صرامة الإمام
في خلافة عثمان، ازداد الظلم، وانقلبت الاثرة إلى طغيان، وانقلب الحقد إلى زئير، وتراكم الطغيان حتى وجد رد فعل طاغ في ثورة المظلومين، الذين أثقلهم الظلم الفادح، على حكومة عثمان وعلى ولاته.
وكانت عاقبة ذلك كله قتل عثمان. وجاء الناس إلى الإمام يطلبون منه أن يلي الحكم، ولكنه أبى عليهم ذلك، لا لأ نّه لم يأنس من نفسه القوة على ولاية الحكم وتحمل تبعاته، فقد كان(عليه السلام) على تمام الاهبة لولاية الحكم، كان قد خبر المجتمع الإسلامي من أقطاره، وخالط كافة طبقاته، وراقب حياتها عن كثب، ونفذ إلى أعماقها، وتعرف على الوجدان الطبقي الّذي يشدها ويجمعها. وقد مكنه من ذلك كلّه المركز الفريد الّذي كان يتمتع به من النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، فهو وزيره ونجيبه، وأمين سرّه، وقائد جيوشه، ومنفذ خططه، ومعلن بلاغاته.
هذه المنزلة الفريدة الّتي لم يكن أحد من الصحابة يتمتع بها أعدته إعداداً تاماً لمهمة الحكم. وقد كان النبيّ ينبغي من وراء إناطة هذه المهام كلّها به اعداده للمنصب الإسلامي، ليصل إليه وهو على أتم ما يكون أهلية واستعداداً.
ولقد غدا من نافلة القول أن يقال أ نه(عليه السلام) هو الخليفة الّذي كان يجب أن يلي حكومة النبيّ في المجتمع الإسلامي. وإذا لم يقدر له أن يصل إلى الحكم بعد النبيّ فإنّه لم ينقطع عن الحياة العامة، بل ساهم فيها مساهمة خصبة، فقد كان أبوبكر ثمّ عمر ومن بعدهما عثمان لا يسعهم الاستغناء عن آراءه في السياسة والقضاء والحرب، وخاصة في خلافة عثمان فقد كان فيها على أتم الصلة بالتيارات الّتي تمخر المجتمع الإسلامي، لكن عثمان لم ينتفع كثيراً بالتوجيه الّذي كان الإمام يقدمه إليه لأنّ بطانة متعفنة كانت تحيط بهذا الخليفة. فأنت ترى أ نّه لم يأب الحكم لأ نّه لم يأنس من نفسه القوة عليه، وإنّما أباه لأمر آخر: لقد كان يرى المجتمع الإسلامي وقد تردى في هوة من الفوارق الاجتماعية الّتي ازدادت اتساعاً بسبب السياسة الّتي اتبعها ولاة عثمان مدة خلافته.
ولقد كان يرى التوجيهات الدينية العظيمة الّتي عمل النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) طيلة حياته على إرساء أُصولها في المجتمع العربي قد فقدت فاعليتها في توجيه حياة الناس.
وكان(عليه السلام) يعرف السبيل الّذي يرد الأشياء إلى نصابها، فإنّما صار الناس إلى واقعهم هذا لأ نّهم فقدوا الثقة بالقوة الحاكمة الّتي تهيمن عليهم. فقدوا الثقة بهذه القوة كناصر للمظلوم وخصم للظالم، فراحوا يسعون إلى إقرار حقوقهم وصيانتها بأنفسهم. وهكذا، رويداً رويداً انقطعت الصلة بينهم وبين الرموز المعنوية الّتي يجب أن تقود حياتهم. والسبيل إلى تلافي هذا الفساد كلّه هو إشار الناس أنّ حكماً صحيحاً يهيمن عليهم، لتعود إلى الناس ثقتهم الزائلة بحكامهم. ولكن شيئاً كهذا لم يكن سهلا قريب المثال، فهناك طبقات ناشئة لا تسيغ مثل هذا، ولذلك فهي حرية أن تقف في وجه كلّ برنامج اصلاحي وكل محاولة تطهيرية، ولذلك أبى عليهم قبول الحكم، لأ نّه قدر ـ وقد أصاب ـ أ نّه سيلاقي معارضة عنيفة من كلّ طبقة تجد صلاحها في أن يبقى الفساد على حاله. لأجل هذا قال للجماهير يوم هرعت إليه تسأله أن يلي الحكم: دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغامت، والمحجة قد تنكرت، واعلموا أ نّي أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً [١].
ولكن القوم أبوا عليه إلاّ أن يلي الحكم، وربما رأى(عليه السلام) أ نّه إذا لم يستجب لهم فربّما توثب على حكم المسلمين من لا يصلح له، فيزيد الفساد فساداً، ورجا أن يخرج بالناس من واقعهم الاجتماعي التعس الّذي أحلتهم فيه اثنتا عشرة سنة مضت عليهم في خلافة عثمان، إلى واقع أنبل وأحفل بمعاني الإسلام، وهكذا استجاب لهم، فبويع خليفة للمسلمين.
-----------------------------------------
[١] . نهج البلاغة: ١/١٨١.