بسم الله الرحمن الرحيم
حمد لله سياج[١] النعم. والصلاة على النبي وفاء الذمم. واستمطار الرحمة على آله الأولياء، وأصحابه الأصفياء، عرفان الجميل وتذكار الدليل[٢]:
وبعد فقد أوفى لي حكم القدر بالاطلاع على كتاب (نهج البلاغة) مصادفة بلا تعمل. أصبته على تغير حال وتبلبل بال، وتزاحم أشغال، وعطلة من أعمال. فحسبته تسلية، وحيلة للتخلية فتصفحت بعض صفحاته، وتأملت جملا من عباراته. من مواضع مختلفات، وموضوعات متفرقات.
فكان يخيل إلي في كل مقام أن حروبا شنت وغارات شنت وأن للبلاغة دولة، وللفصاحة صولة. وأن للأوهام عرامة[٣] وللريب دعارة. وأن جحافل الخطابة، وكتائب الذرابة، في عقود النظام وصفوف الانتظام، تنافح بالصفيح الأبلج[٤] والقويم الأملج. وتمتلج المهج برواضع الحجج. فتفل من دعارة الوساوس[٥] وتصيب مقاتل الخوانس. والباطل منكسر ومرج الشك في خمود[٦] وهرج الريب في ركود. وأن مدبر تلك الدولة، وباسل تلك الصولة، هو حامل لوائها الغالب، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
بل كنت كلما انتقلت من موضع إلى موضع أحس بتغير المشاهد. وتحول المعاهد فتارة كنت أجدني في عالم يغمره من المعاني أرواح عالية. في حلل من العبارات الزاهية تطوف على النفوس الزاكية. وتدنو من القلوب الصافية: توحي إليها رشادها.
وتقوم منها مرادها. وتنفر بها عن مداحض المزال. إلى جواد الفضل والكمال.
وطورا كانت تتكشف لي الجمل عن وجوه باسرة[٧]، وأنياب كاشره. وأرواح في أشباح النمور، ومخالب النسور. قد تحفزت للوثاب، ثم انقضت للاختلاب فخلبت القلوب عن هواها، وأخدت الخواطر دون رماها. واغتالت فاسد الأهواء وباطل الآراء.
وأحيانا كنت أشهد أن عقلا نورانيا، لا يشبه خلقا جسدانيا، فصل عن الموكب الإلهي، واتصل بالروح الإنساني. فخلعه عن غاشيات الطبيعة وسما به إلى الملكوت الأعلى. ونما به إلى مشهد النور الأجلي. وسكن به إلى عمار جانب التقديس. بعد استخلاصه من شوائب التلبيس[٨].
وآنات كأني أسمع خطيب الحكمة ينادي بأعلياء الكلمة، وأولياء أمر الأمة، يعرفهم مواقع الصواب ويبصرهم مواضع الارتياب ويحذرهم مزالق الاضطراب. ويرشدهم إلى دقاق السياسة. ويهديهم طرق الكياسة، ويرتفع بهم إلى منصات الرئاسة ويصعدهم شرف التدبير، ويشرف بهم على حسن المصير ذلك الكتاب الجليل هو جملة ما اختاره السيد الشريف الرضي رحمه الله من كلام سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. جمع متفرقة وسماه بهذا الاسم (نهج البلاغة) ولا أعلم اسما أليق بالدلالة على معناه منه. وليس في وسعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد مما دل عليه اسمه، ولا أن آتي بشئ في بيان مزيته فوق ما أتى به صاحب الاختيار كما سترى في مقدمة الكتاب. ولولا أن غرائز الجبلة، وقواضي الذمة، تفرض علينا عرفان الجميل لصاحبه، وشكر المحسن على إحسانه، لما احتجنا إلى التنبيه على ما أودع نهج للبلاغة، من فنون الفصاحة.
وما خص به من وجوه البلاغة، خصوصا وهو لم يترك غرضا من أغراض الكلام إلا إسابة ولم يدع للفكر ممرا إلا جابه[٩].
إلا أن عبارات الكتاب لبعد عهدها منا، وانقطاع أهل جيلنا عن أصل لساننا قد نجد فيها غرائب ألفاظ في غير وحشية، وجزالة تركيب في غير تعقيد، فربما وقف فهم المطالع دون الوصول إلى مفهومات بعض المفردات أو مضمونات بعض الجمل. وليس ذلك ضعفا في اللفظ أو وهنا في المعنى وإنما هو قصور في ذهن المتناول.
ومن ثم همت بي الرغبة أن أصحب المطالعة بالمراجعة والمشارفة بالمكاشفة، وأعلق على بعض مفرداته شرحا وبعض جمله تفسيرا وشئ من اشاته تعيينا، واقفا عند حد الحاجة مما قصدت. موجزا في البيان ما استطعت. معتمدا في ذلك على المشهور من كتب اللغة والمعروف من صحيح الأخبار. ولم أتعرض لتعديل ما روي عن الإمام في مسألة الإمامة أو تجريحه، بل تركت للمطالع الحكم فيه بعد الالتفات إلى أصول المذاهب المعلومة فيها، والأخبار المأثورة الشاهدة عليها، غير أني لم أتحاش تفسير العبارة، وتوضيح الإشارة لا أريد في وجهي هذا إلا حفظ ما أذكر، وذكر ما أحفظ.تصونا من النسيان وتحرزا من الحيدان[١٠].
ولم أطلب من وجه الكتاب إلا ما تعلق منه بسبك المعاني العالية في العبارات الرفيعة في كل ضرب من ضروب الكلام. وحسبي هذه الغاية فيما أريد لنفسي ولمن يطلع عليه من أهل اللسان العربي.
وقد عني جماعة من أجلة العلماء بشرح الكتاب وأطال كل منهم في بيان ما انطوى عليه من الأسرار، وكل يقصد تأييد مذهب وتعضيد مشرب. غير أنه لم يتيسر لي ولا واحد من شروحهم إلا شذرات وجدتها منقولة عنهم في بطون الكتب، فإن وافقت أحدهم فيما رأى فذلك حكم الاتفاق، وإن كنت خالفتهم فإلى صواب فيما أظن على أني لا أعد تعليقي هذا شرحا في عداد الشروح، ولا أذكره كتابا بين الكتب، وإنما هو طراز لنهج البلاغة وعلم توشى به أطرافه[١١].
وأرجو أن يكون فيما وضعت من وجيز البيان فائدة للشبان من أهل هذا الزمان فقد رأيتهم قياما على طريق الطلب، يتدافعون لنيل الأرب من لسان العرب.
يبتغون لأنفسهم سلائق عربية وملكات لغوية، وكل يطلب لسانا خاطبا، وقلما كاتبا، لكنهم يتوخون وسائل ما يطلبون في مطالعة المقامات وكتب المراسلات مما كتبه المولدون. أو قلدهم فيه المتأخرون. ولم يراعوا في تحريره إلا رقة الكلمات، وتوافق الجناسات. وانسجام السجعات. وما يشبه ذلك من المحسنات اللفظية والتي وسموها بالفنون البديعة. وإن كانت العبارات خلوا من المعاني الجليلة، أو فائدة الأساليب الرفيعة.
على أن هذا النوع من الكلام بعض ما في اللسان العربي وليس كل ما فيه، بل هذا النوع إذا نفرد يعد من أدنى طبقات القول، وليس في حلاه المنوطة بأواخر ألفاظه ما يرفعه إلى درجة الوسط. فلو أنهم عدلوا إلى مدارسة ما جاء عن أهل اللسان، خصوصا أهل الطبقة العليا منهم لأحرزوا من بغيتهم ما امتدت إليه أعناقهم، واستعدت لقبوله أعراقهم.
وليس في أهل هذه اللغة إلا قائل بأن كلام الإمام علي بن أبي طالب هو أشرف الكلام وأبلغه بعد كلام الله تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وآله - وأغزره مادة وأرفعه أسلوبا وأجمعه لجلائل المعاني.
فأجدر بالطالبين لنفائس اللغة، والطامعين في التدرج لمراقيها أن يجعلوا هذا الكتاب أهم محفوظهم، وأفضل مأثورهم، مع تفهم معانيه في الأغراض التي جاءت لأجلها وتأمل ألفاظه في المعاني التي صيغت للدلالة عليها. ليصيبوا بذلك أفضل غاية وينتهوا إلى خير نهاية، وأسأل الله نجاح عملي وأعمالهم. وتحقيق أملي وآمالهم.
ولنقدم للمطالع موجزا من القول في نسب الشريف الرضي جامع الكتاب، وطرفا من خبره. فهو أبو الحسن محمد بن أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى ابن إبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين ابن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وأمه فاطمة بنت الحسين بن الحسن الناصر صاحب الديلم ابن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ولد الشريف الرضي في سنة تسع وخمسين وثلاثمائة. واشتغل بالعلم ففاق في الفقه والفرائض وبذ أهل زمانه في العلم والأدب.
قال صاحب اليتيمة هو اليوم أبدع أبناء الزمان وأنجب سادات العراق، يتحلى مع محتده الشريف ومفخره المنيف بأدب ظاهر، وفضل باهر، وحظ من جميع المحامد وافر، تولى نقابة نقباء الطالبيين بعد أبيه في حياته سنة ثمانية وثمانين وثلاثمائة، ضمت إليه مع النقابة سائر الأعمال التي كان يليها أبوه، وهي النظر في المظالم، والحج بالناس.
وكان من سمو المقام بحيث يكتب إلى الخليفة القادر بالله العباسي أحمد بن المقتدر من قصيدة طويلة: نفتخر بها ويساوي نفسه بالخليفة:
عطفا أمير المؤمنين فإننا | في دوحة العلياء لا نتفرق | |
ما بيننا يوم الفخار تفاوت | أبدا، كلانا في المعالي معرق | |
إلا الخلافة ميزتك فإنني | أنا عاطل منها وأنت مطوق |
ويروى أن القادر قال له عند سماع هذا البيت: على رغم أنفك الشريف ومن غرر شعره فيما يقرب من هذا قوله:
رمت المعالي فامتنعن ولم يزل * أبدا ينازع عاشقا معشوق وصبرت حتى نلتهن ولم أقل * ضجرا: دواء الفارك[١٢] التطليق وابتدأ يقول الشعر بعد أن جاوز عشر سنين بقليل. قال صاحب اليتيمة، وهو أشعر الطالبيين: من مضى منهم ومن غبر على كثرة شعرائهم المفلقين ولو قلت أنه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق.
وقال بعض واصفيه رحمه الله: كان شاعرا مفلقا فصيح النظم ضخم الألفاظ قادرا على القريض متصرفا في فنونه، إن قصد الرقة في النسيب أتى بالعجب العجاب، وإن أراد الفخامة وجزالة الألفاظ في المدح وغيره أتى بما لا يشق له فيه غبار، وإن قصد المراثي جاء سابقا والشعراء منقطعة الأنفاس. وكان مع هذا مترسلا كاتبا بليغا متين العبارات سامي المعاني.
وقد اعتنى بجمع شعره في ديوان جماعة، وأجود ما جمع منه مجموع أبي حكيم الحيري، وهو ديوان كبير يدخل في أربع مجلدات كما ذكره صاحب اليتيمة. وصنف كتابا في معاني القرآن العظيم قالوا يتعذر وجود مثله، وهو يدل على سعة اطلاعه في النحو واللغة وأصول الدين. وله كتاب في مجازات القرآن. وكان علي الهمة تسمو به عزيمته إلى أمور عظام لم يجد من الأيام عليها معينا فوقفت به دونها حتى قضى.
وكان عفيفا متشددا في العفة بالغا فيها إلى النهاية لم يقبل من أحد صلة ولا جائزة حتى أنه رد صلات أبيه! وقد اجتهد بنو بويه على قبوله صلاتهم فلم يقبل. وكان يرضى بالإكرام وصيانة الجانب وإعزاز الأتباع والأصحاب.
حكى أبو حامد محمد بن محمد الأسفرائيني الفقيه الشافعي.
قال: كنت يوما عند فخر الملك أبي غالب محمد بن خلف وزير بهاء الدولة وابنه سلطان الدولة فدخل عليه الرضي (صاحب كلامنا الآن) أبو الحسن فأعظمه وأجل مكانه ورفع من منزلته وخلى ما كان بيده من القصص والرقاع وأقبل عليه يحادثه إلى أن انصرف. ثم دخل بعد ذلك المرتضى أبو قاسم (أخو الشريف الرضي) فلم يعظمه ذلك التعظيم ولا أكرمه ذلك الاكرام وتشاغل عنه برقاع يقرأها فجلس قليلا ثم سأله أمرا فقضاه ثم انصرف. قال أبو حامد فقلت: أصلح الله الوزير هذا المرتضى هو الفقيه المتكلم صاحب الفنون وهو الأمثل والأفضل منهما وإنما أبو الحسن شاعر. قال فقال لي إذا انصرف الناس وخلا المجلس أجبتك عن هذه المسألة. قال وكنت مجمعا على الانصراف فعرض من الأمر ما لم يكن في الحساب فدعت الضرورة إلى ملازمة المجلس حتى تقوض الناس. وبعد أن انصرف عنه أكثر غلمانه ولم يبق عنده غيري قال لخادم له هات الكتابين اللذين دفعتهما إليك منذ أيام وأمرتك بوضعهما في السفط الفلاني، فأحضرهما فقال هذا كتاب الرضي اتصل بي إنه قد ولد له ولد فأنفذت إليه ألف دينار وقلت هذا للقابلة فقد جرت العادة أن يحمل الأصدقاء وذوو مودتهم مثل هذا في مثل هذه الحال، فردها وكتب إلي هذا الكتاب فاقرأه، فقرأته فإذا هو اعتذار عن الرد وفي جملته: إننا أهل بيت لا يطلع على أحوالنا قابلة غريبة، وإنما عجائزنا يتولين هذا الأمر من نسائنا ولسن ممن يأخذن أجرة ولا يقبلن صلة. قال فهذا هذا.
وأما المرتضى فإنا كنا وزعنا وقسطنا على الأملاك ببعض النواحي تقسيطا نصرفه في حفر فوهة النهر المعروف بنهر عيسى، فأصاب ملكا للشريف المرتضى بالناحية المعروفة بالداهرية من التقسيط عشرون درهما ثمنها دينار واحد، وقد كتب منذ أيام في هذا المعنى هذا الكتاب فاقرأه وهو أكثر من مائة سطر يتضمن من الخشوع والخضوع والاستمالة والهزء والطلب والسؤال في أسقاط هذه الدراهم المذكورة ما يطول شرحه قال فخر الملك فأيهما ترى أولى بالتعظيم والتبجيل: هذا العالم المتكلم الفقيه الأوحد ونفسه هذه النفس، أم ذلك الذي لم يشهر إلا بالشعر خاصة ونفسه تلك النفس؟.
فقلت وفق الله سيدنا الوزير والله ما وضع الأمر إلا في موضعه ولا أحله إلا في محله.
وتوفي الرضي في المحرم سنة أربع وأربعمائة ودفن في داره بمسجد الأنباريين بالكرخ ومضى أخوه المرتضى من جزعه عليه إلى مشهد موسى بن جعفر عليه السلام لأنه لم يستطع أن ينظر إلى تابوته ودفنه، وصلى عليه الوزير فخر الملك أبو غالب، ومضى بنفسه آخر النهار إلى المشهد الشريف الكاظمي فألزمه بالعود إلى داره.
ومما رثاه به أخوه المرتضى الأبيات المشهورة التي من جملتها:
يا للرجال لفجعة جذمت يدي | ووددت لو ذهبت علي برأسي | |
ما زلت أحذر وردها حتى أتت | فحسوتها في بعض ما أنا حاسي | |
ومطلتها زمنا فلما صممت | لم يثنها مطلي وطول مكاسي | |
لا تنكروا من فيض دمعي عبرة | فالدمع غير مساعد ومواسي | |
لله عمرك من قصير طاهر | ولرب عمر طال بالأدناس |
وحكى ابن خلكان عن بعض الفضلاء أنه رأى في مجموع أن بعض الأدباء اجتاز بدار الشريف الرضي (صاحب الترجمة) بسر من رأى وهو لا يعرفها، وقد أخنى عليها الزمان وذهبت بهجتها وأخلقت ديباجتها، وبقايا رسومها تشهد لها بالنضارة وحسن الشارة، فوقف عليها متعجبا من صروف الزمان وطوارق الحدثان، وتمثل بقول الشريف الرضي:
ولقد بكيت على ربوعهم | وطلولها بيد البلي نهب | |
فبكيت حتى شج من لغب | نضوي، ولج بعذلي الركب | |
وتلفتت عيني فمذ خفيت | عني الطلول تلفت القلب |
فمر به شخص وهو ينشد الأبيات فقال له: هل تعرف هذه الدار لمن هي؟ فقال لا. فقال هذه الدار لصاحب الأبيات الشريف الرضي، فعجب كلاهما من حسن الاتفاق.
وفي رواية العلماء من مناقب الشريف الرضي ما لو تقصيناه لطال الكلام، وإنما غرضنا أن يلم القارئ بسيرته بعض الالمام. والله أعلم.