٧٠ - رحمة أهل الحقّ
من كلام لأميرالمؤمنين(عليه السلام) كلّم به طلحة والزبير بعد بيعته بالخلافة وقد عتبا عليه من ترك مشورتهما والاستعانة في الاُمور بهما:
«لَقَدْ نَقَمْتُما يَسِيراً، وَأَرْجَأْتُمَا كَثِيراً، أَلاَ تُخْبِرَانِي، أَيُّ شَيْء لَكُمَا فِيهِ حَقٌّ دَفَعْتُكُمَا عَنْهُ؟ وأَيُّ قَسْم اسْتَأْثَرْتُ عَلَيْكُمَا بِهِ؟ أَمْ أَيُّ حَقّ رَفَعَهُ إِلَيَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ضَعُفْتُ عَنْهُ، أَمْ جَهِلْتُهُ، أَمْ أَخْطَأْتُ بَابَهُ ؟!
وَاللهِ مَا كَانَتْ لِي فِي الْخِلاَفَةِ رَغْبَةٌ، وَلاَ فِي الْوِلاَيَةِ إِرْبَةٌ، وَلكِنَّكُمْ دَعَوْتُمُونِي إِلَيْهَا، وَحَمَلْتُمُونِي عَلَيْهَا، فَلَمَّا أَفْضَتْ إِلَيَّ نَظَرْتُ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَمَا وَضَعَ لَنَا، وَأَمَرَنَا بِالْحُكْمِ بِهِ فَاتَّبَعْتُهُ، وَمَا اسْتَسَنَّ النَّبِيُّ فَاقْتَدَيْتُهُ، فَلَمْ أَحْتَجْ فِي ذلِكَ إِلَى رَأْيِكُمَا، وَلاَ رَأْيِ غَيْرِكُمَا، وَلاَ وَقَعَ حُكْمٌ جَهِلْتُهُ، فَأَسْتَشِيرَكُمَا وَإِخْوَانِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ; وَلَوْ كَانَ ذلِكَ لَمْ أَرْغَبْ عَنْكُمَا، وَلاَ عَنْ غَيْرِكُمَا. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمَا مِنْ أَمْرِ الاْسْوَةِ، فَإِنَّ ذلِكَ أَمْرٌ لَمْ أَحْكُمْ أَنَا فِيهِ بِرَأْيِي، وَلاَ وَلِيتُهُ هَوىً مِنِّي، بَلْ وَجَدْتُ أَنَا وَأَنْتُما مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، فَلَمْ أَحْتَجْ إِلَيْكُمَا فِيَما قَدْ فَرَغَ اللهُ مِنْ قَسْمِهِ، وَأَمْضَى فِيهِ حُكْمَهُ، فَلَيْسَ لَكُمَا، وَاللهِ، عِنْدِي وَلاَ لِغَيْرِكُمَا فِي هذَا عُتْبَى. أَخَذَ اللهُ بِقُلُوبِنَا وَقُلُوبِكُمْ إِلَى الْحَقِّ، وَأَلْهَمَنَا وَإِيَّاكُمْ الصَّبْرَ.
ثمّ قال:
رَحِمَ اللهُ رَجُلاً رَأَى حَقّاً فَأَعَانَ عَلَيْهِ، أَوْ رَأَى جَوْراً فَرَدَّهُ، وَكَانَ عَوْناً بِالْحَقِّ عَلَى صَاحِبِهِ»[١].
٧١ - رعاية أُصول الأدب وعفّة الكلام
خرج حجر بن عدي وعمرو بن الحمق يظهران البراءة واللعن من أهل الشام، فأرسل إليهما عليّ(عليه السلام) إن كفّا عمّا يبلغني عنكما، فأتياه فقالا: يا أميرالمؤمنين ألسنا محقّين؟
قال: بلى. قالا: أوليسوا مبطلين؟
قال: بلى لا. قالا: فلم منعتنا من شتمهم؟
قال(عليه السلام): «كرهت لكم أَنْ تَكُونُوا لعانين شتامين تشتمون وتتبرؤن، ولكن لَوْ وَصَفْتُمْ مساوي أَعْمَالَهُمْ فقلتم: من سيرتهم كذا وكذا، ومن عملهم كذا وكذا، كان أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ، وَقُلْتُمْ مَكَانَ لعنكم إِيَّاهُمْ وبراءتكم منهم: اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَدِمَاءَهُمْ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنِهِمْ، وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلاَلَتِهِمْ، حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ منهم مَنْ جَهِلَهُ، وَيَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ كان هذا أحب إليَّ وخيراً لكم».
فقالا: يا أميرالمؤمنين نقبل عظتك ونتأدب بأدبك[٢].
وفي القرآن الكريم نظير هذا الكلام، إذ قال تعالى: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّوا اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْم)[٣].
ومن هنا نلاحظ انّ القرآن الكريم ونهج البلاغة وضّحوا السبيل والقانون الّذي يجب أن يتخذه المسلمون في التعامل مع الأعداء، فالموعظة الحسنة، ومراعاة أُصول الأدب والعفة في بيان الاُمور، يمكن جلب الناس إلى جادة الصواب، وهو عكس الاسلوب الّذي كان يستخدمه أعداء أميرالمؤمنين(عليه السلام).
٧٢ - الحسن والحسين في معركة صفين
قال أميرالمؤمنين(عليه السلام) في بعض أيام صفين وقد رأى الحسن والحسين(عليهما السلام) يتشرع إلى الحرب:
«امْلِكُوا عنِّي هذَا الْغُلاَمَ لاَ يَهُدَّنِي، فَإِنَّنِي أَنْفَسُ بِهذَيْنِ ـ يَعْنِي الحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ(عليهما السلام) ـ عَلَى الْمَوْتِ، لِئَلاَّ يَنْقَطِعَ بِهِمَا نَسْلُ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم)»[٤].
وقيل يوماً لمحمّد ابن الحنفية، (وهو ابن آخر لأميرالمؤمنين(عليه السلام)): لِمَ يغرر بك أبوك في الحرب ولِمَ لا يغرر بالحسن والحسين؟
فقال: لأ نّهما عيناه وأنا يمينه، فهو يذبّ عن عينيه بيمينه[٥].
وبمناسبة هذه القصة، ننقل قصة لطيفة أُخرى تتعلّق بالحسن والحسين(عليهما السلام):
قال عامر الشعبي: بعث إليَّ الحجاج ذات ليلة فخشيت فقمت فتوضأت وأوصيت ثمّ دخلت عليه فنظرت فإذا نطع منشور والسيف مسلول، فسلمت عليه فرد عليَّ السلام فقال: لا تخف فقد أمنتك الليلة وغداً إلى الظهر وأجلسني عنده ثمّ أشار فأتي برجل مقيد مكبول والأغلال فوضعوه بين يديه فقال: إن هذا الشيخ يقول: إن الحسن والحسين كانا ابني رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ليأتيني بحجّة من القرآن وإلاّ لأضربن عنقه.
فقلت: يجب أن تحل قيده فإنّه إذا احتج فإنّه لا محالة يذهب وإن لم يحتج فإن السيف لا يقطع هذا الحديد. فحلّوا قيوده وكبوله، فنظرت فإذا هو سعيد بن جبير فحزنت بذلك وقلت: كيف يجد حجة على ذلك من القرآن، فقال له الحجاج: ائتني بحجة من القرآن على ما ادعيت وإلاّ أضرب عنقك.
فقال له: انتظر، فسكت ساعة ثمّ قال له مثل ذلك، فقال: انتظر! فسكت ساعة ثمّ قال له مثل ذلك فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثمّ قال: (وَوَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ) ثمّ سكت وقال للحجاج: اقرء ما بعده فقرأ: (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) فقال سعيد: كيف يليق هاهنا عيسى؟ قال: إنّه كان من ذريته، قال: إن كان عيسى من ذرية إبراهيم ولم يكن له أب بل كان ابن ابنته فينسب إليه معه إلى داره وأذن له في الرجوع.
قال الشعبي: فلما أصبحت قلت في نفسي: قد وجب عليَّ أن آتي هذا الشيخ فأتعلم منه معاني القرآن لأ نّي كنت أظن أ نّي أعرفها فإذا أنا لا أعرفها فأتيته فإذا هو في المسجد وتلك الدنانير بين يديه يفرقها عشراً عشراً ويتصدق بها ثمّ قال: هذا كله ببركة الحسن والحسين(عليهما السلام)، لئن كنا أغممنا واحداً لقد أفرحنا ألفاً وأرضينا الله ورسوله(صلى الله عليه وآله وسلم)[٦].
٧٣ - اسلوب الحياة في اللباس والغذاء و...
دخل الإمام عليّ(عليه السلام) على العلاء بن زياد الحارثي يعوده، فلما رأى سعة داره قال: ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا، أمّا أنت إليها في الآخرة كنت أحوج؟ وبلى ان شئت بلغت بها الآخرة، تقري فيها الضيف، وتصل فيها الرحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة.
فقال له العلاء: يا أميرالمؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد.
قال: وماله؟
قال: لبس العباءة وتخلى عن الدنيا.
قال: عليَّ به، فلما جاء قال: يا عدي نفسه لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك؟ أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك.
فقال عاصم: يا أميرالمؤمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مطعمك؟
قال: ويحك إنّي لست كأنت، إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره[٧].
ففي هذه القصة نرى الإمام(عليه السلام) يلوم العلاء على سعة داره، ويتّخذ لومه سبيلا إلى بيان وجوه الانتفاع بها، فيشير إلى أ نّه لا حرج على المرء في أن يجمع بين الدنيا والآخرة، فيمتع نفسه في الدنيا بمباهجها، ويبلغ في الآخرة عليا الدرجات. ثمّ يؤنب عاصماً على فعله حين هجر الدنيا ولبس العباءة، فبيّن له أ نّه بفعله هذا أناني يعمل لنفسه، إذ أن جدوى عمله لو استطاعه ووالاه لا ترجع إلاّ إليه، وأمّا غيره من الناس فلا يصيب منه نفعاً وخاصة أهله وولده وهم ألصق الناس به، وبيّن أنّ من الخير له أن يجمع بين العمل لنفسه والعمل لغيره، وأن يجمع بين الدنيا والآخرة. والطيبات هل حرمها الله؟ كلا ان الإنسان مدعو لأن يصيب منها شريطة ألا يستغرق فيها على نحو يلهيه عن الغاية الرفيعة لوجوده.
لذا نرى الإمام في هذه القصّة أعطانا العديد من الدروس والعبر، منها: عيادة المريض، والنهي عن الاسراف، وعن نسيان الإنسان نصيبه من الدنيا، وتوضيح وظيفة القائد في حياته العامّة.
وفي حديث الكافي نجد انّ عاصم لمّا سمع كلام الإمام هذا ترك لباسه الخشن، ولبس لباس آخر[٨].
وبالمناسبة، نذكر الرواية الآتية:
عن حمّاد بن عثمان قال: حضرت أبا عبدالله وقال له رجل: أصلحك الله ذكرت أن عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) كان يلبس الخشن، يلبس القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك ونرى عليك اللباس الجديد.
فقال له: إنّ عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر عليه، ولو لبس مثل ذلك اليوم شهّر به، فخير لباس كلّ زمان لباس أهله، غير أنّ قائمنا أهل البيت(عليهم السلام) إذا قام لبس ثياب عليّ(عليه السلام) وسار بسيرة عليّ(عليه السلام)[٩].
٧٤ - وجهاً لوجه
من خطبة لأميرالمؤمنين(عليه السلام) بصفين:
«أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً بِوِلاَيَةِ أَمْرِكُمْ، وَلَكُمْ عَلَيَّ مِنَ الْحَقِّ مثْلُ الَّذِي لِي عَلَيْكُمْ، فَالْحَقُّ أَوْسَعُ الاْشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ، وَأَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ، لاَيَجْرِي لاِحَد إِلاَّ جَرَى عَلَيْهِ، وَلاَ يَجْرِي عَلَيْهِ إِلاَّ جَرَى لَهُ، وَلَوْ كَانَ لاِحَد أَنْ يَجْرِيَ لَهُ وَلاَ يَجْرِيَ عَلَيْهِ، لَكَانَ ذلِكَ خَالِصاً لله سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَلِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ، وَلكِنَّهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ، وَجَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ تَفَضُّلاً مِنْهُ، وَتَوَسُّعاً بِمَا هُوَ مِنَ الْمَزِيدِ أَهْلُهُ.
ثمّ قال(عليه السلام): وَأَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ ـ سُبْحَانَهُ ـ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ حَقُّ الْوَالِي عَلَى الرَّعِيَّةِ، وَحَقُّ الرَّعِيَّةِ، عَلَى الْوَالِي، فَرِيضةً فَرَضَهَا اللهُ ـ سُبْحَانَهُ ـ لِكُلّ عَلَى كُلّ، فَجَعَلَهَا نِظَاماً لاِلْفَتِهِمْ، وَعِزّاً لِدِينِهِمْ، فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِصَلاَحِ الْوُلاَةِ، وَلاَ تَصْلُحُ الْوُلاَةُ إِلاَّ بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ.فَإِذا أَدَّتِ الرَّعِيَّةُ إِلَى الْوَالِي حَقَّهُ، وَأَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا، عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ، وَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ، وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ، وَجَرَتْ عَلَى أَذْلاَلِهَاالسُّنَنُ، فَصَلَحَ بِذلِكَ الزَّمَانُ، وَطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ، وَيَئِسَتْ مَطَامِعُ الاْعْدَاءِ.وَإِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا، أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ، اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ، وَظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ، وَكَثُرَ الاْدْغَالُ فِي الدِّينِ، وَتُرِكَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ، فَعُمِلَ بِالْهَوَى، وَعُطِّلَتِ الاَْحْكَامُ، وَكَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ، فَلاَ يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ، وَلاَ لِعَظِيمِ بَاطِل فُعِلَ! فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الاْبْرَارُ، وَتَعِزُّ الاْشْرَارُ، وَتَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللهِ عِنْدَ الْعِبَادِ.
فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذلِكَ، وَحُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ ـ وَإنِ اشْتَدَّ عَلَى رِضَى اللهِ حِرْصُهُ، وَطَالَ فِي الْعَمَلِ اجْتِهَادُهُ ـ بِبَالِغ حَقِيقَةَ مَا اللهُ سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ الطَّاعَةِ لَهُ، وَلكِنْ مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اللهِ عَلى العِبَادِ النَّصِيحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَى إقَامَةِ الْحَقِّ بَيْنَهُمْ. وَلَيْسَ امْرُؤٌ ـ وَإنْ عَظُمَتْ فِي الْحَقِّ مَنْزِلَتُهُ، وَتَقَدَّمَتْ فِي الدِّينِ فَضِيلَتُهُ ـ بِفَوْقِ أَنْ يُعَانَ عَلَى مَا حَمَّلَهُ اللهُ مِنْ حَقِّهِ. وَلاَ امْرُؤٌ ـ وَإِنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ، وَاقْتَحَمَتْهُ الْعُيُونُ ـ بِدُونِ أَنْ يُعِينَ عَلى ذلِكَ أَوْ يُعَانَ عَلَيْهِ.
فأجابه(عليه السلام) رجل من أصحابه بكلام طويل، يكثر فيه الثناء عليه، ويذكر سمعه وطاعته له.
فقال(عليه السلام): إِنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ عَظُمَ جَلاَلُ اللهِ فِي نَفْسِهِ، وَجَلَّ مَوْضِعُهُ مِنْ قَلْبِهِ، أَنْ يَصْغُرَ عِنْدَهُ ـ لِعِظَمِ ذلِكَ ـ كُلُّ مَا سِوَاهُ، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ كَانَ كَذلِكَ لَمَنْ عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ، وَلَطُفَ إِحْسَانُهُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمْ تَعْظُمْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَى أَحَد إِلاَّ ازْدَادَ حَقُّ اللهِ عَلَيْهِ عِظَماً، وَإِنَّ مِنْ أَسْخَفِ حَالاَتِ الْوُلاَةِ عِنْدَ صَالِحِ النَّاسِ، أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ حُبُّ الْفَخْرِ، وَيُوضَعَ أَمْرُهُمْ عَلَى الْكِبْرِ. وَقَدْ كَرِهْتُ أَنْ يَكُونَ جَالَ فِي ظَنِّكُمْ أَنِّي أُحِبُّ الاِْطْرَاءَ، وَاسْتِماعَ الثَّنَاءِ، وَلَسْتُ ـ بِحَمْدِ اللهِ ـ كَذلِكَ، وَلَوْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يُقَالَ ذلِكَ لَتَرَكْتُهُ انْحِطَاطاً لله سُبْحَانَهُ عَنْ تَنَاوُلِ مَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ.
وفي ختام خطبته قال(عليه السلام): فَإنَّمَا أَنَا وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُو كُونَ لِرَبٍّ لاَ رَبَّ غَيْرُهُ، يَمْلِكُ مِنَّا مَا لاَ نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا، وَأَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَى مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ، فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلاَلَةِ بِالْهُدَى، وَأَعْطَانَا الْبصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَى»[١٠].
وقد جاء في الرواية ان الحواريين قالوا: يا عيسى! ما الاخلاص لله؟
قال: أن يعمل الرجل العمل لا يحب أن يحمده عليه أحد من الناس، والمناصح لله الّذي يبدأ بحق الله قبل حق الناس، يؤثر حق الله على حق الناس، وإذا عرض أمران: أحدهما للدنيا، والآخر للآخرة، بدأ بأمر الآخرة قبل أمر الدنيا[١١].
٧٥ - وقوف عليّ(عليه السلام) على جنازة طلحة
طلحة بن عبيدالله بن عثمان القرشي التيمي، واُمه الصعبة بنت عبدالله، لما أسلم طلحة والزبير آخى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بينهما بمكة قبل الهجرة، فلما هاجر المسلمون إلى المدينة آخى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بين طلحة وبين أبي أيوب الأنصاري، لم يشهد بدراً وشهد أُحداً ووقى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه واتقى عنه النبل بيده حتى شلت اصبعه.
روى موسى بن طلحة، عن أبيه طلحة قال: سمّاني رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يوم أُحد طلحة الخير، ويوم العسرة طلحة الفياض، ويوم حنين طلحة الجود.
وقتل طلحة يوم الجمل وكان شهد ذلك اليوم محارباً لعليّ بن أبي طالب(عليه السلام) فزعم بعض أهل العلم أن علياً دعاه فذكره أشياء من سوابقه على ما قال للزبير فرجع عن قتاله واعتزل في بعض الصفوف فرمى بسهم في رجله، وقيل: ان السهم أصاب ثغرة نحره فمات رماه مروان بن الحكم.
روى يحيى بن سعيد قال: قال طلحة يوم الجمل:
ندمت ندامة الكسعى لما |
|
شريت رضى بني جرم برغمي |
ولما انهزم أهل البصرة ركب عليّ(عليه السلام) بغلة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الشهباء، وكانت باقية عنده، وسار في القتلى يستعرضهم، فمر بطلحة بن عبيدالله قتيلا، فقال: أجلسوه، فأجلس، فقال: ويلمك أمك طلحة! لقد كان لك قدم لو نفعك! ولكن الشيطان أضلك فأزلك فعجلك إلى النار.
ثمّ قال(عليه السلام): «لَقَدْ أَصْبَحَ أَبُو مُحَمَّد بِهذَا الْمَكَانِ غَرِيباً! أَمَا وَاللهِ لَقَدْ كَنْتُ أَكْرَهُ أَنْ تَكُونَ قُرَيْشٌ قَتْلَى تَحْتَ بُطُونِ الْكَوَاكِبِ! أَدْرَكْتُ وَتْرِي مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَاف، وَأَفْلَتَتْنِي أَعْيَانُ بَنِي جُمَحَ، لَقَدْ أَتْلَعُوا أَعْنَاقَهُمْ إِلَى أَمْر لَمْ يَكُونُوا أَهْلَهُ فَوُقِصُوا دوُنَهُ»[١٢].
ثمّ مر بكعب بن سور، وعبدالله بن خلف الخزاعي، وعبدالرحمن بن عتاب بن أسيد، ومعبد بن المقداد، ومعبد بن زهير بن أبي أمية، ومسلم بن قرظة، وغيرهم[١٣].
٧٦ - أنين عقيل من حرارة الحديد
كان لفاطمة بنت أسد، أُم عليّ(عليه السلام) أربعة أولاد، وهم على الترتيب: طالب، عقيل، جعفر، وعليّ(عليه السلام)، فكان عقيل ثاني أبناء أبو طالب كان واعي وشجاع وسريع الجواب، وكان حاضراً في معركة صفين مع أميرالمؤمنين(عليه السلام)، وكما وقف عقيل مع أخيه الإمام عليّ(عليه السلام) ضد أعداءه، وقف ابنه مسلم بن عقيل مع ابن عمّه الإمام الحسين(عليه السلام) في واقعة كربلاء.
يقول الإمام عليّ(عليه السلام) في خطبة له:
«وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلاً وَقَدْ أمْلَقَ حَتَّى اسْتماحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً، وَرَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ، غُبْرَ الاْلْوَانِ، مِنْ فَقْرِهِمْ، كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ، وَعَاوَدَنِي مُؤَكِّداً، وَكَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً، فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمَعِي، فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي، وَأَتَّبِعُ قِيَادَهُ، مُفَارِقاً طَرِيقِي، فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً، ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا، فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَف مِنْ أَلَمِهَا، وَكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا، فَقُلْتُ لَهُ : ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ، يَا عَقِيلُ ! أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَة أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ، وَتَجُرُّنِي إِلَى نَار سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ! أَتَئِنُّ مِنَ الأَذَى وَلاَ أَئِنُّ مِنْ لَظىً؟!»[١٤].
سأل معاوية عقيلا يوماً عن قصة الحديدة المحماة، فبكى وقال: نعم، أقويت وأصابتني مخمصة شديدة، فسألته فلم تند صفاته، فجمعت صبياني وجئته بهم، والبؤس والضر ظاهران عليهم. فقال: ائتني عشية لأدفع إليك شيئاً، فجئته يقودني أحد ولدي فأمره بالتنحي، ثمّ قال: ألا فدونك! فأهويت حريضاً قد غلبني الجشع أظنها صرة، فوضعت يدي على حديدة تلتهب ناراً! فلما قبضتها نبذتها وخرت كما يخور الثور تحت يد جازره، فقال لي: ثكلتك أُمك! هذا من حديدة أوقدت له نار الدنيا، فكيف بي وبك غداً إن سلكنا في سلاسل جهنم؟ ثمّ قرأ: (إذِ الأغْلالُ فِي أعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَـبُونَ)[١٥] ثمّ قال: ليس لك عندي فوق حقك الّذي فرضه الله لك إلاّ ماترى، فانصرف إلى أهلك.
فجعل معاوية يتعجّب ويقول: هيهات! هيهات! عقمت النساء أن يلدن مثله[١٦].
٧٧ - رشوة أم هدية؟
كان الأشعث بن قيس رأس المنافقين في زمن أميرالمؤمنين(عليه السلام)ونتيجة حقده الدفين على الإمام عليّ(عليه السلام) فقد لعب الأشعث دوراً كبيراً في تمرير مؤامرة «التحكيم»والدفاع عنها والّتي كانت السبب الأساسي لنشوء الخوارج وبالتالي لنشوب معركة النهروان، ولذا نجد ان ابن أبي الحديد يقول في حقّ الأشعث:
«كلّ فتنة أو فساد كان في خلافة أميرالمؤمنين(عليه السلام) وكلّ اضطراب فأصله الأشعث».
ولقد قام الأشعث ببناء منارة على منزله في الكوفة يرد منها على أذان أميرالمؤمنين(عليه السلام) وقت الصلاة، حيث كان يردّ على صوت الإمام أثناء الأذان، فيقول: «يا رجل، أنت أكبر كذّاب وساحر!!»[١٧].
قال الإمام الصادق(عليه السلام): اشترك الأشعث في دم عليّ(عليه السلام)، وابنته جعدة سمّت الحسن(عليه السلام)، ومحمّد ابنه شرك في دم الحسين(عليه السلام)[١٨].
ونعود لأصل القصة: فلقد حول الأشعث أن يقدم هدية إلى أميرالمؤمنين(عليه السلام) أثناء خلافته للتقرّب إليه وبالتالي محاولة حصوله على مكاسب دنيوية منه. لقد قام الأشعث بتهيئة الحلوى وذهب بها مساءً إلى منزل عليّ(عليه السلام).
يقول الإمام عليّ(عليه السلام) عن هذه الواقعة:
«وَأَعْجَبُ مِنْ ذلِكَ طَارِقٌ طَرَقَنَا بِمَلْفَوفَة فِي وِعَائِهَا، وَمَعْجُونَة شَنِئْتُهَا، كَأَ نَّمَا عُجِنَتْ بِريقِ حَيَّة أَوْ قَيْئِهَا، فَقُلْتُ: أَصِلَةٌ، أَمْ زَكَاةٌ، أَمْ صَدَقَةٌ؟ فَذلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ!
فقال الأشعث: لاَ ذَا وَلاَ ذَاكَ، وَلكِنَّهَا هَدِيَّةٌ!
فَقال(عليه السلام): هَبِلَتْكَ الْهَبُولُ! أَعَنْ دِينِ اللهِ أَتَيْتَنِي لِتَخْدَعَنِي؟ أَمُخْتَبِطٌ أَمْ ذُو جِنَّة، أَمْ تَهْجُرُ؟ وَاللهِ لَوْ أُعْطِيتُ الاْقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلاَكِهَا، عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللهَ فِي نَمْلَة أَسْلُبُهَا جِلْبَ شَعِيرَة مَا فَعَلْتُهُ، وَإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لاَهْوَنُ مِنْ وَرَقَة فِي فَمِ جَرَادَة تَقْضَمُهَا، مَا لِعَلِيّ وَلِنَعِيم يَفْنَى، وَلَذَّة لاَ تَبْقَى! نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ، وَقُبْحِ الزَّلَلِ، وَبِهِ نَسْتَعِينُ»[١٩].
لقد ظنّ الأشعث أ نّه يستميل الإمام(عليه السلام) بالمهاداة لغرض دنيوي كان في نفسه، وكان أميرالمؤمنين(عليه السلام) يفطن لذلك ويعلمه ولذلك ردّ هدية الأشعث ولولا ذلك لقبلها لأنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قبل الهدية وقد قبل عليّ(عليه السلام)هدايا جماعة من أصحابه.
٧٨ - حزن الإمام(عليه السلام) على أحد أصحابه الأوفياء
كان مالك الأشتر من الأوفياء لأميرالمؤمنين(عليه السلام) فلما بلغ عليّاً(عليه السلام)شهادة الأشتر، قال: «إنا لله وإنا إليه راجعون! ثمّ قال: لله در مَالكٌ! وَمَا مَالِكٌ»[٢٠].
قال علقمة: فما زال عليّ يتلهف ويتأسف، حتى ظننا أ نّه المصاب به دوننا، وعرف ذلك في وجهه أياماً.
وقال إبراهيم: لما بلغ عليّاً(عليه السلام) شهادة الأشتر، قال: «إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله ربّ العالمين، اللّهمّ إنّي أحتسبه عندك، فإن موته من مصائب الدهر.
ثمّ قال: رحم الله مالكاً، فلقد وفى بعهده، وقضى نحبه، ولقى ربّه، مع أنا قد وطنا أنفسنا أن نصبر على كلّ مصيبة بعد مصابنا برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فإنّها من أعظم المصيبات.
وعن المدائني: عن جماعة من أشياخ النخع، قالوا: دخلنا على أميرالمؤمنين حين بلغه موت الأشتر، فوجدناه يتلهف ويتأسف عليه،قال: لله در مَالكٌ! وَمَا مَالِكٌ! لو كان من جبل لكان فندا[٢١] ولو كان من حجر لكان صلداً، أما والله ليهدن موتك عالماً، وليفرحن عالماً[٢٢] على مثل مالك فلتبك البواكي! وهل موجود كمالك![٢٣]
٧٩ - العدالة في تقسيم بيت المال
من كلام لأميرالمؤمنين(عليه السلام) كلّم به عبدالله بن زمعة وهو من شيعته وذلك أ نّه قدم عليه في خلافته يطلب منه مالا فقال(عليه السلام): «إِنَّ هذَا الْمَالَ لَيْسَ لِي وَلاَ لَكَ، وَإِنَّمَا هُوَ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَجَلْبُ أَسْيَافِهِمْ، فَإِنْ شَرِكْتَهُمْ فِي حَرْبِهِمْ كَانَ لَكَ مِثْلُ حَظِّهِمْ، وَإِلاَّ فَجَنَاةُ أَيْدِيهِمْ لاَ تَكُونُ لِغَيْرِ أَفْوَاهِهِمْ»(١).
وقال عاصم بن كليب الجرمي، عن أبيه، قال: شهدت عليّاً(عليه السلام) وقد جاءه مال من الجبل، فقام وقمنا معه، وجاء الناس يزدحمون، فأخذ حبالا فوصلها بيده، وعقد بعضها إلى بعض، ثمّ أدارها حول المال، وقال: لا أحل لأحد أن يجاوز هذا الجبل، قال: فقعد الناس كلهم من وراء الجبل، ودخل هو، فقال: أين رؤوس الأسباع؟ ـ وكانت الكوفة يومئذ أسباعاً ـ فجعلوا يحملون هذه الجوالق إلى هذه الجوالق، وهذا إلى هذا، حتى استوت القسمة سبعة أجزاء، ووجد مع المتاع رغيف، فقال: اكسروه سبع كسر، وضعوا على كل جزء كسرة، ثمّ قال:
هذا جناي وخياره فيه |
|
إذ كلّ جان يده إلى فيه |
ثمّ أقرع عليها ودفعها إلى رؤوس الأسباع، فجعل كلّ رجل منهم يدعو قومه فيحملون الجواليق[٢٤].
وجاء في رواية أُخرى عن ابن نباته أ نّه قال: كان أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) إذا أُتي بالمال أدخله بيت مال المسلمين، ثمّ جمع المستحقين، ثمّ ضرب يده في المال فنثره يمنة ويسرة وهو يقول: يا صفراء يا بيضاء لا تغريني، غرّي غيري.
هذا جناي وخياره فيه |
|
إذ كلّ جان يده إلى فيه |
ثمّ لا يخرج حتى يفرق ما في بيت مال المسلمين ويؤتي كلّ ذي حق حقه، ثمّ يأمر أن يكنس ويرش، ثمّ يصلّي فيه ركعتين، ثمّ يطلق الدنيا ثلاثاً يقول بعد التسليم: يا دنيا لا تتعرضين لي ولا تتشوقين إليَّ ولا تغريني، فقد طلقتك ثلاثاً لا رجعة لي عليك[٢٥].
لقد كان(عليه السلام) بهذا أول من اخترع نظام التفتيش، ولقد كان يكتب إلى ولاته: «إنّ أعظم الخيانة خيانة الاُمة»وليس الولاة أعضاء في شركة مساهمة هدفها أن تستغل الاُمة وإنّما هم ككما كان يكتب إليهم «خزان الرعية، ووكلاء الاُمة، وسفراء الأئمة» .
وكون الأموال العامة هي أموال الاُمة مفهوم لم يأخذ صيغته الحقة إلاّ على لسان الإمام(عليه السلام) وفي أعماله[٢٦].
٨٠ - اللسان بضعة من الإنسان
من كلام لأميرالمؤمنين(عليه السلام) قاله لجعدة بنت هبيرة:
«أَلاَ وإِنَّ اللِّسَانَ بَضْعَةٌ مِنَ الاْنْسَانِ، فَلاَ يُسْعِدُهُ الْقَوْلُ إِذَا امْتَنَعَ، وَلاَ يُمْهِلُهُ النُّطْقُ إِذَا اتَّسَعَ، وَإِنَّا لاَمَرَاءُ الْكَلاَمِ، وَفِينَا تَنَشَّبَتْ عُرُوقُهُ، وَعَلَيْنَا تَهَدَّلَتْ غُصوُنُهُ.
وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَ نَّكُمْ فِي زَمَان الْقَائِلُ فِيهِ بالْحَقِّ قَلِيلٌ، وَاللِّسَانُ عَنِ الصِّدْقِ كَلِيلٌ، وَاللاَّزِمُ لِلْحَقَّ ذَلِيلٌ، أَهْلُهُ مُعْتَكِفُونَ عَلَى الْعِصْيَانِ، مُصْطَلِحُونَ عَلَى الاِْدْهَانِ، فَتَاهُمْ عَارِمٌ، وَشَائِبُهُمْ آثِمٌ،عَالِمُهُمْ مُنَافِقٌ، وَقَارِئُهُمْ مُمَاذِقٌ، لايُعَظِّمُ صَغِيرُهُمْ كَبِيرَهُمْ، وَلاَ يَعُولُ غَنيِيُّهُمْ فَقِيرَهُمْ»[٢٧].
وجعدة بن هبيرة المخزومي هو ابن أُخت الإمام(عليه السلام) «أُم هاني» حيث أراد جعدة أن يخطب الناس يوماً، فصعد المنبر، فحصر ولم يستطع الكلام، فقام أميرالمؤمنين(عليه السلام) فتسنم ذروة المنبر، وخطب خطبة طويلة، كانت تلك الكلمات من ضمنها.
٨١ - حزن الإمام(عليه السلام) الشديد على فراق الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)
من الاُمور الّتي اختصّ بها أميرالمؤمنين(عليه السلام) هو انّه تولّى غسل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وتجهيزه وتكفينه بينما كان القوم يتصارعون في سقيفة بني ساعدة حول خلافة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم).
فعندما اقتربت الوفاة من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، أخذ أميرالمؤمنين(عليه السلام)رأس النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) فوضعه في حجره، ومد يده اليمنى تحت حنكه، وقد شرع ملك الموت بقبض روحه الطاهرة، والرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) يعاني آلام الموت وشدة الفزع حتى فاضت روحه الزكية فمسح بها الإمام وجهه، ومادت الأرض، وخبا نور العدل والحقّ، ومضى من كانت حياته رحمة ونوراً للناس جميعاً، فما أُصيبت الإنسانية بكارثة أقسى من هذه الكارثة، لقد مات القائد والمنقذ والمعلم، واحتجب ذلك النور الّذي أضاء الطريق للإنسان هداه إلى سواء السبيل، ووجم المسلمون وطاشت أحلامهم، وعلاهم الفزع، والجزع، والذعر.
وكان ممّا قاله أميرالمؤمنين(عليه السلام) وهو يلي غسل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وتجهيزه:
«بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي، لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالاْنْبَاءِ وأَخْبَارِ السَّماءِ، خَصَصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاكَ، وَعَمَمْتَ حَتّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَواءً، وَلَوْ لاَ أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ، وَنَهَيْتَ عَنِ الْجَزَعِ، لاَنْفَدْنَا عَلَيْكَ مَاءَ الشُّؤُونِ، وَلَكَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلاً، وَالْكَمَدُ مُحَالِفاً، وَقَلاَّ لَكَ! وَلكِنَّهُ مَا لاَ يُمْلَكُ رَدُّهُ، وَلاَ يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي! اذْكُرْنَا عِنْدَ رَبِّكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ بَالِكَ!»[٢٨].
٨٢ - كتاب عثمان لعليّ(عليه السلام) وجواب عليّ(عليه السلام)
من كلام لأميرالمؤمنين(عليه السلام) قاله لعبدالله بن عباس، وقد جاءه برسالة من عثمان، وهو محصور يسأله فيها الخروج إلى ماله بينبع[٢٩] ليقل هتف الناس باسمه للخلافة، بعد أن كان سأله مثل ذلك من قبل، فقال(عليه السلام):
«يَابْنَ عَبَّاس، مَا يُرِيدُ عُثْـمَانُ إِلاَّ أَنْ يَجَعَلَنِي جَمَلاً نَاضِحاً بِالْغَرْبِ، أَقْبِلْ وَأَدْبِرْ! بَعَثَ إِلَيَّ أَنْ أَخْرُجَ، ثُمَّ بَعَثَ إِليَّ أَنْ أَقْدُمَ، ثُمَّ هُوَ الاْنَ يَبْعَثُ إِلَيَّ أَنْ أَخْرُجَ! وَاللهِ لَقَدْ دَفَعْتُ عَنْهُ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ آثِماً».
وبهذه الكلمات يتّضح موقف الإمام(عليه السلام) من خلافة عثمان وحرصه على وحدة المسلمين والحفاظ على الكيان الإسلامي، فهو يقول: «لَقَدْ دَفَعْتُ عَنْهُ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ آثِماً»[٣٠].
٨٣ - منزل بثمانين دينار
شريح القاضي، هو شريح بن الحارث الكندي ويكنى أبا أُمية، استعمله عمر بن الخطاب على القضاء بالكوفة، فلم يزل قاضياً ستين سنة، لم يتعطل فيها إلاّ ثلاث سنين في فتنة ابن الزبير، امتنع من القضاء، ثمّ استعفى الحجاج من العمل فأعفاه، فلزم منزله إلى أن مات وعمّر عمراً طويلا، قيل: إنّه عاش مائة وثمان سنين، وقيل: مائة سنة، وتوفي سنة سبع وثمانين.
كان شريح خفيف الروح مزاحاً، فقدم إليه رجلان فأقر أحدهما بما ادعى به خصمه وهو لا يعلم، فقضى عليه، فقال لشريح: من شهد عندك بهذا؟ قال: ابن اخت خالك!
وقيل: إنّه جاءته امرأة تبكي وتتظلم على خصمها، فمارق لها حتى قال له إنسان كان بحضرته: ألا تنظر أيها القاضي إلى بكائها؟ فقال: إن اخوة يوسف جاؤوا أباهم عشاءً يبكون.
وأقر عليّ(عليه السلام) شريحاً على القضاء مع مخالفته له في مسائل كثيرة من الفقه مذكورة في كتب الفقهاء، وسخط عليّ(عليه السلام) مرة عليه فطرده عن الكوفة ولم يعزله عن القضاء، وأمره بالمقام ببانقيا، وكانت قرية قريبة من الكوفة أكثر ساكنيها اليهود فأقام بها مدة حتى رضي عنه، وأعاده إلى الكوفة.
وهناك مثل تضربه العرب حول شريح، وهو: إنّ شريحاً أدهى من الثعلب. وقصة هذا المثل: انّ شريحاً خرج أيام الطاعون إلى النجف فكان إذا قام يصلي يجيء ثعلب فيقف تجاهه فيحاكيه ويحيل بين يديه فيشغله عن صلاته، فلما ذلك عليه نزع قميصه فجعله على قصبة وأخرج كميه وجعل قلنسوته وعمامته عليه فأقبل الثعلب فوقف على عادته فوقف شريح من خلفه فأخذه بغتة فلذلك يقال: هو أدهى من الثعلب وأحيل[٣١].
أمّا قصة دار شريح، فقد روى عاصم بن بهدلة قال: قال لي شريح القاضي:
اشتريت داراً بثمانين ديناراً وكتبت كتاباً، وأشهدت عدولا فبلغ ذلك أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) فبعث إليَّ مولاه قنبراً فأتيته، فلما أن دخلت عليه قال:
يا شريح اشتريت داراً وكتبت كتاباً وأشهدت عدولا ووزنت مالا؟
قال: قلت: نعم.
قال: يا شريح اتق الله فإنّه سيأتيك من لا ينظر في كتابك، ولا يسئل عن بينتك، حتى يخرجك من دارك شاخصاً ويسلمك إلى قبرك خالصاً، فانظر أن لا تكون اشتريت هذه الدار من غير مالكها، ووزنت مالا من غير حله، فإذا أنت قد خسرت الدارين جميعاً الدنيا والآخرة.
ثمّ قال(عليه السلام): يا شريح فلو كنت عندما اشتريت هذه الدار أتيتني فكتبت لك كتاباً على هذه النسخة إذا لم تشترها بدرهمين.
قال: قلت: وما كنت تكتب يا أميرالمؤمنين؟
قال: كنت أكتب لك هذا الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما اشترى عبد ذليل من ميت أزعج بالرحيل، اشترى منه داراً في دار الغرور، من جانب الفانين إلى عسكر الهالكين، وتجمع هذه الدار حدوداً أربعة، فالحد الأول منها ينتهي إلى دواعي الآفات، والحد الثاني منها ينتهي إلى دواعي العاهات، والحد الثالث منها ينتهي إلى دواعي المصيبات، والحد الرابع منها ينتهي إلى الهوى المردي والشيطان المغوي، وفيه يشرع باب هذه الدار، اشترى هذا المفتون بالأمل، من هذا المزعج بالأجل، جميع هذه الدار بالخروج من عزّ القنوع والدخول في ذلّ الطلب، فما أدرك هذا المشتري فيما اشتري منه من درك فعلى مبلي أجسام الملوك، وسالب نفوس الجبابرة مثل كسرى وقيصر وتبع وحمير ومن جمع المال إلى المال فأكثر، وبنى فشيد، ونجد فزخرف وادخر بزعمه للولد، اشخاصهم جميعاً إلى موقف العرض والحساب لفصل القضاء، وخسر هنالك المبطلون، شهد على ذلك العقل إذا خرج من أسر الهوى، ونظر بعين الزوال لأهل الدنيا، وسمع منادي أهل الزهد ينادي في عرصاتها ما أبين الحقّ لذي عينين، ان الرحيل أحد اليومين، تزودوا من صالح الأعمال وقربوا الآمال بالآجال فقد دنا الرحلة والزوال[٣٢].