كان للاتصال الطويل الذي صاحب حياة الإمام علي (عليه السلام) بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أثر أدبي خالد في نفسه، ذلك الاتصال المتمخض عن طفولته وشبابه، وليس أدلّ على ذلك من تلك الروح القوية التي أطلَت من آثاره، والتي اتلعت جيدها وتفجرت في خطبه ورسائله، فكشفت عن أرفع أسلوب لم يزل نبراسا لكل مدلج.
وكان (عليه السلام) إلى جانب ذلك كثيرالاهتمام بتلاوة القرآن الكريم وبحث معانيه، وتفسير آياته، ومن هنا سلس قياد اللغة والفصاحة له فاضحى علما مفوها، وأديبا ممتازاً ضرب بالفصاحة والبيان بأوفى نصيب، فكان قوي المنطق، فصيح اللهجة، عذب الحديث، تنفجر البلاغة من كلامه، واعظاً تخشع لعظاته القلوب، وخطبه في الحث على الجهاد، وسائله إلى معاوية التي تعرضت لألوان الحياة في عهده، وعهده للاشتر، تقف اليوم في الصف الأول من بدائع العقل، وقوة الأسلوب، والتمكن من اللغة وفنونها واعجازها.
وهذا كتاب (نهج البلاغة) الذي جمعه الشريف الرضي من كلامه عليه السلام مراّة تعكس لنا صوراً تنبض بالفن والحياة.
قال الشيخ: محمد عبده في وصف (نهج البلاغة):
(انه حاو جميع ما يمكن للكاتب والخاطب من أغراض الكلام، فقد تعرض للمدح والذم الأدبي، والترغيب في الفضائل، والتنفير عن الرذائل، وللمحاورات السياسية، والمخاصمات الجدلية، ولبيان حقوق الراعي على الرعيّة، وحقوق الرعية على الراعي، واتى على الكلام في أصول المدنية، وقواعد العدالة، وفي النصائح الشخصية والمواعظ العمومية).
ويحق للمرء أن يعتز وهو يطالع ما جاء في نهج البلاغة ولما ضمّ دفّتيه من علم غزير، وأن يزداد اعتزازاً وفخراً كلما ازداد قراءة وتعمقاً بهذا السفرالجليل، وقد جمع هذا الكتاب الفريد علوماً كثيرة، منها المنطق والفلسفة والبلاغة والسياسة والقانون ومن العلوم الطبيعية الحديثة.
وذلكم الإمام علي واضع هذا (النهج العظيم)، امام الفصحاء، وسيد البلغاء، وفي كلامه قيل « دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوقين »، ومع ما بلغه من الذيوع والاشتهار فقد أبت عقول أهل الأهواء والغرائز المعوجة، والاذهان السادرة إلاّ أن تلصق به التهم المختلفة وأقاويل الزور والبهتان بنسبته إلى جامعه السيد الشريف الرضي، وكلما زادت حدّة الاقاويل المنحرفة عن نهج الحق بشأن (النهج العظيم) ازدادت الحاجة إلى كتاب يجمع أسانيد نهج البلاغة من كتب الفريقين لإثبات نسبته للإمام عليه السلام وبشكل لا يقبل الجدل والارتياب، وهذا ما وفق العلاّمة الحسيني في كتابه (مصادر نهج البلاغة واسانيده)، الذي عانى في سبيل تأليفه الجهود المضنية أيّده الله وجازاه خير جزاء المحسنين.
ولدى صدوره الاول استقبله رجالات العلم والأدب بما يليق به من تقدير وتثمين كونه سدّ فراغاً كبيراً في المكتبه العربية والإسلامية أثبت فيه مؤلفه المفضال أن الشريف الرضي ليس له فيه سوى الجمع والاختيار، والترتيب والتبويب، و برهن بالإدلة والوثائق التأريخية أن كل ما حواه (النهج) مروي عن أمير المؤمنين، مشهور النسبة إليه، وأن كلّ اولئك الذين تطاولوا على (نهج البلاغة) أو تحاملوا على جامعه، ان هم إلاّ قوم دعاهم الهوى فأجابوه، وقادهم التعصب الأعمى فاتبعوه.
وقد جاء الكتاب باربعة أجزاء، وبلغت صفحاته إلى ما يناهز الألفين، واتسم بالمنهج العلمي الحديث المتبع في الدراسات الاكاديمية بالنسبة إلى تنسيق الفصول والأبواب، وتنضيد المادة ودقة الانسجام بين ما تنتهي منه، وما تمهد له، بشكل يحقق وحدة الموضوع، وتكامل اجزائه فكان ان تراصت نتائج البحث، وتلاءمت خلاصاته بما يضمن له الرجحان في موازين البحوث الرصينة.
فإذا ما عرفت الكتاب ونفيس محتواه فلا ريب أن يتلاقفه القراء، ويجله العلماء وينوه بذكره الأدباء وهذه بعض التواريخ الشعرية التي أشادت بالكتاب ومصنفه، وفيها ما فيها من باهر الدلالات على سبق المؤلف في العلوم والكمالات، فمما قاله: الميرزا محمد الخليلي الطبيب:
كم شك في النهج قوم من مبغض ومكابرْ | فالبعض ينسبه للرضي إذْ كان حائرْ |
وآخر قال هذا ملفقات الأواخر:
لذاك قام الخطيب الأديب نهضة خادرْ | فانظر بعقلك واسأل ذوي الحجى والبصائر | |
فسوف ترضي ضميراً لا بل سترضي ضمائرْ | فاقرا وأرخ وفاقاً (للنهج هذي المصادر) ١٣٨٧ هـ |
وقال السيد علي الهاشمي الخطيب:
للسيد الندب سفر بدا ليجلو الدياجر | (مصادر) منه وافت عبّاقة كالأزاهر | |
لكل حبر صحيح به (الصحاح) تفاخر | (نهج البلاغة) نهج لكلّ ناه وآمر | |
وحجة تتجلَّى منه لأهل المنابر | يا رائد الفضل أرخّ (فقل بخير المصادر) ١٣٨٨هـ |
وقال السيد علي رضا الهندي:
في العلم كان فراغ وقد سددت فراغهْ | بخير سفر جليل مصادراً وصياغةْ | |
نور الهدى فيه أرّخ (ونور نهج البلاغةْ) ١٣٨٩هـ |
مع مؤلف الكتاب:
هو السيد عبد الزهراء بن السيد حسين بن السيد جبر خفي بن نوح بن ناصر بن علي بن خّفّان بن ياسر الكبير بن شوكة بن عبدالله الحسين بن أبي الحسين علي المعروف بابن الشوكية بن أحمد بن أبي عبدالله بن الشريف ابي الهيجاء محمد بن زيد الاسود المكنى بابي الحسين بن الحسين بن اي الحسن علي كتيلة بن يحيى بن يحيى بن الحسين ذي الدمعة بن زيد الشهيد بن الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
ما يمتاز به هذا العالم الجليل، والغطريف النبيل، سعة اطلاعه، وطول باعه، ووفور فضله، وعزّ منابت أصله،وسعة أفقه، وسلامة منطقه، ومداركه العلمية، وثقافته الموسوعية، لذا فهو مدرسة متنقلة في الحل والترحال، يأنس به القريب ويستفيد، ويشتاق له البعيد، طمعاُ بلقياه، وشوقاً إلى مطالعة محياه، وأذكر اننا كنا سوّية في زيارة إلى الهند استغرقت شهوراً، وكانت الكتب والرسائل تترى، من أكبد حرّى، سائلة مستفسرة، ومن أنفس وامقة وإلى شخصه عاشقة، فّمّنْ في مثل طيب سجاياه وحسن نواياه، وبساطته الظاهرة، واخلاقه الطاهرة، كيف يُملً من مجالسة ؟ من هو أهل الإمتاع والمؤانسة، واقسم لو انَّ (الشريف) لاقاه، وحاوره وناجاه لدّون من أخباره في اماليه وضم إليها في – غرر فرائده و درر قلائده – من لئاليه.
واسرته تعرف في جنوب العراق باسم (أُخوة سْمَّية) من الأّْسر الحسينية وتَلْتَقِي مع بطونِ متعددةٍ في الشَّريف ياسر الكبير، وقد يجمع اسم (آل ياسر) جميع هذه الاسر فمنها (آل شوكة) و (آل تْفيجة) و (آل عزيز) و(آل علي) بكسر العين، و(آل نعمة)، و(آل فيّاض) و(آل مناف) و(آل أبي فريحة) و غيرهم.
ولد سنة ١٣٣٩ هـ / ١٩٢١ م في ناحية الخضر التابعة لقضاء السَّمّاوة وكان يتبع ادارياً للواء الديوانية، من اسرة تمتهن الزراعة، كان والده السيد حسين يشارك في زراعة سهل (الفريحي) بالناصرية، ووالدته ابنة الحاج خيّون حسن محمد علي الحْسِيناوي من أهل (العَرْجَة) بالناَّصرية وكان تاجراً، ونشأ لدى المترجم الْمَيْل الفطري للمعرفة منذ نعومة أظفاره وظهرت مواهبه المبكرة في الخطابة الحسينية، ساعده في ذلك حافظته القوية وحسن ادائه واسلوبه، وكان أن تنبّه لمواهبه هذه زعيم اسرته العلاّمة الخطيب الراحل السيد كاظم السيد على الحسيني[١] فشمله برعايته وتوجيهه في فّن الخطابة خاصة، واختلف على العلامة الشيخ طالب آل حيدر المنتفجي، فدرس عليه بعض مقدمات العلوم العربية والدينية، وتاقت نفسه للإستزادة من العلم ومواصلة الدراسة فهاجر وهو في سنّ السادسة عشرة الى النجف الاشرف واستطاع ان يواصل تحصيله العلمي فكان من بين اساتذته:
الإمام محمد حسين آل كاشف الغطاء، والشيخ أسد حيدر[٢]، والشيخ علي المرهون[٣]، والسيد سعدون البعاج[٤].
واختص بملازمة الإمام كاشف الغطاء، واصبح كاتبه الخاص يأتمنه على اسراره، وخفايا المرجعية وامورها وقد وفّقه الله لئن يكون عند حسن ظن الإمام كاشف الغطاء لما عَرَف عنه من نقاء السيرة والسريرة، والخلق الطاهر، والسجايا الطيبة.
ومن يعرف العلاّمة الحسيني الخطيب عن قريب، يعجز عن إيفاءه حقّه من الثناء والإطراء، ولا ريب فهو غصن يانع من الدوحة النبوية المباركة.
آثاره:
١- مصادر نهج البلاغة وأسانيده – طبع عدة طبعات.
٢- ما أخذه المتنبي من نهج البلاغة طبع عدة طبعات تحت عنوان (مائة شاهد و شاهد من نهج البلاغة في شعر المتنبي)
٣- مصادر الحكم المنثورة للإمام أمير المؤمنين (ع).
٤- مختصر معجم الأدباء – لياقوت الحموي.
٥- كشكول الحسيني – عدة اجزاء.
٦- شرح شرائع الإسلام – ثمانية اجزاء – تحت الطبع في دار الزهراء – بيروت.
٧- تهذيب منار الهدى للعلامة الستري – مطبوع.
٨- الغارات – للثقفي – تحقيق – مطبوع.
٩- الشافي في الإمامة – تحقيق – مطبوع في أربعة مجلدات.
١٠- دستور معالم الحكم – للقضاعي – تقديم ومراجعة – مطبوع.
وله نظم يسير، منه ارجوزة في حديث الكساء جاء في أولها:
روت لنا سيدة النساء حديثها المعروف بالكساء | قالت اتاني والدي محمد فقال اني بي ضعفاً أجد | |
فقلت بالرحمن أنت عائذ من كل سقم يا أبي ولائذ | فقال يا بنيّتي آتيني الكسا اليماني وبه غطّيني |