٣٩ - خبر عن جنكيزخان
كما أخبر الإمام(عليه السلام) عن هلاك البصرة بفتنة الزنج، أخبر عن هلاكها بالتتر فقال:
«كَأَ نِّي أَرَاهُمْ قَوْماً كَأَنَّ وَجُوهَهُمُ الْـمَجَانُّ الْمُطَرَّقَةُ، يَلْبَسُونَ السَّرَقَوَالدِّيبَاجَ، وَيَعْتَقِبُونَ الْخَيْلَ الْعِتَاقَ، وَيَكُونُ هُنَاكَ اسْتِحْرَارُ قَتْل،حَتَّى يَمْشِيَ الْـمَجْرُوحُ عَلَى الْمَقْتُولِ، وَيَكُونَ الْمُفْلِتُ أَقَلَّ مِنَ المَأْسُورِ»[١].
هذه النبوءة تحققت بظهور التتار واكتساحهم للممالك حتى وصلوا إلى العراق فلقيت البصرة منهم أعظم البلاء وأشنعه، فقد تكدست الجثث في الشوارع والأزقة وحل بالناس منهم خوف عظيم. وقد وقعت هذه الأحداث في زمن ابن أبي الحديد فكتب عنها فصلا كبيراً[٢].
والتتار هم الذين خرجوا من أقاصي المشرق حتى وردت خيلهم العراق والشام، وفعلوا الأفاعيل في مختلف البلدان الّتي احتلوها ما لم تحتو التواريخ منذ خلق الله تعالى آدم إلى عصرنا هذا على مثله، فإنّ بابك الخرمي لم تكن نكايته وإن طالبت مدته نحو عشرين سنة إلاّ في اقليم واحد وهو أذربيجان، وهؤلاء دوخوا المشرق كله، وتعدت نكايتهم إلى بلاد ارمينية وإلى الشام، ووردت خيلهم إلى العراق.
وقد ذكر ابن الأثير هذه الحادثة في تاريخه (حوادث سنة ٦١٧ وما بعدها)، وقال في أولها: لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلا وأؤخّر اُخرى فمن الّذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين! ومن ذا الّذي يهون عليه ذكر ذلك! فياليت أُمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً!
٤٠ - عليّ(عليه السلام) تلميذ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)
عندما وصف أميرالمؤمنين(عليه السلام) الأتراك في خطبته السابقة حين قال: كأ نّي أراهم قوماً كأن وجوههم المجان المطرقة، يلبسون السرق والديباج...
قال له بعض أصحابه: لقد أعطيت يا أميرالمؤمنين علم الغيب!! فضحك(عليه السلام) وقال للرجل ـ وكان كلبياًـ :
«يَا أَخَا كَلْب، لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْب، وَإِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْم، وَإِنَّمَا عِلْمُ الْغَيْبِ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَمَا عَدَّدَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) فَيَعْلَمُ سُبْحَانَهُ مَا فِي الاَْرْحَامِ مِنْ ذَكَر أَوْ أُنْثَى، وَقَبِيح أَوْ جَمِيل، وَسَخِيٍّ أَوْ بَخِيل، وَشَقيّ أَوْ سَعِيد، وَمَنْ يَكُونُ فِي النَّارِ حَطَباً، أَوْ فِي الْجِنَانِ لِلنَّبِيِّينَ مُرَافِقاً; فَهذَا عَلْمُ الْغَيْبِ الَّذِي لاَ يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلاَّ اللهُ، وَمَا سِوَى ذلِكَ فَعِلْمٌ عَلَّمَهُ اللهُ نَبِيَّهُ(صلى الله عليه وآله وسلم) فَعَلَّمَنِيهِ، وَدَعَا لِي بِأَنْ يَعِيَهُ صَدْرِي، وَتَضْطَمَّ عَلَيْهِ جَوَانِحِي»[٣].
٤١ - توديع أبو ذر
لما أعطى عثمان مروان بن الحكم ما أعطاه، وأعطى الحارث بن الحكم ثلاثمائة ألف درهم، وأعطى زيد بن ثابت الأنصاري مائة ألف درهم جعل أبو ذر يقول: بشر الكانزين بعذاب أليم ويتلو قول الله عزّ وجلّ: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَاب ألِيم)[٤] فرفع ذلك مروان بن الحكم إلى عثمان فأرسل إلى أبي ذر ناتلا مولاه أن انته عما يبلغني عنك فقال: أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله، وعيب من ترك أمر الله؟ فو الله لإن أرضي الله بسخط عثمان أحب إليَّ وخير لي من أن أسخط الله برضاه. فأغضب عثمان ذلك وأحفظه فتصابر وكف، وقال عثمان يوماً: أيجوز للإمام أن يأخذ من المال فإذا أيسر قضى؟ فقال كعب الأحبار: لا بأس بذلك.
فقال أبو ذر: يا ابن اليهوديين أتعلمنا ديننا؟
فقال عثمان: ما أكثر أذاك لي وأولعك بأصحابي؟ إلحق بمكتبك وكان مكتبه بالشام إلاّ أ نّه كان يقدم حاجاً ويسأل عثمان الإذن له في مجاورة قبر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فيأذن له في ذلك، وإنّما صار مكتبه بالشام لأ نّه قال لعثمان حين رأى البناء قد بلغ سلعاً: إنّي سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إذا بلغ البناء سلعاً فالهرب. فأذن لي آتي الشام فأغزو هناك. فأذن له، وكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها وبعث إليه معاوية بثلاثمائة دينار فقال: إن كانت من عطائي الّذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها، وإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها.
وبعث إليه حبيب بن مسلمة الفهري بمائتي دينار فقال: أما وجدت أهون عليك مني حين تبعث إليَّ بمال؟ وردها.
وبنى معاوية الخضراء بدمشق فقال: يا معاوية إن كانت هذه الدار من مال الله؟ فهي الخيانة، وإن كانت من مالك؟ فهذا الإسراف، فسكت معاوية.
وكان أبو ذر يقول: والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هي في كتاب الله ولا في سنّة نبيّه، والله إنّي لأرى حقاً يطفأ، وباطلا يحيى، وصادقاً يكذب، وأثرة بغير تقى، وصالحاً مستأثراً عليه.
فقال حبيب بن مسلمة لمعاوية: إن أبا ذر مفسد عليك الشام فتدارك أهله إن كانت لكم به حاجة، فكتب معاوية إلى عثمان فيه فكتب عثمان إلى معاوية: أمّا بعد فاحمل جندباً إليَّ على أغلظ مركب وأوعره فوجه معاوية من سار به الليل والنهار، فلما قدم أبو ذر المدينة جعل يقول: تستعمل الصبيان، وتحمي الحمى، وتقرب أولاد الطلقاء. فبعث إليه عثمان: إلحق بأي أرض شئت. فقال بمكة. فقال: لا، قال: فبيت المقدس. قال: لا. قال: فبأحد المصرين. قال: لا. ولكني مسيرك إلى الربذة. ثمّ سيره إلى الربذة فكان أبو ذر يقول: ما ترك الحقّ لي صديقاً. فلما سار إلى الربذة قال: ردني عثمان بعد الهجرة أعرابياً.
قال: وشيّع عليّ(عليه السلام) أبا ذر فأراد مروان منعه منه فضرب عليّ بسوطه بين أُذني راحلته، وجرى بين عليّ وعثمان في ذلك كلام حتى قال عثمان: ما أنت بأفضل عندي منه. وتغالظا فأنكر الناس قول عثمان ودخلوا بينهما حتى اصطلحا.
ولم يزل أبو ذر بالربذة حتى مات.
ويذكر انّ أباذر لما دخل على عثمان، قال له: لا أنعم الله بك عينا يا جنيدب! فقال أبو ذر: أنا جنيدب وسماني رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عبدالله، فاخترت اسم رسول الله الّذي سماني به على اسمي، فقال عثمان: أنت الّذي تزعم أنا نقول إن يد الله مغلولة، وإن الله فقير ونحن أغنياء!
فقال أبو ذر: لو كنتم لا تزعمون لأنفقتم مال الله على عباده، ولكني أشهد لسمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال الله دولا، وعباد الله خولا، ودين الله دخلا.
فقال عثمان لمن حضره: أسمعتموها من نبيّ الله؟ فقالوا: ما سمعناه، فقال عثمان: ويلك يا أبا ذر! أتكذب على رسول الله؟ فقال أبو ذر لمن حضر: أما تظنون أ نّي صدقت! قالوا: لا والله ما ندري، فقال عثمان: ادعوا لي عليّاً، فدعي، فلما جاء قال عثمان لأبي ذر: اقصص عليه حديثك في بني أبي العاص، فحدثه، فقال عثمان لعليّ: هل سمعت هذا من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقال عليّ(عليه السلام): لا، وقد صدق أبو ذر!
قال عثمان: بم عرفت صدقه؟
قال: لأ نّي سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر.
فقال جميع من حضر من أصحاب النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): لقد صدق أبو ذر، فقال أبو ذر: أحدّثكم أ نّي سمعت هذا من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ثمّ تتهمونني! ما كنت أظن أ نّي أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)![٥]
٤٢ - الحقّ القديم لا يبطله شيء
ومن كلام لأميرالمؤمنين(عليه السلام) وقد وقعت مشاجرة بينه وبين عثمان فقال المغيرة بن الأخنس لعثمان: أنا أكفيكه، فقال عليّ(عليه السلام) للمغيرة: يابن اللعين الأبتر، والشجرة الّتي لا أصل لها ولا فرع، أنت تكفيني؟ والله ما أعز الله من أنت ناصره، ولا قام من أنت منهضه. اخرج عنا أبعد الله نواك، ثمّ أبلغ جهدك فلا أبقى الله عليك إن أبقيت[٦].
قال ابن أبي الحديد: إنّما قال(عليه السلام): يابن اللعين. لأن الأخنس كان من أكابر المنافقين، ذكره أصحاب الحديث كلهم في المؤلفة الذين أسلموا يوم الفتح بألسنتهم دون قلوبهم، وأعطاه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مائة من الابل من غنائم حنين يتألف بها قلبه، وابنه أبو الحكم بن الأخنس قتله أميرالمؤمنين(عليه السلام) يوم أُحد كافراً في الحرب، وإنّما قال(عليه السلام): يابن الأبتر، لأن من كان عقبه ضالا خبيثاً فهو كمن لا عقب له، بل من لا عقب له خير منه، وكنى(عليه السلام) بنفي أصلها وفرعها من دناءته وحقارته، وقيل: لأن في نسب ثقيف طعناً. وقتل المغيرة مع عثمان في الدار.
وقد روى ابن عباس: إن عليّاً(عليه السلام) خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة فقال: ألا إن كلّ قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال، فإنّ الحقّ القديم لا يبطله شيء، ولو وجدته قد تزوج به النساء، وفرّق في البلدان، لرددته إلى حاله، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عنه الحقّ فالجور عنه أضيق.
قال الكلبي: ثمّ أمر(عليه السلام) بكلّ سلاح وجد لعثمان في داره مما تقوى به على المسلمين فقبض، وأمر بقبض نجائب كانت في داره من إبل الصدقة فقضبت، وأمر بقبض سيفه ودرعه، وأمر أن لا يعرض لسلاح وجد له لم يقاتل به المسلمين، وبالكف عن جميع أمواله الّتي وجدت في داره وغير داره، وأمر أن ترجع الأموال الّتي أجاز بها عثمان حيث أصيبت أو أُصيب أصحابها[٧].
٤٣ - الاصرار على تطبيق العدالة
قال أميرالمؤمنين(عليه السلام): «لَمْ تَكُنْ بَيْعَتُكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً، وَلَيْسَ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ وَاحِداً، إِنِّي أُرِيدُكُمْ للهِِ وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لاَِنْفُسِكُمْ. أَيُّهَا النَّاسُ، أَعِينُوني عَلى أَنْفُسِكُمْ، وَايْمُ اللهِ لاَُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ، وَلاََقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهَ حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ كَارِهاً».
قال ابن أبي الحديد: الفلتة: الأمر يقع عن غير تدبر ولا روية، وفي الكلام تعريض ببيعة أبي بكر، وقد تقدم لنا في معنى قول عمر: «كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها» كلام. والخزامة: حلقة من شعر تجعل في أنف البعير، ويجعل الزمام فيها. وأعينوني على أنفسكم: خذوها بالعدل، واقمعوها عن اتباع الهوى، واردعوها بعقولكم عن المسالك الّتي ترديها وتوبقها، فإنّكم إذا فعلتم ذلك أعنتموني عليها، لأ نّي أعظكم وآمركم بالمعروف، وأنهاكم عن المنكر، فإذا كبحتم أنفسكم بلجام العقل الداعي إلى ما أدعو إليه، فقد أعنتموني عليها.
أمّا معنى قوله: «أُرِيدُكُمْ للهِِ وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لاَِنْفُسِكُمْ» لأ نّه لا يريد من طاعتهم له إلاّ نصرة دين الله والقيام بحدوده وحقوقه، ولا يريديهم لحظ نفسه، وأمّا هم فإنّهم يريدونه لحظوظ أنفسهم من العطاء والتقريب، والأسباب الموصلة إلى منافع الدنيا. وهذا الخطاب منه لجمهور أصحابه، فأما الخواص منهم فإنّهم كانوا يريدونه لأمر الّذي يريدهم له من إقامة شرائع الدين وإحياء معالمه.
٤٤ - خبر عن خروج السفياني
قال أميرالمؤمنين(عليه السلام) في خطبة يذكر فيها الملاحم: «يَعْطِفُ الْهَوَى عَلَى الْهُدَى، إِذَا عَطَفُوا الْهُدَى عَلَى الْهَوَى، وَيَعْطِفُ الرَّأْيَ عَلَى الْقُرْآنِ إِذَا عَطَفُوا الْقُرْآنَ عَلَى الرَّأْيِ...
ثمّ قال: حَتَّى تَقُومَ الْحَرْبُ بِكُمْ عَلَى سَاق، بَادِياً نَوَاجِذُهَا ، ممْلُوءَةً أَخْلاَفُهَا، حُلْواً رَضَاعُهَا، عَلْقَماً عَاقِبَتُهَا. أَلاَ وَفِي غَد ـ وَسَيَأْتِي غَدٌ بِمَا لاَ تَعْرِفُونَ ـ يَأْخُذُ الْوَالِي مِنْ غَيْرِهَا عُمَّالَهَا عَلَى مَسَاوِىءِ أَعْمَالِهَا، وَتُخْرِجُ لَهُ الاَْرْضُ أَفَالِيذَ[٨] كَبِدِهَا، وَتُلْقي إِلَيْهِ سِلْماً مَقَالِيدَهَا، فَيُرِيكُمْ كَيْفَ عَدْلُ السِّيرَةِ، وَيُحْيي مَيِّتَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
كأَ نَّي بِهِ قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ، وَفَحَصَ بِرَايَاتِهِ فِي ضَوَاحِي كُوفَانَ، فَعَطَفَ عَلَيْهَا عَطْفَ الضَّرُوسِ، وَفَرَشَ الاَْرْضَ بِالرُّؤُوسِ، قَدْ فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ، وَثَقُلَتْ فِي الاَْرْضِ وَطْأَتُهُ، بَعِيدَ الْجَوْلَةِ، عَظِيمَ الصَّوْلَةِ.
وَاللهِ لِيُشَرِّدَنَّكُمْ فِي أَطْرَافِ الاَْرْضِ حَتَّى لاَ يَبْقَى مِنْكُمْ إِلاِّ قَلَيلٌ، كَالْكُحْلِ فِي الْعَيْنِ، فَلاَ تَزَالُونَ كَذلِكَ، حَتَّى تَؤُوبَ إِلَى الْعَرَبِ عَوَازِبُ أَحْلاَمِهَا. فَالْزَمُوا السُّنَنَ الْقَائِمَةَ، وَالاْثَارَ الْبَيِّنَةَ، وَالْعَهْدَ الْقَرِيبَ الَّذِي عَلَيْهِ بَاقِي النُّبُوَّةِ. وَاعْلَمُوا أَنَّ الشَّيْطَانَ إِنَّمَا يُسَنِّي لَكُمْ طُرُقَهُ لِتَتَّبِعُوا عَقِبَهُ»[٩].
الحديث هو إشارة إلى ظهور القائم(عليه السلام)، وحكمه بالعدل واحيائه للكتاب والسنّة، وفيه كذلك إشارة إلى السفياني وظهوره في الشام وتحركه باتجاه الكوفة، والقتل العام الّذي قام به، وفيه إخبار عن عبدالملك بن مروان وظهوره بالشام وملكه بعد ذلك العراق، وما قتل من العرب فيها أيام الرحمن بن الأشعث، وقتله أيام مصعب بن الزبير.
٤٥ - الفاصلة بين الحقّ والباطل
من كلام لأميرالمؤمنين متحدّثاً عن الحقّ والباطل، قال(عليه السلام):
«أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ عَرَفَ مِنْ أَخِيهِ وَثِيقَةَ دِين وَسَدَادَ طَرِيق، فَلاَ يَسْمَعَنَّ فِيهِ أَقَاوِيلَ الرِّجَالِ، أَمَا إِنَّهُ قَدْ يَرْمِي الرَّامِي، وَتُخْطِيءُ السِّهَامُ، وَيَحِيلُ الْكَلاَمُ، وَبَاطِلُ ذلِكَ يَبْورُ، وَاللهُ سَمِيعٌ وَشَهِيدٌ. أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ إِلاَّ أَرْبَعُ أَصَابِعَ».
فسئل عن معنى قوله هذا، فجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه ثمّ قال: «الْبَاطِلُ أَنْ تَقُولَ سَمِعْتُ، وَالْحَقُّ أَنْ تَقُولَ رَأَيْتُ!»[١٠].
وهذا الكلام هو نهي عن التسرع إلى التصديق بما يقال من العيب والقدح في حقّ الإنسان المستور، الظاهر المشتهر بالصلاح والخير، وهو خلاصة قوله سبحانه: (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَـتَـبَـيَّـنُوا أنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَة فَـتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْـتُمْ نَادِمِينَ)[١١] وقد ضرب(عليه السلام) لذلك مثلا فقال: قد يرمي الرامي فلا يصيب الغرض، وكذلك قد يطعن الطاعن فلا يكون طعنه صحيحاً، وربما كان لغرض فاسد أو سمعة ممن له غرض فاسداً، كالعدو والحسود، وقد يشتبه الأمر فيظن المعروف منكراً، فيجعل الإنسان بقول لا يتحققه، كمن يرى غلام زيد يحمل في إناء مستور مغطى خلاّ فيظنه خمراً. وقال(عليه السلام): «وَيَحِيلُ الْكَلاَمُ» أي يكون باطلا، أحال الرجل في منطقه إذا تكلم الّذي لا حقيقة له. ويشير بقوله(عليه السلام): «وَبَاطِلُ ذلِكَ يَبْورُ»، إلى القول المعروف: للباطل جولة، وللحقّ دولة، وهذا من قوله تعالى: (وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً)[١٢].
٤٦ - منزلة الفتنة
من كلام له(عليه السلام) خاطب به أهل البصرة محذراً إيّاهم من الفتنة:
«فَمَنِ اسْتَطَاعَ عِنْدَ ذلِكَ أَنْ يَعْتَقِلَ نَفْسَهُ عَلَى اللهِ، فَلْيَفْعَلْ، فَإِنْ أَطَعْتُمُوني فَإِنِّي حَامِلُكُمْ إِنْ شَاءَ اللهُ عَلَى سَبِيلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ ذَا مَشَقَّة شَدِيدَة وَمَذَاقَة مَرِيرَة. وَأَمَّا فُلاَنَةُ، فَأَدْرَكَهَا رَأْيُ الْنِّسَاءِ، وَضِغْنٌ غَلاَ فِي صَدْرِهَا كَمِرْجَلِ الْقَيْنِ، وَلَوْ دُعِيَتْ لِتَنَالَ مِنْ غَيْرِي مَا أَتَتْ إِلَيَّ، لَمْ تَفْعَلْ، وَلَهَا بَعْدُ حُرْمَتُهَا الاُْولَى، وَالْحِسَابُ عَلَى اللهِ. وَعَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللهِ، فَإِنَّهُ الْحَبْلُ الْمَتِينُ، وَالنُّورُ الْمُبِينُ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، وَالرِّيُّ النَّاقِعُ، وَالْعِصْمَةُ لِلْمُتَمَسِّكِ، وَالنَّجَاةُ لَلْمُتَعَلِّقِ، لاَ يَعْوَجُّ فَيُقَامَ، وَلاَ يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبَ، وَلاَ تُخْلِقُهُ كَثْرَةُ الرَّدِّ، وَوُلُوجُ السَّمْعِ، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ سَبَقَ.
فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الفتنة، وهل سألت عنها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقال:
لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ، قَوْلَهُ: (الم * أحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْركُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ) عَلِمْتُ أَنَّ الْفِتْنَةَ لاَ تَنْزِلُ بِنَا وَرَسُولُ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم) بَيْنَ أَظْهُرِنَا.
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هذِهِ الْفِتْنَةُ الَّتي أَخْبَرَكَ اللهُ بِهَا؟
فَقَالَ: يَا عَلِيُّ، إِنَّ أُمَّتِي سَيُفْتَنُونَ مِنْ بَعْدِي.
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَلَيْسَ قَدْ قُلْتَ لِي يَوْمَ أُحُد حَيْثُ اسْتُشْهِدَ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَحِيزَتْ عَنِّي الشَّهَادَةُ، فَشَقَّ ذلِكَ عَلَيَّ، فَقُلْتَ لِي: أَبْشِرْ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ وَرَائِكَ؟
فَقَالَ لي: إِنَّ ذلِكَ لَكَذلِكَ، فَكَيْفَ صَبْرُكَ إِذَنْ؟
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَيسَ هذَا مِنْ مَوَاطِنِ الصَّبْرِ، وَلكِنْ مِنْ مَوَاطِنِ البشرى وَالشُّكُرِ.
ثمّ قال(عليه السلام): قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَبِأَيِّ الْمَنَازِلِ أُنْزِلُهُمْ عِنْدَ ذلِكَ؟ أَبِمَنْزِلَةِ رِدَّة، أَمْ بِمَنْزِلَةِ فِتْنَة؟
فَقَالَ: بِمَنْزِلَةِ فِتْنَة»[١٣].
٤٧ - عشق عليّ(عليه السلام) الكبير للشهادة
بعد انتهاء غزوة أُحد، رأى الإمام عليّ(عليه السلام) بأنّ الكثير من أصحاب الرسول قد استشهد، فهذا عمّه حمزة، وذلك مصعب بن عمير، وعبدالله بن جحش، وحنظلة...، أخذ الإمام يفكر بسبب عدم نيله الشهادة، خصوصاً أ نّه كان على رأس القلّة الّتي بقيت تدافع عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لآخر نفس، بعد أن هرب الكثير من الصحابة.
ولما خلا الإمام عليّ(عليه السلام) برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال له: يا رسول الله، إنك قلت لي يوم أُحد ـ حين أخرت عن الشهادة، واستشهد من استشهد ـ : إن الشهادة من ورائك. قال: فكيف صبرك إذا خضب هذه من هذه؟ ـ وأهوى بيده إلى لحيته ورأسه ـ :
فقال عليّ: أمّا إذا بليت ما بليت ليس ذلك من مواطن الصبر ولكن هو من مواطن البشرى والكرامة[١٤].
قال ابن أبي الحديد: أن لفظه(عليه السلام) المروي في الخطبة السابقة يدل على أن الآية المذكورة وهي قوله: (ألم أحسب الناس...) أُنزلت بعد أُحد، وهذا خلاف قول أرباب التفسير، لأن هذه الآية هي أول سورة العنكبوت وهي عندهم بالاتفاق مكية ويوم أُحد كان بالمدينة، وينبغي أن يقال في هذا: إن هذه الآية خاصة أُنزلت بالمدينة وأُضيفت إلى السورة المكية فصارتا واحدة، وغلب عليها نسب المكي، لأن الأكثر كان بمكة، وفي القرآن مثل هذا كثير، كسورة النحل، فإنّها مكية بالاجماع، وآخرها ثلاث آيات أُنزلت بالمدينة بعد يوم أُحد.
وقوله(عليه السلام): «ليس هذا من مواطن الصبر» كلام عال جداً يدل على يقين عظيم وعرفان تام، ونحوه قوله(عليه السلام): ـ وقد ضربه ابن ملجم ـ: فزت وربّ الكعبة[١٥].
٤٨ - قصة أُخرى في هذا الموضوع
عندما تكلّم أميرالمؤمنين(عليه السلام) عن الفتنة في خطبته السابقة، ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك قال: «فعليكم بكتاب الله» أي إذا وقع الأمر واختلط الناس، فعليكم بكتاب الله فلذلك، قام إليه من سأله عن الفتنة.
وهذا الخبر مروي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قد رواه كثير من المحدّثين عن عليّ(عليه السلام) أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال له: إن الله قد كتب عليك جهاد المفتونين، كما كتب عليَّ جهاد المشركين.
قال: فقلت: يا رسول الله، ما هذه الفتنة الّتي كتب عليَّ فيها الجهاد؟
قال: قوم يشهدون أن لا إله إلاّ الله وأني رسول الله، وهم مخالفون للسنّة. فقلت: يا رسول الله فعلام أُقاتلهم وهم يشهدون كما أشهد؟ قال: على الاحداث في الدين، ومخالفة الأمر.
فقلت: يا رسول الله، إنك كنت وعدتني الشهادة فاسأل الله أن يعجلها لي بين يدينك.
قال: فمن قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين! أمّا إنّي وعدتك الشهادة وستستشهد، تضرب على هذه فتخضب هذه، فكيف صبرك إذاً! قلت: يا رسول الله، ليس ذا بموطن صبر، هذا موطن شكر. قال: أجل أصبت فأعد للخصومة فإنّك مخاصم.
فقلت: يا رسول الله، لو بيّنت لي قليلا!
فقال: إنّ أُمتي ستفتن من بعدي، فتتأول القرآن وتعمل بالرأي، وتستحل الخمر بالنبيذ والسحت بالهدية، والربا بالبيع، وتحرف الكتاب عن مواضعه وتغلب كلمة الضلال، فكن جليس بيتك حتى تقلدها فإذا قلدتها جاشت عليك الصدور، وقلبت لك الاُمور، تقاتل حينئذ على تأويل القرآن، كما قاتلت على تنزيله، فليست حالهم الثانية بدون حالهم الاُولى.
فقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَبِأَيِّ الْمَنَازِلِ أُنْزِلُ هؤلاء المفتونين من بعدك؟ أبمنزلة فتنة أم بمنزلة ردة؟
فقال: بمنزلة فتنة يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل.
فقلت: يا رسول الله، أيدركهم العدل منا أم من غيرنا؟
قال: بل منا، بنا فتح وبنا يختم، وبنا أ لّف الله بين القلوب بعد الشرك، وبنا يؤلّف بين القلوب بعد الفتنة.
فقلت: الحمد لله على ما وهب لنا من فضله[١٦].
٤٩ - أُسوة الزهد والحرية
وكان ممّا تحدّث به الإمام في الكوفة (الخطبة ١٦٠) وذلك بعد أن حمد الله وأثنى عليه، ثمّ وعظ الناس وذكرهم بالدنيا الفانية والآخرة الباقية، ثمّ ذكّرهم برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الّذي يعتبر أ فضل أُسوة وقدوة للمسلمين، ثمّ تحدّث عن بقية القدوات في حياة الإنسان المسلم، فذكر كذلك أنبياء الله موسى وداود وعيسى(عليهم السلام).
فكان ممّا قاله(عليه السلام):
«وَلَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم) كَاف لَكَ فِي الاُْسْوَةِ، وَدَلِيلٌ لَكَ عَلَى ذَمِّ الدُّنْيَا وَعَيْبِهَا، وَكَثْرَةِ مَخَازِيهَا وَمَسَاوِيهَا، إِذْ قُبِضَتْ عَنْهُ أَطْرَافُهَا، وَوُطِّئَتْ لِغَيْرِهِ أَكْنَافُهَا، وَفُطِمَ مِنْ رَضَاعِهَا، وَزُوِيَ عَنْ زَخَارِفِهَا»[١٧].
٥٠ - عليّ المتأسّي بنبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم)
ثمّ قال أميرالمؤمنين(عليه السلام):
«فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الاَْطْيَبِ الاَْطْهَرِ(عليه السلام) فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى، وَعَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى ـ وَأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللهِ الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ، وَالْمُقْتَصُّ لاَِثَرِهِ».
ثمّ قال(عليه السلام)واصفاً الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم):
«خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا خَمِيصاً، وَوَرَدَ الاْخِرَةَ سَلِيماً، لَمْ يَضَعْ حَجَراً عَلَى حَجَر، حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ، وَأَجَابَ دَاعِيَ رَبِّهِ، فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللهِ عِنْدَنَا حِينَ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِهِ سَلَفاً نَتَّبِعُهُ، وَقَائِداً نَطأُ عَقِبَهُ!
وَاللهِ لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي هذِهِ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا، وَلَقَدْ قَالَ لِي قَائِلٌ: أَلاَ تَنْبِذُهَا؟ فَقُلْتُ: اغْرُبْ عَنِّي، فَعِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى[١٨]»[١٩].
٥١ - جوانب من زهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)
يستمر أميرالمؤمنين(عليه السلام) في حديثه عن القدوة والاُسوة، رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فيذكر جوانب مشرقة من حياته فيما يتعلق بزهده(صلى الله عليه وآله وسلم)فيقول أميرالمؤمنين(عليه السلام):
«أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً، وَأَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً،... وَلَقَدْ كَانَ(صلى الله عليه وآله وسلم) يَأْكُلُ عَلَى الاَْرْضِ، وَيَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ، وَيَخْصِفُ بَيَدِهِ نَعْلَهُ، وَيَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ، وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ، وَيَكُونُ السِّتْرُ عَلَى بَابِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فِيهِ التَّصَاوِيرُ فَيَقُولُ: «يَا فُلاَنَةُ ـ لاِِحْدَى أَزْوَاجِهِ ـ غَيِّبِيهِ عَنِّي، فَإِنِّي إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا وَزَخَارِفَهَا».
فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ، وَأَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ، وَأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ، لِكَيْلاَ يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً، وَلاَ يَعْتَقِدَهَا قَرَاراً، وَلاَ يَرْجُو فِيهَا مُقَاماً، فَأَخْرَجَهَا مِنَ النَّفْسِ، وَأَشْخَصَهَا عَنِ الْقَلْبِ، وَغَيَّبَهَا عَنِ الْبَصَرِ.
وَكَذلِكَ مَنْ أَبْغَضَ شَيْئاً أَبْغَضَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهُ.
وَلَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم) مَا يَدُلُّكَ عَلَى مَسَاوِىءِ الدُّنْيَا وَعُيُوبِهَا: إِذْ جَاعَ فِيهَا مَعَ خَاصَّتِهِ، وَزُوِيَتْ عَنْهُ زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِيمِ )زُلْفَتِهِ.
فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِهِ: أَكْرَمَ اللهُ مُحَمَّداً(صلى الله عليه وآله وسلم) بِذلِكَ أَمْ أَهَانَهُ! فَإِنْ قَالَ: أَهَانَهُ، فَقَدْ كَذَبَ ـ وَاللهِ الْعَظِيمِ ـ وَإِنْ قَالَ: أَكْرَمَهُ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهَانَ غَيْرَهُ حَيْثُ بَسَطَ الدُّنْيَا لَهُ، وَزَوَاهَا عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ.
فَتَأسَّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ، وَاقْتَصَّ أَثَرَهُ، وَوَلَجَ مَوْلِجَهُ، وَإِلاَّ فَلاَ يَأْمَنِ الْهَلَكَةَ»[٢٠].
٥٢ - زهد موسى(عليه السلام)
ثمّ تحدّث الإمام عليّ(عليه السلام) عن أُسوة وقدوة أُخرى، وهي شخصية نبي الله موسى(عليه السلام) فقال: «وَإِنْ شِئْتَ ثَنَّيْتُ بِمُوسى كَلِيمِ اللهِ إذْ يَقُولُ: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْر فَقِيرٌ)[٢١] ، وَاللهِ، مَا سَأَلَهُ إِلاَّ خُبْزاً يَأْكُلُهُ، لاِنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ بَقْلَةَ الاَْرْضِ، وَلَقَدْ كَانَتْ خُضْرَةُ الْبَقْلِ تُرَى مِنْ شَفِيفِ صِفَاقِ بَطْنِهِ، لِهُزَالِهِ وَتَشَذُّبِ لَحْمِهِ»[٢٢].
وعن أبي عبدالله(عليه السلام) في قول الله تبارك وتعالى حكاية عن قول موسى(عليه السلام): (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْر فَقِيرٌ) قال: سأل الطعام، فأوحى الله إليه: يا موسى الفقير من ليس له مثلي كفيل، والمريض من ليس له مثلي طبيب، والغريب من ليس له مثلي مؤنس، يا موسى إرض بكسرة من شعير تسد بها جوعتك، وخرقة تواري بها عورتك واصبر على المصائب، وإذا رأيت الدنيا مقبلة عليك، فقل إنا لله وإنا إليه راجعون.
وإذا رأيت الدنيا مدبرة عنك فقل: مرحباً بشعار الصالحين.
يا موسى لا تعجبين بما أُوتي فرعون، وما متع به فإنّما هو زينة الحياة الدنيا[٢٣].
٥٣ - زهد داود(عليه السلام)
ثمّ تحدّث الإمام عليّ(عليه السلام) عن زهد نبي الله داود(عليه السلام) فقال:
«وَإِنْ شِئْتَ ثَلَّثْتُ بِدَاوودَ صَاحِبِ الْمَزَامِيرِ، وقَارِىءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلَقَدْ كَانَ يَعْمَلُ سَفَائِفَ الْخُوصِ بِيَدِهِ، وَيَقُولُ لِجُلَسَائِهِ: أَيُّكُمْ يَكْفِينِي بَيْعَهَا! وَيَأْكُلُ قُرْصَ الشَّعِيرِ مِنْ ثَمَنِهَا»[٢٤].
وقد روي عن أبي عبدالله(عليه السلام):
أوحى الله عزّ وجلّ إلى داود(عليه السلام): أ نّك نعم العبد لولا أ نّك تأكل من بيت المال ولا تعمل بيدك شيئاً، قال: فبكى داود(عليه السلام)، فأوحى الله عزّوجلّ إلى الحديد أن لِن لعبدي داود، فألان الله تعالى له الحديد، فكان يعمل كلّ يوم درعاً فيبيعها بألف درهم فعمل(عليه السلام) ثلاثمائة وستين درعاً فباعها بثلاثمائة وستين ألفاً واستغنى عن بيت المال[٢٥].
٥٤ - زهد عيسى(عليه السلام) وتقواه
ويستمر أميرالمؤمنين(عليه السلام) في الحديث عن الزهد ونماذجه، فبعد أن تحدّث عن زهد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وعن زهد موسى وداود(عليهما السلام)، أخذ في الحديث عن زهد عيسى(عليه السلام) وتقواه، فقال:
«وَإِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِي عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ(عليه السلام)، فَلَقَدْ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْحَجَرَ، وَيَلْبَسُ الْخَشِنَ، وَكَانَ إِدَامُهُ الْجُوعَ، وَسِرَاجُهُ بَاللَّيْلِ الْقَمَرَ، وَظِلاَلُهُ في الشِّتَاءِ مَشَارِقَ الاَْرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَفَاكِهَتُهُ وَرَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الاَْرْضُ لِلْبَهَائِمِ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ، وَلاَ وَلَدٌ يَحْزُنُهُ، وَلاَ مَالٌ يَلْفِتُهُ، وَلاَ طَمَعٌ يُذِلُّهُ، دَابَّتُهُ رِجْلاَهُ، وَخَادِمُهُ يَدَاهُ»[٢٦].
وقد ورد مضمون هذا الكلام عن عيسى(عليه السلام)، إذ قال:
خادمي يداي، ودابتي رجلاي، وفراشي الأرض ووسادي الحجر، ودفئي في الشتاء مشارق الأرض، وسراجي بالليل القمر، وإدامي الجوع[٢٧] وشعاري الخوف، ولباسي الصوف، وفاكهتي وريحانتي ما أنبتت الأرض للوحوش والأنعام، أبيت وليس لي شيء وأصبح وليس لي شيء، وليس على وجه الأرض أحد أغنى مني[٢٨].