منزل بثمانين دينار
شريح القاضي، هو شريح بن الحارث الكندي ويكنى أبا أُمية، استعمله عمر بن الخطاب على القضاء بالكوفة، فلم يزل قاضياً ستين سنة، لم يتعطل فيها إلاّ ثلاث سنين في فتنة ابن الزبير، امتنع من القضاء، ثمّ استعفى الحجاج من العمل فأعفاه، فلزم منزله إلى أن مات وعمّر عمراً طويلا، قيل: إنّه عاش مائة وثمان سنين، وقيل: مائة سنة، وتوفي سنة سبع وثمانين.
كان شريح خفيف الروح مزاحاً، فقدم إليه رجلان فأقر أحدهما بما ادعى به خصمه وهو لا يعلم، فقضى عليه، فقال لشريح: من شهد عندك بهذا؟ قال: ابن اخت خالك!
وقيل: إنّه جاءته امرأة تبكي وتتظلم على خصمها، فمارق لها حتى قال له إنسان كان بحضرته: ألا تنظر أيها القاضي إلى بكائها؟ فقال: إن اخوة يوسف جاؤوا أباهم عشاءً يبكون.
وأقر عليّ(عليه السلام) شريحاً على القضاء مع مخالفته له في مسائل كثيرة من الفقه مذكورة في كتب الفقهاء، وسخط عليّ(عليه السلام) مرة عليه فطرده عن الكوفة ولم يعزله عن القضاء، وأمره بالمقام ببانقيا، وكانت قرية قريبة من الكوفة أكثر ساكنيها اليهود فأقام بها مدة حتى رضي عنه، وأعاده إلى الكوفة.
وهناك مثل تضربه العرب حول شريح، وهو: إنّ شريحاً أدهى من الثعلب. وقصة هذا المثل: انّ شريحاً خرج أيام الطاعون إلى النجف فكان إذا قام يصلي يجيء ثعلب فيقف تجاهه فيحاكيه ويحيل بين يديه فيشغله عن صلاته، فلما ذلك عليه نزع قميصه فجعله على قصبة وأخرج كميه وجعل قلنسوته وعمامته عليه فأقبل الثعلب فوقف على عادته فوقف شريح من خلفه فأخذه بغتة فلذلك يقال: هو أدهى من الثعلب وأحيل [١] .
أمّا قصة دار شريح، فقد روى عاصم بن بهدلة قال: قال لي شريح القاضي:
اشتريت داراً بثمانين ديناراً وكتبت كتاباً، وأشهدت عدولا فبلغ ذلك أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) فبعث إليَّ مولاه قنبراً فأتيته، فلما أن دخلت عليه قال:
يا شريح اشتريت داراً وكتبت كتاباً وأشهدت عدولا ووزنت مالا؟
قال: قلت: نعم.
قال: يا شريح اتق الله فإنّه سيأتيك من لا ينظر في كتابك، ولا يسئل عن بينتك، حتى يخرجك من دارك شاخصاً ويسلمك إلى قبرك خالصاً، فانظر أن لا تكون اشتريت هذه الدار من غير مالكها، ووزنت مالا من غير حله، فإذا أنت قد خسرت الدارين جميعاً الدنيا والآخرة.
ثمّ قال(عليه السلام): يا شريح فلو كنت عندما اشتريت هذه الدار أتيتني فكتبت لك كتاباً على هذه النسخة إذا لم تشترها بدرهمين.
قال: قلت: وما كنت تكتب يا أميرالمؤمنين؟
قال: كنت أكتب لك هذا الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما اشترى عبد ذليل من ميت أزعج بالرحيل، اشترى منه داراً في دار الغرور، من جانب الفانين إلى عسكر الهالكين، وتجمع هذه الدار حدوداً أربعة، فالحد الأول منها ينتهي إلى دواعي الآفات، والحد الثاني منها ينتهي إلى دواعي العاهات، والحد الثالث منها ينتهي إلى دواعي المصيبات، والحد الرابع منها ينتهي إلى الهوى المردي والشيطان المغوي، وفيه يشرع باب هذه الدار، اشترى هذا المفتون بالأمل، من هذا المزعج بالأجل، جميع هذه الدار بالخروج من عزّ القنوع والدخول في ذلّ الطلب، فما أدرك هذا المشتري فيما اشتري منه من درك فعلى مبلي أجسام الملوك، وسالب نفوس الجبابرة مثل كسرى وقيصر وتبع وحمير ومن جمع المال إلى المال فأكثر، وبنى فشيد، ونجد فزخرف وادخر بزعمه للولد، اشخاصهم جميعاً إلى موقف العرض والحساب لفصل القضاء، وخسر هنالك المبطلون، شهد على ذلك العقل إذا خرج من أسر الهوى، ونظر بعين الزوال لأهل الدنيا، وسمع منادي أهل الزهد ينادي في عرصاتها ما أبين الحقّ لذي عينين، ان الرحيل أحد اليومين، تزودوا من صالح الأعمال وقربوا الآمال بالآجال فقد دنا الرحلة والزوال [٢].
-------------------------------------------------