السيد محمد حسين الجلالي
قال ابن خلكان ( ت / ٦٨١ ه ) : « اختلف الناس فيه ، هل أنّ الشريف أبي القاسم علي بن طاهر المرتضى المتوفى سنة ٤٣٦ جمعه من كلام علي بن أبي طالب عليه السّلام ، أم جمعه أخوه الشريف الرضي البغدادي ، وقد قيل : إنّه ليس من كلام علي » [١].
وكثر ممن جاء بعد ابن خلكان ( ت / ٦٨١ ه ) تبعيّته في ترديد دعواه ، راجع ميزان الاعتدال ، للذهبي ( ت / ٧٤٨ ه ) ٣ : ١٢٤ . ومرآة الجنان ، لليافعي ( ت / ٧٦٨ ه ) ٣ : ٥٥ .والبداية والنهاية ، لابن كثير ( ت / ٧٧٤ ه ) ١٢ : ٣ و ٥٣ . ولسان الميزان ، لابن حجر ( ت / ٨٥٢ ه ) ٥ : ١٤١ ، كما تبعه في ذلك بعض المتأخرين منهم : فريد وجدي في دائرة المعارف ٤ : ٢٦٠ .
وليس لهذا الاختلاف أثر في مصادر أهل البيت ، فقد أطبقت المصادر والأسانيد على أنّ الجامع هو الشريف الرضي ، فإنّ أقرب مصدر للترجمة إلى زمان الشريف للنهج هو فهرستا الطوسي والنجاشي ، وكلاههما ترجما المرتضى ولم يذكرا نهج البلاغة من تأليفه ، بل ذكر النجاشي ( ت / ٤٥٠ ه ) أنّه من تأليف الشريف الرضي ، وهو أقدم من ابن خلَّكان ( ت / ٦٨١ ه ) وأعرف ، وغير خفيّ على المتتبّع أنّ السبب في هذه التهمة هو الصراع المذهبي ، كما يظهر جليا من ترجمة الشريفين الرضي والمرتضى ممن لا يوافقهما في العقيدة والمذهب .
قال الذهبي ( ت / ٧٤٨ ه ) في تاريخ الإسلام في حوادث سنة ٤٣٦ في ترجمة الشريف المرتضى : « قلت : وقد اختلف في كتاب نهج البلاغة المكذوب على عليّ عليه السّلام ، هل هو من وضعه ، أو وضع أخيه الرضي . وقد حكى عنه ابن برهان النحوي أنّه سمعه ووجهه إلى الحائط يعاتب نفسه ويقول : أبو بكر وعمر وليا فعدلا ، واسترحما فرحما ، أفأنا أقول : ارتدا قلت : وفي تصانيفه سبّ الصحابة وتكفيرهم » [٢] .
وقال الذهبي أيضا : « هو جامع كتاب نهج البلاغة المنسوبة ألفاظه إلى الإمام عليّ رضى اللَّه عنه ، ولا أسانيد لذلك ، وبعضها باطل ، وفيه حقّ ، ولكن فيه موضوعات حاشا الإمام من النّطق بها ، ولكن أين المنصف وقيل : بل جمع أخيه الشريف الرضي » [٣].
وقال أيضا في الميزان : « هو المتّهم بوضع كتاب نهج البلاغة ، وله مشاركة قويّة في العلوم ، ومن طالع كتابه نهج البلاغة جزم بأنّه مكذوب على أمير المؤمنين علي رضى اللَّه عنه ، ففيه السب الصراح والحط على السيدين أبي بكر وعمر ، وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة بنفس القرشيين الصحابة وبنفس غيرهم من بعدهم من المتأخرين جزم بأنّ أكثره باطل » [٤].
وقد يرى البغضاء من قلمه والكذب في قوله : « في تصانيفه [ المرتضى ] سبّ الصحابة وتكفيرهم » فإنّه ليس لذلك في تصانيفه عين ولا أثر .
وقوله : « لا أسانيد لذلك » يدل على جهله بأسانيد المرويات عن عليّ عليه السّلام - كما ستعرف في هذا الكتاب - ومن اتهامه الشريف المرتضى بالوضع ، وهذا ما لم يتهمه منصف في حياته وبعد وفاته ، ولا أدري هل هو أعرف بنفس القرشيّين أم أهل البيت الذين اغترفوا من زلال علوم النبي الأطهر صلَّى اللَّه عليه وآله وعاصروا الصحابة الأخيار وحافظوا على تراث الإسلام .
ولعل أقرب الأقوال ما ذكره زكي مبارك في كتابه النثر الفني ، حيث قال : « وقد أراد المسيو ديمومبين أن يغضّ من قيمة ما نسب إلى علي بن أبي طالب من خطب ورسائل ، استنادا إلى ما شاع منذ أزمان من أنّ الشريف الرضي هو واضع كتاب نهج البلاغة ، أما نحن فنتحفّظ في هذه المسألة كل التحفّظ ، لأن الجاحظ يحدثنا : إنّ خطب علي وعمر وعثمان كانت محفوظة في مجموعات .
ومعنى هذا أن خطب عليّ كانت معروفة قبل الشريف الرضي . والذين نسبوا نهج البلاغة إلى الرضي يحتجّون بأنّه وضعها لأغراض شيعية ، فلم لا نقول من جانبنا بأن تهمة الوضع جاءت لتأييد خصوم الحملات الشيعية » [٥].
ونحن نقول : إنّ تهمة الرضي بالانتحال ساقطة لأمرين : أولا : إنّ شخصية الرضي معروفة بالأمانة ، كما ذكرته مصادر الأدب والتأريخ .
ثانيا : إنّ الذهبي ، وهذه دعوى يجب أن تخضع للدراسة والنقد ، ومن الثابت في قواعد الجرح والتعديل أنّ ذلك مما لا يعبأ به ، وأنّها حقا تهمة ظالمة لرجل وصفته المصادر بالورع والشرف والصراحة في تطبيق حكم اللَّه .
ونكتفي بما نقله ابن عنبة ( ت / ٨٢٨ ه ) من حادثتين تكشف عن مدى أمانة الشريف الرضي ننقلهما من لفظه من دون تعليق ليحكم القارئ الكريم بنفسه على هذه الاتهامات : نقل ابن عنبة عن أبي إسحاق الصابي عن الوزير أبي محمد المهدي في الشريف الرضي قال : « وأما أخوه الرضي ، فبلغني ذات يوم أنه ولد له غلام فأرسلت إليه بطبق فيه ألف دينار ، فرده وقال : قد علم الوزير أني لا أقبل من أحد شيئا . فرددته إليه وقلت : إني إنما أرسلته للقوابل . فرده الثانية وقال : قد علم الوزير أنه لا تقبّل نساءنا غريبة . فرددته إليه وقلت : يفرّقه الشريف على ملازميه من طلاب العلم . فلما جاءه الطبق وحوله طلاب العلم قال : هاهم حضور فليأخذ كل أحد ما يريد . فقام رجل وأخذ دينارا فقرض من جانبه قطعة وأمسكها ورد الدينار إلى الطبق ، فسأله الشريف عن ذلك فقال : احتجت إلى دهن السراج ليلة ولم يكن الخازن حاضرا فاقترضت من فلان البقال دهنا فأخذت هذه القطعة لأدفعها إليه عوض دهنه ، وكان طلبة العلم الملازمون للشريف الرضي في دار قد اتخذها لهم سماها ( دار العلم ) وعيّن لهم جميع ما يحتاجون إليه ، فلما سمع الرضي ذلك أمر في الحال بأن يتخذ للخزانة مفاتيح بعدد الطلبة ويدفع إلى كلّ منهم مفتاح ليأخذ ما يحتاج إليه ولا ينتظر خازنا يعطيه ، وردّ الطبق على هذه الصورة ، فكيف لا أعظَّم من هذا حاله » [٦].
وكان الرضي ينسب إلى الإفراط في عقاب الجاني من أهله وله في ذلك حكايات ، ومنها : « أنّ امرأة علوية شكت إليه زوجها وأنه يقامر بما يتحصل له من حرفة يعانيها ، وأنّ له أطفالا وهو ذو عيلة وحاجة ، وشهد لها من حضر بالصدق فيما ذكرت ، فاستحضره الشريف وأمر به فبطح وأمر بضربه فضرب والامرأة تنتظر أن يكف ، والآمر يزيد حتى جاوز ضربه مائة خشبة ، فصاحت الامرأة : وايتم أولادي ، كيف تكون صورتنا إذا مات هذا فكلَّمها الشريف بكلام فظَّ فقال : ظننت أنّك تشكينه إلى المعلَّم » [٧].
ويكفي الشريف فخرا أنّه لم يدنّس ثوبه بمغريات الحياة الزائلة حتى قال فيه تلميذه الوفي مهيار الديلمي :
أبكيك للدنيا التي طلَّقتها ***** وقد اصطفتك شبابها وعرامها
ورميت غادتها بفضلة معرض ***** زهدا وقد ألقت إليك زمامها [٨]
تعقيب : استساغ للذهبي أن يتّهم الشريف الرضي بمجرّد الهوى ومخالفة العقيدة والمذهب . ولا أدري كيف استساغ كارل برو كلمان الألماني لنفسه ان يقول بصورة قاطعة : « وينسب إلى الشريف الرضي أيضا كتاب نهج البلاغة ، والصحيح أنه من جمع أخيه الشريف المرتضى » [٩].
ولعله قلَّد في ذلك ادوارد فانديك ، وقد التمس شيخنا العلامة الشهرستاني عذرا لهذه الدعوى وقال : « ونسبة ( ادوارد فانديك ) في اكتفاء القنوع كتاب نهج البلاغة إلى الشريف المرتضى أخي الرضي خطأ منشأه أنّ الشريف الرضي كان يلقب بالمرتضى أحيانا ، لأن جدّه إبراهيم المرتضى بن الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام ، كما أن أخاه المرتضى كان يلقّب بذلك ، ثم بقي هذا اللقب على هذا ، ولقّب الأول بالرضي يوم رضوا به نقيبا على نقباء العلويين ليتميّز عن بقية آل المرتضى » [١٠].
ومن تقوّلات إدوارد فانديك في اكتفاء القنوع انه ينسب نهج البلاغة إلى الرازي ( ت / ٤٠٦ ه ) ، ولعل السبب أنّه ليس من أبناء الضاد ، وقادته عجمته إلى تبديل الضاد بالزاي ، فهو تصحيف .
أدلة خمسة
هذا وقد استدل إمتياز علي العرشي على أنّ المؤلف هو الرضي بأدلَّة خمسة ، ملخّصها :
أولا : ان المؤلف أشار في مقدمة النهج إلى كتابه خصائص الأئمة ، ويوجد من هذا الكتاب نسخة في مكتبة رامپور - الهند ، مؤرخة سنة ٥٥٣ وعليها إجازات ، فإذا ثبت أنّ مؤلَّف الخصائص هو الشريف الرضي ثبت أنه كذلك مؤلَّف نهج البلاغة .
ثانيا : ذكر النجاشي وغيره أنّ له : حقائق التنزيل ، وقد طبع المجلد الأول في النجف سنة ٣٥٥ وقد جاء في ص ١٦٧ إحالة إلى كتابه الآخر ( نهج البلاغة ) .
ثالثا : لا خلاف في أنّ كتاب مجازات الآثار النبوية للشريف الرضي ، وقد طبع ، وفيه يحيل الشريف إلى كتاب نهج البلاغة في ص ٢٢ وص ٤١ ، كما ويشير في النهج ٣ : ٢٦٣ إليه ، ويقوّي ذلك كلَّه ما نجد بين عبارتيهما في هذا المحل من تماثل وتقارب مما لا يدع لنا مجالا لتخيّل أنّ الكتابين لمؤلَّفين ، بل لمؤلَّف واحد .
رابعا : نجد في بعض نسخ نهج البلاغة أنّ النسخ تبدأ باسم الرضي ، وأهم هذه النسخ ما طبعها محمد محيي الدين عبد الحميد الأستاذ بجامع الأزهر ، ولا يكاد يظن أنّ المصحح هو الذي أضاف هذه الجمل في المتن .
خامسا : بلغ عدد شروح نهج البلاغة بالعربية والفارسية ما ينيف على أربعة ، وأجمع الشراح على أنّ الكتاب من تأليف الرضي ، وذكر سبعة شروح [١١].
قال الجلالي :
ونزيد ذلك حجة :
سادسا : سلاسل الإجازات الموصولة إلى الشريف الرضي بطرق عديدة ، ستأتي في أسانيد المؤلف .
سابعا : العناية بالنهج عبر القرون بالنسخ والمقابلة والقراءة والإجازة وغيرها كما سيأتي .
[١] . وفيات الأعيان ١ : ٤٧١ .
[٢] . راجع تاريخ الاسلام : وفيات عام ٤٣٦ .
[٣] . سير أعلام النبلاء ١٧ : ٥٨٩ .
[٤] . ميزان الاعتدال ٣ : ١٢٤ .
[٥] . النثر الفنّي ١ : ٦٩ .
[٦] . عمدة الطالب : ٢٠٩ - ٢١٠ .
[٧] . عمدة الطالب : ٢١٠ .
[٨] . ديوان مهيار الديلمي ٣ : ٣٦٩ .
[٩] . راجع تاريخ الأدب العربي ٢ : ٦٤ ، ترجمة د . عبد الحليم النجار ، ط / ٣ دار المعارف القاهرة سنة ١٩٧٤ م .
[١٠] . ما هو نهج البلاغة : ١٨ .
[١١] . استناد نهج البلاغة : ٥ - ١٣ .