الشيخ محمد رضا الجعفري
لهذه البحوث تاريخ يطول ذكره، وملخصه أنه كان لي بحث مقتضب جدا حول الشريف الرضي كمتكلم، طلب مني أن اعيد النظر فيه وأعده للذكرى الالفية لوفاة الشريف الرضي، رضي الله عنه وأرضاه ! ولكن إعادة النظر انتهت إلى ركام من الملاحظات ـ وأقول الملاحظات، لان في تسلسلها كثير من الفجوات لم أستطع إلى الان أن أملاها ـ حول ثقافة الشريف، وأساتذته، وعقيدته مذهبا وكلاما، وآرائه الكلامية، ثم طلب مني فيما بعد أن أستل منها بحثا يتناسب والعدد الذي يصدر من (تراثنا) في شهور ذكرى سيد الشهداء، عليه وعلى المستشهدين معه سلام الله وتحياته وبركاته.
وكان من بين تلك الملاحظات ما يعود إلى ما ذكره الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو في تصديره لديوان الشريف الرضي، الذي تولت نشره له وزارة الاعلام في عراق صدام، وأهم ما يرجع منها إلى سيد الشهداء عليه السلام أن الدكتور عمد إلى مقصورة الشريف الحسينية الشهيرة: (كربلا لا زلت كربا وبلا) فحذفها من الديوان، ثم وضع المعاذير لذلك، وبذلك أثبت عمليا صدق قول الشريف: إن كربلاء ما زالت كربا وبلا !
وقد ارتأيت أن أقدم، قبل البحث عما قالهحول المقصورة، بعض الملاحظات التي تعود إلى الشريف، ولها صلة إلى حد ماـ بما قاله حول المقصورة، كما لا يخفى على من قرأها، وأما التي لا ترتبط إلا ضمن الاطار الشريفي العام، فلم أهتم به ذلك الاهتمام، وقد أرجات الاشارة إليه مواضعه من البحوث القادمة إن وفقت إلى ذلك بحول الله وقوته وأهدف من هذا أن تكون لدى القارىء الكريم صورة واضحة المعالم للدكتور وآرائه حول الشريف تسبق البحث عن المقصورة وما قاله فيها وفي حذفها، تماثل الصورة التي تكونت في نفسي عنه.
وأنا أعتذر إليه وإلى كل من يجد في بحوثي هذه شيئا لايقرني عليه، وعذري في ذلك أني لم ارد الاساءة إلى أحد، وما حصل، إن حصل فهو أمر لم يكن بمقدوري التجنب عنه، وأنا أؤكد للدكتور ولهؤلاء أن الاستياء النفسي الذي احمله في نفسي حول صنيع الدكتور لا يعادله أي أثر سيء قد يتركه كلامي في نفسه أو في نفوس هؤلاء ! (ولكن البادىء أظلم) ـ إن كنت ظلمت أحدا ـ !
١ ـ نادرة الشريف (عُمَريٌة) أم (عَمْريٌة) !
هناك نادرة تذكر في سيرة الشريف الرضي وقعت له عندما حضر، وهو طفل صغير لم يبلغ العاشرة، عند أحد أساتذة العربية والادب يومذاك، أصبحت فيما بعد من أشهر النوادر العلمية التي تذكر للتدليل على حدة الذكاء، وسرعة الخاطر، خاصة في فترة من العمر، الذي يكون تملك مثل هذا الذكاء وحدة الخاطر فيها يبعث إعجابا أكثر وأكبر، ويكشف عنعبقرية مبكرة يقل لها النظير، والقصة كما يلي:
قال ابن خلكان عندما ترجمللشريف الرضي:« وذكر أبو الفتح ابن جني النحوي في بعض مجاميعه: أن الشريف الرضي احضر إلى ابن السيرافي النحوي، وهو طفل جدا، لم يبلغ عمره عشر سنين، فلقنه النحو، وقعد معه يوما في حلقته، فذاكره بشيء من الاعراب على عادة التعليم، فقال له: إذا قلنا: (رأيت عُمَرَ) فما علامة النصب في عمر ؟ فقال له الرضي: بغض علي ! فعجب السيرافي والحاضرون من حدة خاطره »[١].
ولكن الدكتور الحلو ذكر القصة، وجاء فيه: «... إذا قلنا: رأيت عمرو، فما علامة النصب في عمرو...) وقال في الهامش:
هكذا ذكر ابن خلكان: ٤ |٤١٦ [ وواضح أنه يشير إلى نفس طبعه الدكتور احسان عباس ] وهو أقدم من ذكر القصة [ وسيأتي أن الاقدم منه هو القفطي ـ فيما وصلنا ـ ولعل هناك من هو أقدم منهما، ولم يصلنا أو لم نعثر عليه ] على أن المراد « عمرو بن العاص » وقد اعتاد النحويون التمثيل بزيد وعمرو، وتبعه على هذا ابن الوردي في تاريخه: ١| ٦٢٧، وأكد أن المراد عمرو بن العاص بقوله: (أشار إلى عمرو بن العاص وبغضه لعلي). كما زاد هذا القول توثيقا أبو الفداء في تاريخه: ١ | ١٤٥ حيث أورد القصة، وعقب عليها بقوله: « أراد السيرافي النصب الذي هو الاعراب، وأراد الرضي الذي هو بغض علي، فأشار إلى عمرو بن العاص ». وأورد ابن حجر القصة في لسان الميزان: ٥ | ١٤١، كما أوردها ابن خلكان، واللفظ فيه (عمرو)، أما الصفدي في الوافي بالوفيات: ٢ | ٣٧٥، وابن العماد في شذرات الذهب: ٣ | ١٨٢، والخوانساري في روضات الجنات | ٥٤٧، وابن معصوم في الدرجات الرفيعة | ٤٦٨ فقد جاءت اللفظة لديهم: (عمر) على أن المراد عمر بن الخطاب (...) وربما كان هذا خطأ في النسخ أو الطباعة، وربما كان وهما سبق إلى الاذهان للنكتة اللغوية في منع صرف الكلمة. ولو كانت اللفظة صوابا لم يكن جواب الرضي سديدا [ ؟ ! ] لان شيعة علي (...) إنما يذكرون بغض عمرو بن العاص له [ وأما خصوم علي، فهم لا يذكرون إلا ولاء ابن النابغة، وصاحبه ابن هند له، واتباعهما وتسليمهما لامره ! ] ولم يذكر أحد [ لا ولا إعلام صدام الذي تولى نشر الديوان للدكتور ! ] أن قامت بين عمر وعلي (...) مثل هذه البغضاء التي استمرت تذكر على مدى الايام [ ؟ ! ][٢].
وتعليقي على ما ذكره الدكتور الحلو:
أولا: إن الطبعة التي رجع إليها الدكتور من (وفيات الاعيان) جاء فيها (عمر) و (عمر) في الموضعين، ولم أجد تصويبا لما جاء في هذه الطبعة، لا في هذا الجزء ولا فيما بعده من الاجزاء، وقد رجعت إلى المؤاخذات التي أخذها الدكتور علي جواد الطاهر على هذه الطبعة من وفيات الاعيان فلم أر له ملاحظة هنا[٣].
وقد ذكر الدكتور إحسان عباس في مدخل الجزء الرابع النسخ الكثيرة التي اعتمد عليها في تحقيق هذا الجزء، وصنيعه يدل على أنه لم يجد، ولا في واحدة منها ما يخالف ما أثبته في طبعته.
وهكذا جاء في الطبعة الحجرية للوفيات طهران، ١٢٨٤، ٢ | ١٠٧ ـ وببالي أن الدكتورمصطفى جواد على ما قرأت له منذ زمن قديم كان يرى أن هذه الطبعة الحجرية هي أصح طبعات الوفيات. نعم جاء في ط بولاق ١٢٩٩، ٢ | ٣، وط مكتبة النهضة المصرية، تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد، ط ١، ١٣٦٧ | ١٩٤٨، ٤ | ٤٥ ـ والمأخوذة عن طبعة بولاق (عمرو) بدل (عمر)، ولكن الدكتور لم يتخذ أياً من هذه الطبعات مرجعا له سوى طبعة إحسان عباس.
والذين ذكرو (عمر) ولم (يُعَمٌروُه) ! هم: عدا القفطي الذي سنذكره فيما بعد، الذهبي، العبر: ٣ | ٩٥، الصفدي، الوافي بالوفيات: ٢ | ٥ ٣٧، اليافعي، مرآة الجنان: ٣ | ١٩، ابن العماد الحنبلي، شذرات الذهب: ٣ | ١٨٢، مجالس المؤمنين: ١ | ٥٠٥، عن ابن خلكان واليافعي، والدرجات الرفيعة: ٤٦٨، وقد تناقض النقل فيه، ففي الاول (عمرا) وفي الثاني: (عمر) ـ ولم ينتبه الدكتور الحلو إلى هذا التناقض ـ، وروضات الجنات، ٦ | ١٩١، ١٩٣ ـ بالاضافة إلى الطبعة الحجرية التي أشار إليها الدكتور ـ مستدرك الوسائل: ٣ | ٥١٤، معجم رجال الحديث: ١٦ | ٢٧ عن ابن خلكان.
وأما الذين ذكروا (عمرا) فالاصل هو أبو الفداء، وابن الوردي قد أخذ تاريخه وحكاه بتلخيص، وأضاف إليه مالم يدركه عصره، (راجع ابن الوردي، ١ | ٩ ـ١٠) ولسان الميزان، ويضاف إليهم رياض العلماء: ٥ | ٨٣، وهذا بنفسه دليل آخر على صحة ما جاء في الطبعة الحجرية وطبعة إحسان، وأن ما جاء مخالفا، إنما حُرف لغرض لا يخفى أو صحف !
وثانيا: أن جمال الدين، علي بن يوسف القفطي (٥٦٨ | ١١٧٢ ٦٤٦ | ١٢٤٨) يروي القصة كما يلي:
« وكان الرضي من أهل الفضل والادب، والعلم، والذكاء، وحدة الخاطر من صغره. ذكره أبو الفتح بن جني في مجموع له جمعه، وذكر في بعض مجاميعه: أن هذا المجموع سرق منه في طريق فارس، وتأوه عليه كثيرا، ومات وهو عادم له. ثم إن هذا المجموع حصل في بعض وقوف مدينة أصفهان، ولما توجه إليها سعيد بن الدهان [ سعيد بن المبارك بن علي، ابن الدهان البغدادي ((٤٩٤ | ١١٠١ ٥٦٩ | ١١٧٤) أحد علماء اللغة والادب ] وجد المجموع المذكور، فنقل منه مجلدا واحدا، ولم أر سواه بخط سعيد المذكور. ذكر فيه أبو الفتح بن جني: أن الرضي احضر إلى ابن السيرافي، وهو طفل صغير جدا، لم يبلغ عمره عشر سنين، فلقنه النحو، وقعد معه يوما في الحلقة، فذاكره بشيء من الاعراب على عادة التعليم، فقال له: إذا قلنا: (رأيت عمرَ) ما علامة النصب في عمر ؟ قال له الرضي: بغض علي ! فعجب [ ابن ][٤] السيرافي والحاضرون من حدة خاطره ».
وابن خلكان، أحمد بن محمد الاربلي(٦٠٨ | ١٢١١ ـ٦٨١ | ١٢٨٢) وإن أدرك عصر القفطي، إلا أنه يحكي عنه (ابن خلكان، ٥ | ٤٧) وخاصة عن كتابه (إنباه الرواة) (ابن خلكان، ٤ | ٦٤، ٦ | ١٢٩، ١٩٢ ١٩٣) فالقفطي يعد بمنزلة أحد شيوخ ابن خلكان، وكتابه جعله أحد مصادر وفياته، وأظن قويا أن ابن خلكان لم ير مجموع ابن جني بنفسه، وإنما اعتمد على القفطي وعن طريقه ـ حكى القصة، وإن لم يصرح به. وهو في حكاية القفطي(عمر) في الموضعين، ولم يشر المحققون في الهامش إلى اختلاف في النسخ.
وثالثا: إن التمثيل في هذه النادرة إنما وقع من جهة الاعراب وعلاماته التي تظهر في النطق، كما هو المدلول الواضح لكلمة (قلنا) الواردة فيها، لا من جهة إملاء الكلمة وكيفية كتابتها، ولفظة (عمرو) لا تختلف نطقا عن سائر الالفاظ المعربة المنصرفة، في أنها تظهر عليها حركات الاعراب، رفعا ونصبا وجرا، فليس في اختيار التمثيل بها أية جهة يستدعيها امتحان الطالب واختبار ذكائه وتفهمه للقواعد النحوية، سوى معرفة أوليات النحو، وأبسط مبادئه، وهي كيفية الرفع والنصب والجر، والشريف كان قد تجاوز هذه المرحلة، إذ ابن السيرافي كان قد لقنه النحو، أى علمه القواعد الاولية للنحو، ولم تقع النادرة ـ ومن الطبيعي أن لا تقع ـ في أول مجلس للتعليم، إذ الاختبار إنما يكون بعد أن يكون الطالب قد تجاوز مرحلة يصح معها اختباره وامتحانه !
نعم، لو كان الامتحان لا في النحو، بل من جهة الاملاء وكيفية الكتابة لكان المناسب التمثيل بـ (عمرو) الذي زيد فيه (الواو) ظلما في الهجاء ـ كما يقول الشاعرـ ليمتاز كتابة لانطقا عن (عمر)، ولكن هذا (الواو) يثبت في حالتي الرفع ـ والجر، دون النصب، إذ لا يتنصب (عمر).
وصحيح أن النحويين اعتادوا التمثيل بزيد وعمرو، في فروضهم النحوية، ولكن ليس في مثل هذا المورد !
ولكن النحويين جرت عادتهم أيضا على تقديم (زيد) على (عمرو) فإذا أرادوا التمثيل بأحدهما اختاروا زيدا، فقالوا: (قام زيد) وإذا احتاجوا إليهما معا قدموا زيدا وقالوا: (ضرب زيد عمرا) !
ورابعا: إن لفظة (عمرو) حكاها الدكتور عارية عن الاعراب، وهي منصوبة، وملحقا بها (الواو)، وهذا خطا لا يصدر من متعلم، فكيف من عالم نحوي ! والصحيح حذف (الواو) وإدخال الاعراب، بأن يقال: (رأيت عَمْراً) لا: (رأيت عمرو) وقد جاءت عند أبي الفداءوابن الوردي (رأيت عمرا)، وقد رجع إليهما الدكتور نفسه، فما الذي أوجب غفلته وهو العالم الاديب ـ عن هذه الملاحظة، ولست أسمح لنفسي بأن أنسبه إلى التغافل كي يصح له ما قال ! نعم جاءت في طبعتي بولاق، ومحمد محيي الدين عبدالحميد كما ذكرها الدكتور، إلا أن الدكتور لم يعتمد عليها، بل ولم أجد ما يدل على رجوعه إليهما، ومهما يكن فعذر
الكل: أن (الواو) هنا زيدت ظلما لعلي لا لعمرو !
وخامسا: إن قول الدكتور: (ولو كانت اللفظة صوابا لم يكن جواب الرضي سديدا...) لا أدري كيف ابرره، وكيف سمحت نفس الدكتور بأن يقوله ! فليس خصومة علي، ومعاوية، وأخيه عمرو بالتي يذكرها الشيعة وحدهم، وليست حرب صفين ومضاعفاتها بالتي أرخها الشيعة وحدهم ! نعم خصومة من مكن معاوية من رقاب المسلمين، ومن أشاد له حكمه بالشام لا أقول حولها شيئا... ويكفي في التعرف على رأي الشريفين الرضي وأخيه المرتضى، ورأي الشيعة الامامية ما يحكيه أبو القاسم بن برهان الحنبلي أولا، ثم الحنفي، وهو ما سمعه من الشريف المرتضى في آخر لحظات حياته[٥].
نعم إن إعلام حكومة صدام، وما يؤلف لهذا الاعلام لا تريد أن يذكر ذلك أحد ! بل لا تريد أن يذكر ذاكر سيد الشهداء ـ عليه السلام ـ ومن علم الاباة الحمية والاباء ! وبلغ بها السعي في الوصل إلى غايتها هذه أنها لاتريد أن يقرأ أحد مقصورة الشريف الرضي الشهيرة:
كربلا لا زِلْتِ كربا وبلا !
فتحذفها من طبعتها لديوان الشريف ثم تضع المعاذير لذلك ـ ومعذرة من الدكتور، فإني لا أرى هذا صنيعه، بل صنيعها ـ !
٢ ـ من هو ابن السيرافي هذا ؟
والسيرافيان اللذان عاصرهما الشريف، هما:
(الاب): الحسن بن عبدالله بن المرزبان، أبو سعيد السيرافي، ثم البغدادي، المعتزلي، الحنفي (٢٨٤ | ٨٩٧ ٣٦٨ | ٩٧٩) أحد أعلام العلم والادب واللغة.
كان أبوه مجوسيا اسمه (بهزاد) فأسلم وسماه أبو سعيد (عبدالله). ولد أبو سعيد بسيراف، وفيها نشأ، ثم هاجر إلى بغداد فسكنها حتى توفى عن أربع وثمانين سنة، كان يدرس كما قال عنه المترجمون له القرآن، وعلومه، والقراءات، والنحو، واللغة، والفقه، والفرائض والكلام، والشعر، والعروض، والحساب، وكان من أعلم الناس بنحو البصريين، معتزلي العقيدة، حنفي المذهب، ولي قضاء بغداد وكان نزيها، عفيفا، جميل الامر، حسن الاخلاق، لم يأكل إلا من كسب يده، ينسخ ويأكل منه، حتى أيام قضائه، وله كتب كثيرة في القراءات، والنحو، وغيرها[٦].
و (الابن): يوسف بن الحسن، أبو محمد، ابن السيرافي، البغدادي (٣٣٠ | ٩٤١ ـ ٣٨٥ | ٩٩٥) وكان عالما بالنحو، والادب، واللغة، أخذ عن والده، فخلفه في جميع علومه، وتصدر مجلسه بعد موته، وأكمل كتبه التي مات ولم يكملها، وألف كتبا عدة، وكان يرجع إلى علم ودين، رأسا في العربية[٧].
فأيهما الذي حضر عليه الشريف ؟
يقول الدكتور الحلو أنه الاب، أبو سعيد نفسه، لا ابنه أبو محمد، ابن السيرافي[٨] ثم يتناوله بتفصيل أكثر فيقول:
ويرى الدكتور إحسان عباس أنه: (ربما كان من الوهم أن نعد أبا سعيد السيرافي واحدا من أساتذة الرضي (...) لان السيرافي أبا سعيد توفي وعمر الرضي يقل عن ثمان سنوات (...) وابن السيرافي المشار إليه فيما أعتقد هو: ابن أبي سعيد يوسف وقد توفي (...) ورثاه الرضي (...) وقد خلف يوسف أباه في علومه)[٩].
وقد رد الاستاذ محمد عبد الغني حسن هذا الرأي، وقال: إنه (لا حاجة للانكار، ولا موضع للغرابة، لان الشريف كان شديد الذكاء، وإذا ذهبنا مع الدكتور إحسان عباس إلى أن المراد هو ابن أبي سعيد السيرافي، لا أبو سعيد نفسه، فهل يحل هذه القضية وينفي تعلمه النحو، وهو دون العاشرة ؟ !)[١٠].
ولست أرى مجالا للخلاف في هذه القضية، فإن ابن جني يذكر أن الرضي احضر إلى مجلس ابن السيرافي، وواضح أن المراد هنا أبو سعيد، لاولده، فهو الذي كان صاحب المجلس واستاذا لابن جني، وكان ابن جني يتلقى عنه، فهو شاهد عيان، ولم تذكر الرواية أن الرضي قرأ عليه شيئا، وإنما لقنه النحو في جملة من يلقن من حضور الحلقة، ثم ذاكره بشيء من الاعراب ليختبر تقدمه، وقد كان يوسف ولده يفيد الطلبة في حياة أبيه كما يذكر ابن خلكان ولعله كان يعني بالمبتدئين في العلم من حضور حلقة والده كالرضي.
فالرضي إذا حضر حلقة أبي سعيد، وهو صاحب القصة معه، وهذا لا يدفع أنه ربما استفاد من علم ولده يوسف الذي كان يفيد الطلبة في حياة أبيه، وإن كان لا يشعر نحوه بما يشعر به الطالب نحو استاذه، فقصيدته في رثائه لا تدل على أنه يرثي استاذا له، ولم يقلها الرضي فيه إلا ليحافظ على ما ضيعه الناس من الوفاء (...) وما هكذا يفعل الرضي في رثاء أساتذته (...)[١١].
وقد سبقه إلى عد أبي سعيد السيرافي نفسه استاذا للشريف، شيخنا العلامة الاميني في الغدير: ٤ | ١٨٣، وسبقهما السيد الخوانساري في روضات الجنات في ترجمة (أبي سعيد السيرافي): ٣ | ٧٣، عندما ذكر تلك النادرة التي تقدمت، وأضاف: (ولما سمع بذلك أبوه فرح بذلك، وقال له: أنت ابني حقا). ثم ذكر: أن الثعالبي ذكر في ترجمة الشريف: أنه له في أبي سعيد مرثية ـ وذكر ثلاثة أبيات منها ثم ترجم لابنه يوسف، وتبعه في هذا الشيخ عباس القمي في الكنى والالقاب: ٢ | ٣٤٠ ولا أدري كيف وقع له مثل هذا مع أن الثعالبي يصرح بأن المرثي هو أبو محمد بن أبي سعيد[١٢] وهكذا صدرت القصيدة في ديوان الشريف[١٣] والاضافه التي جاءت في حكاية الخوانساري حكاها الشريف القاضي التستري في مجالس المؤمنين: ١ | ٥٠٥ عن (تذكرة ابن عراق) ولم أتعرف عليه الان !
وهذه إحدى المشكلتين. وهناك مشكلة اخرى، وهي أن الشريف قد ذكر من قرأ عليهم وهم:
١ ـ علي بن عيسى بن الفرج، أبو الحسن الربعي، الشيرازي، ثم البغدادي (٣٢٨ | ٩٤٠ ٤٢٠ | ١٠٢٩) وتوفي الشريف، والربعي كان لا يزال حيا.
٢ ـ أبو الفتح عثمان بن جني، الموصلي، ثم البغدادي (ح ٣٢٧ | ٩٣٩ ـ ٣٩٢ | ١٠٠٢).
وقال الشريف نفسه: (وقال لي شيخنا أبو الحسن علي بن عيسى النحوي، صاحب أبي علي الفارسي، وهذا الشيخ كنت بدأت بقراءة النحو عليه قبل شيخناأبي الفتح عثمان بن جني، فقرأت عليه (مختصر الجرمي) وقطعة من (كتاب الايضاح) لابي علي الفارسي، و (مقدمة) أملاها علي كالمدخل إلى النحو...)[١٤].
ووجه المشكلة أن الشريف إن كان قد قرأ على السيرافي، الاب، أو الابن، أيا كان، فلماذا لم يشر إليه ؟
وقال شيخنا النوري: (وظاهره أنه لم يقرأ على السيرافي، وإلا لاشار إليه، مع أنه عند وفاة السيرافي [ الاب، وهكذا فسره بالاب ] كان ابن تسع سنين، كما يظهر من تاريخ ولادة الاول ووفاة الثاني) ثم حكى ما حكاه ابن خلكان، فقال: (وفي قوله: فلقنه النحو مسامحة)[١٥].
والذي أراه في حل المشكلة الاولى التأكيد على مدلول (ابن) السيرافي ! فإن إضافة (ابن) إنما جيء بها للتعريف، والتعريف بالاضافة إلى الاب (السيرافي) لا يصح إلا إذا كان الاب قد بلغ من الشهرة المبلغ الذي يعد أشهر من يحمل العنوان، فيعرف به من يضاف إليه (إبنا) كان أو (أخا) أوغيرهما، وهذا يعني: أن المشتهر يومذاك بالسيرافي كان هو الاب، لا الابن الذي حضر الشريف مجلسه، وهذا لا يصح إلا إذا كان الاب أبو سعيد السيرافي نفسه، لا أبوه بهزاد المجوسي الذي عاش في سيراف، والذي أسلم وسماه ابنه عبدالله،عاش مغمورا ومات مغمورا، ولو لم يبلغ ابنه أبو سعيد ما بلغه لم يسمع بذكره أحد. وبهذا يكون الذي حضر عنده الشريف ابن أبي سعيد السيرافي أبا محمد، لاهو نفسه. وليست المشكلة تدور حول قصر السن أو قلة الذكاء، فإنه لا مناقشة في شدة ذكاء الشريف وحدة فطنته، وقصر سنه لم يمنعه من الحضور على الشيخ المفيد ـ كما سيأتي وسيأتي أن عمره كان يومذاك في حدود السادسة.
ولم أجد فيما أملك من المصادر قراءة ابن جني على أبي سعيد السيرافي، وانما الذي تتفق المصادر كلها عليه أنه قرأ على أبي علي الفارسي، في صحبة دامت أربعين سنة،صحبه في أسفاره، وخلا به في مقامه[١٦]، ويذكر ابن ماكولا أن ابن جني (سمع جماعة من المواصلة والبغداديين)[١٧] ، إلا أن أحدا لم يذكر أنه كان فيهم أبو سعيد السيرافي.
ولا نملك أي حجة تدلنا على قراءة الشريف على السيرافي، سواء أكان الاب أم الابن، سوى ما تدل عليه هذه النادرة، وهي لا تدل إلا على أنه حضر مجلس الابن دون الاب، وبهذا لا أجد أي مبرر لما احتاط الدكتور الحلو في رأيه حينما ارتأى أن الشريف قرأ على الاب، وأضاف: (وهذا لا يدفع أنه ربما استفاد من علم ولده يوسف).
ولا يلزم أن تكون القراءة على الابن أنها كانت بعد وفاه الاب بل أرجح أنها وقعت في حياة الاب، وفيما يقرب من تأريخ حضوره على شيخنا المفيد ـ كما سيأتي وإنما اختير له الابن (وكان يفيد الطلبة في حياة أبيه)[١٨] ، أن الاب يومذاك كان قد بلغ من العمر عتيا، ومن الشخصية العلمية ما ارتفع بها عن الاشتغال بمبادىء النحو والعربية، وتلقين الصغار تلك المبادىء، دون الابن وخاصة في حياة الاب، وهو بعد لم يشغل مجلس أبيه.
والذي كان من ابن السيرافي أنه لقن الشريف النحو، ويقصد منه التعليم الشفهي، والتحفيظ وتقويم اللسان، ولا تدل القصة على أن الشريف قرأ عليه شيئا من الكتب الموضوعة في النحو، لا صغيرها ولا كبيرها، بل وان (مختصر الجرمي) وما كان كالمدخل إلى النحو قرأهما على الربعي فيما بعد.
ولعل لهذه الجهة، ولان التلقين انتهى بتلك النادرة سبب ذلك انقطاع الشريف عن أبي محمد السيرافي، بعد أن لقنه أوليات النحو.
وأرى أن ما ذكرته كاف لتعليل تلك الظاهرة التي أشار إليها الدكتور الحلو، والتي تبدو من رثاء الشريف لابي محمد السيرافي، وأظن قويا أن موقف أبي محمد السيرافي من نادرة الشريف كان موقف غضب وامتعاض، ولم يكن يومذاك بعد، قد أبدل (عمر) بـ (عمرو) كي تخف الوطأة (ويسهل ابتلاع النادرة) كما يقولون ولعل ذلك الموقف، أو ما تعقبه من ملاحظات وتعليقات خلف ذلك كله في نفس التلميذ الصغير وخاصة إن كان بمثل الشريف الرضي آثار سوء ظلت حية، حتى وبعد أن مات أبو محمد.
وأرى أيضا أن هذا كاف لتفسير تغافل الشريف عن الايام المعدودات التي حضر فيها عند ابن السيرافي، وعدم الاهتمام بتلك الايام وتغافلها، عندما ذكرالشريف من قرأ عليه النحو والادب.
-------------------------------------------------
[١] . وفيات الاعيان، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، بلا تاريخ، ٤ | ٤١٦.
[٢] . ديوان الشريف الرضي، تحقيق الدكتور عبدالفتاح محمد الحلو،الجمهورية العراقية، وزارة الاعلام، ١٩٧٧، ١ | ٨٠.
[٣] . راجع:ملاحظات على وفيات الاعيان، مؤسسة الرسالة،بيروت، ط ١، ١٣٩٧ | ١٩٧٧ | ٥١ ـ ٦٣.
[٤] . هكذا جاء في المطبوع من الانباه، إنباه الرواة، ٣ | ١١٤.
[٥] . راجع المنتظم: ٨ | ٢٦، ابن كثير: ١٢ | ٥٣، معجم الادباء: ٥ | ١٧٦، وقارن بما جاء محرفا مبتورا عند ابن حجر في لسان الميزان، ٤ | ٢٢٤.
[٦] . تاريخ بغداد: ٧ |٣٤١ ٣٤٢، (ابن) النديم | ٦٨، المنتظم: ٧ | ٩٥، الانساب: ٧ | ٣٣٩ ـ٣٤٠، إنباه الرواة: ١ | ٣١٣ ـ٣١٥، ابن خلكان: ٢ | ٧٨ ـ ٧٩، ياقوت: ٣ | ٨٤ ـ ١٢٥، سير أعلام النبلاء: ١٦ | ٢٤٧ ـ ٢٤٨ ومصادر كثيرة اخرى.
[٧] . المنتظم: ٧ | ١٨٧، إنباه الرواه: ٤ | ٦١ ـ ٦٣، ياقوت: ٧ | ٣٠٧، ابن خلكان: ٧ | ٧٢ ـ ٧٤، سير أعلام النبلاء: ١٦ | ٢٤٨ ـ ٢٤٩، وغيرها.
[٨] . ديوان الشريف الرضي: ١ | ٨٢.
[٩] . الدكتور إحسان عباس، الشريف الرضي | ٣٩ ـ٤٠.
[١٠] . محمد عبد الغني حسن،الشريف الرضي | ٢٤.
[١١] . الشريف الرضي، الدكتور عبدالفتاح محمد الحلو، معهد المخطوطات العربية، جامعة الدول العربية، القاهرة، ١٣٩٦ | ١٩٧٦ | ١٠٤ـ ١٠٦، وهي مكتوبة بالالة الطابعة.
[١٢] . يتيمة الدهر: ٣ | ١٤٩.
[١٣] . ط. بيروت: ١ | ٤٩٠ ـ ٤٩١.
[١٤] . حقائق التأويل: ٨٧ ـ ٨٨.
[١٥] . مستدرك الوسائل: ٣ |٥١٤.
[١٦] . إنباه الرواة: ٢ | ٣٣٦،ياقوت: ٥ | ١٨ ـ ١٩، ابن خلكان: ٣ | ٢٤٦ البلغة في تاريخ أئمة اللغة | ١٣٧، نزهة الالباء | ٣١٥، ٣٣٣، سير أعلام النبلاء: ١٦ | ٣٨٠، ١٧ | ١٨، بغية الوعاة: ٢ | ١٣٢، روضات الجنات، ٥ | ١٧٦، ١٧٧، ١٨٠.
[١٧] . الاكمال: ٢ | ٢٨٥، الانساب: ٣ | ٣١٦.
[١٨] . إنباه الرواة: ٤ | ٦١، ابن خلكان: ٧ | ٧٢، اليافعي: ٢ | ٤٢٩ ـ ٤٣٠.
مقتبس من مجلة تراثنا السنة الثالثة ١٤٠٨هـ العدد/ ١