ابراهيم الابياري
شرح نهج البلاغة
وهذا الكتاب يعد أجل عمل قام به عز الدين عبد الحميد. لم يسكت عنه واحد ممن أرخوا له، هذا إذا استثنينا الذهبي في كتابه « سيرأعلام النبلاء» فإنه لم يعرض لمؤلفات ابن أبي الحديد من قرب أومن بعد، وابن حبيب في «درة الأسلاك » فإنه لم يذكر « غير الفلك الدائر »، ثم هم حين ذكروا هذا المؤلف أفردوه بالإعجاب من بين كتبه الأخرى.
بقول ابن القوطي في كتابه (معجز الآداب):وقد احتوى هذا الشرح على ما لم يحنوعليه كتاب من جنسه.
ويقول ابن يحيى في كتابه « نسمة السحر»: جمع فيه العجائب ودلّ على فضله وغزارة مادته.
ويقول محمد باقر في كتابه روضات الجنات: وحسب الدلالة على علومنزلته في الدين وغلوه في ولاية أمير المؤمنين شرحه الشريف الجامع لكل نفيسة وغريب الحاوي لكل نافحة ذات طيب من الأحاديث النادرة والأقاصيص الفاخرة والمعارف الحقانية والعوارف الإيمانية.
والكتاب مجزأ إلى عشرين جزاً. ذكر ذلك ابن القوطي وابن شاكر في كتابه الفوات وعيون التواريخ والعيني في كتابه عقد الجمان، وتبعهم حاجي خليفة في كتابه كشف الظنون. غير أنهم جميعاً جعلوه عشرين مجلداُ لا عشرين جزءا، على حين نجد المؤلف ابن أبي الحديد يسمى التقسمة أجزاء لا مجلدات. فيقول: انتهى الجزء الأول، وحين يختم كتابه يقول: آخر الجزء العشرين وبه تم الكتاب.
وثم مؤرخ متأخر وهوصاحب « نسمة السحر » يخرج على هذا الإجماع فيقول: في نحوأربع مجلدات. وظاهر أن ثمة صلة بين هذه التجزئة والتجزئة التي يخرج بها الكتاب مطبوعاً في مصر سنة ١٣٢٩ هـ، على حين أن هذه الطبعة المصرية جاءت لاحقة لطبعة حجر في فارس كانت سنة ١٢٧١ هـ خرجت في مجلدين.
وقد ذكر ابن أبي الحديد في مقدمة كتابه (١: ٢) أنه لم يشرح هذا الكتاب – يعني: نهج البلاغة – قبله فيما يعلم غير واحد. هوسعيد بن هبة الله بن الحسن، المعروف بالقطب الراوندي (٥٧٣ هـ).
ولكن الشيخ هبة الدين الشهرستاني الحسيني يذكر في كتابه « ما هونهج البلاغة » نقلا عن شيخه النوري (١٣٢٠ هـ).
شراحاً سبعة سبقوا ابن أبي الحديد وهم كما ذكرهم:
١- أبوالحسن البيهقي على بن زيد بن محمد (٥٦٥ هـ).
٢- الإمام فخر الدين الرازي محمد بن عمر بن الحسين (٦٠٦ هـ) ذكر له القفطي في كتابه تاريخ الحكماء هذا الشرح وهويترجم له وقال: إنه لم يتمه.
٣- القطب الراوندي. وقد سمى شرحه: منهاج البراعة، في مجلدين.
٤- القاضي عبد الجبار.
٥- الحسن بن علي بن أحمد الماهابادي، شيخ الشيخ منتجب الدين صاحب الفهرست.
٦- أبوالحسن محمد بن الحسين بن الحسن البهقي الكيدري. واسم شرحه: الإصباح. فرغ من تأليفه سنة ٥٧٦ هـ.
٧- شرح آخر قبل شرح الكيدري يسمى: المعراج.
ولقد أحصى الشيخ النوري من شروح هذا الكتاب ستاً وعشرين بما فيها شرح ابن أبي الحديد، وزاد عليه تلميذه هبة الدين تسعة عشر شرحاً، منها ما هوبالفارسية، وهو شرح فتح الله بن شكر الله الكاساني. وقد سماه: تنبيه الغافلين وتذكرة العارفين.
والكتاب كما يملي عنوانه شرح لكتاب آخر هونهج البلاغة الرضي محمد بن الحسين (٤٠٦ هـ)، لا للشريف المرتضى أخيه، كما يتوهم البعض.
ولقد وقع في هذا الخطأ جملة من الذين شغلوا بفهرسة الكتب العربية منهم إدوارد فانديك في كتابه: اكتفاء القنوع. وحاجي خليفة في كتابة كشف الظنون. فقد نسبه هوالآخر للشريف المرتضى مع شك في هذه النسبة، وأثبت بعض فهارس دور الكتب العامة هذا الخطاء منها فهارس دار الكتب المصرية.
ومرد هذا الخطأ إلى أن الشريف الرضي كان يلقب هوالآخر بالمرتضى، احتفاظاً بلقب الجد إبراهيم بن موسى بن جعفر، الذي كان يلقب بالمرتضى، وبقى الأخوان محمد وعلي يلقب كل منهما بالمرتضى إلى أن أصبح محمد نقيباً على نقباء العلويين فلقبوه الرضي ليتميز عن بقية آل المرتضى.
هذا والأسانيد متواترة على صحة نسبته إليه – أعني التي كتبت بخطه لا تزال موجودة[١] ولقد جمع الرضي من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فاستوعب مائتين واثنتين وأربعين (٢٤٢) خطبة، وثمانية وسبعين كتاباً، وثمانية وتسعين وأربعمائة (٤٩٨) حكمة.
جمع الرضي ذلك كله عن مؤلفين سبقوه إلى هذا الجمع، جمعوا الكثير من هذه الخطب، منهم:
١- الكليني محمد بن يعقوب (٣٢٨ هـ) في كتابيه: الكافي والرسائل.
٢- محمد بن بابويه القمي (٣٨١ هـ).
٣- أحمد بن عبد ربه (٣٢٧ هـ) في كتابه: العقد الفريد.
٤-الآبي أبوسعيد منصور (٤٢٢ هـ) في كتابه: نثر الدرر.
وقد ذكر المسعودي (٣٤٦ هـ) أن الخطب المنقولة عن أمير المؤمنين علي عليه السلام هي أربعمائة ونيف وثمانون خطبة.
والطاعنون في نسبة هذه الخطب كلها أوبعضها إلى الإمام علي، وعلى رأسهم الذهبي أبوعبدالله محمد بن أحمد (٧٤٨) حيث يقول في كتابه: « ميزان الاعتدال » ومن طالع كتاب نهج البلاغة جزم بأنه مكذوب على أميرالمؤمنين علي رضي الله تعالى عنه، فإنه فيه السب الصريح للسيدين: أبي بكر وعمر.
ويشير الذهبي بهذا – مع غيره من المتشككين في نسبة الكتاب – إلى الخطبة الشقشقية التي تحدث فيها على عن الخلافة وتولي أبي بكر لها ثم عمر وما فيها من صراحة ألفت عن علي حين كان يرى الحق في جانبه.
وهذه الخطبة رواها قبل الرضي جملة منهم:
١- شيخ المعتزلة أبوالقاسم البلخي (٣١٧ هـ). وقد ذكره ابن أبي الحديد في شرحه للشقشقية.
٢- أبوجعفر بن قبة (المائة الثالثة) وقد ذكره ابن أبي الحديد كذلك في شرحه للشقشقية.
٣- أحمد بن محمد البرقي (٢٧٤ هـ) وقد أورد هذه الخطبة في كتابه: علل الشرائع، وهومطبوع.
٤- عبد العزيز بن يحيى الجلودي (القرن الثالث) في كتابه: معاني الأخبار. وهومطبوع.
٥- أبوعبدالله محمد بن محمد بن النعمان المفيد، وهومن شيوخ الرضي، وروى هذه الخطبة في كتابه: الإرشاد، وهومطبوع.
٦- الجبائي محمد بن عبد الوهاب (٣٠٣ ه) في كتابة الفرقة الناجية وقد عرض ابن أبي الحديد لدفع هذا الطعن في شرحه (ج: ٥٤٦ هـ) بكلام طويل نقتطع منه: كثير من أرباب الهوى يقولون: إن كثيراً من نهج البلاغة كلام محدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة وربما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن وغيره. وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم فضلوا عن النهج الواضح ».
والكلام في هذا كثير إن شئت عنه تفصيلا فارجع إلى كتاب « ما هونهج البلاغة » لهبة الدين الشهرستاني، و«علي » للأستاذ أحمد صفوت.
وهذا الشرح – شرع فيه أبي الحديد بتوجيه الوزير ابن العلقمي في غرة شهر رجب من سنة أربع وأربعين وستمائة (٦٤٤ هـ) وفرغ منه في سلخ شهر صفر من سنة تسع وأربعين وستمائة (٦٤٩ هـ) أي إنه أتمه في نحومن خمس سنين وهي مقدار مدة خلافة أمير المؤمنين عليه السلام، كما يقول ابن أبي الحديد.
وظاهر أن ابي الحديد كان مشغولا بنهج البلاغة صغيراً وأنه كانت له حوله محاولات ضئيلة لا تعدوذكر الغريب، يدل على ذلك قوله في مقدمته: وشرع فيه – وهو يعني نفسه – بادي الرأي شروع مختصر، وعلى ذلك الغريب والمعنى مقتصر.
غير أنه رأى هذا لا يجزئ ولا يتفق، وذاك التكليف تكليف ابن العلقمي، فعدل عنه إلى غيره مما فيه إطالة وبيان، وهويشير إلى ذلك في مقدمته حين يقول:
فرأى أن هذه النغبة – الجرعة – لا تشفي أواما، ولا تزيد الحائم إلا حياما، فتنكب ذلك المسلك، ورفض ذلك النهج وبسط القول في شرحه بسطاً، اشتمل على: الغريب، والمعاني، وعلم البيان، وما عساه يشتبه ويشكل من إلاعراب والتصريف، وأورد في كل موضع ما يطابقه من النظائر والأشباه نثراً ونظماً، وذكر ما يتضمن السير والوقائع والأحداث فصلا فصلا، وأشار إلى ما ينطوي عليه من دقائق علم التوحيد والعدل إِشارة خفية، ولوح إلى ما يستدعي الشرح ذكره من الأنساب والأمثال والنكت تلويحات لطيفة، ورصعه من المواعظ الزهدية والزواجر الدينية والحكم النفسية وآداب الخليقة المناسبة لفقره والمشاكلة لدرره والمنظمة مع معانيه في سمط. وأوضح ما يومىء إليه من المسائل الفقهية، وكشف عن مقاصده عليه السلام في لفظة يرسلها ومعضلة يكنى عنها وغامضة يعرض عنها .
كل هذا ضمنه ابن أبي الحديد شرحه معقباً في مواضع منه عى القطب الراوندي سعيد بن هبة الله بن الحسن في شرحه، وهوالشرح الذي يقول ابن أبي الحديد: أنه لم يسبق إلا به وذلك حين يقول في مقدمته: وقد تعرضت في هذا الشرح لمناقضته في مواضع يسيرة اقتضت الحال ذكرها، وأعرضت عن كثير مما قاله لم أر في ذكره ونقضه كثير فائدة.
وابن أبي الحديد قبل أن يأخذ في الشرح مهد بذكر:
١- أقوال أصحابه في الإمامة والتفضيل والبغاة والخوارج.
٢- نسب أمير المؤمنين عليه السلام ولمع يسيرة من فضائله.
٣- نسب الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين وبعض خصائه ومناقبه.
٤- شرح خطبة نهج البلاغة التي هي من كلام الرضي.
ثم أخذ في شرح كلام أميرالمؤمنين علي عليه السلام في ضوء هذا النهج الذي رسمه يجمع تلك المعاني كلها التي أشارإليها لا يفوته شيء، مجزئاً النص فقرا، ثم يعقب على الفقر بشرحه مشيراً إلى النص بكلمة « الأصل » وإلى كلامه على النص بكلمة « الشرح » وفي ذلك يقول:
ونجعل ترجمة الفصل الذي نروم شرحه « الأصل » فأذا أنهيناه قلنا « الشرح » فذكرنا ما عندنا فيه.
وحسبك بعد ذلك هذا النموذج من عمل ابن أبي الحديد لتتعرف مدى جهده. ومدى إفاضته، فهوحين يشرح خطبة للإمام علي يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم لا تعدوكلمات هذه الخطبة تسعمائة كلمة بشرحها ابن أبي الحديد في نحوأربعين صفحة لا تقل كلمات كل صفحة عن سبعمائة كلمة، وإذا هويسوق الحديث عن:
١- معنى الحمد والمدح والشكر.
٢- رؤية الباري تعالى في الاخرة والرد على الأشاعرة.
٣- كمال معرفة الباري والتصديق به.
٤- خلق السموات والأرض وبيان ما قيل في ترتيب خلقها.
٥- تعريف الملائكة وأنسابهم.
٦- رؤساء الملائكة عند أهل الملة والفلاسفة وصفة خلق آدم.
٧- خلق آدم عليه السلام وسجود الملائكة الإ إبليس.
٨- اختلاف المسلمين واليهود والنصارى والهنود والمجوس في ابتداء خلق البشر.
٩- بطلان تصويب إبليس والاختلاف في خلق الجنة والنار.
١٠- تفضيل الملائكة على البشر وأن إبليس من الملائكة أم لا.
١١- الميثاق المأخوذ من الأنبياء.
١٢- بيان اختلاف الناس وخصوصاً العرب في الملل والنحل.
١٣- بيان ما اشتمل عليه القرآن من الحلال والحرام والخاص والعام.
١٤- فضل الكعبة وزائريها.
فيقول:
(الأصل):
فمن خطبة له عليه السلام يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم:
(الحمدلله الذي لا يبلغ مدحه القائلون، ولا يحصى نعماءه العادون، ولا يؤدي حقه المجتهدون، الذي لا يدركه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حد محدود، ولا نعت موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود، فطر الخلائق بقدرته، ونشر الرياح برحمته. ووتد بالصخور ميدان أرضه).
(الشرح).
الذي عليه أكثر الأدباء والتكلمين أن الحمد والمدح أخوان، لا فرق بينهما. تقول: حمدت زيداً على إنعامه، ومدحته على إنعامه، وحمدته على شجاعته وفهما سولء يدخلان فيما كان من فعل الأنسان، وفيما ليس من فعله، كما ذكرناه من المثالين.
فأما الشكر فأخص من المدح. لأنه لا يكون الإ على النعمة خاصة، ولا يكون إلا صادراً من منعم، فلا يجوز أن يقال: شكر زيد عمراً لنعمة أنعمها عمروعلى إنسان غير زيد.
إن قيل: الاستعمال خلاف ذلك، لأنهم يقولون: حضرنا عند فلان فوجدناه يشكر الأمير على معروفه عند زيد. قيل: ذلك إنما يصح إذا كان إنعام الأمير على زيد أوجب سرور فلان، فيكون شكر إنعام الأمير على زيد شكراً على السرور الداخل على قلبه بالإنعام على زيد، وتكون لفطة « زيد » التي استعمرت ظاهراً لاستناد الشكر إلى مسماها كناية لا حقيقة، ويكون ذلك الشكر شكراً باعتبار السرور المذكور ومدحا باعتبار آخر وهوالمناداة على ذلك والثناء الواقع بجنسه.
ثم إن هولاء المتكلمين الذين حكينا قولهم يزعمون أن الحمد والمدح والشكر لا يكون إلا باللسان مع انطواء القلب على الثناء والتعظيم، فإن استعمل شيء من ذلك في الأفعال بالجوارح كان مجازاً. وبقي الحديث عن اشتراطهم مطابقة القلب للسان، فإن الاستعمال لا يساعدهم، لأن أهل الاصطلاح يقولون لمن مدح غيره وشكره رياء ومسمعة: إنه قد مدحه وشكره، وأن كان منافقاً عندهم.
ونظير هذا الموضع الإيمان، فإن أكثر المكتلمين لا يطلقونه على مجرد النطق اللساني، بل يشترطون فيه الاعتقاد القلبي، فأما أن يقصروا به عليه، كما هومذهب الأشعرية والإمامية، أوتؤخذ معه أمور أخرى، وهي فعل الواجب وتجنب القبيح، كما هومذهب المعتزلة، ولا يخالف جمهور المتكلمين في هذه المسألة إلا الكرامية، فأن المنافق عندهم يسمى مومناً، ونظروا إلى مجرد الظاهر، فجعلوا النطق اللساني وحده إثماً.
والمدحة: هيئة المدح: كالركبة في هيئة الركوب، وجلسة، في هيئة الجلوس، والمعنى مطروق جد. ومنه في الكتاب العزيز كثير، كقوله تعالى « وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ».
وفي الأثر النبوي: لا احصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
وقال الكتاب من ذلك ما يطول ذكره. فمن جيد قول بعضهم: الحمدلله على نعمة التي منها إقدارنا على الاجتهاد في حمدها، وإن عجزنا عن إحصائها وعدها.
وقالت الخنساء بنت عمروبن الشريد:
فما بلغت كف أمريء متناول بها | المجد إلا والذي نلت أطول | |
ولا صير المثنون في القول مدحة | وأن أطنبوا إلا وما فيك أفضل |
ومن مستحسن ما وقفت عليه من تعظيم الباري عز وجل بلفظ « الحمد » قول بعض الفضلاء في خطبة أرجوزة علمية:
الحمد لله بقدرالله لا قدر | وسع العبد ذي التناهي | |
والحمدلله الذي برهانه أن | ليس شأن ليس فيه شأنه | |
والحمد لله الذى من ينكره | فإنما ينكر من يصوره |
فإنما ينكر من يصوره وأما قوله « الذي لا يدركه » فيريد أن همم النظار وأصحاب الفكر، وإن علت وبعدت، فإنها لا تدركه تعالى ولا تحيط به. وهذا حق، لأن كل متصور فلا بد أن يكون محسوساً أومتخيلا أوموجودا من فطرة النفس. والاستقراء يشهد بذلك. مثال المحسوس السواد والحموضة، مثال المتخيل إنسان يطير أوبحر من دم.
مثال الموجود من فطرة النفس تصور الألم واللذة.
ولما كان البارى سبحانه خارجاً عن هذا أجمع لم يكن متصوراً.
فأما قوله « الذي ليس لصفته حد محمدود » فإنه يعني بصفته ها هنا كنهه وحقيقته. يقول: ليس لكنهه حد فيعرف بذلك الحمد، قياساً على الأشياء المحدودة لأنه ليس بمركب، وكل محدود مركب.
ثم قال « ولا نعت موجود » أي ولا يدرك بالرسم كما تدرك الأشياء برسومها، وهوأن تعرف بلازم من لوازمها، وصفة من صفائها.
ثم قال: « ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود » فيه إشارة إلى الرد على من قال: إنا نعلم كنه الباري سبحانه لا في هذه الدنيا بل في آخرة. فإن القائلين برؤيته في الاخرة يقولون: أنما نعرف كنهه. فهوعليه السلام رد قولهم وقال: إنه لا وقت أبداً على الإطلاق تعرف فيه حقيقته وكنهه لا الآن ولا بعد الآن، وهوالحق، لأنه لورأيناه في الآخرة وعرفنا كنهه لتشخص تشخصاً يمنع من حمله على كثيرين، ولا يتصور أن يتشخص هذا التشخص إلا ما يشار إلى جهته ولا جهة له سبحانه. وقد شرحت هذا الموضوع في كتابي المعروف بزيادات النقيضين.
وبينت أن الرؤية المنزهة عن الكيفية التي يزعمها أصحاب الأشعري لا بد فيها من إثبات الجهة، وأنها لا تجري مجرى العلم لأن العلم لا يشخص المعلوم، والرؤية تشخص المرئي، والتشخيص لا يمكن إلا مع كون المتشخص ذا جهة.
واعلم أن نفي الإحاطة مذكور في الكتاب العزيز في مواضع، منها قوله تعالى (ولا يحيطون به علماً) ومنها قوله (ينقلب إليك البصر خاشعاً وهوحسير).
وقال بعض الصحابة: العجز عن درك الإدراك إدراك. وقد غلا محمد بن هانيء المغربي فقال في ممدوحه المعز أبي تميم معد بن المنصور العلوي:
أتبعته فكري حتى إذا بلغت غاياتها بين تصويب وتصعيد
رأيت موضع برهان يلوح وما رأيت موضع تكييف وتحديد
وهذا محدح يليق بالخالق تعالى ولا يليق بالمخلوق.
فأما قوله « فطرالخلائق... (إلى آخر الفصل، فهوتقسيم مشتق من الكتاب العزيز بقوله « فطر الخلائق بقدرته) من قوله تعالى (قال رب السموات والأرض وما بينهما).
وقوله « نشر الرياح برحمته » من قوله (يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته).
وقوله « ووتد بالصخور ميدان أرضه » من قوله (والجبال أوتاداً). والميدان: التحرك والتموج.
وبعد هذا الذي أورده ابن ابي الحديد يفسح لرأي المتكلمين فوق إفساحه لرأي اللغويين، ثم بكل هذا وذاك بسوق أمثله من الأدب نثراً وشعراً، تراه يعرض لما قاله الراوندي ليناقضه.
كما أشار إلى ذلك في مقدمته، وها نحن نعرض ما قاله من ذلك لتكتمل الصورة:
يقول:
فأما القطب الراوندي رحمه الله فإنه قال:إنه عليه السلام أخبر عن نفسه بأول هذا الفصل أنه يحمد الله. وذلك من ظاهر كلامه. ثم أمر غيره، من فحوى كلامه أن يحمدالله.
وأخبر عليه السلام أنه ثابت على ذلك مدة حياته، وأنه يجب على المكلفين ثبوتهم عليه ما بقوا. ولوقال أحمدلله، لم يعلم منه جميع ذلك. ثم قال: والحمدلله أعم من الشكر. والله أخص من الإله.
قال: فأما قوله: الذي لا يبلغ مدحته القائلون. فأنه أظهر العجز عن القيام بواجب مدائحه فكيف بمحامده. والمعنى أن الحمد كل الحمد ثابت للمعبود الذي حققت العبادة له في الأزل واستحقها حين خلق الخلق: وأنعم بأصول النعم التي يستحق بها العبادة.
ولقائل أن يقول: إنه ليس في فحوى كلامه أنه أمر لغيره أن يحمد الله. وليس يفهم من قوله بعض رعية الملك لغيره منهم: العظمة والجلال لهذا الملك، أنه قد أمرهم بتعظيمه وإجلاله. ولا أيضاً في الكلام ما يدل على أنه ثابت على ذلك مدة حياته، وأنه يجب على المكلفين ثبوتهم عليه ما بقوا.
وبعد هذا العرض لقول الراوندي يأخذ ابن أبي الحديد في الرد على الراوندي فيقول: ولا أعلم كيف قد وقع ذلك للراوندي، فأنه زعم أن العقل يقتضي ذاك فحق، ولكنه ليس مسفتاداً من الكلام، وهو أنه قال: إن ذلك موجود في الكلام.
فأما قوله: لوكان قال: أحمد لله لم يعلم معه جميع ذلك، فأنه لا فرق في انتفاء دلالة « أحمدلله» على ذلك، ودلالة « أحمد لله»، وهما سواء في أنها لا يدلان على شيء من أحوال غير القائل، فضلا عن دلالتهما على ثبوت ذلك ودوامه في حق غير القائل.
وأما قوله: الله أخص من الإله، فإن أراد في أصل اللغة، فلا فرق، بل الله هوالإله، وفخم بعد حذف الهمزة. هذا قول كافة البصريين. وإن أراد أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون على الأصنام لفظة الآلهة ولا يسمونها الله فحق. وذلك عائد إلى عرفهم واصطلاحهم لا إلى أصل اللغة والاشتقاق، ألا ترى أن الدابة في العرف لا تطلق على القلملة وأن كانت في أصل اللغة دابة.
فأما قوله: قد أظهر العجز عن القيام بواجب مدائحه فكيف بمحامده. فكلام يقتضي أن المدح غير الحمد. ونحن لا نعرف فرقاً بينهما.
وأيضاً فإن الكلام لا يقتضي العجز عن القيام بالواجب لا من المادح ولا من المحامد ولا فيه تعرض لذكر الوجوب وإنما نفي أن يبلغ القائلون مدحته. لم يقل غير ذلك.
وأما قوله: الذي حقت العبادة له في الأزل واستحقها حين خلق الخلق وأنعم بأصول النعم فكلام ظاهره متناقض. لأنه إذا كان إنما استحقها حين خلق الخلق.
فكيف يقال: إنه استحقها في الأزل. وهل يكون في الأزل مخلوق ليستحق عليه العبادة.
واعلم أن المتكلمين لا يطلقون على البارى سبحانه أنه معبود في الأزل أومستحق للعبادة في الأزل إلا بالقوة لا بالفعل، لأنه ليس في الأزل مكلف يعبده تعالى ولا أنعم على أحد في الأزل بنعمة يستحق بها العبادة حتى أنهم قالوا في الأثر الوارد: يا قديم الإحسان: إن معناه أن إحسانه متقادم العهد لا أنه قديم حقيقة كما جاء في الكتاب العزيز (حتى عاد كالعرجون القديم) أي الذي قد توالت عليه الأزمنة المتطاولة.
وعلى هذا النحو يمضى ابن أبي الحديد يعرض شرح الراوندي جزءاً جزءاً وينقض هذا الشرح جزءاً جزءاً.
وهذه المناقضة لا شك تثير حول الأصل نقطاً يتولاها بالجلاء والوضوح، فهي على هذا جزء مكمل لشرح ابن أبي الحديد.
وهذا الاستطراد الذي تراه هنا حول آراء نقدية أوآراء للمتكلمين ترى مثله حول الوقائع والأيام والرجال. فحين يعرض ابن أبي الحديد لشرح كلمة من كلام علي بن أبي طالب لأبنه محمد بن الحنيفة لما أعطاه الراية يوم الجمل. يتكلم عن يوم الجمل، كما يترجم لمحمد بن الحنيفة ترجمة طويلة، كما يستطرد فيذكر شيئاً عن يزيد بن الملهب لأنه خطب أصحابه يوم واسط فاقتبس كلمة من كلام علي لابنه محمد بن الحنفية.
والكتاب بهذا كله يعد موسوعة جامعة لشتى المعارف اللغوية والأدبية والكلامية والتاريخية والأيام وسير الرجال.
وبعد فإن محمد باقر يتناسى في كتابه « روضات الجنات » جميع الشروح التي عرضت لشرح النهج ويقصر حديثه على اثنين منها، يوازن بينهما وبين شرح ابن أبي الحديد ناقلا عن شيخ من شيوخه: فيقول:
شرح ابن أبي الحديد على مذاق المتكلمين مع ضغث من التصوف وضغث من الحكمة.
وشرح الميثم – وهويعني كمال الدين ميثم بن علي ابن ميثم البحراني ٦٧٩ هـ. وهومطبوع – على مذاق الحكماء وأهل العرفان.
وشرح الميرزا علاء الدين الحسيني الأصفهاني الملقب بكلستانه – واسم شرحه: بهجة الحدائق، وهومختصر – على مذاق الإخباريين. ثم قال: ابن أبي الحديد متكلم كتب على طرز الكلام وابن ميثم حكيم كتب على قانون الحكمة وكثيراً ما يسلط يد التأويل على الظواهر فيما مجال لا للتأويل فيه، وابن أبي الحديد مع تسننه قد يتوهم من شرحه تشيعه وابن الميثم بالعكس.
وشرح ابن ابي الحديد كما قلت لك طبعت طبعته الأولى طبع حجر في فارس سنة ١٢٧١ هـ في مجلدين وطبعت طبعة الثانية في مصر بمطبعة مصطفى الحلبي سنة ١٣٢٩ هـ في أربعة مجلدات يضم كل مجلد منها خمسة أجزاء من تجزئة المؤلف.
وقد شرعت دارإحياء الكتب العربية في طبعه طبعة ثالثة أخذت فيها منذ سنة ١٣٧٨ هـ ١٩٥٨ م على تجزئة جديدة صغيرة لا ندري كم ستستوعب من أجزاء.
ولشرح ابن أبي الحديد هذا مختصر اختصره الفقيه الجامع المولى سلطان محمود ابن غلام الطبسي.
ذكر ذلك النوري شيخ هبة الدين في مستدركه على الرسائل (ص ٨٠٥).