من كتاب قصص نهج البلاغة للاشتهاردي
١- تمّرد ابليس
إبليس (أب الشياطين)، كان في صف أهل العرش، ستّة آلاف عام قضاها يتعبّد في محراب الله.
الله الكبير المتعال عندما خلق الإنسان، ونفخ فيه من روحه، أمر الملائكة بالسجود له (وَإذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلا إبْلِيسَ أبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الكَافِرِينَ)[١] ولما سأله الله جلّ شأنه عن عدم سجوده قال: (قَالَ مَا مَنَعَكَ ألا تَسْجُدَ إذْ أمَرْتُكَ قَالَ أنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَار وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين)[٢] فقال جلّ شأنه له: (فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ)[٣].
يقول الإمام عليّ(عليه السلام) في خطبة له تسمّى القاصعة وهي تتضمن ذم إبليس على استكباره وتركه السجود لآدم(عليه السلام)، وأ نّه أول من أظهر العصبية وتبع الحمية وتحذير الناس من سلوك طريقته:
الْحَمْدُ لله الَّذِي لَبِسَ الْعِزَّ وَالْكِبْرِيَاءَ، وَاخْتَارَهُمَا لنَفْسِهِ دُونَ خَلْقِهِ، وَجَعَلَهُمَا حِمىً وَحَرَماً عَلَى غَيْرِهِ، وَاصْطَفَاهُمَا لِجَلاَلِهِ.
وَجَعَلَ اللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا مِنْ عِبَادِهِ. ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذلِكَ مَلاَئِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ، لَِيمِيزَ المُتَوَاضِعيِنَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَهُوَ الْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ القُلُوبِ، وَمَحْجُوبَاتِ الْغُيُوبِ: (إنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِين فَإذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أجْمَعُونَ) اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِيَّةُ، فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بَخَلْقِهِ، وَتَعَصَّبَ عَلَيْهِ لاَِصْلِهِ. فَعَدُوُّ اللهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ، وَسَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ، وَنازَعَ اللهَ رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ ... إلى أن يقول: ـ
وَلكِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ، تَمْيِيزاً بِالإخْتِبَارِ لَهُمْ، وَنَفْياً لِلاْسْتِكَبَارِ عَنْهُمْ، وَإِبْعَاداً لِلْخُيَلاَءِ مِنْهُم.
فَاعْتَبِروا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللهِ بِإِبْلِيسَ، إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ، وَجَهْدَهُ الْجَهِيدَ، وَكَانَ قَدْ عَبَدَ اللهَ سِتَّةَ آلاَفِ سَنَة، لاَ يُدْرَى أمِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الاْخِرَةِ، عَنْ كِبْرِ سَاعَة وَاحِدَة.
فَمَنْ بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اللهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ؟ كَلاَّ، مَا كَانَ اللهُ سُبْحَانَهُ لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً بِأَمْر أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَكاً، إِنَّ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ السَّماءِ وأَهْلِ الاْرْضِ لَوَاحِدٌ، وَمَا بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ أَحَد مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ فِي إِبَاحَةِ حِمىً حَرَّمَهُ عَلَى الْعَالَمينَ.
فَاحْذَرُوا عَدُوَّ اللهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ، وَأَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِنِدَائِهِ، وَأَنْ يُجْلِبَ عَلَيْكُمْ بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ[٤].
٢- توبة ادم عليه السلام
خلق الله آدم(عليه السلام) ووهبه المعرفة الّتي يفرق بها بين الحقّ والباطل، أسكنه سبحانه داراً أرغد فيها عيشته، وآمن فيها محلته، وحذره إبليس وعداوته.
ولكن إبليس اللعين انتهز منه غرة فأغواه، وكان الحامل للشيطان على غواية آدم حسده له على الخلود في دار المقام ومرافقته الأبرار من الملائكة الأطهار، فأدخل عليه الشك في أن ما تناول منه سائغ التناول بعد أن كان في نهى الله له عن تناول ما يوجب له اليقين بحظره عليه.
يقول أميرالمؤمنين(عليه السلام): «اغْتَرَّهُ نَفَاسَةً عَلَيْهِ بِدَارِ الْمُقَامِ، وَمُرَافَقَةِ الاَْبْرَارِ، فَبَاعَ الْيَقِينَ بِشَكِّهِ، وَالعَزِيمَةَ بِوَهْنِهِ، وَاسْتَبْدَلَ بِالْجَذَلِ وَجَلا، وَبِالاْغْتِرَارِ نَدَماً. ثُمَّ بَسَطَ اللهُ سُبْحَانَهُ لَهُ في تَوْبَتِهِ، وَلَقَّاهُ كَلِمَةَ رَحْمَتِهِ، وَوَعَدَهُ المَرَدَّ إِلَى جَنَّتِهِ، فَأَهْبَطَهُ إِلَى دَارِ الَبَلِيَّةِ، وَتَنَاسُلِ الذُّرِّيَّةِ»[٥].
فقد أخرجهما مما كانا فيه وغفر خطيئتهما بعدما تابا ولم يرجعهما إلى الجنّة[٦] بل أهبطهما إلى الدنيا ليحييا فيها ولو لم تكن الحياة الأرضية مع أكل الشجرة وظهور السوأة حتماً مقضياً، والرجوع إلى الجنّة مع ذلك محالا، لرجعا إليها بعد حط الخطيئة، فالعامل في خروجهما من الجنّة وهبوطهما هو الأكل من الشجرة وظهور السوأة، وكان ذلك بوسوسة الشيطان اللعين[٧].
٣- من أجل هدفين
بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، كان الوصي الحقيقي والخليفة الشرعي له هو أميرالمؤمنين(عليه السلام)، ولكن القوم غصبوا الخلافة منه، فأصبح أبو بكر الخليفة، حيث استمرت خلافته سنتين وأربعة أشهر، وقبل وفاته أوصى إلى عمر بن الخطاب، الّذي استمر يحكم المسلمين لأكثر من احدى عشر عاماً، ثمّ قتل، فجاء بعده عثمان عن طريق شورى الستّة الّتي عيّنها عمر، وبقي عثمان حاكماً لمدة اثني عشر عاماً، ثمّ قتل بعدها لترجع الاُمة إلى خليفتها الشرعي الإمام عليّ(عليه السلام)، الّذي امتدّت خلافته لمدّة أربعة سنوات وتسعة أشهر تقريباً، قاتل فيها الناكثين والقاسطين والمارقين كما أخبره رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
يقول الإمام عليّ(عليه السلام) متحدّثاً عن تلك الفترة الزمنية وذلك في خطبته المعروفة بالشقشقية:
«أَمَا وَالله لَقَدْ تَقَمَّصَها فُلانٌ، وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّيَ مِنهَا مَحَلُّ القُطْبِ مِنَ الرَّحَا، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ، وَلا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ، فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً، وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً، وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَد جَذَّاءَ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَة عَمْيَاءَ، يَهْرَمُ فيهَا الكَبيرُ، وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ.
فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرتُ وَفي الْعَيْنِ قَذىً، وَفي الحَلْقِ شَجىً... إلى أن يقول: ـ
أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى العُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِم، وَلا سَغَبِ مَظْلُوم، لاََلقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِها، وَلاََلفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْز!
وقام إِليه رجل من أهل السواد[٨] عند بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته فناوله كتاباً، فأقبل ينظر فيه.
قال له ابن عباس: يا أميرالمؤمنين، لو اطَّرَدت خطبتك من حيث أَفضيتَ!
فَقَالَ : هَيْهَاتَ يَابْنَ عَبَّاس! تِلْكَ شِقْشِقَةٌ هَدَرَتْ ثُمَّ قَرَّتْ!
قال ابن عباس: فوالله ما أَسفت على كلام قطّ كأَسفي على ذلك الكلام أَلاَّ يكون أميرالمؤمنين(عليه السلام) بلغ منه حيث أراد[٩].
٤- وقت السياسة
لما قبض رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، واشتغل عليّ(عليه السلام) بغسله ودفنه، وبويع أبو بكر، خلا الزبير وأبو سفيان وجماعة من المهاجرين بالعباس وعليّ(عليه السلام)، لاجالة الرأي، وتكلموا بكلام يقتضي الاستنهاض والتهييج، وكان ممّا قاله أبو سفيان لأميرالمؤمنين(عليه السلام): (أبسط يدك أُبايعك، فو الله إن شئت لأملأنها على أبي فضيل ـ يعني أبا بكر ـ خيلا ورجلا) فقال العباس: قد سمعنا قولكم فلا لقلّة نستعين بكم، ولا لظنّة نترك آراءكم، فأمهلونا نراجع الفكر، فإن يكن لنا من الاثم مخرج يصر بنا وبهم الحقّ صرير الجدجد، ونبسط إلى المجد أكفا لا نقبضها أو تبلغ المدى، وإن تكن الاُخرى، فلا لقلّة في العدد ولا لوهن في الأبد، والله لولا أن الإسلام قيد الفتك، لتدكدكت جنادل صخر يسمع اصطكاكها من المحل العلى، فحل عليّ(عليه السلام) حبوته، وقال:
«الصبر حلم، والتقوى دين، والحجة محمّد، والطريق الصراط، أيها الناس، شُقُّوا أَمْوَاجَ الفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجَاةِ، وَعَرِّجُوا عَنْ طَريقِ الـمُنَافَرَةِ، وَضَعُوا تِيجَانَ الـمُفَاخَرَةِ. أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بِجَنَاح، أوِ اسْتَسْلَمَ فَأَراحَ، مَاءٌ آجِنٌ، وَلُقْمَةٌ يَغَصُّ بِهَا آكِلُهَا، وَمُجْتَنِي الَّثمَرَةِ لِغَيْرِ وَقْتِ إِينَاعِهَا كالزَّارعِ بِغَيْرِ أَرْضِهِ.
فَإِنْ أقُلْ يَقُولُوا: حَرَصَ عَلَى الـمُلْكِ، وَإنْ أَسْكُتْ يَقُولُوا: جَزعَ مِنَ المَوْتِ! هَيْهَاتَ بَعْدَ اللَّتَيَّا وَالَّتِي[١٠]! وَاللهِ لاَبْنُ أَبي طَالِب آنَسُ بالمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْي أُمِّهِ، بَلِ انْدَمَجْتُ عَلَى مَكْنُونِ عِلْم لَوْ بُحْتُ بِهِ لاَضْطَرَبْتُمُ اضْطِرَابَ الاَْرْشِيَةِ في الطَّوِيِّ البَعِيدَةِ»[١١].
٥- جائزة الاشتراك في تحقيق الهدف
لما أن منَّ الله تعالى عليه ـ الإمام عليّ(عليه السلام) ـ بما هو أهله من الظفر على أصحاب الجمل، قال له بعض أصحابه: وددت أن أخي فلاناً كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك، فقال عليّ(عليه السلام):
أَهَوَى أَخِيكَ مَعَنَا؟ قال: نَعَم. قالَ: فَقَدْ شَهِدنَا، وَلَقَدْ شَهِدَنَا في عَسْكَرِنَا هذَا أقَوْام في أَصْلاَبِ الرِّجَالِ، وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ، سَيَرْعُفُ بِهِمُ الزَّمَانُ، ويَقْوَى بِهِمُ الإيمان[١٢].
ثمّ دخل بجماعة من أصحابه إلى بيت مال المسلمين بالبصرة، فنظر إلى ما فيه من العين والورق، فأدام النظر إليه، فجعل يقول: يا صفراء ويا بيضاء، غري غيري.
ثمّ قال(عليه السلام): اقسموه بين أصحابي، خمسمائة خمسمائة، فقسموه فأصاب كلّ رجل منهم خمسمائة، فلم يزد درهماً ولا نقص درهماً! فكان عدد أصحابه اثني عشر ألفاً، وقبض(عليه السلام) على ما أصابه في معسكرهم، فباعه وقسمه أيضاً عليهم، ولم يزد لنفسه ولا لأولاده وأهل بيته عن أصحابه بشيء أبداً. ثمّ أتاه رجل من أصحابه لم يكن حاضر القسمة. فقال: يا أميرالمؤمنين، إني لم آخذ شيئاً لعدم حضوري عند القسمة، فالسبب الموجب لغيابي عنها هو كيت وكيت، فأعطاه ما أصابه من القسمة[١٣].
٦- نقد شديد لحماة الباطل
بعد أن اجتمع طلحة والزبير وعائشة بالبصرة لمحاربة أميرالمؤمنين(عليه السلام)، تجهز لهم الإمام وأدركهم بالبصرة، وبعد أن أوسع لهم النصيحة وحذرهم الفتنة، حيث بذل محاولات كثيرة حقناً للدماء فلم ينجح النصح، انتشبت الحرب بين الفريقين واشتد القتال، وكان الجمل يعسوب جيش عائشة قتل دونه خلق كثير من الفئتين وأخذ خطامه سبعون قرشياً ما نجا منهم أحد، وانتهت الموقعة بنصر عليّ(عليه السلام) بعد عقر الجمل، ومقتل طلحة والزبير وسبعة عشر ألفاً من أصحاب الجمل وكانوا ثلاثين ألفاً، وقتل من أصحاب عليّ ألف وسبعون.
وكان ممّا قاله أميرالمؤمنين(عليه السلام) في ذم أهل البصرة: «كُنْتُمْ جُنْدَ الْمَرْأَةِ، وَأَتْبَاعَ البَهِيمَةِ، رَغَا فَأَجَبْتُم، وَعُقِرَ فَهَرَبْتُمْ.
أَخْلاَقُكُمْ دِقَاقٌ، وَعَهْدُكُمْ شِقَاقٌ، وَدِيْنُكُمْ نِفَاقٌ، وَمَاؤُكُمْ زُعَاقٌ.
المُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مُرْتَهَنٌ بِذَنْبِهِ، وَالشَّاخِصُ عَنْكُمْ مُتَدَارَكٌ بِرَحْمة مِنْ رَبِّهِ.
كَأَنِّي بِمَسْجِدكُمْ كَجُؤْجُؤِ سَفِينَة، قَدْ بَعَثَ اللهُ عَلَيْها العَذَابَ مِنْ فَوْقِها وَمِنْ تَحتِها، وَغَرِقَ مَنْ في ضِمْنِها»[١٤].
٧- استرداد بيت المال
من كلام لأميرالمؤمنين(عليه السلام) فيما ردّه على المسلمين من قطائع عثمان:
والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الاماء لرددته فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق.
قال ابن أبي الحديد: وأمر ـ عليّ(عليه السلام) ـ أن ترتجع الأموال الّتي أجاز بها عثمان حيث أصيبت أو أصيب أصحابها، فبلغ ذلك عمرو بن العاص، وكان بأيلة من أرض الشام، أتاها حيث وثب الناس على عثمان، فنزلها فكتب إلى معاوية: ما كنت صانعاً فاصنع، إذ قشرك ابن أبي طالب من كلّ مال تملكه كما تقشر عن العصا لحاها.
وكان هذا أول ما أنكروه من كلامه(عليه السلام)، وأورثهم الضغن عليه وكرهوا اعطاءه وقسمه بالسوية. فلما كان من الغد، غدا وغدا الناس لقبض المال، فقال لعبيد الله بن أبي رافع كاتبه: ابدأ بالمهاجرين فنادهم، وأعط كلّ رجل ممن حضر ثلاثة دنانير، ثمّ ثن بالأنصار فافعل معهم مثل ذلك، ومن يحضر من الناس كلهم، الأحمر والأسود فاصنع به مثل ذلك.
فقال سهل بن حنيف: يا أميرالمؤمنين، هذا غلامي بالأمس، وقد أعتقته اليوم.
فقال: نعطيه كما نعطيك، فأعطى كلّ واحد منهما ثلاثة دنانير، ولم يفضل أحداً على أحد، وتخلف عن هذا القسم يومئذ طلحة، والزبير، وعبدالله بن عمر، وسعيد بن العاص، ومروان بالحكم، ورجال من قريش وغيرها.
وسمع عبيدالله بن أبي رافع عبدالله بن الزبير يقول لأبيه وطلحة ومروان وسعيد: ما خفى علينا أمس من كلام عليّ ما يريد، فقال سعيد بن العاص ـ والتفت إلى زيد بن ثابت ـ : إياك أعني واسمعي يا جارة.
فقال عبيدالله بن أبي رافع لسعيد وعبدالله بن الزبير: إنّ الله يقول في كتابه: (وَأكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ).
ثمّ إن عبيدالله بن أبي رافع أخبر عليّاً(عليه السلام) بذلك، فقال:
«والله إن بقيت وسلمت لهم لأقيمنهم على المحجة البيضاء، والطريق الواضح، قاتل الله ابن العاص! لقد عرف من كلامي ونظري إليه أمس أني أريده وأصحابه ممّن هلك فيمن هلك»[١٥].
٨- ضوابط لا روابط
من خطبة لأميرالمؤمنين(عليه السلام) لما بويع بالمدينة:
«ذِمَّتي بِمَا أَقُولُ رَهِينَةٌ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ: إِنَّ مَنْ صَرَّحَتْ لَهُ العِبَرُ عَمَّا يَدَيْهِ مِنَ المَثُلاتِ، حَجَزَتهُ التَّقْوَى عَنْ تَقَحُّمِ الشُّبُهَاتِ.
أَلاَ وَإِنَّ بَلِيَّتَكُمْ قَدْ عَادَتْ كَهَيْئَتِهَا يَوْمَ بَعَثَ اللهُ نَبِيَّهُ، وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً، وَلَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً، وَلَتُسَاطُنَّ سَوْطَ القِدْرِ، حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلاَكُمْ، وَأَعْلاَكُمْ أَسْفَلَكُمْ، وَلَيَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا، وَلَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا. وَاللهِ مَا كَتَمْتُ وَشْمَةً، وَلا كَذَبْتُ كِذْبَةً، وَلَقَدْ نُبِّئْتُ بِهذا المَقامِ وَهذَا اليَوْمِ.
أَلاَ وَإِنَّ الخَطَايَا خَيْلٌ شُمُسٌ حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُها، وَخُلِعَتْ لُجُمُهَا، فَتَقَحَّمَتْ بِهِمْ في النَّارِ.
أَلاَ وَإِنَّ التَّقْوَى مَطَايَا ذُلُلٌ، حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا، وَأُعْطُوا أَزِمَّتَها، فَأَوْرَدَتْهُمُ الجَنَّةَ. حَقٌّ وَبَاطِلٌ، وَلِكُلٍّ أَهْلٌ، فَلَئِنْ أَمِرَ البَاطِلُ لَقَدِيماً فَعَلَ، وَلَئِنْ قَلَّ الحقُّ لَرُبَّما وَلَعَلَّ، وَلَقَلَّمَا أَدْبَرَ شَيءٌ فَأَقْبَلَ!
شُغِلَ مَنِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ أَمَامَهُ! سَاع سَرِيعٌ نَجَا، وَطَالِبٌ بَطِيءٌ رَجَا، وَمُقَصِّرٌ في النَّارِ هَوَى.
الَيمِينُ وَالشِّمالُ مَضَلَّةٌ، وَالطَّرِيقُ الوُسْطَى هِيَ الجَادَّةُ، عَلَيْهَا بَاقي الكِتَابِ، وَآثَارُ النُّبُوَّةِ، وَمِنْهَا مَنْفَذُ السُّنَّةِ، وَإلَيْهَا مَصِيرُ العَاقِبَةِ.
هَلَكَ مَنِ ادَّعى، وَخَابَ مَنِ افْتَرَى»[١٦].
بهذه الكلمات بدأ أميرالمؤمنين حكمه في المدينة، وتعتبر هذه الخطبة من جلائل خطبه(عليه السلام) ومن مشهوراتها.
٩- الأشعث وتوبيخ الإمام له
الأشعث بن قيس من قبيلة كندة، كان من المنافقين في خلافة عليّ(عليه السلام)، وهو من أصحاب أميرالمؤمنين(عليه السلام)، كما كان عبدالله بن أبي بن سلول في أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، كلّ واحد منهما رأس النفاق في زمانه، وكان أشعث سكن الكوفة وهو عامل عثمان على آذربيجان، وكان أبا زوجة عمر بن عثمان وكتب أميرالمؤمنين(عليه السلام) إليه بعد فتح البصرة فسار وقدم على عليّ(عليه السلام) وحضر صفين، ثمّ صار خارجياً ملعوناً.
قال ابن أبي الحديد: كلّ فساد كان في خلافة الإمام عليّ(عليه السلام) وكل اضطراب فأصله الأشعث، وهو الّذي شرك في دمه(عليه السلام)، وابنته جعدة سمّت الحسن(عليه السلام)، ومحمّد ابنه شرك في دم الحسين(عليه السلام).
وروي أنّ أميرالمؤمنين(عليه السلام) كان على منبر الكوفة يخطب، فمضى في بعض كلامه شيء اعترضه الأشعث فيه، فقال: يا أميرالمؤمنين، هذه عليك لا لك، فخفض(عليه السلام) إليه بصره، ثمّ قال: «ومَا يُدْرِيكَ مَا عَلَيَّ مِمَّا لِي؟ عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللهِ وَلَعْنَةُ اللاَّعِنِينَ! حَائِكٌ ابْنُ حَائِك! مُنَافِقٌ ابْنُ كُافِر! وَاللهِ لَقَدْ أَسَرَكَ الكُفْرُ مَرَّةً وَالإسْلامُ أُخْرَى! فَمَا فَداكَ مِنْ وَاحِدَة مِنْهُمَا مَالُكَ وَلاَ حَسَبُكَ! وَإِنَّ امْرَأً دَلَّ عَلَى قَوْمِهِ السَّيْفَ، وَسَاقَ إِلَيْهِمُ الحَتْفَ، لَحَرِيٌّ أَنْ يَمقُتَهُ الاَْقْرَبُ، وَلاَ يَأْمَنَهُ الاَْبْعَدُ!»[١٧].
وقد حُمل الأشعث إلى أبي بكر موثقاً في الحديد هو والعشرة، فعفا عنه وعنهم، وزوجه أخته اُم فروة بنت أبي قحافة ـ وكانت عمياء ـ فولدت للأشعث محمّداً وإسماعيل وإسحاق.
وخرج الأشعث يوم البناء عليها إلى سوق المدينة، فما مرّ بذات أربع إلاّ عقرها، وقال للناس: هذه وليمة البناء، وثمن كلّ عقيرة في مالي، فدفع أثمانها إلى أربابها.
قال الطبري: وكان المسلمون يلعنون الأشعث ويلعنه الكافرون أيضاً وسبايا قومه، وسماه نساء قومه عرف النار، وهو اسم للغادر عندهم.
أمّا الكلام الّذي كان أميرالمؤمنين(عليه السلام) قاله على منبر الكوفة فاعترضه فيه الأشعث، فإن عليّاً(عليه السلام) قام إليه وهو يخطب، ويذكر أمر الحكمين، فقام رجل من أصحابه، بعد أن انقضى أمر الخوارج، فقال له: نهيتنا عن الحكومة ثمّ أمرتنا بها، فما ندري أي الأمرين أرشد؟
فصفق(عليه السلام) بإحدى يديه على الاُخرى، وقال: هذا جزاء من ترك العقدة.
وكان مراده(عليه السلام): هذا جزاؤكم إذ تركتم الرأي والحزم، وأصررتم على إجابة القوم إلى التحكيم، فظن الأشعث أ نّه أراد: هذا جزائي حيث تركت الرأي والحزم وحكمت، لأن هذه اللفظة محتملة، ألا ترك أن الرئيس إذا شغب عليه جنده وطلبوا منه اعتماد أمر ليس بصواب، فوافقهم تسكيناً لشغبهم لا استصلاحاً لرأيهم، ثمّ ندموا بعد ذلك.
فلما قال له: هذه عليك لا لك، قال له: وما يدريك ما عليَّ ممّا لي، عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين! ١٠ - نقد شديد ١٠ - للمتخاذلين في الجهاد
عندما استلم الإمام عليّ(عليه السلام) الخلافة الظاهرية، قرر أن يسير جميع المسلمين على خطّه، ولكن حبّ الرئاسة عند البعض والانحراف النفسي الّذي أصاب الكثيرين بسبب اغتصاب الخلافة من صاحبها الشرعي، أدّى إلى أن يخالف البعض الإمام ويعلنوا الحرب عليه.
وعلى رأس هؤلاء المخالفين كان معاوية بن أبي سفيان، فمعاوية الّذي كان والياً على الشام من قبل عثمان، أعلن العصيان على الإمام(عليه السلام) بعد مقتل عثمان، وبدأ يهاجم أطراف الدولة الإسلامية ويحتل المدن الواحدة تلو الاُخرى ليضمها إلى سلطانه في الشام مستغلا انشغال الإمام عليّ(عليه السلام)بحر الناكثين في البصرة.
فقد بعث معاوية بسر بن أرطاة إلى الحجاز واليمن، ليغير على أعمال أميرالمؤمنين(عليه السلام)، والسبب الّذي دفع معاوية على تسريح بسر بن أرطاة إلى الحجاز واليمن، ان قوماً بصنعاء كانوا من شيعة عثمان، يعظمون قتله، لم يكن لهم نظام ولا رأس، فبايعوا لعليّ(عليه السلام) على ما في أنفسهم، وعامل عليّ(عليه السلام) على صنعاء يومئذ عبيدالله بن عباس، وعامله على الجند سعيد بن نمران، فلما اختلف الناس على عليّ(عليه السلام) بالعراق، وقتل محمّد بن أبي بكر بمصر، وكثرت غارات أهل الشام، تكلموا ودعوا إلى الطلب بدم عثمان، فبلغ ذلك عبيدالله بن عباس، فأرسل إلى ناس من وجوههم، فقال: ما هذا الّذي بلغني عنكم؟ قالوا: انا لم نزل ننكر قتل عثمان، ونرى مجاهدة من سعى عليه. فحسبهم، فكتبوا إلى من بالجند من أصحابهم، فثاروا بسعيد بن نمران، فأخرجوه من الجند، وأظهروا أمرهم، وخرج إليهم من كان بصنعاء، وانضم إليهم كلّ من كان على رأيهم، ولحق بهم قوم لم يكونوا على رأيهم، ارادة أن يمنعوا الصدقة، والتقى عبيدالله بن عباس وسعيد بن نمران، ومعهما شيعة عليّ(عليه السلام)، فقال ابن عباس لابن نمران: والله لقد اجتمع هؤلاء، وانهم لنا لمقاربون، وان قاتلناهم لا نعلم على من تكون الدائرة، فهلم لنكتب إلى أميرالمؤمنين(عليه السلام) بخبرهم وقدحهم، وبمنزلهم الّذي هم به.
فكتب إلى أميرالمؤمنين(عليه السلام) شارحين له الحال.
فلما وصل كتابهما، ساء عليّاً(عليه السلام) وأغضبه، وكتب اليهما:
من عليّ أميرالمؤمنين إلى عبيدالله بن العباس وسعيد بن نمران: سلام الله عليكما، فإنّي أحمد اليكما الله الّذي لا إله إلاّ هو. أمّا بعد، فإنّه أتاني كتابكما تذكران فيه خروج هذه الخارجة، وتعظمان من شأنها صغيراً، وتكثران من عددها قليلا، وقد علمت أن نخب أفئدتكما، وصغر أنفسكما، وشتات رأيكما، وسوء تدبيركما، هو الّذي أفسد عليكما من لم يكن عليكما فاسداً، وجزاء عليكما من كان عن لقائكما جباناً، فإذا قدم رسولي عليكما، فامضيا إلى القوم حتى تقرءا عليهم كتابي إليهم، وتدعواهم إلى حظهم وتقوى ربّهم، فإن أجابوا حمدنا الله وقبلناهم، وإن حاربوا استعنا بالله عليهم ونابذناهم على سواء، أن الله لا يحب الخائنين.
وقال عليّ(عليه السلام) ليزيد بن قيس الأرحبي: ألاترى إلى ما صنع قومك!
فقال: أن ظني يا أميرالمؤمنين بقومي لحسن في طاعتك، فإن شئت خرجت إليهم فكفيتهم، وإن شئت كتبت إليهم فتنظر ما يجيبونك. فكتب عليّ(عليه السلام) إليهم:
من عبدالله عليّ أميرالمؤمنين، إلى من شاق وغدر من أهل الجند وصنعاء.
أمّا بعد، فإني أحمد الله الّذي لا إله إلاّ هو، الّذي لا يعقب له حكم، ولا يرد له قضاء، ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين. وقد بلغني تجرؤكم وشقاقكم واعراضكم عن دينكم، بعد الطاعة واعطاء البيعة، فسألت أهل الدين الخالص، والورع الصادق، واللب الراجح عن بدء محرككم، وما نويتم به، وما أحمشكم له، فحدثت عن ذلك بما لم أر لكم في شيء منه عذراً مبيناً، ولا مقالا جميلا، ولا حجة ظاهرة، فإذا أتاكم رسولي فتفرقوا وانصرفوا إلى رحالكم أعف عنكم، وأصفح عن جاهلكم، وأحفظ قاصيكم، وأعمل فيكم بحكم الكتاب. فإن لم تفعلوا، فاستعدوا لقدوم جيش جم الفرسان، عظيم الأركان، يقصد لمن طغى وعصى، فتطحنوا كطحن الرحى، فمن أحسن فلنفسه، ومن أساء فعليها، وما ربّك بظلام للعبيد. ووجه الكتاب مع رجل من همدان، فقدم عليهم بالكتاب فلم يجيبوه إلى خير، فقال لهم: إنّي تركت أميرالمؤمنين يريد أن يوجه إليكم يزيد بن قيس الأرحبي، في جيش كثيف، فلم يمنعه إلاّ انتظار جوابكم فقالوا: نحن سامعون مطيعون، ان عزل عنا هذين الرجلين: عبيدالله وسعيداً.
فرجع الهمداني من عندهم إلى عليّ(عليه السلام) فأخبره خبر القوم.
وكتبت تلك العصابة حين جاءها كتاب عليّ(عليه السلام) إلى معاوية يخبرونه، وكتبوا في كتابهم:
معاوي ألا تسرع السير نحونا |
|
نبايع علياً أو يزيد اليمانيا |
فلما قدم كتابهم، دعا بسر بن أرطاة، وكان قاسي القلب فظاً سفاكاً للدماء، لا رأفة عنده، ولا رحمة، فأمره أن يأخذ طريق الحجاز والمدينة ومكة حتى ينتهي إلى اليمن، وقال له: لا تنزل على بلد أهله على طاعة عليّ إلاّ بسطت عليهم لسانك، حتى يرووا أ نّهم لا نجاء لهم، وانك محيط بهم.اكفف عنهم، وادعهم إلى البيعة لي، فمن أبى فاقتله، واقتل شيعة عليّ حيث كانوا[١٨].
فخرج بسر في جيشه حتى أتى إلى المدينة فدخلوها، وعامل عليّ(عليه السلام) عليها أبو أيوب الأنصاري، صاحب منزل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فخرج عنها هارباً، ودخل بسر المدينة، فخطب الناس وشتمهم وتهددهم يومئذ وتوعدهم، وقال: شاهت الوجوه! إن الله تعالى قال: (ضَرَبَ اللّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأتِيهَا رِزْقُهَا...)وقد أوقع الله تعالى ذلك المثل بكم وجعلكم أهله، كان بلدكم مهاجر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ومنزله، وفيه قبره ومنازل الخلفاء من بعده، فلم تشكروا نعمة ربّكم، ولم ترعوا حق نبيكم، وقتل خليفة الله بين أظهركم، فكنتم بين قاتل وخاذل، ومتربص وشامت... ثمّ شتم الأنصار، فقال: يا معشر اليهود وأبناء العبيد، بني زريق وبني النجار وبني سالم وبني عبد الأشهل، أما والله لأوقعن بكم وقعة تشفى غليل صدور المؤمنين وآل عثمان.
ودعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه، ونزل فأحرق دوراً كثيرة، منها دار زرارة بن حرون، ودار رفاعة بن رفاع، ودار أبي أيوب الأنصاري، وتفقد جابر بن عبدالله، فقال: مالي لا أرى جابراً! يا بني سلمة، لا أمان لكم عندي، أو تأتوني بجابر!
وقام بسر بجرائم وفضائع اُخرى في مكة واليمن وجميع الأمصار الّتي مرّ بها، ومن جرائمه قتله ابنَي عبيدالله بن العباس.
فلمّا سمع عليّ(عليه السلام) بجرائمه دعا عليه وقال: اللّهمّ إن بسراً باع دينه بالدنيا، وانتهك محارمك، وكانت طاعة مخلوف فاجر آثر عنده مما عندك. اللّهمّ فلا تمته حتى تسلبه عقله، ولا توجب له رحمتك ولا ساعة من نهار، اللّهمّ العن بسراً وعمراً ومعاوية وليحل عليها غضبك، ولتنزل بهم نقمتك وليصبهم باسك ورجزك الّذي لا ترده عن القوم المجرمين. فلم يلبث بسر بعد ذلك إلاّ يسيراً حتى وسوس وذهب عقله، فكان يهذى بالسيف، ويقول: اعطوني سيفاً أقتل به، لا يزال يردد ذلك حتى اتخذ له سيف من خشب، وكانوا يدنون منه المرفقة، فلا يزال يضربها حتى يغشى عليه، فلبث كذلك إلى أن مات[١٩].
١١- بيع الدين بالدنيا
لما نزل عليّ(عليه السلام) الكوفة بعد فراغه من أمر البصرة، كتب إلى معاوية كتاباً يدعوه إلى البيعة، أرسل فيه جرير بن عبدالله البجلي، فقدم عليه به الشام، فقرأه واغتم بما فيه، وذهبت به أفكاره كلّ مذهب، وطاول جريراً بالجواب عن الكتاب، حتى كلّم قوماً من أهل الشام في الطلب بدم عثمان، فأجابوه ووثقوا له، وأحب الزيادة في الاستظهار فاستشار بأخيه عتبة بن أبي سفيان، فقال له: استعن بعمرو بن العاص، فإنّه من قد علمت في دهائه ورأيه، وقد اعتزل عثمان في حياته، وهو لأمرك أشد اعتزالا، ألا أن يثمن له دينه فسيبيعك، فإنّه صاحب دنيا. فكتب إليه معاوية يدعوه للقدوم إلى الشام، فلما قدم عمرو قال له معاوية: يا أبا عبدالله، إنّي أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الّذي عصى الله وشقّ عصا المسلمين، وقتل الخليفة وأظهر الفتنة، وفرق الجماعة وقطع الرحم!
فقال عمرو: من هو؟
قال: عليّ.
قال: والله يا معاوية ما أنت وعليّ بحملي بعير، ليس لك هجرته ولا سابقته، ولا صحبته ولا جهاده، ولا فقهه ولا علمه. ووالله إن له مع ذلك لحظاً في الحرب ليس لأحد غيره، ولكني قد تعودت منالله تعالى احساناً وبلاء جميلا، فما تجعل لي إن شايعتك على حربه، وأنت تعلم ما فيه من الغرر والخطر؟
قال: حكمك، فقال: مصر طعمة. فتلكأ عليه معاوية.
ثمّ قال له: يا أبا عبدالله، إنّي أكره لك أن تتحدث العرب عنك أ نّك إنّما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا.
قال عمرو: دعني عنك، فقال معاوية: إنّي لو شئت أن أمنيك وأخدعك لفعلت. قال عمرو: لا، لعمر الله ما مثلي يخدع، لأنا أكيس من ذلك. قال معاوية: أدن مني أسارك، فدنا منه عمرو ليساره، فعض معاوية أذنه، وقال: هذه خدعة! هل ترى في البيت أحداً ليس غيري وغيرك!
عندما وصل الخبر إلى أميرالمؤمنين(عليه السلام) قال ضمن خطبة له:
«وَلَمْ يُبَايعْ حَتَّى شَرَطَ أَنْ يُؤْتِيَهِ عَلَى البَيْعَةِ ثَمَناً، فَلاَ ظَفِرَتْ يَدُ المبايِعِ، وخَزِيَتْ أَمَانَةُ المُبْتَاعِ، فَخُذُوا لِلْحَرْبِ أُهْبَتَهَا، وَأعِدُّوا لَهَا عُدَّتَهَا، فَقَدْ شَبَّ لَظَاهَا، وَعَلاَ سَنَاهَا، واستشعروا الصبر، فإنّه أدعى إلى النص»[٢٠].
١٢ - خطبة نارية تحثّ على الجهاد
استطاع معاوية أن يهيّىء جيشه للقتال، فلما انتهى إلى الإمام عليّ(عليه السلام)أن خيلا لمعاوية وردت الأنبار فقتلوا عاملا له يقال له: «حسان بن حسان البكري» فخرج مغضباً يجر ثوبه حتى أتى النخيلة وأتبعه الناس فرقى رباوة من الأرض فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ثمّ قال:
«أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، فَتَحَهُ اللهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ، وَهُوَ لِباسُ التَّقْوَى، وَدِرْعُ اللهِ الحَصِينَةُ، وَجُنَّتُهُ الوَثِيقَةُ، فَمَنْ تَرَكَهُ أَلبَسَهُ اللهُ ثَوْبَ الذُّلِّ، وَشَمِلَهُ البَلاَءُ، وَدُيِّثَ بِالصَّغَارِ وَالقَمَاءُ، وَضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالاِْسْهَابِ، وَأُدِيلَ الحَقُّ مِنْهُ بِتَضْيِيعِ الجِهَادِ، وَسِيمَ الخَسْفَ، وَمُنِعَ النَّصَفَ.
أَلاَ وَإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هؤُلاَءِ القَوْمِ لَيْلا وَنَهَاراً، وَسِرّاً وَإِعْلاَناً، وَقُلْتُ لَكُمُ: اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ، فَوَاللهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ في عُقْرِ دَارِهِمْ إِلاَّ ذَلُّوا، فَتَوَاكَلْتُمْ وَتَخَاذَلتُمْ حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الغَارَاتُ، وَمُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الاَْوْطَانُ.وَهذَا أَخُو غَامِد قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الاَْنْبَارَ، وَقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ ورجالا منهم كثيراً ونساء، والّذي نفسي بيده لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ، وَالمُعَاهَدَةِ، فتَنْتَزِعُ أحِجْالَهَما وَرعثهما ،ثُمَّ انْصَرَفُوا موفِورِينَ، لمَ يكلم أحد منهم كلما، فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِن دون هَذا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً!
يَا عَجَباً! كلّ العَجَب من تظافر هؤلاء القوم على باطلهم وفشلكم عن حقكم! إذا قلت لكم اغزوهم فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْ: هذا أوان قر وصر! وإذا قلت لكم: اغزوهم فى الصيف قلتم: هذه حمارة القيظ أنظرنا ينصرم الحر عنا! فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الحَرِّ وَالقُرِّ تَفِرُّونَ فَأَنْتُمْ وَاللهِ مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ!
يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَلاَ رِجَالَ! ويا طغام الأحلام، وَيا عُقُولُ رَبّاتِ الحِجَالِ، ـ وَاللهِ ـ لقد أفسدتم عليَّ رأيي بالعصيان، ولقد ملأتم جوفي غيظاً حَتَّى قَالَتْ قُريْشٌ: إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِب رَجُلٌ شُجَاعٌ، وَلْكِنْ لاَ عِلْمَ لَهُ بِالحَرْبِ. للهِ درهم! ومن ذا يكون أعلم بها وأشد لها مراساً مني فو الله لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَمَا بَلَغْتُ العِشْرِينَ، ولقد نيفت اليوم عَلَى السِّتِّينَ! وَلكِنْ لا رَأْيَ لَمِنْ لاَ يُطَاعُ!»[٢١].
قال سفيان بن عوف الغامدي: دعاني معاوية، فقال: إنّي باعثك في جيش كثيف، ذي أداء وجلادة، فالزم لي جانب الفرات، حتى تمر بهيت فتقطعها، فإن وجدت بها جنداً فأغر عليهم، وإلاّ فامض حتى تغير على الأنبار،فإن لم تجد بها جنداً فامض حتى توغل في المدائن. ثمّ أقبل إليَّ واتق أن تقرب الكوفة. واعلم أ نّك إن أعرت على أهل الأنبار وأهل المدائن فكأ نّك أغرت على الكوفة. إن هذه الغارات يا سفيان على أهل العراق ترعب قلوبهم، وتفرح كلّ من له فينا هوى منهم، وتدعو الينا كلّ من خاف الدوائر، فاقتل من لقيته ممن ليس هو على مثل رأيك، وأخرب كلّ ما مررت به من القرى، واحرب الأموال، فإنّ حرب الأموال شبيه بالقتل، وهو أوجع للقلب.
قال: فخرجت في ستة آلاف، ثمّ لزمت شاطىء الفرات، فأغذذت السير حتى أمر بـ «هيت»، فبلغهم أني قد غشيتهم فقطعوا الفرات فمررت بها وما بها عريب، كأنها لم تحلل قط، فوطئتها حتى أمر بصندوداء، ففروا فلم ألق بها أحداً، فأمضي حتى أفتتح الأنبار، وقد نذروا بي، فخرج صاحب المسلحة إليَّ، فوقف لي فلم أقدم عليه حتى أخذت غلماناً من أهل القرية، فقلت لهم: أخبروني، كم بالأنبار من أصحاب عليّ(عليه السلام)؟ قالوا: عدة رجال المسلحة خمسمائة، ولكنهم قد تبددوا ورجعوا إلى الكوفة، ولا ندري الّذي يكون فيها، قد يكون مائتي رجل، فنزلت فكتبت أصحابي كتائب،أخذت أبعثهم إليه كتبية بعد كتبية، فيقاتلهم والله ويصبر لهم، ويطاردهم ويطاردونه في الأزقة، فلما رأيت ذلك أنزلت إليهم نحواً من مائتين، وأتبعتهم الخيل، فلما حملت عليهم الخيل وأمامها الرجال تمشي، لم يكن شيء حتى تفرقوا وقتل صاحبهم في نحو من ثلاثين رجلا، وحملنا ما كان في الأنبار من الأموال، ثمّ انصرفت، فو الله ما غزوت غزاة كانت أسلم ولا أقر للعيون، ولا أسر للنفوس منها. وبلغني والله أنها أرعبت الناس، فلما عدت إلى معاوية، حدثته الحديث على وجهه، فقال: كنت عند ظني بك، لا تنزل في بلد من بلداتي إلاّ قضيت فيه مثل ما يقضي فيه أميره، وإن أحببت توليته وليتك، وليس لأحد من خلق الله عليك أمر دوني.
قال حبيب بن عفيف: كنت مع أشرس بن حسان البكري بالأنبار على مسلحتها، إذ صبحنا سفيان بن عوف في كتائب تلمع الأبصار منها، فهالوها والله، وعلمنا إذ رأيناهم أ نّه ليس لنا طاقة بهم ولا يد، فخرج إليهم صاحبنا وقد تفرقنا فلم يلقهم نصفنا، وأيم الله لقد قاتلناهم فأحسنا قتالهم، حتى كرهونا، ثمّ نزل صاحبنا وهو يتلو قوله تعالى: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا)[٢٢].
ثمّ قال لنا: من كان لا يريد لقاء الله، ولا يطيب نفساً بالموت، فليخرج عن القرية ما دمنا نقاتلهم، فإن قتالنا إياهم شاغل لهم عن طلب هارب، ومن أراد ما عند الله فما عند الله خير للأبرار. ثمّ نزل في ثلاثين رجلا، فهممت بالنزول معه، ثمّ أبت نفسي واستقدم هو وأصحابه، فقاتلوا حتى قتلوا رحمهم الله.
فلما وصل الخبر إلى الإمام عليّ(عليه السلام) صعد المنبر فخطب الناس، وقال: إن أخاكم البكري قد أصيب بالأنبار، وهو معتز لا يخاف ما كان، واختار ما عند الله على الدنيا، فانتدبوا إليهم حتى تلاقوهم، فإن أصبتم منهم طرفاً أنكلتموهم عن العراق أبداً ما بقوا.
ثمّ سكت عنهم رجاء أن يجيبوه أو يتكلم منهم متكلم، فلم ينبس أحد منهم بكلمة، فلما رأى صمتهم نزل، وخرج يمشي راجلا حتى أتى النخيلة، والناس يمشون خلفه حتى أحاط به قوم من أشرافهم، فقالوا: ارجع يا أميرالمؤمنى ونحن نكفيك، فقال: ما تكفونني ولا تكفون أنفسكم. فلم يزالوا به حتى صرفوه إلى منزله، فرجع وهو واجم كئيب[٢٣].
وكان الإمام(عليه السلام) في مطلع هذه الخطبة يحثّهم على الجهاد وكان ممّا قال لهم: قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحاً وشحنتم صدري غيظاً.
١٣ - تضحية أخوين
في خطبة الإمام السابقة، ختم الإمام(عليه السلام) خطبته قائلا: والله لقد أفسدتم عليَّ رأيي بالعصيان، ولقد ملأتم جوفي غيظاً ـ إلى أن قال: ـ فو الله لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين ولقد نيفت اليوم على الستين ولكن لا رأي لمن لا يطاع ـ يقولها ثلاثاً ـ .
فقام إليه رجل ومعه أخوه فقال: يا أميرالمؤمنين، أنا وأخي هذا كما قال الله عزّوجلّ حكاية عن موسى: (رَبِّ إنِّي لا أمْلِكُ إلا نَفْسِي وَأخِي)[٢٤] فمرنا بأمرك فو الله لننتهين إليه ولو حال بينا وبينه جمر الغضا وشوك القتاد. فدعا له بخير، ثمّ قال: وأين تقعان مما اُريد؟! ثمّ نزل[٢٥].
١٤ - اعلان التعبئة
عندما استمرّت الأخبار تتوارد على الإمام(عليه السلام) بغارات معاوية على الأنبار وغيرها من البلدان الإسلامية، وقف خطيباً في أهل العراق قائلا:
أمّا بعد فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة، فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنته الوثيقة. فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل، وشمله البلاء، وديث بالصغار والقماءة، وضرب على قلبه بالاسهاب، وأديل الحقّ منه بتضييع الجهاد، وسيم الخسف، ومنع النصف. ألا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهاراً، وسراً واعلاناً وقلت لكم: اغزوهم قبل أن يغزوكم، فو الله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلاّ ذلّوا فتواكلتم وتخاذلتم حتى شنت عليكم الغارات، وملكت عليكم الأوطان[٢٦].
قال: ثمّ أمر الحارث الأعوار الهمداني، فنادى في الناس: أين من يشتري نفسه لربّه ويبيع دنياه بآخرته؟ أصبحوا غداً بالرحبة إن شاء الله، ولا يحضر إلاّ صادق النية في السير معنا، والجهاد لعدونا فأصبح وليس بالرحبة إلاّ دون ثلاثمائة، فلما عرضهم قال: لو كانوا ألفاً كان لي فيهم رأي. وأتاه قوم يعتذرون، فقال: وجاء المعذرون وتخلف المكذبون. ومكث أياماً بادياً حزنه شديد الكآبة[٢٧].
١٥ - رجل عمل لا قول
روى إبراهيم بن محمّد في كتاب «الغارات» قال: كانت غارة الضحاك بن قيس بعد الحكمين، وقبل قتال النهروان، وذلك أن معاوية لما بلغه أن عليّاً(عليه السلام) بعد واقعة الحكمين تحمل إليه مقبلا، هاله ذلك، فخرج من دمشق معسكراً، وبعث إلى كور الشام، فصاح بها: إن عليّاً قد سار إليكم، فتجهزوا للحرب بأحسن الجهاز، وأعدوا آلة القتال! فاجتمع إليه الناس من كلّ كورة وأرادوا المسير إلى صفين، فاستشهارهم، وقال: إن عليّاً قد خرج من الكوفة، وعهد العاهد به أ نّه فارق النخيلة.
فعند ذلك دعا معاوية الضحاك بن قيس الفهري، وقال له: سر حتى تمر بناحية الكوفة وترتفع عنها ما استطعت، فمن وجدته من الأعراب في طاعة عليّ فأغر عليه، وإن وجدت له مسلحة أو خيلا فأغر عليها، وإذا أصبحت في بلدة فأمس في اُخرى، ولا تقيمن لخيل بلغك أ نّها قد سرحت إليك لتلقاها فتقاتلها. فسرحه فيما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف. فأقبل الضحاك، فنهب الأموال وقتل من لقي من الأعراب، حتى مر بالثعلبية فأغار على الحاج، فأخذ أمتعتهم، ثمّ أقبل فلقي عمرو بن عميس، وهو ابن أخي عبدالله بن مسعود، صاحب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقتله في طريق الحاج عند القطقطانة[٢٨] وقتل معه ناساً من أصحابه.
فلما سمع الإمام(عليه السلام) الخبر خرج إلى الناس، وهو يقول على المنبر: يا أهل الكوفة، اخرجوا إلى العبد الصالح عمرو بن عميس، وإلى جيوش لكم قد أصيب منهم طرف، اخرجوا فقاتلوا عدوكم، وامنعوا حريمكم إن كنتم فاعلين.
فردوا عليه ردّاً ضعيفاً، ورأى منهم عجزاً وفشلا، فقال: والله لوددت أن لي بكلّ ثمانية منكم رجلا منهم! ويحكم اخرجوا معي، ثمّ فروا عني ما بدا لكم، فو الله ما أكره لقاء ربي على نيتي وبصيرتي، وفي ذلك روح لي عظيم، وفرج من مناجاتكم ومقاساتكم. ثمّ نزل.
فخرج يمشي حتى بلغ الغريين، ثمّ دعا حجر بن عدي الكندي، فعقد له على أربعة آلاف.
فخرج حجر بن عدي حتى مر بالسماوة ـ وهي أرض كلب ـ فلقي بها امرأ لقيس بن عدي ـ وهم أصهار الحسين بن عليّ(عليه السلام) ـ فكانوا أدلاءه في الطريق وعلى المياه فلم يزل مغذاً في أثر الضحاك، حتى لقيه بناحية تدمر، فواقعه فاقتتلوا ساعة، فقتل من أصحاب الشحاك تسعة عشر رجلا، وقتل من أصحاب حجر رجلان، وحجز الليل بينهم. فمضى الضحاك، فلما أصبحوا لم يجدوا له ولأصحابه إثراً. وكان الضحاك يقول بعد: أنا ابن قيس، أنا أبو أنيس! أنا قاتل عمرو بن عميس.
وكان ممّا جاء في خطبته(عليه السلام) أيضاً:
«أَيُّهَا النَّاسُ، الُْمجْتَمِعَةُ أبْدَانُهُمْ، الُمخْتَلِفَةُ أهْوَاؤُهُمْ، كَلامُكُم يُوهِي الصُّمَّ الصِّلابَ، وَفِعْلُكُمْ يُطْمِعُ فِيكُمُ الاَْعْدَاءَ! تَقُولُونَ فِي الَمجَالِسِ: كَيْتَ وَكَيْتَ، فَإذَا جَاءَ الْقِتَالُ قُلْتُمْ: حِيدِي حَيَادِ! مَا عَزَّتْ دَعْوَةُ مَنْ دَعَاكُمْ، وَلاَ اسْتَرَاحَ قَلْبُ مَنْ قَاسَاكُمْ، أَعَالِيلُ بِأَضَالِيلَ، دِفَاعَ ذِي الدَّيْنِ المَطُولِ، لاَ يَمنَعُ الضَّيْمَ الذَّلِيلُ! وَلاَ يُدْرَكُ الْحَقُّ إِلاَ بِالْجِدِّ! أَيَّ دَار بَعْدَ دَارِكُمْ تَمْنَعُونَ، وَمَعَ أَىِّ إِمَام بَعْدِي تُقَاتِلُونَ؟ المَغْرُورُ وَاللهِ مَنْ غَرَرْتُمُوهُ، وَمْنْ فَازَبِكُمْ فَازَ بَالسَّهْمِ الاَْخْيَبِ، وَمَنْ رَمَى بِكُمْ فَقَدْ رَمَى بِأَفْوَقَ نَاصِل.
أَصْبَحْتُ وَاللهِ لا أُصَدِّقُ قَوْلَكُمْ، وَلاَ أَطْمَعُ فِي نَصْرِكُمْ، وَلاَ أُوعِدُ العَدُوَّ بِكُم. مَا بَالُكُم؟ مَا دَوَاؤُكُمْ؟ مَا طِبُّكُمْ؟ القَوْمُ رِجَالٌ أَمْثَالُكُمْ، أَقَوْلا بَغَيْرِ عِلْم! وَغَفْلَةً مِنْ غَيْرِ وَرَع! وَطَمَعاً في غَيْرِ حَقٍّ؟!»[٢٩].
١٦ - عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق
لما نزل عليّ(عليه السلام) بالبصرة ووقف جيشه بإزاء جيش عائشة، قال الزبير: والله ما كان أمر قط إلاّ عرفت أين أضع قدمي فيه، إلاّ هذا الأمر، فإنّي لا أدري: أمقبل أنا فيه أم مدبر!
فقال له ابنه عبدالله: كلا ولكنك فرقت سيوف ابن أبي طالب وعرفت أن الموت الناقع تحت راياته.
فقال الزبير: مالك أخزاك الله من ولد ما أشأمك!
وكان أميرالمؤمنين(عليه السلام)، يقول: مازال الزبير منا أهل البيت حتى شب ابنه عبدالله.
وفي المعركة: برز عليّ(عليه السلام) بين الصفين حاسراً، وقال: ليبرز إليَّ الزبير، فبرز إليه مدججاً ـ فقيل لعائشة: قد برز الزبير إلى عليّ(عليه السلام)فصاحت: وازبيراه! فقيل لها: لا بأس عليه منه، إنه حاسر والزبير دارع ـ فقال له: ما حملك يا أبا عبدالله على ما صنعت!
قال: أطلب بدم عثمان.
قال: أنت وطلحة وليتماه، وإنّما نوبتك من ذلك أن تقيد به نفسك وتسلمها إلى ورثته.
ثمّ قال: نشدتك الله! أتذكر يوم مررت بي ورسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) متكىء على يدك، فسلّم عليَّ وضحك في وجهي، فضحكت إليه، لم أزده على ذلك، فقلت: لا يترك ابن أبي طالب يا رسول الله زهوة!
فقال لك: مه إنه ليس بذي زهو، أما إنك ستقاتله وأنت له ظالم!
فاسترجع الزبير وقال: لقد كان ذلك، ولكن الدهر أنسانيه، ولأنصرفن عنك، فرجع، ثمّ أتى عائشة، فقال لها: إني ما وقفت موقفاً قط، ولا شهدت حرباً إلاّ ولي فيه رأي وبصيرة إلاّ هذه الحرب، وإنّي لعلى شك من أمري، وما أكاد أبصر موضع قدمي.
فقالت له: يا أبا عبدالله، أظنك فرقت سيوف ابن أبي طالب، إنها والله سيوف حداد، معدة للجلاد، تحملها فئة أنجاد، ولئن فرقتها لقد فرقها الرجال قبلك!
قال: كلا، ولكنه ما قلت لك. ثمّ انصرف.
ومن كلام لأميرالمؤمنين(عليه السلام) لما أنفذ عبدالله بن عباس إلى الزبير قبل وقوع الحرب يوم الجمل ليستفيئه إلى طاعته:
«لاَ تَلْقَيَنَّ طَلْحَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ تَلْقَهُ تَجِدْهُ كَالثَّوْرِ عَاقِصاً قَرْنَهُ، يَرْكَبُ الصَّعْبَ وَيَقُولُ: هُوَ الذَّلُولُ، وَلكِنِ القَ الزُّبَيْرَ، فَإِنَّهُ أَليَنُ عَرِيكَةً، فَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ ابْنُ خَالِكَ: عَرَفْتَني بَالحِجَازِ وَأَنْكَرْتَنِي بِالعِرَاقِ، فَمَا عَدَا مِمَّا بَدَا!».
قال جعفر الصادق، عن أبيه عن جدّه(عليهم السلام) قال: سألت ابن عباس عن ذلك، فقال: إنّي قد أتيت الزبير، فقلت له، فقال: قل له إنّي أريد ما تريد ـ كأ نّه يقول: الملك ـ لم يزدني على ذلك.
فرجعت إلى عليّ(عليه السلام) فأخبرته[٣٠].
١٧ - خاصف النعل
قال عبدالله بن العباس: دخلت على أميرالمؤمنين بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمة لها.
فقال(عليه السلام): والله لهي أحب إليَّ من إمرتكم، إلاّ أن أقيم حقاً، أو أدفع باطلا، ثمّ خرج فخطب الناس فقال:
«إنَّ اللهَ سُبحانَه بَعَثَ مُحَمَّداً(صلى الله عليه وآله وسلم)، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً، وَلاَ يَدَّعِي نُبُوَّةً، فَسَاقَ النَّاسَ حَتَّى بَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ، وَبَلَّغَهُمْ مَنْجَاتَهُمْ، فَاسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ، وَاطْمَأَنَّتْ صِفَاتُهُمْ.
أَمَا وَاللهِ إنْ كُنْتُ لَفِي سَاقَتِهَا حَتَّى تَوَلَّتْ بِحَذَافِيرِهَا، مَا عَجَزْتُ،وَلاَ جَبُنْتُ، وَإِنَّ مَسِيرِي هذَا لِمثْلِهَا، فَلاََنْقُبَنَّ الْبَاطِلَ حَتَّى يَخْرُجَ الْحَقُّ مِنْ جَنْبِهِ»[٣١].
١٨ - أمّا الدين أو الغيرة
ذكر صاحب الغارات أنّ النعمان بن بشير، قدم هو وأبو هريرة على عليّ(عليه السلام) من عند معاوية، بعد أبي مسلم الخولاني، يسألانه أن يدفع قتلة عثمان إلى معاوية ليقيدهم بعثمان، فدخلا عليه، فقال له أبو هريرة: يا أبا حسن، أن الله قد جعل لك في الإسلام فضلا وشرفاً، أنت ابن عم محمّد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد بعثنا إليك ابن عمّك معاوية، يسألك أمراً تسكن به هذه الحروب، ويصلح الله تعالى ذات البين، أن تدفع إليه قتلة عثمان ابن عمه، فيقتلهم به، ويجمع الله تعالى أمرك وأمره، ويصلح بينكم، وتسلم هذه الاُمة من الفئة والفرقة. ثمّ تكلم النعمان بنحو من ذلك.
فقال لهما: دعا الكلام في هذا، حدثني عنك يا نعمان: أنت أهدى قومك سبيلا؟ يعني الأنصار، قال: لا، قال: فكلّ قومك قد اتبعني إلاّ شذاذاً، منهم ثلاثة أو أربعة، أفتكون أنت من الشذاذ!
فقال النعمان: أصلحك الله، إنما جئت لأكون معك وألزمك، وقد كان معاوية سألني أن أؤدي هذا الكلام، ورجوت أن يكون لي موقف أجتمع فيه معك، وطمعت أن يجري الله تعالى بينكما صلحاً، فإذا كان غير ذلك رأيك فأنا ملازمك وكائن معك. فأما أبو هريرة فلحق بالشام، وأقام النعمان عند عليّ(عليه السلام)، فأخبر أبو هريرة معاوية بالخبر، فأمره أن يعلم الناس، ففعل، وأقام النعمان بعده شهراً، ثمّ خرج فاراً من عليّ(عليه السلام)، حتى إذا مر بعين التمر أخذه مالك بن كعب الأرحبي وكان عامل عليّ(عليه السلام) عليها فأراد حبسه، وقال له: ما مر بك بيننا؟ قال: إنّما أنا رسول بلغت رسالة صاحبي، ثمّ انصرفت، فحبسه وقال: كما أنت، حتى أكتب إلى عليّ فيك فناشده، وعظم عليه أن يكتب إلى عليّ فيه، فأرسل النعمان إلى قرظة بن كعب الأنصاري وهو كاتب عين التمر يجبى خراجها لعليّ(عليه السلام) فجاءه مسرعاً، فقال لمالك بن كعب: خل سبيل ابن عمي يرحمك الله! فقال: يا قرظة، اتق الله ولا تتكلم في هذا، فإنّه لو كان من عباد الأنصار ونساكهم، لم يهرب من أميرالمؤمنين إلى أمير المنافقين. فلم يزل به يقسم عليه حتى خلى سبيله، وقال له: يا هذا، لك الأمان اليوم والليلة وغداً، والله إن أدركتك بعدها لأضربن عنقك، فخرج مسرعاً لا يلوى على شيء، حتى وصل إلى معاوية.
ثمّ انّ معاوية انتدب النعمان وندب معه ألفي رجل، وأوصاه أن يتجنب المدن والجماعات، وألا يغير إلاّ على مسلحة. وأن يعجل الرجوع. فأقبل النعمان بن بشير، حتى دنا من عين التمر، وبها مالك بن كعب الأرحبي الّذي جرى له معه ما جرى، ومع مالك ألف رجل، وقد أذن لهم، فرجعوا إلى الكوفة فلم يبق معه إلاّ مائة أو نحوها، فكتب مالك إلى عليّ(عليه السلام): أمّا بعد، فإنّه نزل بنا النعمان بن بشير في جمع من أهل الشام، كالظاهر علينا، وكان عظم أصحابي متفرقين، وكنا للذي كنا منهم آمنين، فخرجنا إليهم رجالا مصلتين، فقاتلناهم حتى المساء واستصرخنا مخنف بن سليم، فبعث الينا رجالا من شيعة أميرالمؤمنين وولده، فنعم الفتى ونعم الأنصار كانوا، فحملنا على عدونا وشددنا عليهم، فأنزل الله علينا نصره، وهزم عدوه، وأعز جنده والحمد لله ربّ العالمين[٣٢].
وكان الإمام(عليه السلام) قد خطب بأصحابه يستحثّهم القتال ـ وذلك قبل أن تصله البشرى بالنصر ـ، وكان ممّا قاله(عليه السلام): «مُنِيتُ بِمَنْ لاَ يُطِيعُ إِذَا أَمَرْتُ، وَلا يُجِيبُ إِذَا دَعَوْتُ، لاَ أَبَا لَكُمْ! مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ رَبَّكُمْ؟ أَمَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ، وَلاَ حَمِيَّةَ تُحْمِشُكُمْ؟! أَقُومُ فِيكُمْ مُسْتَصْرِخاً، وَأُنادِيكُمْ مُتَغَوِّثاً، فَلاَ تَسْمَعُونَ لي قَوْلا، وَلاَ تُطِيعُون لِي أَمْراً، حَتَّى تَكَشَّفَ الاُْمُورُ عَنْ عَوَاقِبِ الْمَساءَةِ، فَمَا يُدْرَكُ بِكُمْ ثَارٌ، وَلاَ يُبْلَغُ بِكُمْ مَرَامٌ، دَعَوْتُكُمْ إِلَى نَصْرِ إِخْوَانِكُمْ فَجَرْجَرْتُمْ جَرْجَرَةَ الْجَمَلِ الاَْسَرِّ، وَتَثَاقَلْتُمْ تَثَاقُلَ الْنِّضْوِ الاَْدْبَرِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ مِنْكُمْ جُنَيْدٌ مُتَذَائِبٌ ضَعِيفٌ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ»[٣٣].
١٩ - حادثة الحكمين
إن الّذي دعا إليه طلب أهل الشام له، واعتصامهم به من سيوف أهل العراق، فقد كانت إمارات القهر والغلبة لاحت، ودلائل النصر والظفر وضحت، فعدل أهل الشام عن القراع إلى الخداع، وكان ذلك برأي عمرو بن العاص. وهذه الحال وقعت عقيب ليلة الهرير، وهي الليلة العظيمة الّتي يضرب بها المثل.
قال حدّثني عمّار بن ربيعة: غلس عليّ(عليه السلام) بالناس صلاة الغداة يوم الثلاثاء، عاشر شهر ربيع الأول، سنة سبع وثلاثين، ثمّ زحف إلى أهل الشام بعكسر العراق، والناس على راياتهم وأعلامهم، وزحف إليهم أهل الشام، وقد كانت الحرب أكلت الفريقين، ولكنها في أهل الشام أشد نكاية، وأعظم وقعاً، فقد ملوا الحرب، وكرهوا القتال، وتضعضعت أركانهم.
فلما بلغ القوم إلى ما بلغوا إليه، قام عليّ(عليه السلام) خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس، قد بلغ بكم الأمر وبعدوكم ما قد رأيتم، ولم يبق منهم إلاّ آخر نفس، وإنّ الاُمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأولها، وقد صبر لكم القوم على غير دين حتى بلغنا منهم ما بلغنا، وأنا غاد عليهم بالغداة أحاكمهم إلى الله.
فبلغ ذلك معاوية، فدعا عمرو بن العاص، وقال: يا عمرو، إنّما هي الليلة، حتى يغدو عليّ علينا بالفيصل، فما ترى؟ قال: إن رجالك لا يقومون لرجاله، ولست مثله، هو يقاتلك على أمر وأنت تقاتله على غيره، أنت تريد البقاء، وهو يريد الفناء، وأهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم، وأهل الشام لا يخافون علياً إن ظفر بهم، ولكن ألق إلى القوم أمراً إن قبلوه اختلفوا، وإن ردوه اختلفوا، ادعهم إلى كتاب الله حكماً فيما بينك وبينهم، فإنك بالغ به حاجتك في القوم، وإني لم أزل أؤخر هذا الأمر لوقت حاجتك إليه.
فعرف معاوية ذلك وقال له: صدقت.
فلما أصبحوا من ليلة الهرير، نظرنا فإذا أشباه الرايات، أمام أهل الشام في وسط الفيلق، فلما أسفرنا إذا هي المصاحف قد ربطت في أطراف الرماح، وهي عظام مصاحف العسكر، وقد شدوا ثلاثة أرماح جميعاً، وربطوا عليها مصحف المسجد الأعظم، يمسكه عشرة رهط.
ثمّ نادوا: يا معشر العرب، الله الله في دينكم، هذا كتاب الله بيننا وبينكم.
فقال عليّ(عليه السلام): اللّهمّ إنّك تعلم أ نّهما ما الكتاب يريدون، فاحكم بيننا وبينهم إنك أنت الحكم الحقّ المبين.
فاختلف أصحاب عليّ(عليه السلام) في الرأي، فطائفة قالت القتال، وطائفة قالت المحاكمة إلى الكتاب، ولا يحل لنا الحرب، وقد دعينا إلى حكم الكتاب، فعند ذلك بطلت الحرب ووضعت أوزارها.
قال نصر: وقد كان الأشعث بن قيس بدر منه قول ليلة الهرير، نقله الناقلون إلى معاوية، فاغتنمه وبنى عليه تدبيره، وذلك أن الأشعث خطب أصحابه من كنده تلك الليلة، فقال: الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن به وأتوكل عليه، واستنصره وأستغفره، وأستجيره وأستهديه، وأستشيره وأستشهد به، فإنّ من هداه الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ثمّ قال: قد رأيتم معاشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي، وما قد فني فيه من العرب، فو الله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ، فما رأيت مثل هذا اليوم قط. ألا فليبلغ الشاهد الغائب، إنا نحن إن توافقنا غداً، إنه لفناء العرب وضيعة الحرمات! أما والله ما أقول هذه المقالة جزعاً من الحرب، ولكني رجل مسن أخاف على النساء والذراري غداً إن فنينا.
قال الشعبي: فانطلقت عيون معاوية إليه بخطبة الأشعث فقال: أصاب وربّ الكعبة! لئن نحن التقينا غداً لتميلن الروم على ذراري أهل الشام ونسائهم، ولتميلن فارس على ذراري أهل العراق ونسائهم! إنّما يبصر هذا ذوو الأحلام والنهى، ثمّ قال لأصحابه: اربطوا المصاحف على أطراف القنا.
فثار أهل الشام في سواد الليل ينادون عن قول معاوية وأمره: يا أهل العراق، من لذرارينا إن قتلتمونا! ومن لذراريكم إذا قتلناكم! الله الله في البقية! وأقبل أبو الأعور السلمي على برذون أبيض، وقد وضع المصحف على رأسه، ينادي: يا أهل العراق، كتاب الله بيننا وبينكم، فجاء عدي بن حاتم الطائي، فقال: يا أميرالمؤمنين، إنّه لم يصب منا عصبة إلاّ وقد أصيب منهم مثلها، وكل مقروح، ولكنا أمثل بقية منهم، وقد جزع القوم، وليس بعد الجزع إلاّ ما نحب، فناجزهم وقام الأشتر، فقال: يا أميرالمؤمنين، إن معاوية لا خلف له من رجاله، ولكن بحمد الله لك الخلف، ولو كان له مثل رجالك لم يكن له مثل صبرك ولا نصرك، فاقرع الحديد بالحديد، واستعن بالله الحميد.
ثمّ قام عمرو بن الحمق، فقال: يا أميرالمؤمنين، إنا والله ما أجبناك ولا نصرناك على الباطل، ولا أجبنا إلاّ الله، ولا طلبنا إلاّ الحقّ، ولو دعانا غيرك إلى ما دعوتنا إليه لاستشرى فيه اللجاج وطالت فيه النجوى، وقد بلغ الحقّ مقطعه، وليس لنا معك رأي.
فقام الأشعث بن قيس مغضباً، فقال: يا أميرالمؤمنين، إنا لك اليوم على ما كنا عليه أمس، وليس آخر أمرنا كأوله، وما من القوم أحد أحنى على أهل العراق ولا أوتر لأهل الشام مني! فأجب القوم إلى كتاب الله عزّوجلّ فإنك أحق به منهم، وقد أحب الناس البقاء وكرهوا القتال.
فقال عليّ(عليه السلام): هذا أمر ينظر فيه. فتنادى الناس من كلّ جانب الموادعة.
فقال عليّ(عليه السلام): أيها الناس، إنّي أحق من أجاب إلى كتاب الله، ولكن معاوية، وعمرو بن العاص، وابن أبي معيط، وابن أبي سرح، وابن مسلمة ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، إني أعرف بهم منكم، صحبتهم صغاراً ورجالا، فكانوا شر صغار، وشر رجال، ويحكم إنها كلمة حق يراد بها باطل! إنّهم ما رفعوها أ نّهم يعرفونها ويعملون بها، ولكنها الخديعة والوهن والمكيدة! أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة، فقد بلغ الحقّ مقطعه، ولم يبق إلاّ أن يقطع دابر الذين ظلموا.
فجاءه من أصحابه زهاء عشرين ألفاً مقنعين في الحديد، شاكي السلاح سيوفهم على عواتقهم، وقد اسودت جباههم من السجود، يتقدمهم مسعر بن فدكي، وزيد بن حصين وعصابة من القراء الذين صاروا خوارج من بعد، فنادوه باسمه لا بإمرة المؤمنين: ياعليّ، أجب القوم إلى كتاب الله إذا دعيت إليه، وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفان، فو الله لنفعلنها إن لم تجبهم!
فقال لهم: ويحكم! أنا أول من دعا إلى كتاب الله، وأول من أجاب إليه، وليس يحل لي، ولا يسعني في ديني أن أدعى إلى كتاب الله فلا أقبله، إني إنّما قاتلتهم ليدينوا بحكم القرآن، فإنّهم قد عصوا الله فيما أمرهم، ونقضوا عهده، ونبذوا كتابه، ولكني قد أعلمتكم أ نّهم قد كادوكم، وأ نّهم ليس العمل بالقرآن يريدون.
فأقبل الأشتر حتى انتهى إليهم، فصاح: يا أهل الذل والوهن، أحين علوتم القوم، وظنوا أنكم لهم قاهرون، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها! وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها، وتركوا سنّة من أنزلت عليه، فلا تجيبوهم! أمهلوني فواقاً فإني قد أحسست بالفتح. قالوا: لا نمهلك، قال: فأمهلوني عدوة الفرس، فإني قد طمعت في النصر، قالوا: إذن ندخل معك في خطيئتك.
وكتب معاوية إلى عليّ(عليه السلام): أمّا بعد، فإنّ هذا الأمر قد طال بيننا وبينك، وكل واحد منا يرى أ نّه على الحقّ فيما يطلب من صاحبه، ولن يعطي واحد منا الطاعة للآخر، وقد قتل فيما بيننا بشر كثير، وأنا أتخوف أن يكون ما بقي أشد مما مضى، وإنا سوف نسأل عن هذه المواطن، ولا يحاسب به غيري وغيرك، وقد دعوتك إلى أمر لنا ولك فيه حياة وعذر، وبراءة وصلاح للاُمة، وحقن للدماء، وألفه للدين، وذهاب للضغائن والفتن، أن نحكم بيني وبينكم حكمين مرضيين، أحدهما من أصحابي، والآخر من أصحابك، فيحكمان بيننا بما أنزل الله، فهو خير لي ولك، وأقطع لهذه الفتن.
فكتب إليه عليّ(عليه السلام): من عبدالله عليّ أميرالمؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان، أمّا بعد، فإنّ أفضل ما شغل به المرء نفسه اتباع ما حسن به فعله، واستوجب فضله، وسلم من عيبه، وإن البغي والزور يزريان بالمرء في دينه ودنياه، فاحذر الدنيا، فإنّه لا فرح في شيء وصلت إليه منها، ولقد علمت أ نّك غير مدرك ما قضي فواته، وقد رام قوم أمراً بغير الحقّ، وتأولوه على الله عزّوجلّ، فأكذبهم ومتعهم قليلا، ثمّ أضطرهم إلى عذاب غليظ.
ثمّ انّ عليّاً(عليه السلام) بعث قراء من أهل العراق، وبعث معاوية قراء من أهل الشام، فاجتمعوا بين الصفين، ومعهم المصحف، فنظروا فيه وتدارسوا واجتمعوا على أن يحيوا ما أحيا القرآن، ويميتوا ما أمات القرآن، ورجع كل فريق إلى صاحبه، فقال أهل الشام: إنا قد رضينا واخترنا عمرو بن العاص، وقال الأشعث والقراء الذين صاروا خوارج فيما بعد: قد رضينا نحن واخترنا أبو موسى الأشعري. فقال لهم عليّ(عليه السلام): فإنّي لا أرضى بأبي موسى ولا أرى أن أوليه، فقال الأشعث وزيد بن حصين ومسعر بن فدكي في عصابة من القراء: إنا لا نرضى إلاّ به، فإنه قد كان حذرنا ما وقعنا فيه. فقال عليّ(عليه السلام): فإنه ليس لي برضا، وقد فارقني وخذّل الناس عني، وهرب مني حتى أمنته بعد أشهر، ولكن هذا ابن عباس أوليه ذلك. قالوا: والله ما نبالي، أكنت أنت أو ابن عباس! ولا نريد إلاّ رجلا هو منك ومن معاوية سواء، ليس إلى واحد منكما بأدنى من الآخر!
فقال عليّ(عليه السلام): قد أبيتم إلاّ أبا موسى! قالوا: نعم، قال: فاصنعوا ما شئتم.
فلما رضي أهل الشام بعمرو، وأهل العراق بأبي موسى، أخذوا في سطر كتاب الموادعة، وكانت صورته: هذا ما تقاضى عليه عليّ أميرالمؤمنين ومعاوية بن أبي سفيان.
فقال معاوية: بئس الرجل أنا إن أقررت أ نّه أميرالمؤمنين ثمّ قاتلته! وقال عمرو: بل نكتب اسمه واسم أبيه، إنما هو أميركم، فأمّا أميرنا فلا، فلما أُعيد إليه الكتاب أمر بمحوه.
وكان من نتيجة التخاذل هذا أن خلع أبا موسى الأشعري الإمام عليّ(عليه السلام) ومعاوية، فيما خلع عمرو بن العاص الإمام عليّ(عليه السلام) وأثبت معاوية[٣٤].
٢٠ - الصبر والتحمّل الثوري
لما قدم عليّ(عليه السلام) الكوفة بعد انقضاء أمر الجمل، كاتب العمال، فكتب إلى جرير بن عبدالله البجلي مع زحر بن قيس الجعفي ـ وكان جرير عاملا لعثمان على ثغر همذان ـ فلما قرأ جرير الكتاب، قام فقال: أيها الناس، هذا كتاب أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، وهو المأمون على الدين والدنيا، وقد كان من أمره وأمر عدوه ما نحمد الله عليه، وقد بايعه الناس الأولون من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، ولو جعل هذا الأمر شورى بين المسلمين كان أحقهم بها. ألا وإن البقاء في الجماعة، والفناء في الفرقة وإن عليّاً حاملكم على الحقّ ما استقمتم، فإن ملتم أقام ميلكم. فقال الناس: سمعاً وطاعة، رضينا رضينا. فكتب جرير إلى عليّ(عليه السلام) جواب كتابه بالطاعة.
ثمّ انّ جرير ذهب بكتاب عليّ(عليه السلام) إلى معاوية، وحاول مع معاوية من أجل التراجع عن موقفه فلم يفلح معه، فرجع إلى الكوفة.
فلما رجع كثر قول الناس في التهمة له في أمر معاوية[٣٥].
وكان أصحاب الإمام(عليه السلام) قد أشاروا عليه بالاستعداد لحرب أهل الشام. بعد إرساله إلى معاوية بجرير بن عبدالله. فقال(عليه السلام): إن استعدادي لحرب أهل الشام وجرير عندهم، إغلاق للشام، وصرف لأهله عن خير إن أرادوه، ولكن قد وقت لجرير وقتاً لا يقيم بعده إلاّ مخدوعاً أو عاصياً والرأي مع الاناة فأرودوا، ولا أكره لكم الاعداد ولقد ضربت أنف هذا الأمر وعينه، وقلّبت ظهره وبطنه، فلم أر فيه إلاّ القتال أو الكفر بما جاء به محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)[٣٦].
٢١ - تسرّع الجاهل
كان الخريت بن راشد الناجي ـ أحد بني ناجية ـ مع أميرالمؤمنين(عليه السلام)في صفين ثمّ نقض عهده بعد صفين ونقم عليه في التحكيم وخرج يفسد الناس ويدعوهم للخلاف، فبعث إليه أميرالمؤمنين(عليه السلام) كتيبة مع معقل بن قيس الرياحي لقتاله وهو ومن انضم إليه، فأدركته الكتيبة بسيف البحر بفارس، وبعد دعوته إلى التوبة وإبائه قبولها شدت عليه فقتل وقتل معه كثير من قومه وسبي من أدرك في رحالهم من الرجال والنساء والصبيان فكانوا خمسمائة أسير.
ولما رجع معقل بالسبي مرّ على مصقلة بن هبيرة الشيباني وكان عاملا لعليّ(عليه السلام) على «أردشير خره»[٣٧] فبكى إليه النساء والصبيان وتصايح الرجال يستغيثون في فكاكهم فاشتراهم من معقل بخمسمائة ألف درهم امتنع من أداء المبلغ.
ولما ثقلت عليه المطالبة بالحقّ لحق بمعاوية فراراً تحت أستار الليل[٣٨].
وكان ممّا قاله أميرالمؤمنين(عليه السلام) لما هرب مصقلة بن هبيرة الشيباني إلى معاوية:
قَبَّحَ اللهُ مَصْقَلَةَ. فَعَلَ فِعْلَ السَّادَات وَفَرَّ فِرَارَ الْعَبِيدِ، فَمَا أَنْطَقَ مَادِحَهُ حَتَّى أَسْكَتَهُ، وَلاَ صَدَّقَ وَاصِفَهُ حَتَّى بَكَّتَهُ، وَلَو أَقَامَ لاََخَذْنَا مَيْسُورَهُ، وَانْتَظَرْنا بِمَالِهِ وُفُورَهُ[٣٩].
٢٢ - خبر غيبي
من كلام لأميرالمؤمنين(عليه السلام) في ذكر الكوفة الّتي تنبأ(عليه السلام) بما سيحل بها من الظالمين فقال: كَأَ نَّي بِكِ يَاكُوفَةُ تُمَدِّينَ مَدَّ الاَْدَيمِ الْعُكَاظِيِّ، تُعْرَكِينَ بِالنَّوَازِلِ، وَتُرْكَبِينَ بِالزَّلاَزِلِ، وَإِنَّي لاََعْلَمُ أَنَّهُ مَاأَرَادَ بِكِ جَبَّارٌ سُوءاً إِلاَّ ابْتَلاَهُ اللهُ بِشَاغِل، وَرَمَاهُ بِقَاتِل[٤٠].
وقد صدقت الحوادث نبوءته، فقد تعاقب على الكوفة سلسلة من ولاة الجور، وأعوان الظلمة، أذاقوها الصاب وساموها العذاب، فزياد ابن أبيه، وعبيدالله بن زياد، والحجاج، ويوسف بن عمرو، والمغيرة بن شعبة، وخالد بن عبدالله القسري وأضرابهم. كلّهم أقاموا الحكم في الكوفة على ركام من الجماجم وأنهار من الدماء.
٢٣ - خبر الجمجمة
قدم أميرالمؤمنين(عليه السلام) المدائن، فنزل بإيوان كسرى، وكان معه دلف بن مجير، فلمّا صلّى قام وقال لدلف: قم معي، وكان معهم جماعة من أهل ساباط، فما زال يطوف منازل كسرى ويقول لدلف: كان لكسرى في هذا المكان كذا وكذا، ويقول دلف: هو والله كذلك، فما زال كذلك حتى طاف المواضع بجميع من كان عنده، ودلف يقول: يا سيّدي ومولاي كأ نّك وضعت هذه الأشياء في هذه المساكن.
ثمّ نظر(عليه السلام) إلى جمجمة نخرة فقال لبعض أصحابه: خذ هذه الجمجمة ـ وكانت مطروحة ـ ، ثمّ جاء(عليه السلام) إلى الإيوان وجلس فيه، ودعا بطست فيه ماء، فقال له: دع هذه الجمجمة في الطست، ثمّ قال(عليه السلام): قسمت عليك يا جمجمة لتخبريني مَنً أنا ومَنْ أنت؟
فقالت الجمجمة بلسان فصيح: أمّا أنت فأميرالمؤمنين، وسيّد الوصيّين، وإمام المتّقين، وأمّا أنا فعبدك وابن عبدك وابن أمتك كسرى أنوشيروان.
فقال له أميرالمؤمنين(عليه السلام): كيف حالك؟
فقال: يا أميرالمؤمنين أ نّي كنت ملكاً عادلا شفيقاً على الرعايا، رحيماً لا أرضى بظلم، ولكن كنت على دين المجوس، وقد ولد محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) في زمان ملكي فسقط من شرفات قصري ثلاث وعشرون شرفة ليلة ولد، فهممت أن أؤمن به من كثرة ما سمعت من الزيادة من أنواع شرفه وفضله، ومرتبته وعزّه في السماوات والأرض، ومن شرف أهل بيته، ولكنّي تغافلت عن ذلك، وتشاغلت عنه في الملك، فيالها من نعمة ومنزلة ذهبت منّي، حيث لم أؤمن به فأنا محروم من الجنّة لعدم إيماني، ولكنّي مع هذا الكفر خلّصني الله تعالى من عذاب النار ببركة عدلي وإنصافي بين الرعية، فأ نّا في النار، والنار محرّمة عليَّ، فواحسرتاه لو آمنت به لكنت معك يا سيّد أهل بيت محمّد، ويا أمير اُمّته.
قال: فبكى الناس وانصرف القوم الذين كانوا معه من أهل ساباط إلى أهلهم، وأخبروهم بما كان وبما جرى من الجمجمة، فاضطربوا واختلفوا في معنى أميرالمؤمنين(عليه السلام)، فقال المخلصون منهم: انّ أميرالمؤمنين(عليه السلام)عبدالله ووليّه ووصي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
وقال بعضهم: بل هو النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم).
وقال بعضهم: بل هو الربّ، ولولا أ نّه الربّ وإلاّ كيف يحيي الموتى.
قال: فسمع بذلك أميرالمؤمنين(عليه السلام) فضاق صدره وأحضرهم وقال: يا قوم غلب عليكم الشيطان إن أنا إلاّ عبدالله أنعم عليَّ بإمامته وولايته ووصيّة رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فأرجعوا عن الكفر، فأنا عبدالله وابن عبده، ومحمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) خير منّي وهو أيضاً عبدالله، وإن نحن إلاّ بشر مثلكم، فخرج بعض من الكفرة وبقي قوم على الكفر ما رجعوا، فألحّ عليهم أميرالمؤمنين(عليه السلام) بالرجوع فما رجعوا، فأحرقهم بالنار، وتفرّق منهم قوم في البلاد وقالوا: لولا أنّ فيه من الربوبيّة وإلاّ فما كان أحرقنا بالنار، فنعوذ الله من الخذلان[٤١].
والحديث كما ترى يتضمّن قول أنوشيروان بأ نّه كان ملكاً عادلا ـ وهو في النار ـ والنار محرّم عليه، وبالرجوع إلى تاريخ هذا الملك يتّضح لنا أ نّه كان من أشدّ الملوك ظلماً للناس من سلفه الطالح، على أنّ رجال سنده مجاهيل لا يعرفون، مضافاً إلى أنّ الناس لم يكونوا مكلّفين بقوانين الإسلام قبل بعثه(صلى الله عليه وآله وسلم) والله لا يعذّب أحداً قبل إتمام الحجّة وإرسال الرسل.