يعتبر كتاب نهج البلاغة أحد أشهر كتب الأدب العربي المتخصص في جمع النصوص البليغة المروية عن قائل واحد ، ويتألف هذا الكتاب من قرابة ٨٠٠ نص أدبي تتراوح في طولها وقصرها من نصوص تتكون من جملة واحدة إلى نصوص تتكون من عدة صفحات وجميعها منسوبة إلى الإمام علي بن أبي طالب الهاشمي القرشي ، وقد افترق الناس في الحكم على هذا الكتاب افتراقا كبيرا فمنهم من يؤكد صحة صدور جميع نصوص الكتاب عن الإمام علي ويستهجن أية محاولة للتشكيك ولو في نص واحد منها ، وفي المقابل تجد طائفة أخرى من النقاد يرفضون نسبة هذه النصوص إلى الإمام علي ويطعنون في جامعها ويتهمونه باختلاقها وتلفيقها ، وهذا التباين الكبير بين هذين الرأيين جعل القارئ غير المتخصص مرددا بين خيارين لا ثالث لهما إما قبول جميع نصوص الكتاب بلا تفكير أو ردها كلها بلا تفكير ، وهذا منهج يتعارض مع أبسط قواعد المنهج العلمي في نقد النصوص المنسوبة إلى المتقدمين ، فمن الواجب أن تتم دراسة كل نص من نصوص الكتاب على حدة بدلا من التعامل مع الكتاب كقطعة واحدة إما أن تصمد كلها أو أن تتهاوى كلها .
ولهذا فقد قررت أن أقوم بدراسة لبعض نصوص كتاب نهج البلاغة للبحث عن مصادرها الأصلية ولتقييم مستواها البلاغي ، وقد اقتصرت على قرابة ٢٠% من نصوص الكتاب لأن وقتي لا يسمح لي بدراسته بشكل كامل ، ولكن هذا الجزء كاف جدا للحصول على نتائج أكثر موضوعية من النتائج التي يعرضها المؤيدون أو المعارضون ، وربما يتسع وقتي لاحقا لدراسة باقي نصوص الكتاب .
نبذة عن جامع النصوص (مؤلف الكتاب)
مؤلف الكتاب هو السيد الملقب بالشريف الرضي وهو أبو الحسن محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي السجاد بن الحسين بن علي بن أبي طالب . وأمه السيدة فاطمة بنت الحسين بن الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب . إمام محدث لغوي أديب . ولد في بغداد عام ٣٥٩هـ وبها توفي عام ٤٠٦هـ ولم يبلغ الخمسين من عمره . تتلمذ – هو وأخوه علي - الملقب بالشريف المرتضى - على الشيخ المفيد أحد أعلام الطائفة . له عدة مؤلفات معظمها في الأدب واللغة وأشهرها على الإطلاق كتاب ( نهج البلاغة ) الذي جمع فيه الكلمات المنسوبة إلى الإمام علي بن أبي طالب .
نبذة عن الكتاب
عدد كلمات نهج البلاغة يقترب من ٧٧ ألف كلمة وهو عدد مقارب لعدد كلمات النص القرآني الكريم ، ويتكون النهج من ثلاثة أبواب : باب الخطب ، وباب الكتب والرسائل ، وباب قصار الحكم .
الباب الأول : باب الخطب : يحتوي على قرابة ٢٤٠ خطبة يتمحور موضوع أكثر من نصفها حول الأحداث التي مر بها الإمام سواء في حياة الرسول أو الخلفاء الثلاثة من بعده أو أثناء توليه على العراق ، وفيها افتخار متكرر بالنفس والشجاعة والفروسية وقرب النسب من الرسول الأعظم وفيها مدح كثير لنفسه ولأهل بيته ووصفهم بالأعلمية والخيرية والأفضلية بالإضافة لانتقادات كثيرة لخصومه السياسيين (طلحة والزبير وعائشة ومعاوية وغيرهم) وانتقادات كبيرة للخليفة الثالث وفيها أيضا انتقادات طفيفة للخليفة الأول والثاني ، ويوجد أيضا انتقادات متعددة ولاذعة جدا لأصحابه وشيعته .
ويتمحور موضوع ربع الخطب تقريبا حول معاني الزهد والتقوى والرغبة في الآخرة والابتعاد عن الدنيا وملذاتها مع بعض الأخبار عن الملاحم التي ستقع في المستقبل ، بينما تتطرق الربع المتبقي من الخطب إلى مواضيع متعددة مثل التوحيد وصفات الخالق وخلق السماوات والأرض وبدء الخلق وإرسال الرسل وذم النساء وذم البخل وخلق الخفاش وخلق الطاووس وبعض المواعظ والحكم .
وقد ألقى بعضا من هذه الخطب على المنبر وبعضا منها قبل حروبه المتعددة أو بعد انصرافه منها .
الباب الثاني : باب الكتب والرسائل ، ويتضمن ٧٩ رسالة أرسلها خلال ولايته على العراق وبعضها موجه لأنصاره كالأشتر وسهل بن حنيف وأبي موسى الأشعري وعبدالله بن عباس وبعضها موجه لخصومه كمعاوية وعمرو بن العاص وزياد بن أبيه وطلحة والزبير .
الباب الثالث : باب قصار الحكم ، ويحتوي على ٤٧٠ حكمة تجري مجرى الأمثال وتتميز بقصر نصوصها وجمال معانيها .
وجميع هذه النصوص المختارة منقولة بلا إسناد وهي مبثوثة ومتفرقة في عدد كبير من كتب التراث الإسلامي ، وقد بذل الباحث السيد عبد الزهراء الحسيني جهدا كبيرا في البحث عن المصادر الأصلية التي نقلت كل خطبة أو رسالة أو حكمة من نصوص نهج البلاغة وذلك في كتابه (مصادر نهج البلاغة وأسانيده) ، وقد أجاد كثيرا في بحثه وتتبعه وقدم أدلة كافية جدا لإثبات براءة الشريف الرضي من تهمة وضع النصوص وقام بقطع جميع الشكوك المتعلقة بذلك حيث نسب كثيرا من نصوص الكتاب إلى مصادر متقدمة زمنيا على زمن الشريف الرضي ، ولكنه عجز عن العثور على مصادر أصلية لكثير من نصوص الكتاب مما جعله يتنكب عن جادة البحث العلمي وعن الحيادية فقام بعرض بعض الحقائق بشكل مبتور كي تبدو كثير من المصادر غير الأصلية على أنها أصلية ! وقد دفعه حماسه الشديد للدفاع عن الشريف الرضي في الوقوع في هذا المسلك رغم أنه كان في غنى عنه ، إذ يتضح جليا من قراءة كتاب نهج البلاغة أن الشريف الرضي انتخب نصوصه من كثير من المصادر التي كانت متوفرة في زمنه ولكنها مفقودة في زمننا هذا مما يعطي مساحة واسعة لاحتمال عدم العثور على مصادر أصلية لكثير من نصوص النهج دون أن يقدح ذلك في قيمة النصوص الأخرى التي ثبتت أصالتها ، ويجدر التنبيه أن المصادر الأصلية وغير الأصلية التي نقلت هذه النصوص قبل الشريف الرضي أو بعده تخلو من ذكر الأسانيد أيضا .
وتتميز نصوص نهج البلاغة في أبوابه الثلاثة ببلاغة راقية ومستوى لغوي رفيع ، وكثير من مواطن هذه البلاغة يأتي عفويا في بعض الجمل ولكن تجد أيضا أن بعض الخطب قد التزمت استخدام المحسنات البديعية – من جناس وطباق ومقابلة وغيرها - بشكل استغراقي يشمل جميع جملها وفقراتها ، وهذا الجمال اللغوي الذي يميز الكتاب يتخلله نصوص متعددة تتمتع بمستوى أدبي وبلاغي متواضع ، كما لا يخلو الكتاب من فقرات متعددة تفتقر للفصاحة ويشوبها غموض في المعنى جعلت الشرّاح يضطربون كثيرا في محاولة التعرف على المعنى المقصود .
ويوجد للكتاب شروح متعددة إلا أن أفضلها على الإطلاق هو شرح ابن أبي الحديد المتوفى عام ٦٥٦هـ ، ويتميز هذا الشرح بأنه موسوعة معرفية ضمت كثيرا من المباحث الكلامية واللغوية والتاريخية والشعرية والفلسفية المتعلقة بنصوص الكتاب مما جعل الكتاب أشبه بالموسوعة منه بالشرح ، وهذا الشرح ممتع للغاية وإن كان المؤلف يطنب في بعض استطراداته .
الكتب المؤلفة في جمع خطب الإمام علي
ذكرت كتب التراجم والفهارس عددا من الكتب التي تخصصت في جمع خطب الإمام علي بن أبي طالب ، وقد ذكر السيد الحسيني في كتابه ١٥ مؤلفا جمعوا بعضا من خطب الإمام علي قبل الشريف الرضي ، وكتب هؤلاء المؤلفين هي :
١ – كتاب زيد بن وهب الجهني . ذكره الشيخ الطوسي في الفهرست والطريق ضعيف بعدة مجاهيل .
٢ – كتاب لمؤلف مجهول عثر عليه السيد ابن طاووس المتوفى عام ٦٦٤هـ وكتب عليه أنه تم تأليفه عام ٢٠٠هـ تقريبا وليس له إسناد !
٣ – كتاب مسعدة بن صدقة : ذكره السيد هاشم البحراني في تفسير البرهان ونقل عنه ، والطريق إليه مجهول .
٤ – رواية أبي مخنف لوط بن يحيى للخطبة الزهراء . ذكرها الشيخ الطوسي في الفهرست والإسناد فيه مجاهيل .
٥ – كتاب إسماعيل بن مهران بن أبي النصر السكوني : ذكره النجاشي في رجاله والشيخ الطوسي في الفهرست بأسانيد ضعيفة .
٦ – كتاب عبدالعظيم بن عبدالله بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب : ذكره النجاشي في رجاله وطريقه إليه ضعيف .
٧ – كتاب محمد بن عمر بن واقد المدني : ذكره أبو غالب الزراري في رسالته وطريقه إلى ضعيف بعدة مجاهيل .
٨ – كتاب هشام بن محمد بن السائب الكلبي : ذكره النجاشي في رجاله عن شيخه محمد بن عثمان وهو كذاب ، فقد ادعى محمد بن عثمان أنه روى الكتاب عن أحمد بن كامل مع أنه لم يدرك حياته حيث يفصل بينهما ١٠٠ سنة ، وهذا فائدة لطيفة لإبطال التوثيق الإجمالي لمشائخ الشيخ النجاشي والتي يتبناها كثير من محققي الطائفة .
٩ – كتاب أبي الحسن علي بن محمد المدائني : ذكره الطوسي في الفهرست وطريقه إليه ضعيف ، وذكره ابن النديم أيضا في الفهرست دون أن يذكر طريقه إليه .
١٠ – كتاب مائة كلمة لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ : ذكره أخطب خوارزم في كتاب المناقب بإسناد فيه مجاهيل .
١١ – كتاب إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي : ذكره الطوسي في الفهرست والنجاشي في رجاله بأربعة أسانيد كلها ضعيفة .
١٢ - كتاب إبراهيم بن سليمان النهمي : ذكره الطوسي في الفهرست بطريقين والنجاشي في رجاله بطريق واحد كلها ضعيفة .
١٣ – كتاب إبراهيم بن الحكم بن ظهير الفزاري : ذكره النجاشي في رجاله وطريقه إليه صحيح على ما يظهر ولكن إبراهيم نفسه مجهول الحال .
١٤ – كتاب صالح بن أبي حماد الرازي صاحب أبي الحسن العسكري : طريق النجاشي إليه صحيح في رجاله ولكنه صاحب الكتاب نفسه مجهول .
١٥ – كتب عبدالعزيز بن يحيى الجلودي البصري : ذكرها الشيخ الطوسي في الفهرست وطريقه إليه ضعيف ولكن ذكره النجاشي في رجاله وإسناده إليه صحيح .
والنتيجة التي نخرج بها أنه لم يثبت نسبة أي من الكتب من ١ إلى ١٢ إلى مؤلفيها ، وثبتت نسبة الكتابين الثالث عشر والرابع عشر إلى مؤلفيها ولكنهما مجهولان ، وثبتت نسبة الكتاب الخامس عشر إلى مؤلفه الثقة عبد العزيز الجلودي البصري ولكنه قريب من عصر الشريف الرضي فقد توفي قرابة عام ٣٣٢هـ .
والنتيجة التي نخرج بها من هذه النتيجة هي أن كثيرا من النصوص المنسوبة إلى الإمام علي بن أبي طالب في المصادر الأصلية المتقدمة على الشريف الرضي لم تنقل بطرق معتبرة وإنما نقلت في الغالب بواسطة رواة مجاهيل عن مؤلفين مجاهيل يروون النصوص بشكل مرسل لا يبين الطريق الذي نقل المؤلف من خلاله النص الأدبي الذي يرويه .
تحقيق الشهادات الواردة في إثبات بلاغة الإمام علي بن أبي طالب
طفحت الكتب التي تطرقت لشخصية الإمام علي بن أبي طالب بأوصاف مسهبة لإثبات تميزه البلاغي وتفوقه اللغوي وبلوغه الغاية الرفيعة من الفصاحة والبراعة في خطبه ورسائله ونصائحه ومواعظه ، حتى بلغ الأمر ببعضهم إلى أن وصف كلامه (ع) بأنه فوق كلام المخلوقين ودون كلام الخالق ! ولكن المثير للانتباه أن هذا الثناء الكبير المتكرر منحصر في الكتب التي تم تأليفها بعد ظهور نهج البلاغة ولكن يكاد هذا الثناء أن ينعدم وجوده في المصادر المتعددة التي ترجمت للإمام علي قبل تأليف النهج ، وهذه ملاحظة يجب أخذها بعين الاعتبار ويجب أن تنال نصيبها المستحق من الدراسة والبحث .
وقد حاولت تتبع جميع النصوص المثبتة لبلاغة الإمام علي وفصاحة في المصادر المتقدمة على النهج ولكني لم أعثر إلا على عدد قليل من النقولات التي يتكرر نقلها كثيرا جدا في معظم المصادر المتأخرة ، وهذه النقولات :
١ - قال معاوية بن أبي سفيان : (والله ما رأيت أحدا يخطب ليس محمدا أحسن من علي إذا خطب ، فوالله ما سن الفصاحة لقريش غيره) .
٢ - وقالوا : إن عبد الحميد الكاتب كان في حداثة سنه معلما بالكوفة ، وهناك حدث له غرام بتمثل كلام علي بن أبي طالب ، فقيل له : ما الذي خرّجك في البلاغة ؟ قال : حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع ، ففاضت ثم فاضت .
٣ - وقال ابن نباتة : حفظت من الخطابة كنزا لا يزيده الإنفاق إلا سعة وكثرة ، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب .
٤ - قال شيخنا أبو عثمان ( الجاحظ) رحمه الله تعالى حدثني ثمامة قال سمعت جعفر بن يحيى (البرمكي) وكان من أبلغ الناس و أفصحهم يقول الكتابة ضم اللفظة إلى أختها ألم تسمعوا قول شاعر لشاعر وقد تفاخرا "أنا أشعر منك لأني أقول البيت وأخاه و أنت تقول البيت وابن عمه" . ثم قال : وناهيك حسنا بقول علي بن أبي طالب (ع) "هل من مناص أو خلاص أو معاذ أو ملاذ أو فرار أو محار " .
قال أبو عثمان (الجاحظ) و كان جعفر يعجب أيضا بقول علي (ع) "أين من جد واجتهد وجمع واحتشد وبنى فشيد وفرش فمهد وزخرف فنجد" قال : ألا ترى أن كل لفظة منها آخذة بعنق قرينتها جاذبة إياها إلى نفسها دالة عليها بذاتها قال أبو عثمان فكان جعفر يسميه فصيح قريش .
وهذه النصوص الأربعة مذكورة في شرح النهج لابن أبي الحديد المتوفى سنة ٦٥٦هـ بدون عزو لمصادر متقدمة ، وليس لهذه النصوص من أثر في الكتب المطبوعة المتوفرة بين أيدينا بما في ذلك كتب الجاحظ التي نقل عنه ابن أبي الحديد نصين من نصوصه .
٥ - قال الحارث الأعور : (والله لقد رأيت عليا ، وإنه ليخطب قاعدا كقائم ، ومحاربا كمسالم) ، نقلها عنه الجاحظ في البيان والتبيين بإسناد مرسل ، والمرسل قسم من أقسام الضعيف .
٦ - قال عامر الشعبي : ( تكلم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بتسع كلمات ارتجلهن ارتجالاً فقأن عيون البلاغة ، وأيتمن جواهر الحكمة ، وقطعن جميع الأنام عن اللحاق بواحدة منهنَّ ، ثلاث منها في المناجاة ، وثلاث منها في الحكمة ، وثلاث منها في الأدب . وهذه الشهادة ذكرها الشيخ الصدوق (توفي ٣٨١هـ) في كتاب الخصال بإسناد فيه عدة مجاهيل ، ولكن تجدر الإشارة إلى أن الشيخ الصدوق نفسه متقدم على الشريف الرضي .
٧ – قال سفيان بن عيينة (توفي ١٩٨هـ) بعد رواية إحدى الخطب المنسوبة للإمام علي : (ومن يحسن يتكلم بهذا الكلام إلا علي) ، نقل ذلك عنه ابن أبي الدنيا في كتاب القناعة والتعفف ، وسفيان بن عيينة متقدم على الشريف الرضي ولا يقدح في شهادته ضعف إسناد الخبر الذي رواه .
ونستنتج بهذا أن وصف الإمام علي بالبلاغة والفصاحة لم يكن مشتهرا معروفا قبل زمن الشريف الرضي وإنما ظهر بعد ذلك اعتمادا على النصوص التي أودعها في كتابه نهج البلاغة ، ويؤكد هذا الاستنتاج شهادتان شهد بهما عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة (توفي عام ٧٨هـ) والذي عاصر الإمام علي ، فقد سئل عن اختلاف الناس على علي فأجاب : (إن عليا كان له ما شئت من ضرس قاطع في العلم وكان له السلطة في العشيرة والقدم في الإسلام والصهر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والفقه في السنة والنجدة في الحرب والجود في الماعون) . وسئل مرة أخرى عنه فقال : (كان إذا شاء أن يقطع له ضرس قاطع قطع) فقيل له : وما ضرسه ذاك ؟ قال : (قراءة القرآن وعلم القضاء وبأس وجود لا ينكث) ، فوصفه بالتميز في العلم والسؤدد والدين والنسب والفقه والشجاعة والكرم وعلم القرآن والقضاء ولكنه لم يصفه بالفصاحة أو البلاغة ، وهذا من أهم الشهادات التي يجب اعتبارها في هذه المناقشة .
موقف المجاميع الفقهية الشيعية من كتاب نهج البلاغة
يلتزم فقهاء الطائفة الشيعية ومحققوها بطريقة متقاربة في مؤلفاتهم الفقهية عند عرض المرويات الحديثية لاستخراج الأحكام منها ، فتجدهم يقسمون المرويات إلى أربعة أقسام أو خمسة وهي الصحيح والحسن والمعتبر والموثق والضعيف وكل هذه الأقسام معتبرة للاحتجاج باستثناء القسم الأخير ، ويلتزم المحققون عند عرض المرويات الحديثية بذكر الحكم على الخبر (إذا كان مقبولا) مع نسبته إلى الراوي الذي يروي الحديث عن الإمام مباشرة ، فمثلا يقولون : جاء في صحيحة زرارة ، أو ورد في حسنة محمد بن مسلم أو موثقة سماعة أو معتبرة السكوني وهكذا ، أما إن كانت الرواية ضعيفة الإسناد فإنهم لا يصفونها بشئ وإنما يقولون : جاء في رواية جابر أو خبر جابر وهذا مسلك متفق عليه عند جميع علماء الطائفة .
وبالرغم من اختلاف محققي الطائفة في المباني التي يعتمدها كل محقق للحكم على المرويات بالصحة والضعف إلا أنهم مجمعون على اعتبار المرسل قسما من أقسام الضعيف ، ولهذا فإن أحكامهم أجمعت على معاملة كتاب نهج البلاغة كمعاملة المرويات الضعيفة فتجدهم ينقلون بعض النصوص منه دون إطلاق وصف الصحة أو الاعتبار عليها وإنما ينقلونها بنفس الطريقة التي ينقلون بها الأخبار التي يحكمون عليها بالضعف ، بل تكرر إطلاقهم لحكم الضعف أو قصور السند على عدد من النصوص الواردة في النهج وسأضرب بعض الأمثلة على ذلك :
١ – ذكر السيد علي الطباطبائي في مبحث الاحتكار عبارة مقتبسة من كتاب أمير المؤمنين (ع) إلى مالك الأشتر والمروي في نهج البلاغة ووصف الخبر بأنه قاصر الإسناد . رياض المسائل ج٨ ص١٧٣
٢ – حكم الشيخ الجواهري في جواهر الكلام ج٢٢ ص٤٨٠ على نفس الخبر السابق المروي في النهج بأنه قاصر الإسناد .
٣ – نقل الآملي في تحقيقه لبحث المحقق الداماد ص١٨٩ وصية أمير المؤمنين لكميل بن زياد المروية في تحف العقول وفي نهج البلاغة وقال : (ولكن الكلام بعد في السند ... وما رواه عن تحف العقول عن أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته لكميل ... إن السند مرسل فلا اعتداد به ، وكذا ما عن بعض نسخ نهج البلاغة ... لأن السيد الرضي (قده) قد جمع ما وصل إليه من خطبه عليه السلام ومكاتيبه عليه السلام وكلماته عليه السلام ونقلها بأسرها بالإرسال ، حيث إن ما بأيدينا من النهج مرسل بلا سند) فهو يصف جميع نصوص نهج البلاغة بعدم الاعتبار .
٤ – قال السيد الخميني في المكاسب المحرمة ج١ ص٣٢٠ : (حتى في الصحيفة السجادية فإن سندها ضعيف وعلو مضمونها وفصاحتها وبلاغتها وإن توجب نحو وثوق على صدورها لكن لا توجبه في جميع فقراتها واحدة بعد واحدة حتى تكون حجة يستدل بها في الفقه وتلقي أصحابنا إياها بالقبول كتلقيهم نهج البلاغة به لو ثبت في الفقه أيضا إنما هو على نحو الإجمال وهو غير ثابت في جميع الفقرات) .
٥ – قال السيد الخوئي في مصباح الفقاهة ج١ ص٥٦٦ : (ومن هنا ظهر الجواب عن الاستدلال بما في نهج البلاغة من نفي الصداقة عمن لا يحفظ أخاه في ثلاث مع أنه ضعيف للإرسال) .
٦ – وأصرح من هذا كله فقد كذّب الإمام جعفر الصادق إحدى خطب نهج البلاغة ! فقد جاء في الخطبة رقم ٥٦ من خطب الباب الأول من نهج البلاغة النص التالي : (أما إنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم ... ألا وإنه سيأمر بسبّي والبراءة مني ، أما السب فسبّوني فإنه لي زكاة ولكم ونجاة وأما البراءة فلا تبرؤوا مني فإني ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان) ، وروى الكليني في الكافي أنه قيل لأبي عبدالله الصادق عليه السلام : إن الناس يروون أن عليا عليه السلام قال على منبر الكوفة : "أيها الناس إنكم ستدعون إلى سبي فسبّوني ثم تدعون إلى البراءة مني فلا تبرؤوا مني" ؟ فقال : ما أكثر ما يكذب الناس على علي عليه السلام . ثم قال : (إنما قال إنكم ستدعون إلى سبّي فسبوني ثم ستدعون إلى البراءة مني وإني لعلى دين محمد ، ولم يقل لا تبرؤوا مني) .
وبهذا تتكمل المقدمات المطلوبة لمناقشة مضامين كتاب نهج البلاغة وثبوت نسبتها إلى الإمام علي بن أبي طالب ، لأن المدافعين عن الكتاب يبنون مناقشتهم على عدة مسلمات تعتمد على :
١ – أن وصف الإمام علي بالفصاحة والبلاغة مشهور أو متواتر منذ بداية تأسيس الدولة الإسلامية .
٢ - وأنه قد تواتر الثناء والإقرار بفصاحته وبلاغته على لسان كثير من الأعلام المتقدمين .
٣ – وأن كثيرا من الرواة اهتموا بجمع وتدوين خطب أمير المؤمنين لبلاغتها .
٤ – وأن جميع خطب الكتاب مروية بأسانيد معتبرة في كتب أخرى غير النهج .
٥ – وأن علماء الطائفة مجمعون على تصحيح نسبة هذه الخطب إلى الإمام علي
ولكن الحقيقة أن كل هذه المسلمات لا أساس لها من الصحة كما هو مثبت في الاقتباسات السابقة ، ولهذا يجب أن تبنى مناقشة الكتاب على المقدمات الصحيحة والتي تنص على :
١ – أن الإمام علي لم يوصف بالبلاغة والفصاحة عند المتقدمين بالرغم من وصفه بكثير من الأوصاف الإيجابية الأخرى .
٢ – وأنه لم يثبت عن أحد من الرواة مدح للإمام علي بالبلاغة إلا في موارد قليلة جدا وأقدمها كان عن سفيان بن عيينة المتوفى عام ١٩٨هـ .
٣ – وأنه لم يثبت أن أحدا من الرواة اهتم بجمع خطب الإمام علي قبل عبدالعزيز الجلودي المتوفى عام ٣٣٢هـ .
٤ – وأن معظم نصوص النهج مجهولة الأسانيد حتى بالرغم من ورودها في مصادر أخرى .
٥ – وأن علماء الطائفة يعاملون نصوص كتاب نهج البلاغة معاملة الخبر الضعيف غير المعتبر .
وانطلاقا من هذه المقدمات سيتم البدء في مناقشة بعض نصوص الكتاب .
يتبع ......