الآداب تدريس «نهج البلاغة» على أنّه نموذج للنثر الفني في صدر الإسلام. و لا أستطيع الآن أن أصرح- لأنّي منذ سنوات لا أزال منكبّا على هذا الموضوع- إلا بأنّ معظم خطب‏

النهج و رسائله مائلة في عدد من أمّهات الكتب التاريخية، نذكر الآن في طليعتها تاريخ ابن جرير الطبريّ. و لنا رجعة إلى درس هذه القضية في كتاب خاصّ نستخرج به إن شاء اللّه مصادر الشريف الرضيّ فيما جمعه من كلام الإمام.

و قد رأينا من المفيد أن نعقد الفهرس العاشر للتعاليم و الوصايا الاجتماعية، و الحادي عشر للأدعية و الابتهالات، و الثاني عشر للأبيات الشعرية، نسجّلها كما وردت متعاقبة في مطبوعتنا هذه، إبرازا لأهميتها، و تيسيرا على الباحث الذي يعنيه أن يتقصاها.

أما الفهارس المتتابعة بعد ذلك ابتداء من الفهرس الثالث عشر حتّى التاسع عشر فقد آثرنا- تعميما للفائدة- ترتيبها على حروف المعجم، و وجدنا أن ذكرها لا يخلو من جدوى و لو كان معظمها نزرا يسيرا. و قد خصصنا الفهرس الثالث عشر للأعلام من الرجال و النساء و القبائل و الطوائف و الشعوب، و الرابع عشر للحيوان، و الخامس عشر للنبات، و السادس عشر للكواكب و الأفلاك، و الثامن عشر للأماكن و البلدان، و التاسع عشر للوقائع التاريخية.

و هكذا بدا للقارئ أو الباحث أنه- من غير أن يتكلف التعمق في تقصي الشروح- يوشك أن يجد مبتغاه كلّه في هذه الفهارس التي لم تغادر شيئا إلّا بيّنته أحسن التبيان.

و كان طبيعيا أن تكون خاتمة هذه الفهارس جميعا الفهرس العشرين الذي فصّلت فيه مواد الكتاب تفصيلا على ترتيب صفحاتها في هذه الطبعة، ليكون كل شي‏ء بين يدي القراء واضحا كل الوضوح.

كلمة شكر

و الآن- و قد أذن اللّه لهذه الطبعة الجديدة أن تبصر النور بهذه الحلّة القشيبة، و هذا الإخراج الفني الجميل- لا يسعني إلّا أن أشكر القائمين على مطبعة دار الكتاب اللبناني من موظفين و مستخدمين و عمال، كفاء ما بذلوه من عناية بطبع «النهج» حتى كاد يخلو من التطبيع، و للّه المنة و الفضل.

و لقد أعانني في التصحيح صديق أعتز به و أفاخر بأخوّته، هو الأستاذ يوسف أبو حلقة الذي قرأ الكتاب كله كلمة كلمة. فله أجزل شكري و أوفر امتناني.

نداء لأمة الإسلام‏

إن حبي للإمام عليّ (عليه السلام)، و لآل البيت الطيبين الطاهرين، و لكل مجاهد مخلص يرفع راية الإسلام، ليدعوني اليوم- و قد منّ اللّه عليّ بخدمة «النهج» ابتغاء وجهه الكريم- لمناشدة المسلمين جميعا في مشارق الأرض و مغاربها إلى الانضواء تحت لواء التوحيد، فلقد تعاقب على مصرع إمام الهدى و مصرع ابنه شهيد كربلاء أكثر من ثلاثة عشر قرنا انفصمت خلالها بين المسلمين عرى الوحدة، و كثرت الفرق، و تشعّت الآراء، و إنّ على المؤرّخ المنصف اليوم- بأي مذهب أخذ، و إلى أي فرقة انتمى- أن يكشف الحقائق لا انتصارا لفريق على فريق، بل دعوة خيّرة إلى تناسي تلك المآسي الداميات.

ألا و إن الوحدة بين جميع المسلمين- في ظل دين التوحيد- كانت في أشدّ الفتن اضطراما و في أشدّ الظروف سوادا و قتاما، أصلا جامعا كبيرا بين أفراد الأمة كلها، فها هو ذا القرآن يسرد طائفة من قصص الرسل في سورة الأنبياء ثمّ يخاطب أمة الإسلام قائلا: «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ»، ثمّ يوضح في سورة المؤمنين أنّه قد خاطب جميع الأنبياء بهذه الوحدة الجامعة للأمة: «يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً، إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً، وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ».

إن الانقسام المذهبي بين المسلمين قد ارتدى- في نظرنا- لبوس نزاع سياسي قديم يعدّه اليوم عقلاء السنّة و الشيعة عندنا «متحفيّا» إلى أبعد الحدود.

و لقد انقشعت السحب الخفاف العوابر- في السنين الأخيرة- بين أبناء هذه العقيدة السمحة الواحدة، بما اتخذه المسئولون الكبار في مختلف البلدان الإسلامية من خطوات إيجابية نحو التقارب و التوحيد. فها هو ذا الأزهر الشريف يدرّس في معاهده و كلياته العظمى الفقه الجعفري، و عقائد الشيعة الإماميّة، جنبا إلى جنب مع مذاهب الإسلام المختلفة في العقيدة و الشريعة، مؤكدا للمسلمين جميعا أن الإسلام فوق الفرق و الشيع و المذاهب كلها، و أن معالم العقيدة الدينية مبرّأة من التعقيد، و أن طبيعتها تقتضي إيجاد الحلول العملية الإيجابية التي تحرّك الوجدان، و تستجيش الضمير، و تدفع بالطاقات البشرية إلى البناء و التعمير، على هدي‏ من الفكر النيّر و المنطق السليم: فلا مكان في هذه التشريعات و العقائد للثرثرة الفارغة و الجدل العقيم!

إن على علماء المسلمين اليوم- من أي مذهب كانوا- أن يستذكروا الكلمات الحلوة العذاب، التي توحّد الصف، و تلمّ الشعث، و ترأب الصدع، حتى نعتصم جميعا بحبل اللّه غير متفرّقين.

و أود أن يعلم إخواننا من شيعة عليّ (عليه السلام) أن مكانة الإمام من ابن عمّه الرسول الكريم لا يجهلها مسلم، و أن الأحاديث النبويّة التي تصف منزلته الخصيصة لا يحصيها المحصون، و لكن الناس أعداء ما جهلوا كما قال عليّ كرّم اللّه وجهه.

إنّ ممّا أفضى به الإمام إلى عشيرته قوله: «أما وصيتي: فاللّه لا تشركوا به شيئا، و محمّدا فلا تضيّعوا سنّته. أقيموا هذين العمودين، و أوقدوا هذين المصباحين».

و لما حاول القوم إطفاء نور اللّه من مصباحه، و سدّ فوّاره من ينبوعه، و جدحوا بين عليّ و بينهم شربا وبيئا، و أقبل الظالم منهم مزبدا كالتيّار لا يبالي ما غرّق، أو كوقع النار في الهشيم لا يحفل ما حرّق، و لما رأى أول القوم قائدا لآخرهم، و آخرهم مقتديا بأولهم، يتنافسون في دنيا دنيّة، و يتكالبون على جيفة نتنة، نبّه الأتباع و المتبوعين و هتف بهم:

 «عما قليل ليستبرّ أنّ التابع من المتبوع، و القائد من المقود، فيتزايلون بالبغضاء، و يتلاعنون عند اللقاء» بينما هتف بأصحابه يدعوهم إلى وحدة الكلمة: «الزموا ما عقد عليه حبل الجماعة، و بنيت عليه أركان الطاعة، و اقدموا على اللّه مظلومين، و لا تقدموا عليه ظالمين».

بل أنشأ الإمام (عليه السلام) يصنّف الناس في موقفهم منه أصنافا، تهدئة للمشاعر الثائرة، و كبحا لجماح النفوس: إنّه هو الذي قال: «إن الناس من هذا الأمر إذا حرّك على أمور:

فرقة ترى ما ترون، و فرقة ترى ما لا ترون، و فرقة لا ترى هذا و لا ذاك، فاصبروا حتّى يهدأ الناس، و تقع القلوب مواقعها».

و حتّى يوم صفّين لم يكن يشغل باله و يقلق خاطره إلّا تفرّق الأمة و ضياع الدين، ففي خطابه لأصحابه يومذاك قال: «ألا و إنّه لا ينفعكم بعد تضييع دينكم شي‏ء حافظتم عليه من أمر دنياكم».

و كان يخشى على أصحابه- إن أفرطوا في حبّه- أن يضيعوا دينهم، و على أعدائه- إن أفرطوا في بغضه- أن يخسروا كل شي‏ء: «هلك فيّ رجلان: محبّ غال، و مبغض قال».

و في خطابه للخوارج- لما أقام عليهم الحجة- أوضح هذا الكلام الموجز بعبارة مفصّلة بليغة حين قال: «سيهلك فيّ صنفان: محبّ مفرط يذهب به الحبّ إلى غير الحقّ، و مبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق، و خير الناس فيّ حالا النمط الأوسط فالزموه، و الزموا السواد الأعظم، فإن يد اللّه مع الجماعة، و إيّاكم و الفرقة! فإن الشاذّ من الناس للشيطان، كما أنّ الشاذّ من الغنم للذئب. ألا من دعا إلى مثل هذا الشعار فاقتلوه و لو كان تحت عمامتي هذه».

و بعد، فيا دعاة الوحدة بين جميع المسلمين:

 «لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله، فمن سلك الطريق الواضح ورد الماء، و من خالف وقع في التيه!»

بيروت، في ذكرى عاشوراء سنة ١٣٨٧ ه.

صبحي الصالح‏

_______________________

[١] . الشريف الرضي هو أبو الحسن محمّد بن الحسين الموسوي، و يتصل نسبه بجده الأعلى الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ولد سنة تسع و خمسين و ثلاث مائة، و أقبل على العلم و الفقه و الأدب حتّى بات أبدع أبناء الزمان، و أنجب سادات العراق. و في سنة ٣٨٨ تولى نقابة الطالبيين بعد أبيه في حياته، و عهد إليه بالنظر في المظالم و الحجّ بالناس.
[٢] . هذا ما يقوله السيّد هبة اللّه الشهرستاني في كتابه (ما هو نهج البلاغة؟ ص ٨- ١٠) و من هؤلاء الشراح القدامى أبو الحسين البيهقيّ، و الإمام فخر الدين الرازيّ، و القطب الراونديّ، و كمال الدين محمّد ميثم البحرانيّ، و عزّ الدين بن أبي الحديد المدائني، و هذا الأخير هو أشهرهم جميعا، و يعد شرحه أفضل الشروح و أطولها. و قد شرع في تأليفه في غرة شهر رجب من سنة ٦٤٤ و أتمه في آخر سلخ صفر من سنة ٦٤٩، و كان فقيها أصوليا، كما كان أديبا ناقدا، و قد كان مولده بالمدائن في غرة ذي الحجة سنة ٥٨٦، أما وفاته فذكر بعضهم أنّها سنة ه ٦٥٥.
[٣] . نذكر على سبيل المثال طبعات الشيخ محيي الدين عبد الحميد في القاهرة، و طبعة الأستاذ عبد العزيز سيد الأهل في بيروت. و نضرب هاهنا صفحا عن الطبعات التجارية التي تصدى بها قوم لما لم يكونوا له أهلا.
[٤] . انظر ما ذكره محمّد أبو الفضل إبراهيم عن هذه المخطوطات في مقدّمته (الجزء الأول ابتداء من الصفحة العشرين)، و أضف إلى ذلك ما نبه إليه في أجزاء الكتاب المختلفة من أصول جديدة وقعت إليه أثناء الطبع الذي استغرق نحو خمس سنوات (من سنة ١٩٥٩ حتّى ١٩٦٤). و راجع بصورة خاصّة الصفحات الأولى من الأجزاء التالية (الثاني، الرابع و الخامس و السابع و الحادي عشر و الخامس عشر و السادس عشر و الثامن عشر و التاسع عشر و العشرين).
[٥] . طبعة عبد الحميد ٣- ٨١ و طبعة سيد الأهل ص ٥٠٨ س ١.
[٦] . طبعة عبد الحميد ٣- ٨٧ س ٧ و هي في طبعة سيد الأهل ص ٥١٣ س ١.
[٧] . طبعة عبد الحميد ٣- ١٦٤ س ١. و هي في طبعة سيد الأهل ص ٥٧٦ س ٣.
[٨] . طبعة عبد الحميد ٣- ١٧٧ س ٩. و هي في طبعة سيد الأهل ص ٥٨٦ س ١١.
[٩] . طبعة عبد الحميد ٣- ١٤٥ س ١٠. و هي في طبعة سيد الأهل ص ٥٦٠ س ١.
[١٠] . طبعة عبد الحميد ١- ٣٣ س ٨. و هي في طبعة سيد الأهل ص ٤٥ س ١٤.
[١١] . انظر طبعة سيد الأهل ص ٦١ س ٤ و قارن بطبعة عبد الحميد ١- ٤٩ س ٤.
[١٢] . انظر طبعة سيد الأهل ص ٧٥ س ١١ و الحاشية ٥.
[١٣] . طبعة سيد الأهل ص ٥٠٧ س ١٢ و قارنه بطبعة عبد الحميد ٢- ٨١ س ٨.
[١٤] . طبعة سيد الأهل ص ٥٢٢ س ٩. و قارنه بطبعة عبد الحميد ٢- ٩٩ س ٧.
[١٥] . طبعة سيد الأهل ص ٣٠ س ٢ و قارن بطبعة عبد الحميد ١- ١٥ س ٥.
[١٦] . طبعة سيد الأهل ٤٩١ س ٨. و قارن بطبعة عبد الحميد ٢- ٦٥ س ٦.
[١٧] . طبعة سيد الأهل ٣٢ س ٦ و قارنه بطبعة عبد الحميد ١- ١٨ س ٥.
[١٨] . طبعة سيد الأهل ٣٥ س ١٢. و الغريب هنا أن طبعة عبد الحميد ١- ٢٢ س ٣ من غير تشديد.
[١٩] . طبعة سيد الأهل ٣٥٨ س ٥.
[٢٠] . من التطبيع مثلا أن عبارات سقطت، و سبحان الذي لا يضل و لا ينسى، كسقوط عبارة «لا بمقارنة و غير كل شي‏ء» ص ٢٥ س ٢، و سقوط عبارة «و الزعزع القاصفة» ص ٢٦ س ٤.
****************************