ابراهيم الابياري
١- ابن أبي الحديد[١]
المعروف بهذه الكنية رجلان أخوان هما موفق الدين ثم عزالدين، وثاني الرجلين هوالمقصود بالترجمة.
والمؤرخون الذين ترجموا لعزالدين يكادون يجمعون على أنه: أبوحامد عبد الحميد بن أبي الحسن هبة الله بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد يذكر هذا الذهبي وابن شاكر وابن كثير والعيني والصنعاني ومحمد باقر، غير أن ابن شاكر بعد ما وافق الجماعة في كتابه « فوات الوفيات » يعود فيخالفهم في كتابه (عيون التواريخ) فيسقط الجد الثاني « محمداً» فيقول: عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن الحسين.
كما يجمد ابن حبيب عند الجد الاول لا يعدوه فيقول: عبد الحميد بن هبة الله بن محمد. ويزيد محمد باقر شيئاً ويسقط شيئاً فيقول: عز الدين بن عبد الحميد بن أبي الحسن بهاء الدين محمد.
ثم يمضي في النسب إلى أخره.
وإلى جده الأعلى أبي الحديد عُزى « عزالدين »، كما عُزى أخوه موفق الدين، فيقال لكل منها: ابن أبي الحديد، وهم يعنون عزالدين أوموفق الدين.
وهذه الكتب التي ترجمت لهذا الأخ أوذاك لم تذكر شيئاً عن هذا الجد الأعلى الذي أضفى كنيته على عقبه البعيد وظل العقب البعيد متمسكاً بها.
وإن انّتهاء النسب إلى هذا الجد لا يعدوه، والأجتزاء بذكر كنيته لا اسمه تلك الكنية التي تشعر بشيء يكاد هذا وذاك يمليان أن هذا الجد كان على شيء، وأن هذا الشيء كان يتصل بالفتوة والبأس.
وفي المدائن – مدينة بينها وبين بغداد ستة فراسخ – ولد عبد الحميد سنة ٥٨٦ – ويزيد الصنعاني فيجعل ميلاده مسّهل ذي الحجة من تلك السنة – فنسب إليها ولقب بالمدائني. على هذا جميع من أرخوالابن أبي الحديد عز الدين.
غير أن الصنعاني في « نسمة السحر » يقول: الأنباري المولد، وهويعني أن بالأنبار – مدينة بينها وبين بغداد عشرة فراسخ – لا بالمدائن كان مولد عز الدين بن أبي الحديد.
ويكاد يكون لا خلاف بين الذين أرخوا لعز الدين في أن وفاته كانت ببغداد، وأنها كانت سنة ٦٥٦ هـ.
هذا إذا استثنينا حاجي خليفة في « كشف الظنون » فهويكرر مع تكرار كتب عز الدين أن وفاته كانت سنة ٦٥٥ هـ.
ولا يعرض الكثير منهم للشهر الذي مات فيه، مثل ابن كثير وابن شاكر والعيني وابن حبيب، غير أن الذهبي في كتابه « سير أعلام النبلاء » يجعل وفاته في جمادي الآخرة من تلك السنة فيقول: فمات الوزير ابن العلقمي، فتوفى بعده الموفق بأربع ليال في نحوالخامس من جمادي الآخرة سنة ست وخمسين ومائة، فرثاه أخوه العز فقال:
أأبا المعالي هل سمعت تأوهي | فلقد عهدتك في الحياة سميعا | |
عين بكتك ولوتطيق جوانحي | وجوارحي أجرت عليك نجيعا | |
أنفا غضبت علی الزمان فلم تطع | جبلا لأسباب الوفاة قطوعا | |
ووفيت للمولى الوزير فلم تعش | من بعده شهراً ولا أسبوعا | |
وبقيت بعد كما فلوكان الردى | بيدي لفارقنا الحياة جميعا |
فما عاش العز بعد أخيه إلا أربعة عشر يوماً.
ويكاد قول الذهبي لا يبعد كثيراً عن قول ابن القوطي، يقول ابن القوطي وهويذكر أحداث سنة ٦٥٦هـ: فتوفى الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي في مسّهل جمادي الآخرة.
ثم يعود فيقول، وهويذكر المتوفين في تلك السنة: توفى الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي في جمادي الآخرة ببغداد، والقاضي موفق الدين أبوالمعالي القاسم بن أبي الحديد المدائني في جمادي الآخرة، فرثاه أخوه عز الدين عبد الحميد بقوله – وذكر الأبيات – فعاش عز الدين بعد أخيه أربعة عشر يوماً.
فابن القوطي والذهبي متفقان على أن وفاة العز كانت في جمادي الآخرة بعد وفاة الموفق بأربعة عشر يوماً، وقد عين ابن القوطي اليوم الذي توفى فيه ابن العلقمي وأنه توفي في مسّهل جمادي الآخرة، كما قد عين الذهبي اليوم الذي توفي فيه الموفق أخوالعز، وأنه توفى في نحوالخامس من هذا الشهر، أعني جمادي الآخرة. ونستطيع نحن في ضوء هذا التعيين وذاك أن نعين اليوم الذي توفي فيه عز الدين، ونرى أنه توفى في نحوالعشرين من جمادي الآخرة.
غيرأن ثمة ما يثير شكا حول هذا الذي قدمناه، فالذهبي ينقل عن معجم شيخه الدمياطي فيقول: وفي معجم شيخنا الدمياطي أن موت الموفق في رجب، ولكنه – أعنى الذهبي – لا يترك هذا الرأي يمر دون أن يعقب عليه فيقول: والأول أصح، وهويعني ما ساقه وسقناه نحن عنه من أن موت الموفق كان في الخامس من جمادي الآخرة.
وبعد الذهبي نجد صاحب كتاب « نسمة السحر » يقول: «وذكرالديار بكري والذهبي أن الشيخ أبا حامد المذكور توفي قبل دخول التتار بغداد بنحوسبعة عشر يوماً وسلمه الله من شرهم، رحمه الله تعالى ».
والمعروف أن دخول التتار بغداد كان في الحرم من سنة ٦٥٦ هـ، وأنهم قتلوا المستعصم: آخرالخلفاء العباسين في صفر، وأنهم أبقوا على وزيره ابن العلقمي.
ثم لا خلاف بين المؤرخين على أن الموفق مات بعد ابن العلقمي.
وبعد هذا فيكاد شعر عزالدين يرد على صاحب «نسمة السحر » ما ادعى. ففي هذا الشعر الذي رثى به عز الدين أخاه الموفق ذكرلابن العلقمي وأنه توفي قبل أخيه بقليل، حيث يقول:
ووفيت للمولى الوزير فلم تعش من بعده شهراً ولا اسبوعاً وغير هذا فإن الديار بكري في كتابه « الخميس في أحوال كل نفيس » (٢: ٣٧٧)
لم يذكر شيئاً عن وفاة أبي حامد وإنما قصر الحديث على وفاة ابن العلقمي وأنه مات مقتولا قتله هولاكوفي أوائل سنة سبع وخمسين وستمائة.
وهذا الذي قاله الديار بكري قاله من قبله ابن شاكر في « الفوات » (٢: ١٨٨) وهويترجم لابن العلقمي، وكذا ابن تغرى بردى (٨٧٤ هـ) في كتابه (المنهل الصافي).
فهذا أحد رجلين يذكر صاحب «نسمة السحر » أنه نقل عنهما ما نقل من أن وفاة أبي حامد كانت قبل دخول التتار بغداد، وهوالديار بكري وهذا ما عنده.
أما ثاني الرجلين اللذين يذكر صاحب « النسمة السحر» أنه نقل عنهما، فهوالذهبي.
وقد سقنا إليك ما قاله الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء، وثمة كتابان آخران للذهبي في التاريخ هما: تاريخ الإسلام، ومخطوطته تفقد هذه الحقبة الزمنية، وثاني الكتابين « العبر في تاريخ من غبر ».
وبين يدي المجلد الأول منه طبعة الكويت وينتهّي إلى حوادث سنة ٥٠٠ هـ.
وما نظن الذهبي قال في هاتين غير ما قاله في كتابه الأول: سير أعلام النبلاء.
وبعد هذا فالقول بأن عز الدين مات قبل دخول التتار بغداد قول مردود، ولكنه نقلنا إلى جديد، وهوأن وفاة العز كانت في سنة ٦٥٧ هـ، إن كنا نميل إلى ذاك الترتيب في الوفيات: سبق ابن العلقمي، ثم ثنى الموفق، ثم جاء في إثرها عز الدين.
غير أننا نرجح ما ساقه مؤرخان سابقان أقرب إلى عصر صاحب الترجمة وهما ابن القوطي « ٧٢٣ هـ » والذهبي «٧٤٨» لا سيما أن هذا الأخير ساق شيئاً عن شيخه الدمياطي في معجمه ثم أبطله، مما يؤكد أنه متثبت مما يقول.
وماندري كم كانت أعوام ابن أبي حديد بالدينور مسقط رأسه. ولكنا نكاد نعرف أنه لم يغادرها إلى بغداد قبل عام أحد عشر وسّتمائة، وهوالعام الذي ألف في شهوره القصائد السبع العلويات.
وفي العام ذلك يقول ابن القوطي: نظمها في صباه وهوبالمدائن في شهور سنة إحدى عشرة وسّتمائة.
وما ندري هل بقي ابن أبي حديد في المدائن مرة أخرى أم تركها إلى بغداد دون أن يلبَّث.
إن المراجع التي بين أيدينا لاتكاد تعطي شيئا.
ولكنا نجد ابن أبي الحديد نفسه في مقدمته لكتابة « الفلك على المثل السائر (يقول: إن جماعة من أكابر الموصل قد حسن ظنهم في هذا الكتاب جداً) – يعني: (المثل السائر) لابن الأثير الموصلى - وتعصبوا له حتى فضلوه على أكثر الكتب المصنفة في هذا الفن وأوصلوا منه نسخاً معدودة إلى مدينة السلام، بغداد، وأشاعوه وتداوله كثير من أهلها، فأعترضت عليه بهذا الكتاب وتقربت به إلى الخزانة الشريفة المقدسة النبوية الإمامية المستنصرية - وهويعنى خلافه المستنصر الذي ولى الخلافه سنة ثلاث وعشرين وستّمائة ومأت سنة أربعين وستّمائة.
ولكن ابن أبي الحديد يزيدنا بياناً في المقدمة بعد هذا فيقول: وهذا الكتاب وقع إلى في غرة ذي الحجة من سنة ثلاث وثلاثين وستّمائة فتصفحته أولا في ضمن الأشغال الديوانية التي أنا بصددها.
إذن فلقد كان أبي الحديد في بغداد في هذا العام عام ٦٣٣ هـ وكان عندها صاحب وظيفة في الديوان.
وحديث ابن أبي الحديد قبلُ، الذي يشير فيه إلى أنه بغى من تأليفه الكتاب التقرب إلى الخزانة الشريفة، يكاد يشعر بأنه كان قريب عهد بالديوان الخليفي، ولكنه لا يدلنا على أنه كان قريب عهد ببغداد، فقد يكون بلغها قبل ذلك العالم بأعوام.
والمقطوع به أن أبي الحديد لم يبرح المدائن إلا بعد أن بلغ الخامسة والعشرين، فأنت تعرف أن مولده كان سنة ٥٨٦ هـ وأنه نظم قصائده السبع بالمدائن في شهور ستة إحدى عشرة وستّمائة، أي أن سنه كانت عندها تبلغ الخامسة والعشرين أوتزيد عنها شيئاً.
وما ندري بعدها – كما حدثتك – كم لبث ابن أبي الحديد بالمدائن، وهوعلى كل حال لم يترك المدائن إلا بعد إن جاوز سن التحصيل.
ثم يقربنا ابن أبي حديد شيئاً مما نريد فيقول في شرحه لنهج البلاغة (٤: ٤١) وكنت كاتباً بديوان الخلافة – يعنى خلافة المستنصر – والوزير حيئنذ نصر الدين أبوالأزهر أحمد بن الناقد فوصل إلى حضرة الديوان في سنة الثنتين وثلاثين وستّمائة.
ونجد ابن القوطي في كتابه « الحوادث الجامعة » يذكر أن أبا الأزهر هذا وزر للمستنصر سنة تسع وعشرين وستّمائة، وأنه في شوال من سنة ٦٣٠ هـ كان فَتْح إربل، وأن الشعراء حضروا إلى الديوان.
ثم عد من الشعراء للقاضي أبا المعالي القاسم بن أبي الحديد المدائني.
وذكر له شعراً، ثم أخاه عزالدين عبد الحميد الكاتب وذكر له شعراً.
وهذا يفيدنا أن عبد الحميد كان كاتباً في الديوان في ذلك العالم – أعني ٦٣٠ هـ - وإلا ما أطلق عليه ابن القوطي لقب الكاتب.
ولكن ابن القوطي يعود فيقول، وهويودع أيام المستنصر: فلما استوزر نصر الدين بن الناقد تولى الأمور بنفسه ورتب بين يديه كاتباً: العدل ناصر الدين ابن رشيد المخزومي، ثم بعد الجمال عبدالله بن جعفر، ثم العدل أبا المعالي القاسم بن أبي الحديد المدائني إلى آخر أيامه، أي إلى سنة ٦٤٢ هـ وهي السنة التي مات فيها.
ولم يذكر عزالدين عبدالحميد بن بين كتاب الوزير نصيرالدين بن الناقد.
غير أن هذا لا يدفع ما صرح به عزالدين من أنه كان كتاباً للوزير نصير الدين، ولي الكتابة مبكراً في سنة ٦٣٠ هـ كما قلنا، والمرجع أنه بقى موصولا بالديوان وبالوزير نصير الدين إلى مؤيد الدين أبوطالب محمد بن أحمد في الوزارة نصيرالدين وصل عزالدين ابن أبي الحديد حبله بحبله ورأيناه يهدي إليه كتابه «شرح نهج البلاغة » الذي كان عن تكليف من ابن العلقمي فيما يظهر، إذ يقول ابن أبي الحديد في مقدمته، وهويخاطب فيما يظهرإذ يقول ابن أبي الحديد في مقدمته، وهويخاطب ابن العلقمي: (لما شرفت عبد دولته، وربيب نعمته، بالأهتمام بشرح نهج البلاغة).
وكان هذا التكليف في غرة رجب من سنة أربع وأربعين وستّمائة أي بعد تولي ابن العلقمي الوزارة بنحوعام.
وما نظن ابن أبي الحديد خرج عن الديوان الخليفي إلا مع خروج ابن العلقمي حين مات، كما أشرت إلى ذلك من قبل.
ولقد كان لابن أبي الحديد عزالدين شيوخ ذكر منهم صاحب « نسمة السحر » اثنين وهما: عبدالوهاب ابن سكينة البغدادي، وعمر بن عبدالله الدباس، وذكر الذهبي له تلميذين هما: علي بن أنجب المعروف بابن الساعي (٦٤٧ هـ) صاحب الجامع المختصر في عنوان التاريخ وعيون السير.
وقد ذكر ابن كثير وهويترجم لابن أبي الحديد (١٣: ١٩٩ – ٢٠٠) أن ابن الساعي هذا أورد له كثيراً من مدائحه وأشعاره الفائقة الرائقة.
غير أن جل هذا الكتاب – أعني كتاب ابن الساعي لايزال إلى اليوم مفقوداً ولم يعثر منه إلا على قطعة صغيرة تضم حوادث عشرين سنة من سنة ٥٩٧ هـ ٦٠٦ هـ وثاني التلميذين اللذين ذكرهما الذهبي هوالدمياطي أبومحمد عبدالمؤمن بن خلف، وكان شيخاً للذهبي، وله معجم كان أبي الحديد من بين من انتظمهم هذا المعجم ترجمة وتعريفاً.
ونستطيع أن نظم إلى شيوخ ابن أبي الحديد شيخاً آخر كان بمنزلة الأستاذ الروحي لابن أبي الحديد وهذا الشيخ الروحي هوابن العلقمي الوزير، فلقد كان على حظ من علم وأدب وكان له أثر فيمن حوله من أدباء وعلماء وشعراء إنعاشاً واحياءاً بهباتها ورأيه.
وكان صاحب مكتبة كبيرة أنشأها في داره وكانت تضم نحواً من عشرة آلاف مجلد من نفائس الكتب كان يفيد منها المختلفون إليها لا شك.
وفي ذلك يقول موفق الدين القاسم بن أبي الحديد، أخوعزالدين:
رأيت الخزانة قد زينت | بكتب لها المنظر الهائل | |
بها مجمع البحر لكنه | من الجود ليس لها ساحل | |
ومنها مجمع المهذب من | فضلكم ومغن ولكنه نائل | |
ومنها الوسيط بها ترتجيه | وفيها النهاية والكامل |
وما نظن ابن أبي الحديد عزالدين إلا قد وصل حبله بحبل ابن العلقمي منذ حل بغداد هووأخوه، وما نظن عزالدين وموفق الدين إلا انتفعا بجاه ابن العلقمي كما انتفعا بعلمه منذ أن حلا بغداد، فلقد كان ابن العلقمي موصولا بالديوان الخليفي قبل أن يكون وزيراً، فقد كانت إليه أستاذية منذ ولى نصير الدين الوزارة سنة ٦٢٩ هـ.
فقد رأينا الأخوين ابني أبي الحديد لا ينفكان يهنئانه ويثنيان عليه مع المناسبات، فحين أهدى الخليفة إلى ابن العلقمي بغلة انبرى موفق الدين أخوعزالدين يقول:
هنئت يا خير الملوك ببلغة | من مالك متفضل متطول | |
جاء البشير بها إليك كأنما | جبريل جاء محمداً بالدلدل |
(دلّدل: بلغة الرسول صلى الله عليه وسلم).
وحين ردت جيوش التتار عن بغداد سنة ٦٤٣ هـ وكان الوزير ابن العلقمي قال عزالدين:
أبقى لنا الله الوزير وحاطه | بكتائب من نصره ومقانب | |
وأنا الذي يهواك حبا صادقاً | متقادماً ولرب حب كاذب | |
حبَّا ملأت به شعاب جوانحي | يفعا وها أنا ذوعذار شائب |
وهذا البيت الثالث يدلك على قدم صلة عزالدين بابن العلقمي من قديم كما قلنا.
وقد مر بك طرف مما كتبه عزالدين في مقدمته على شرح نهج البلاغة مشيراً إلى ابن العلقمي، وثمة شيء آخر كان أقوى من جاء ابن العلقمي وعونه وصل بينه وبين عزالدين، وهوالرأي الذي دان به ابن العلقمي ودان به معه عز الدين، فقد كان ابن العلقمي شيعياً رافضيا، أي من الذين رفضوا زيد بن على حين أبي عليهم أن يبرأ من الشيخين.
وكان عزالدين شيعياً أول أمره.
وفي ذلك يقول ابن كثير: وكان حظيّا – يعني عزالدين –عند الوزير ابن العلقمي لما بينهما من المناسبة والمقاربة والمشابهة في التشيع.
وذكر هذا ايضاً العيني في (عقد الجمان).
وما خالف ابن أبي الحديد ولي نعمته كثيراً حين أصبح ابن أبي الحديد معتّزلياً جاحظياً، فمن المعتزلة من يجعلون أفضل الأمة بعد نبيها أميرالمؤمنين علي بن ابي طالب، يقولون أن علياً كان على الصواب وأن من حاربه فهوضال.
والجاحظ الذي تنسب إليه الجاحظية من القائلين بأن الإمامة لا يستحقها إلا الفاضل على كل حال ولاّ يجوز أن تصرف إلى المفضول ما وجد الفاضل.
ويفسر لك هذا أبيات عزالدين التى قالها في ابن العلقمي، حين فرغ من تصنيف الكتاب وأنفذه على يد أخيه موفق الدين، ولم يحمله هوإليه، لا ندري لم، فبعث له ابن العلقمي بمائّة دينار وخلعة سنية وفرس، فكتب عزالدين:
أيا رب العباد رفعت صنعي | وطلت بمنكبي وبللت ريقي | |
وزيغ الأشعري كشفت عني | فلم أسلك ثنيان الطريق | |
أحب الاعتزال وناصريه ذوى | الألباب والنظرالدقيق | |
فأهل العدل والتوحيد أهلي بعونك | ففريقهم أبداً فريقي | |
وشرح النهج لم أدركه إلا | بعونك بعد مجهدة وضيق | |
تمثل إذ بدأت به لعيني هناك | كذرورة الطود السحيق | |
فتم بحسن عونك وهوأنأي | من العيوق أوبيض الأنوق | |
بآل العلقمي ورت زنادي وقامت | بين أهلي الفضل سوق | |
فكم ثوب أنيق نلت منهم ونلت | بهم وكم طرف عتيق |
فعزالدين هنا يصرح بما ناله من فضل وخير من العلقمي وآله كان له أثره في توثيق ما بينه وبين ابن العلقمي، كما يشير إلى صلة وثقى هي الرأي الجامع على حب علي وآله.
والأشعري الذي يذكره ابن أبي الحديد هوعلي ابن إسماعيل بن إسحاق أبوالحسن الأشعري (٣٢٤ هـ) مؤسس مذهب الأشاعرة، وكان من قبل ذلك معتّزليا ثم خرج عليهم.
وكتابه « إمامة الصديق » ينبئك بما كان ينادي به رأي من يخالف رأي الشيعة والمعتزله في إمامة علي.
ويكاد ابن أبى الحديد في بيته «وزيغ الأشعري»، يعطينا الدليل على تلك التلمذة التي أدعيناها من قبل حين ضممنا ابن العلقمي إلى شيوخ ان أبى الحديد.
وهكذا لم يُبعد ابن أبى الحديد اعتّزالُه عن ابن العلقمي في تشيعه، فالمعتزلة والشيعة سواء في تفضيل « علي » كما لم تبعد جاحظية ابن أبى الحديد به عن ابن العلقمي في رافضيته، إذ الرافضة كما علمت يرفضون زيد بن علي لأنه لم يرفض الشيخين والجاحظية لا ترفضه، ولكنها – أعني الرافضية والجاحظية – متفقان على علي[٢].
وهكذا كان عزالدين محبأ لآل البيت.
خرج بهذا الحب من المدائن يعمر به قلبه ويلهج به لسانه وحسبك قصائده السبع العلويات التي أتم نظمها سنة ٦١١ هـ ومما يدل على غلوه في تشيعه قوله في الإمام علي:
من أجله خلق الزمان وضوئت | شهب كأنسن وجن ليل أدرع | |
وإليه في يوم المعاد حسابنا | وهوالملاذ لنا غدا والمفزع | |
هذ اعتقادي قد كشفت غطاءه | سيضر معتقداً له أوينفع |
بهذا المعتقد خرج عزالدين من المدائن، وحين لقى ببغداد ابن العلقمي ورآه يدين بما دان به لف حبله بحبله يفيد من رأيه ويفيد من جاهه ويفيد من مكتبته.
وهذا الاعتزال الذي عرف بابن ابى الحديد قديم قدم تشيعه، صرح به فى قصيدته العينية من القصائد السبع العلويات التى نظمها سنة ٦١١ هـ قبل أن يصرح به في أبياته التي وجهها إلى ابن العلقمي سنة تسع وأربعين وستمائة، وهي السنة التي فرغ فيها من تأليف كتابه شرح نهج البلاغة، فلقد قال في عينيته:
ورأيت دين الاعتزال وأني أهوى لأجلك كل من يتشبع.
ويكاد ابن أبي الحديد يشير في قصيدته تلك إلى أن هذا كان رأى بيته وبه يدين أهله ومن أجله عاشوا مجاهدين، وذلك حين يقول:
ولقد علمت بأنه لا بد من | مهديكم وليومه أتوقع | |
نحميه من جند إلاله كتائب | كأليم أقبل زاخراً يتدفع | |
فيها لآل أبي الحديد صوارم | مشهورة ورماح خط شرع |
ويقول عنه محمد باقر:كان موالياً لأهل بيت العصمة والطهارة وإن كان في زي أهل السنة والجماعة منصفاً غاية الإنصاف في المحاكمة بين الفريقين ومعترفاً في ذلك المصاف بأن الحق يدور مع والد الحسنين.
ويقول الطريحي: وابن أبى الحديد في الأصل معتزلي يستند إلى المعتزلة مدعياً أنهم يستندون إلى شيخهم أمير المؤمنين علي في العدل والتوحيد.
ولقد كان ابن أبي الحديد ورعا أشد الورع يكثر من مناجاته لربه، وله في ذلك أشعار كثيرة منها:
يا مدهش الألباب والفطن | ومحير التقوالة اللسن |
ومنها:
ناجيته ودعوته اكشفْ عن | عشي قلبي وعن بصري وأنت النور | |
وأرفع حجاباً قد سدلت ستوره | دوني وهل دون المحب ستور |
ثم هوبعد ذلك كان عالماً متبحراً له مؤلفات انفرد بذكر أكثرها ابن القوطي، ونقل عنه محمد باقر وزاد ابن شاكر شيئاً وحاجي خليفة شيئاً آخر، وها هي ذي كتبه مستقاة من تلك المصادر:
١- الاعتبار على كتاب الذريعة في أصول الشريعة للمرتضى أبي القاسم علي بن الحسين (٤٣٩ هـ)، ذكره ابن القوطي وذكر أنه في ثلاث مجلدات ونقله عنه هذا محمد باقر.
٢- انتقاد المستصفى للغزالي أبي حامد محمد بن محمد (٥٠٥ هـ)، وكتابه المستصفى هذا في أصول الفقه عنى به بعد الغزالي أكثر من واحد شرحاً وتعلبقاً واختصاراً. وقد ذكر« الانتقاد » هذا ابن القوطي، وتبعه محمد باقر. ولم يعرض له حاجي خليفة وهو يعرض (المستصفى).
٣- الحواشي على كتاب المفصل، في النحوللزمخشري أبي القاسم محمود بن عمر (٥٣٨ هـ). ذكره ابن القوطي وحده ولم يعرض له حاجي خليفة فيما عرض من شروح وتعليقات وتحشيات على كتاب المفصل ذاك.
٤- شرح المحصل للرازي. ذكره ابن القوطي ونقله عنه محمد باقر، وهوكما في كشف الظنون: محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من الحكماء والمتكلمين للإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي (٦٠٦ هـ). والكتاب كما يشير عنوانه يشتمل على أحكام الأصول والقواعد. ذكر هذا الشرح ابن القوطي ونقل عنه محمد باقر. وذكره حاجي خليفة وقال: وعليه تعليقة لعزالدين عبد الحميد.
٥- شرح مشكلات الغرر لأبي الحسن محمد بن علي البصري (٤٦٣ هـ). ذكره ابن القوطي ونقله عنه محمد باقر. كما ذكره حاجي خليفة باسم « غرر الأدلة » ولم يشر إلى شرح مشكلته.
٦- شرح بالوفيات لابن نوبخت، في الكلام. ذكره ابن القوطي ونقل عنه محمد باقر.
٧- العبقري الحسان. ذكره ابن القوطي فقال: وهوكتاب غريب الوضح قد اختار فيه قطعة وافرة من الكلام والتواريخ والأشعار وأودعه شيئاً من إنشاء ومنظوماته. وقد نقل عنه محمد باقر.
٨- الفلك الدائر على المثل السائر لابن الأثير. ذكره ابن القوطي وابن شاكر وابن حبيب ونقله عنهما محمد باقر.
والكتاب اسمه: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، لضياء الدين نصر الله بن محمد بن محمد ابن محمد بن عبدالكريم بن الأثير الجزري (٦٣٧ هـ) وقد ذكر حاجي خليفة وهويعرف بكتاب ابن الأثير كتاب عزالدين هذا فقال: وصف عزالدين وهوعبد الحميد بن هبة الدين محمد المدائني المعتزلي الشيعي أن لأبي الحديد كتاباً سماه الفلك الدائرعلى المثل السائر ثم ذكر شيئاً من أوله. وكتاب ابن أبي الحديد هذا مطبوع.وهوكتاب صغير. وقد سقنا شيئاً من مقدمته، وأنه ألفه للمستنصر بدأ فيه في ذي الحجة سنة ٦٣٣ هـ وفرغ منه في خمسة عشرة يوماً.
٩- القصائد السبع العلويات. ذكرها ابن القوطي وحده، وقد طبعت ومعها القصيدة الأزرقية لمحمد كاظم.
١٠- نظم فصيح ثعلب أبي العباس أحمد بن يحيى (٢٩١ هـ). ذكره ابن شاكر وابن حبيب كما ذكره حاجي خليفه وهويعرض فصيح ثعلب فقال: ونظمه القاضي شهاب الدين محمد بن أحمد الخولي المتوفى سنة ٦٩٣ هـ وعزالدين عبد الحميد بن هبة الله المدائني.
١١- نقض المحصول في علم الأصول. كذا ذكره ابن القوطي وكما ذكره ابن القوطي نقله محمد باقر. وذكره حاجي خليفة باسم: المحصول في أصول الفقه لفخر الدين محمد بن عبدالله الرازي (٦٠٦ هـ). ثم قال: وعلق عليه أحمد بن عثمان بن ضبيع الجوزجاني (٧٤٤ هـ) وكذا عز الدين عبدالحميد بن هبة الله المدائني المعتزلي.
١٢- الوشاح الذهبي في العلم الأبي. ذكره ابن القوطي ونقله عنه محمد باقر.
١٣- ديوان الشعر. ذكره ابن شاكر.
١٤- المستنصريات – جاءت في مقدمة الطبعة الجديدة من شرح النهج. وفيها: كتبها برسم الخليفة المستنصر. ومنها نسخة بمكتبة النجف.
١٥- زيادات النقيضين (زيادات التقصير) – جاء ذكره على لسان ابن أبي الحديد (انظر ص ١٣٧ من هذا المقال). ولم يذكره مرجع من المراجع.
وبعد هذه كلها: شرح نهج البلاغة. وهوما سنتحدث عنه.