وقال (عليه السلام) : مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ .                
وقال (عليه السلام) : مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا .                
وقال (عليه السلام): إذَا كَانَ في رَجُل خَلَّةٌ رَائِعَةٌ فَانْتَظِرْ أَخَوَاتِهَا.                
وقال (عليه السلام) : هَلَكَ فِي رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ غَال ، وَمُبْغِضٌ قَال .                
وقال (عليه السلام): إِذَا وَصَلَتْ إِليْكُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ فَلاَ تُنْفِرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْرِ .                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                
وقال (عليه السلام): الْحِلْمُ وَالاَْنَاةُ تَوْأَمَانِ يُنْتِجُهُمَا عُلُوُّ الْهِمَّةِ.                

Search form

إرسال الی صدیق
من قصص نهج البلاغة - الثامن

١٢٣ - الجواب على سبعة أسئلة

١ـ قيل لأميرالمؤمنين(عليه السلام): صف لنا العاقل؟

فقال: هو الّذي يضع الشيء مواضعه.

٢ ـ فقيل: فصف لنا الجاهل؟

قال: قد: قلت[١].

أي أن الجاهل هو الّذي لا يضع الشيء مواضعه، فكأن ترك صفته صفة له، إذ كان بخلاف وصف العاقل.

٣ ـ وسئل(عليه السلام): كيف يحاسب الله الخلق ـ يوم القيامة ـ على كثرتهم؟

فقال(عليه السلام): كما يرزقهم على كثرتهم.

٤ ـ فقيل: كيف يحاسبهم ولا يرونه؟

قال(عليه السلام): كما يرزقهم ولا يرونه![٢]

٥ ـ وقيل له(عليه السلام): بأي شيء غلبت الأقران؟

قال(عليه السلام): ما لقيت رجلا إلاّ أعانني على نفسه[٣].

يؤمى بذلك إلى تمكّن هيبته في القلوب.

٦ ـ وسئل(عليه السلام) أيما أفضل العدل أو الجود؟

فقال(عليه السلام): العدل يضع الاُمور موضعها، والجود يخرجها من جهتها.

والعدل سائس عام، والجود عارض خاص، فالعدل أشرفهما وأفضلهما[٤].

٧ ـ وسئل عن مسافة ما بين المشرق والمغرب؟

فقال(عليه السلام): مسيرة يوم للشمس[٥].

١٢٤ - شجاعة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في نظر عليّ(عليه السلام)

في السنة الثانية للهجرة وقعت غزوة بدر الكبرى بين المسلمين والمشركين، وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) هو القائد الأعلى لجيشه الّذي لم يتجاوز عدده (٣١٣) مقاتلا.

يتحدّث الإمام عليّ(عليه السلام) (والمعروف بشجاعته) عن قائد الجيش في المعركة فيقول(عليه السلام):

«كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم)، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَّا أَقْرَبَ إِلَى الْعَدُوِّ مِنْهُ».

ومعنى ذلك أ نّه إذا عظم الخوف من العدو واشتد عضاض الحرب فزع المسلمون إلى قتال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه فينزل الله عليهم النصر به ويأمنون مما كانوا يخافونه بمكانه[٦].

١٢٥ - ثلاثة خذلوا الحقّ

بعد أن بايع الناس الإمام بالخلافة، وأخذت الأحداث تسير بعكس ما أراده الإمام خصوصاً بعد تحرك عائشة والزبير وطلحة في البصرة، بدأ الإمام(عليه السلام) يعبّأ جيشه لقتال الناكثين، فاستعد الناس للقتال باستثناء بعض الصحابة الّذي حاولوا ايجاد التبريرات فراراً من المعركة وخذلاناً للحقّ. فقال(عليه السلام) في الّذين اعتزلوا القتال معه: «خذلوا الحقّ ولم ينصروا الباطل»[٧].

وهؤلاء هم عبدالله بن عمر بن الخطاب، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وأسامة بن زيد، ومحمّد بن مسلمة، وأنس بن مالك، والحارث بن حوط، وجماعة غيرهم.

وقد روي أنّ أميرالمؤمنين(عليه السلام) لما دعاهم إلى القتال معه، واعتذروا بما اعتذروا به، قال لهم: أتنكرون هذه البيعة؟

قالوا: لا، لكنا لا نقاتل!

فقال: إذا بايعتم فقد قاتلتم!

قال: فسلموا بذلك من الذم، لأن إمامهم رضي عنهم.

وقيل: أن الحارث بن حوط أتاه(عليه السلام)، فقال له: أتراني أظن أن أصحاب الجمل كانوا على ضلالة؟

فقال(عليه السلام): يا حار، إنّك نظرت تحتك، ولم تنظر فوقك فحرت، إنّك لم تعرف الحقّ فتعرف أهله، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه.

فقال الحارث: فإنّي أعتزل مع سعد بن مالك وعبدالله بن عمر.

فقال(عليه السلام): إن سعداً وعبدالله بن عمر لم ينصرا الحقّ، ولم يخذلا الباطل.

قال ابن أبي الحديد: فأُولئك قوم خذلوا الحقّ ولم ينصروا الباطل، وتلك كانت حالهم، فإنّهم خذلوا عليّاً ولم ينصروا معاوية ولا أصحاب الجمل[٨].

وذكروا أن عمّار بن ياسر قام إلى عليّ، فقال: يا أميرالمؤمنين، ائذن لي آتي عبدالله بن عمر فأكمله، لعله يخف معنا في هذا الأمر، فقال عليّ: نعم، فأتاه، فقال له: يا أبا عبدالرحمن، إنّه قد بايع عليّاً المهاجرون والأنصار، ومن إن فضلناه عليك لم يسخطك، وإن فضلناك عليه لم يرضك، وقد أنكرت السيف في أهل الصلاة، وقد علمت أن على القاتل القتل، وعلى المحصن الرجم، وهذا يقتل بالسيف، وهذا يقتل بالحجارة، وأن عليّاً لم يقتل أحداً من أهل الصلاة، فيلزمه حكم القاتل.

فقال ابن عمر: يا أبا اليقظان، إن أبي جمع أهل الشورى، الذين قبض رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو عنهم راض، فكان أحقهم بها عليّ، غير أ نّه جاء أمر فيه السيف ولا أعرفه، ولكن والله ما أحب أن لي الدنيا وما عليها وأ نّي أظهرت أو أضمرت عداوة عليّ؟

قال: فانصرف عنه، فأخبر عليّاً بقوله، ثمّ أتى سعد بن أبي وقاص فكلّمه، فأظهر الكلام القبيح، فانصرف عمّار إلى عليّ، فقال له عليّ: دع هؤلاء الرهط، أمّا ابن عمر فضعيف، وأمّا سعد فحسود، وذنبي إلى محمّد بن مسلمة أ نّي قتلت أخاه يوم خيبر مرحب اليهودي[٩].

١٢٦ - معنى الإيمان

سأل رجل أميرالمؤمنين(عليه السلام) أن يعرفه الإيمان فقال(عليه السلام):

«إِذَا كَانَ الغَدٌ فَأْتِنِي حَتَّى أُخْبِرَكَ عَلَى أَسْمَاعِ النَّاسِ، فإِنْ نَسِيتَ مَقَالَتِي حَفِظَهَا عَلَيْكَ غَيْرُكَ، فَإِنَّ الْكَلاَمَ كَالشَّارِدَةِ، يَنْقُفُهَا هذَا وَيُخْطِئُهَا هذَا»[١٠].

وفي اليوم الثاني وقف الإمام خطيباً وقَالَ: الاْيمَانُ عَلَى أَرْبَعِ دَعَائِمَ: عَلَى الصَّبْرِ، والْيَقِينِ، وَالْعَدْلِ، وَالْجَهَادِ:

«فَالصَّبْرُ مِنْهَا عَلَى أَربَعِ شُعَب: عَلَى الشَّوْقِ، وَالشَّفَقِ، وَالزُّهْدِ، وَالتَّرَقُّبِ: فَمَنِ اشْتَاقَ إِلَى الْجَنَّةِ سَلاَ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَمَنْ أشْفَقَ مِنَ النَّارِ اجْتَنَبَ الْـمُحَرَّمَاتِ، وَمَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا اسْتَهَانَ بِالْمُصِيبَاتِ، وَمَنِ ارْتَقَبَ الْمَوْتَ سَارَعَ فِي الْخَيْرَاتِ.

وَالْيَقِينُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَب: عَلَى تَبْصِرَةِ الْفِطْنَةِ، وَتَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ، وَمَوْعِظَةِ الْعِبْرَةِ، وَسُنَّةِ الاْوَّلِينَ: فَمَنْ تَبَصَّرَ فِي الْفِطْنَةِ تَبَيَّنَتْ لَهُ الْحِكْمَةُ، وَمَنْ تَبَيَّنَتْ لَهُ الْحِكْمَةُ عَرَفَ الْعِبْرَةَ، وَمَنْ عَرَفَ الْعِبْرَةَ فَكَأَنَّمَا كَانَ فِي الاْوَّلِينَ.

وَالْعَدْلُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَب: عَلَى غائِصِ الْفَهْمِ، وَغَوْرِ الْعِلْمِ، وَزُهْرَةِ الْحُكْمِ، وَرَسَاخَةِ الْحِلْمِ: فَمَنْ فَهِمَ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ، وَمَنْ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ صَدَرَ عَنْ شَرَائِعِ الْحُكْمِ، وَمَنْ حَلُمَ لَمْ يُفَرِّطْ فِي أَمْرِهِ وَعَاشَ فِي النَّاسِ حَمِيداً.

وَالْجِهَادُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَب: عَلَى الاَْمْرِ بالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْي عَنِ الْمُنكَرِ، وَالصِّدْقِ فِي الْمَوَاطِنِ، وَشَنَآنِ الْفَاسِقيِنَ: فَمَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ شَدَّ ظُهُورَ الْمُؤمِنِينَ، وَمَنْ نَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ أَرْغَمَ أُنُوفَ الْمُنَافِقِينَ، ومَنْ صَدَقَ فِي الْمَوَاطِنِ قَضَى مَا عَلَيْهِ، وَمَنْ شَنِىءَ الْفَاسِقِينَ وَغَضِبَ لله غَضِبَ اللهُ لَهُ.

فقام السائل عند هذا فقبّل رأس عليّ(عليه السلام)[١١].

١٢٧- زينة الكعبة

روي أ نّه ذكر عند عمر بن الخطاب في أيامه حلى الكعبة وكثرته، فقال قوم لو أخذته فجهزت به جيوش المسلمين كان أعظم للأجر، وما تصنع الكعبة بالحلى؟

فهمّ عمر بذلك، وسأل أميرالمؤمنين(عليه السلام)، فقال(عليه السلام):

إِنَّ القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ وَالاْمْوَالُ أَرْبَعَةٌ:

١ ـ أَمْوَالُ الْمُسْلِمِينَ فَقَسَّمَهَا بَيْنَ الْوَرَثَةِ فِي الْفَرَائِضِ.

٢ ـ وَالْفَيْءُ فَقَسَّمَهُ عَلَى مُسْتَحِقِّيهِ.

٣ ـ وَالْخُمُسُ فَوَضَعَهُ اللهُ حَيْثُ وَضَعَهُ.

٤ ـ وَالصَّدَقَاتُ فَجَعَلَهَا اللهُ حَيْثُ جَعَلَهَا.

وَكَانَ حَلْيُ الْكَعْبَةِ فِيهَا يَوْمَئِذ، فَتَرَكَهُ اللهُ عَلَى حَالِهِ، وَلَمْ يَتْرُكْهُ نِسْيَاناً، وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ مَكَاناً، فَأَقِرَّهُ حَيْثُ أَقَرَّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ.

فقال له عمر: لولاك لافتضحنا. وترك الحَلْي بحاله[١٢].

١٢٨ - قطع يد سارق بيت المال

روي أنّ أميرالمؤمنين(عليه السلام) رفع إليه رجلان سرقا من مال الله، أحدهما عبد من مال الله، والآخر من عروض الناس[١٣].

فقال(عليه السلام): أمّا هذا فهو من مال الله ولا حدّ عليه، مال الله أكل بعضه بعضاً.

وأمّا الآخر فعليه الحد فقطع يده[١٤] .

١٢٩ - صفات الاخوة والصداقة عند عليّ(عليه السلام)

قال أميرالمؤمنين(عليه السلام):

«كَانَ لِي فيِما مَضَى أَخٌ فِي اللهِ، وَكَانَ يُعْظِمُهُ فِي عَيْنِي صِغَرُ الدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ، وَكَانَ خَارِجاً مِنْ سُلْطَانِ بَطْنِهِ فَلاَ يَشْتَهِي مَا لاَ يَجِدُ وَلاَ يُكْثِرُ إِذَا وَجَدَ، وَكَانَ أَكْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتاً فإِنْ قَالَ بَذَّ الْقَائِلِينَ وَنَقَعَ غَلِيلَ السَّائِلِينَ، وَكَانَ ضَعِيفاً مُسْتَضْعَفاً! فَإِنْ جَاءَ الْجِدُّ فَهُوَ لَيْثُ غَابوَصِلُّ وَاد لاَ يُدْلِي بِحُجَّة حَتَّى يَأْتِيَ قَاضِياً، وَكَانَ لاَ يَلُومُ أَحَداً عَلَى مَا يَجِدُ الْعُذْرَ فِي مِثْلِهِ حَتَّى يَسْمَعَ اعْتِذَارَهُ، وَكَانَ لاَ يَشْكُو وَجَعاً إِلاَّ عِنْدَ بُرْئِهِ، وَكَانَ يقُولُ مَا يَفْعَلُ وَلاَ يَقُولُ مَا لاَ يَفْعَلُ، وَكَانَ إذَا غُلِبَ عَلَى الْكَلاَمِ لَمْ يُغْلَبْ عَلَى السُّكُوتِ، وَكَانَ عَلَى مَا يَسْمَعُ أَحْرَصَ مِنْهُ عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ، وَكَان إذَا بَدَهَهُ أَمْرَانِ نَظَرَ أَيُّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْهَوَى فَخَالَفَهُ.

فَعَلَيْكُمْ بِهذِهِ الْخَلاَئِقِ فَالْزَمُوهَا وَتَنَافَسُوا فِيهَا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوهَا فَاعْلَمُوا أَنَّ أَخْذَ الْقلِيلِ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِ الْكَثِيرِ»[١٥].

١٣٠ - هدوء عليّ(عليه السلام) في ميدان المعركة

روى أبو حيان التيمي عن أبيه قال: بينما عليّ(عليه السلام) يعبّىء الكتائب يوم صفين ومعاوية مستقبله على فرس له يتأكل تحته تأكلا وعليّ(عليه السلام) على فرس رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) المرتجز، وبيده حربة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو متقلّد سيفه ذا الفقار، فقال رجل من أصحابه: احترس يا أميرالمؤمنين فانّا نخشى أن يغتالك هذا الملعون، فقال(عليه السلام): لئن قلت ذاك إنّه غير مأمون على دينه وإنّه لأشقى القاسطين، وألعن الخارجين على الأئمة المهتدين، ولكن كفى بالأجل حارساً، ليس أحد من الناس إلاّ ومعه لملائكة حفظة يحفظونه من أن يتردى في بئر أو يقع عليه حائط أو يصيبه سوء، فإذا حان أجله خلوا بينه وبين ما يصيبه فكذلك أنا إذا حان أجلي انبعث أشقاها فخضب هذه من هذا ـ وأشار إلى لحيته ورأسه ـ عهداً معهوداً ووعداً غير مكذوب[١٦].

ومن كلام لأميرالمؤمنين(عليه السلام) لما خوف من الغيلة: وَإِنَّ عَلَيَّ مِنَ اللهِ جُنَّةً حَصِينةً، فَإِذَا جَاءَ يَوْمِي انْفَرَجَتْ عَنِّي وَأَسْلَمَتْنِي; فَحِينَئِذ لاَ يَطِيشُ السَّهْمُ، وَلاَ يَبْرَأُ الْكَلْمُ[١٧].

وقال(عليه السلام): إِنَّ مَعَ كُلِّ إِنْسَان مَلَكَيْنِ يَحْفَظَانِهِ، فَإِذَا جَاءَ الْقَدَرُ خَلَّيَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَإِنَّ الاْجَلَ جُنَّةٌ حَصِينَةٌ[١٨].

١٣١ - عقوبة كتمان الحقّ

قال أميرالمؤمنين(عليه السلام) لأنس بن مالك، وقد كان بعثه إلى طلحة والزبير لما جاء إلى البصرة يذكرهما شيئاً قد سمعه من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في معناهما، فلوى عن ذلك فرجع إليه، فقال: إنّي أنسيت ذلك الأمر!

فقال(عليه السلام): إن كنت كاذباً فضربك الله بها بيضاء لامعة[١٩] لا تواريها العمامة.

قال الراوي: فأصاب أنساً هذا الداء فيما بعد في وجهه، فكان لا يرى إلاّ متبرقعاً.

قال ابن أبي الحديد: المشهور أن عليّاً(عليه السلام) ناشد الناس الله في الرحبة بالكوفة، فقال: أُنشدكم الله رجلا سمع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لي وهو منصرف من حجة الوداع: «من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه»، فقام رجال فشهدوا بذلك، فقال(عليه السلام) لأنس بن مالك: لقد حضرتها، فما بالك!

فقال: يا أميرالمؤمنين كبرت سني، وصار ما أنساه أكثر مما أذكره!

فقال له: إن كنت كاذباً فضربك الله بها بيضاء لا تواريها العمامة، فما مات حتى أصابه البرص.

وأضاف ابن أبي الحديد: فأمّا ما ذكره الرضي من إنّه بعث أنساً إلى طلحة والزبير فغير معروف، ولو كان قد بعثه ليذكرهما بكلام يختص بهما من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يرجع، فيقول إنّي أنسيته، فينكر بعد الاقرار! هذا مما لا يقع[٢٠].

وروي أن أنساً كان في حضرة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يقول لطلحة والزبير: إنّكما تحاربان عليّاً وأنتما له ظالمان[٢١].

١٣٢ - جواب دامغ لبعض اليهود

قال أميرالمؤمنين(عليه السلام) لبعض اليهود حين قال له: ما دفنتم نبيّكم حتى اختلفتم فيه!

فقال(عليه السلام) له: إِنَّمَا اخْتَلَفْنَا عَنْهُ لاَ فِيهِ، وَلكِنَّكُمْ مَا جَفَّتْ أَرْجُلُكُمْ مِنَ الْبَحْرِ حَتَّى قُلْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ: (اجْعَلْ لَنَا إلهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)[٢٢].

قال المفسرون: انّ اليهود مرّوا على قوم يعبدون أصناماً لهم على هيئة البقر، فسألوا موسى أن يجعل لهم إلهاً كواحد منها، بعد مشاهدتهم الآيات والاعلام، وخلاصهم من رق العبودية، وعبورهم البحر، ومشاهدة غرق فرعون، وهذه غاية الجهل.

١٣٣ - بداية ضلالة الخوارج

قال أميرالمؤمنين(عليه السلام) وقد مرّ بقتلى الخوارج يوم النهروان: «بُؤْساً لَكُمْ، لَقَدْ ضَرَّكُمْ مَنْ غَرَّكُمْ.

فقيل له: مَن غرّهم يا أميرالمؤمنين؟

فقال: الشَّيْطَانُ الْمُضِلُّ، وَالاْنْفُسُ الاْمَّارَةُ بِالسُّوءِ، غَرَّتْهُمْ بالاْمَانِيِّ، وَفَسَحَتْ لَهُمْ فِي المَعَاصِيِ، وَعَدَتْهُمُ الاْظْهَارَ، فَاقْتَحَمَتْ بِهِمُ النَّارَ»[٢٣].

١٣٤ - حزن أميرالمؤمنين(عليه السلام) على محمّد بن أبي بكر

يعتبر محمّد بن أبي بكر من الشيعة الأوفياء المخلصين لأميرالمؤمنين(عليه السلام)، ولد في ٢٥ ذي القعدة في السنة العاشرة للهجرة (حجة الوداع) في منطقة (ذو الحليفة) وهي محل احرام أهل المدينة. أُمّه هي أسماء بنت عميس كانت تحت جعفر بن أبي طالب، فلما قتل تزوجها أبو بكر فولدت منه محمّداً، ثمّ تزوجها عليّ بعده وتربّى محمّد في حجره وكان جارياً مجرى أولاده حتى قال عليّ(عليه السلام): محمّد ابني من صلب أبي بكر[٢٤].

قال أرباب السير: بعد أحداث التحكيم سيطر أتباع عثمان على أطراف مصر، فأرسل لهم محمّد بن أبي بكر (والي أميرالمؤمنين على مصر) ابن مضاهم الكلبي فقتله أهل خربتا.

وخرج معاوية بن حُديج، فدعا إلى الطلب بدم عثمان فأجابه ناس آخرون وفسدت مصر على محمّد بن أبي بكر.

فبلغ عليّاً(عليه السلام) وثوب أهل مصر على محمّد بن أبي بكر واعتمادهم إياه، فقال: ما لمصر إلاّ أحد الرجلين صاحبنا الّذي عزلناه عنها ـ يعني قيس بن سعد ـ أو مالك الأشتر.

فكتب عليّ إلى مالك الأشتر وهو يومئذ بنصيبين: أمّا بعد فإنّك ممن استظهرته على إقامة الدين وأقمع به نخوة الاثيم وأشد به الثغر المخوف وكنت وليت محمّد بن أبي بكر مصر فخرجت عليه بها خوارج وهو غلام حدث ليس بذي تجربة للحرب ولا بمجرب للأشياء فاقدم عليَّ للنظر في ذلك فيما ينبغي واستخلف على عملك أهل الثقة والنصيحة من أصحابك والسلام.

فأقبل مالك إلى عليّ(عليه السلام) حتى دخل عليه فحدثه حديث أهل مصر وخبره خبر أهلها وقال: ليس لها غيرك اخرج رحمك الله فإنّي إن لم أوصك اكتفيت برأيك واستعن بالله على ما أهمك فاخلط الشدة باللين وارفق ما كان الرفق أبلغ واعتزم بالشدة حين لا يغني عنك إلاّ الشدة.

قال المدائني: أن عمرو بن العاص لما قتل كنانة أقبل نحو محمّد بن أبي بكر، وقد تفرّق عنه أصحابه، فخرج محمّد مستمهلا، فمضى في طريقه حتى انتهى إلى خربة، فآوى إليها، وجاء عمرو بن العاص حتى دخل الفسطاط، وخرج معاوية بن حديج في طلب محمّد، حتى انتهى إلى علوج على قارعة الطريق، فسألهم: هل مرّ بهم أحد ينكرونه؟ قالوا: لا.

قال أحدهم: إنّي دخلت تلك الخربة، فإذا أنا برجل جالس.

قال ابن حديج: هو هو وربّ الكعبة، فانطلقوا يركضون، حتى دخلوا على محمّد، فاستخرجوه وقد كاد يموت عطشاً، فأقبلوا به نحو الفسطاط.

قال: ووثب أخوه عبدالرحمن بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص، وكان في جنده، فقال: لا والله لا يقتل أخي صبراً، ابعث إلى معاوية بن حديج فانهه، فأرسل عمرو بن العاص: أن ائتني بمحمّد.

فقال معاوية: أقتلتم كنانة بن بشر، ابن عمي وأُخلي عن محمّد! هيهات! (أكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ اُوْلَئِكُمْ أمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ)[٢٥].

فقال محمّد: اسقوني قطرة من الماء، فقال له معاوية بن حديج: لا سقاني الله إن سقيتك قطرة أبداً، إنّكم منعتم عثمان أن يشرب الماء حتى قتلتموه صائماً محرماً، فسقاه الله من الحريق المختوم، والله لأقتلنك يا بن أبي بكر وأنت ظمآن، ويسيقيك الله من الحميم والغسلين.

فقال له محمّد: يابن اليهودية النساجة، ليس ذلك اليوم إليك ولا إلى عثمان، إنّما ذلك إلى الله يسقي أولياءه ويظمىء أعداءه، وهم أنت وقرناؤك ومن تولاك وتوليته، والله لو كان سيفي في يدي ما بلغتم مني ما بلغتم.

فقال له معاوية بن حديج: أتدري ما أصنع بك؟ أدخلك جوف هذا الحمار الميت ثمّ أحرقه عليك بالنار.

قال: إن فعلتم ذاك بي فطالما فعلتم ذاك بأولياء الله، وأيم الله إنّي لأرجو أن يجعل الله هذه النار الّتي تخوفني بها برداً وسلاماً، كما جعلها الله على إبراهيم خليله، وأن يجعلها عليك وعلى أوليائك، كما جعلها على نمرود وأوليائه، وإنّي لأرجو أن يحرقك الله وإمامك معاوية، وهذا ـ وأشار إلى عمرو بن العاص ـ بنار تلظى، كلما خبت زادها الله عليكم سعيراً.

فقال له معاوية بن حديج: إنّي لا أقتلك ظلماً، إنما أقتلك بعثمان بن عفان.

قال محمّد: وما أنت وعثمان! رجل عمل بالجور، وبدل حكم الله والقرآن وقد قال الله عزّ وجلّ: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَاُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ )[٢٦] (فَاُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[٢٧] (فَاُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ)[٢٨] فنقمنا عليه أشياء عملها فأردنا أن يخلع من الخلافة علنا، فلم يفعل، فقتله من قتله من الناس.

فغضب معاوية بن حديج، فقدمه فضرب عنقه، ثمّ ألقاه في جوف حمار وأحرقه بالنار[٢٩].

وعندما قيل لأميرالمؤمنين(عليه السلام): يا أميرالمؤمنين(عليه السلام) قلما رأيت قوماً قط أسر ولا سروراً قط أظهر من سرور رأيته بالشام حين أتاهم هلاك محمّد بن أبي بكر.

فقال عليّ(عليه السلام): أمّا إنّ حزننا عليه على قدر سرورهم به لا بل يزيد أضعافاً.

وحزن عليّ(عليه السلام) على محمّد بن أبي بكر حتى رؤي ذلك في وجهه وتبين فيه، وقام في الناس خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: ألا إنّ مصر قد افتتحها الفجرة أولو الجور والظلم الذين صدّوا على سبيل الله وبغوا الإسلام عوجاً، ألا وإن محمّد بن أبي بكر قد استشهد(رحمه الله) فعند الله نحتسبه[٣٠].

١٣٥ - طريقة التهنئة بالمولود

كان أميرالمؤمنين(عليه السلام) جالساً بين أصحابه، فهنأ بحضرته رجل رجلا آخر بغلام ولد له فقال له: ليهنئك الفارس!

فقال(عليه السلام): «لاَ تَقُلْ ذلِكَ، وَلكِنْ قُلْ: شَكَرْتَ الْوَاهِبَ، وَبُورِكَ لَكَ فِي الْمَوْهُوبِ، وَبَلَغَ أَشُدَّهُ، وَرُزِقْتَ بِرَّهُ»[٣١].

وقال الإمام(عليه السلام) لعبدالله بن العبّاس لما ولد ابنه عليّ بن عبدالله:

شَكَرْتَ الْوَاهِبَ، وَبُورِكَ لَكَ فِي الْمَوْهُوبِ، ورزقت خيره وبره، خذ إليك أبا الأملاك[٣٢].

١٣٦ - اسلوب التعزية

عزّى أميرالمؤمنين(عليه السلام) قوماً عن ميت مات لهم فقال(عليه السلام):

«إِنَّ هذَا الاْمْرَ لَيْسَ بِكُمْ بَدَأَ، وَلاَ إِلَيْكُمُ انْتَهَى، وَقَدْ كَانَ صَاحِبُكُمْ هذَا يُسَافِرُ؟

فقالوا: نعم.

قال: فَعُدُّوهُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَإِنْ قَدِمَ عَلَيْكُمْ وَإِلاَّ قَدِمْتُمْ عَلَيْهِ.

وقد روي ان ولداً لإبراهيم بن المهدي العباسي قد توفي، فرثاه قائلا:

يئوب إلى أوطانه كلّ غائب

                        

وأحمد في الغياب ليس يئوب

تبدل داراً غير داري وجيرة

 

سواي وأحداث الزمان تنوب

أقام بها مستوطناً غير أ نّه

 

على طول أيام المقام غريب

وإنّي وإن قدمت قبلي لعالم

 

بأ نّي وإن أبطأت عنك قريب

وإنّ صباحاً نلتقي في مسائه

 

صباح إلى قلبي الغداة حبيب[٣٣]

 

١٣٧ - عمّار والمغيرة

 

قال أميرالمؤمنين(عليه السلام) لعمّار بن ياسر(عليه السلام) وقد سمعه يراجع المغيرة بن شعبة كلاماً:

«دَعْهُ يَا عَمَّارُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِنَ الدِّينِ إِلاَّ مَا قَارَبَتْهُ الدُّنْيَا، وَعَلَى عَمد لَبَّسَ عَلَى نَفْسِهِ، لِيَجْعَلَ الشُّبُهَاتِ عَاذِراً لِسَقَطَاتِهِ».

قال ابن أبي الحديد: انّ أصحابنا غير متفقين على السكوت على المغيرة، بل أكثر البغداديين يفسقونه، ويقولون فيه ما يقال في الفاسق، ولما جاء عروة بن مسعود الثقفي إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عام الحديبية نظر إليه قائماً على رأس رسول الله مقلداً سيفاً، فقيل: من هذا؟

قيل: ابن أخيك المغيرة.

قال: وأنت هاهنا يا غدر! والله إني إلى الآن ما غسلت سوأتك.

وكان إسلام المغيرة من غير اعتقاد صحيح، ولا إنابة ونية جميلة، كان قد صحب قوماً في بعض الطرق، فاستغفلهم وهم نيام، فقتلهم وأخذ أموالهم، وهرب خوفاً أن يلحق فيقتل، أو يؤخذ ما فاز به من أموالهم، فقدم المدينة فأظهر الإسلام، وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يرد على أحد إسلامه، أسلم عن علّة أو عن اخلاص، فامتنع بالإسلام، واعتصم وحمى جانبه[٣٤].

١٣٨ - الاستغفار والتوبة الحقيقية

قال شخص بحضرة أميرالمؤمنين(عليه السلام): أَسْتَغْفِرُ اللهَ!
فقال له أميرالمؤمنين(عليه السلام): ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، أَتَدْرِي مَا الاْسْتِغْفَارُ؟ إنَّ الاْسْتِغْفَارَ دَرَجَةُ الْعِلِّيِّينَ، وَهُوَ اسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَان:
أَوَّلُهَا: النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى.
وَالثَّانِي: الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ إِلَيْهِ أَبَداً.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى الْـمَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ حَتَّى تَلْقَى اللهَ عزّوجلّ أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَة عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا.
وَالْخَامِسُ: أَنْ تَعْمِدَ إِلَى اللَّحْمِ الَّذِي نَبَتَ عَلَى السُّحْتِ فَتُذِيبَهُ بالاْحْزَانِ، حَتَّى يَلْصِقَ الْجِلْدُ بِالْعَظْمِ، وَيَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمٌ جَدِيدٌ.
وَالسَّادِسُ: أَنْ تُذِيقَ الْجِسْمَ أَلَمَ الطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتَهُ حَلاَوَةَ الْمَعْصِيَةِ.
فَعِنْدَ ذلِكَ تَقُولُ: أَسْتَغْفِرُاللهَ[٣٥].

١٣٩ – صبر و تحمّل الإمام علي (علیه السلام)

بعد أحداث التحكيم في «دومة الجندل» أصبح الكثير من أصحاب أميرالمؤمنين(عليه السلام) بالأمس أعداءه اليوم، وهم الخوارج الذين خرجوا عن طاعته ورفعوا شعار «الحكم لله لا لك يا عليّ»وذلك بعد واقعة التحكيم. ولقد كان الإمام يعاني منهم الأمّرين خصوصاً انهم كانوا يعيشون في الكوفة وبين أتباعه.
ويروى ان أميرالمؤمنين(عليه السلام) كان جالساً في أصحابه إذ مرّت بهم امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم، فقال(عليه السلام):
«إِنَّ أَبْصَار هذِهِ الْفُحُولِ طَوَامِحُ، وَإِنَّ ذلِكَ سَبَبُ هَبَابِهَا، فإِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى امْرَأَة تُعْجِبُهُ فَلْيُلاَمِسْ أَهْلَهُ، فَإِنَّمَا هِيَ امْرَأَهٌ كَامْرَأَة.
فقال رجل من الخوارج: قاتله الله كافراً ما أفقهه.
فوثب القوم لِيقتلوه.
فقال: رُوَيْداً، إِنَّمَا هُوَ سَبٌّ بِسَبٍّ، أَوْ عَفْوٌ عَنْ ذَنْب[٣٦].
وهذه الحادثة تبيّن لنا طبيعة الحياة السياسية الّتي أشاعها أميرالمؤمنين(عليه السلام) في دولته الفتية بالرغم من كلّ الصعوبات والعراقيل الّتي أوجدها معارضوه في طريق هذه الدولة. فهذه الحادثة تبيّن:
١
ـ سيطرة أميرالمؤمنين(عليه السلام) على البلاد.
٢
ـ الجو الديمقراطي الّذي أشاعته حكومة الإمام(عليه السلام).
٣
ـ سعة صدر الإمام(عليه السلام) وعفوه حتى على أعدائه.
٤
ـ اضافة إلى مسألة أخلاقية تبيّنه الحادثة وهو اسلوب القضاء على فوران الغريزة الجنسية بالالتجاء إلى الطريق الحلال في أشياعها.

١٤٠ - الابن الّذي أضلّ أبيه

من خلال التدبّر في التاريخ نجد ان الكثير من الضلالات الّتي وقعت للآباء كانت نتيجة لطاعتهم لأبنائهم، ومن أمثلة التاريخ هي قصة الزبير مع ابنه عبدالله.
فالزبير بن العوام بن خويلد، هو ابن أخ خديجة بنت خويلد زوجة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو كذلك ابن عمّة الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) صفية بنت عبدالمطلب.
كان الإمام عليّ(عليه السلام) يقول: ما زال الزبير منا أهل البيت حتى نشأ ابنه عبدالله[٣٧].
كان عبدالله بن الزبير يبغض عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) خاصة وينال من عرضه، وجمع ـ يوماً ـ محمّد بن الحنفية وعبدالله بن عباس في سبعة رجلا من بني هاشم منهم: الحسن بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وحصرهم في شعب بمكة يعرف بشعب عارم وأراد أن يحرقهم بالنار، فجعل في فم الشعب حطباً كثيراً فأرسل المختار أربعة آلاف، فجدوا السير حتى انتهوا إلى مكة فباغتوا ابن الزبير وأنقذوا بني هاشم.
كان عبدالله بن الزبير هو الّذي يصلي بالناس في أيام الجمل، لأنّ طلحة والزبير تدافعا الصلاة، فأمرت عائشة عبدالله أن يصلي قطعاً لمنازعتهما، فإن ظهروا كان الأمر إلى عائشة، تستخلف من شاءت.
وكان عبدالله بن الزبير يدعي أ نّه أحق بالخلافة من أبيه ومن طلحة، ويزعم أن عثمان يوم الدار أوصى بها إليه.
واختلفت الرواية في كيفية السلام على الزبير وطلحة، فروي أ نّه كان يسلم على الزبير وحده بالامرة، فيقال: السلام عليك أيها الأمير، لأن عائشة ولّته أمر الحرب.
وروي أ نّه كان يسلم على كلّ واحد منهما بذلك.
قال ابن أبي الحديد المعتزلي: لما نزل عليّ(عليه السلام) بالبصرة ووقف جيشه بإزاء جيش عائشة، قال الزبير: والله ما كان أمر قط إلاّ عرفت أين أضع قدمي فيه، إلاّ هذا الأمر، فإنّي لا أدري: أمقبل أنا فيه أم مدبر!
فقال له ابنه عبدالله: كلا ولكنك فرقت سيوف ابن أبي طالب، وعرفت أن الموت الناقع تحت راياته.
فقال الزبير: ما لك أخزاك الله من ولد ما أشأمك![٣٨]
فقال الراوي: برز عليّ(عليه السلام) يوم الجمل، ونادى بالزبير: يا أبا عبدالله، مراراً، فخرج الزبير، فتقاربا حتى اختلفت أعناق خيلهما، فقال له عليّ(عليه السلام): إنّما دعوتك لاُذكرك حديثاً قاله لي ولك رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، أتذكر يوم رآك وأنت معتنقي، فقال لك: أتحبّه؟ قلت: وما لي لا أحبّه وهو أخي وابن خالي!
فقال: أمّا إنّك ستحاربه وأنت ظالم له.
فاسترجع الزبير، وقال: أذكرتني ما أنسانيه الدهر، ورجع إلى صفوفه.
فقال له عبدالله ابنه: لقد رجعت إلينا بغير الوجه الّذي فارقتنا به!
فقال: أذكرني عليّ حديثاً أنسانيه الدهر، فلا أُحاربه أبداً، وإنّي لراجع وتارككم منذ اليوم.
فقال له عبدالله: ما أراك إلاّ جبنت عن سيوف بني عبدالمطلب، إنّها لسيوف حداد، تحملها فتية أنجاد.
فقال الزبير: ويلك! أتهيجني على حربه، أمّا إني قد حلفت ألاّ أُحاربه.
قال: كفّر عن يمينك، لا تتحدث نساء قريش أ نّك جبنت، وما كنت جباناً.
فقال الزبير: غلامي مكحول حر كفارة عن يميني، ثمّ أنصل سنان رمحه وحمل على عسكر عليّ(عليه السلام) برمح لا سنان له، فقال عليّ(عليه السلام): أفرجوا له، فإنه مخرج، ثمّ عاد إلى أصحابه، ثمّ حمل ثانية، ثمّ ثالثة، ثمّ قال لابنه: أجبناً ويلك ترى!
فقال: لقد أعذرت.
فلما كرّ الزبير راجعاً إلى أصحابه نادماً واجماً، رجع عليّ(عليه السلام)إلى أصحابه جذلا مسروراً، فقال له أصحابه: يا أميرالمؤمنين تبرز إلى الزبير حاسراً، وهو شاك في السلاح، وأنت تعرف شجاعته!
قال: إنّه ليس بقاتلي، إنّما يقتلني رجل خامل الذكر، ضئيل النسب، غيلة في غير مأقط حرب، ولا معركة رجال، ويلمه أشقى البشر! ليودن أن أُمه هبلت به! أما إنّه وأحمر ثمود لمقرونان في قرن![٣٩].

وبهذه الحكاية

نكون قد وصلنا إلى آخر الحكايات الّتي اقتبسناها من نهج البلاغة، معين الإمام عليّ(عليه السلام) الّذي لا ينضب. وقد حاولنا في اختيارنا لهذه الحكايات أن تكون عبارة عن قبسات مشعة من حياة أميرالمؤمنين(عليه السلام)لتشمل جميع نواحي حياته المليئة بالدروس والعبر. وعلى كلّ حال فإنّ سيرة عليّ(عليه السلام) وفضائله سيرةٌ حافلة واسعة الأرجاء، لم ولن تستوعبها الدراسات الضخمة، والمجلدات المتعددة.
نتمنى أن نكون قد وفقنا في ذكر بعض من الجوانب المشرفة من حياة هذا الإمام العظيم إن شاء الله.
والحمد لله الّذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

---------------------------------------------------------------
[١] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٩/٦٦.
[٢] . نهج البلاغة: ٤/٧٢، الحكمة: ٣٠٠.
[٣] . نهج البلاغة: ٤/٧٢، الحكمة: ٣١٨.
[٤] . نهج البلاغة: ٤/١٠٢، الحكمة: ٤٣٧.
[٥] . نهج البلاغة: ٤/٧١، الحكمة: ٢٩٤.
[٦] . نهج البلاغة: ٤/٦١، قصار الكلمات: ٢٦١.
[٧] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٨/١١٥.
[٨] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٩/١٤٧.
[٩] . الإمامة والسياسة ١: ٥٢.
[١٠] . نهج البلاغة: ٢٦٦.
[١١] . كنز العمال: ١/٢٨٥.
[١٢] . نهج البلاغة: ٤/٦٥، الحكمة: ٢٧٠.
[١٣] . أي أن السارقين كانا عبدين: أحدهما عبد لبيت المال، والآخر عبد لأحد الناس. وعروض: جمع عرض ـ بفتح فسكون ـ هو المتاع غير الذهب والفضة.
[١٤] . نهج البلاغة: ٤/٦٥.
[١٥] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٩/١٨٣.
[١٦] . بحار الأنوار: ٦٧/١٧٢.
[١٧] . نهج البلاغة: ١/١٠٨، الحكمة ٦٢.
[١٨] . نهج البلاغة: ٤/٤٦، الحكمة ٢٠١.
[١٩] . يعني: البرص.
[٢٠] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٩/٢١٧.
[٢١] . نهج البلاغة: ٤/٧٤.
[٢٢] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٩/٢٢٥.
[٢٣] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٩/٢٣٥.
[٢٤] . نهج البلاغة: ١/١١٧.
[٢٥] . القمر: ٤٣.
[٢٦] . المائدة: ٤٤
[٢٧] . المائدة: ٤٥
[٢٨] . المائدة: ٤٧
[٢٩] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ٦/٨٦.
[٣٠] . الموفقيات: ٣٤٧ ح ٢٠٢.
[٣١] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٩/٢٧٠.
[٣٢] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ٢٠/٣٣٤.
[٣٣] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٩/٢٧٤.
[٣٤] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ٢٠/٨.
[٣٥] . نهج البلاغة: ٤/٩٧، الحكمة ٤١٧.
[٣٦] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ٢٠/٦٣.
[٣٧] . نهج البلاغة قصار الكلمات.
[٣٨] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ٢/١٦٦.
[٣٩] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١/٢٣٣.
****************************